مكتبـــــة الدروس

2024-03-24 13:02:31

باب الحيض (12)

{الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (بابُ الْحَيْضِ.
أصلُه لُغَةً: السَّيَلانُ مِن قَوْلِهِم: حاضَ الوَادِي إذَا سالَ، وهو شَرْعًا: دَمُ طَبِيعَةٍ وجِبِلَّةٍ يَخْرُجُ مِن قَعْرِ الرَّحِمِ في أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ خَلَقَهُ اللَّهُ لحِكْمَةِ غِذَاءِ الوَلَدِ وتَرْبِيَتِه)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، يقول الإمام الشارح البُهوتي -رحمه الله-: (بابُ الْحَيْضِ)، فالحيض والأحكام المتعلقة به داخلة من حيث الأصل في باب الغُسل، من جهة أنه مُوجبٌ للغسل، ولكن لَمَّا كانت له مسائل كثيرة، يُحتاج فيها إلى التفصيل، ويترتب عليه أحكام أخرى، احتيج إلى أن يكون بابًا مختصًا، تُذكر فيه جميع مسائله وتفصيلاته وتفريعاته، وما يندرج فيه من المسائل.
وهذا الباب من الأبواب المهمة، إذ أنه تتوقف عليه صِحَّةُ صلاة المرأة وعبادتها، من طواف، وصيام وغيره، كما أنه أيضا تترتب عليه بعض الأحكام الأخرى، في مسائل طلاق، وعدة، وقراءة للقرآن، ومس مصحف، وغير ذلك على ما سيأتي بإذن الله من الإشارة إليه.
إذًا هو من الأهمية بمكان، وكما أنه كذلك إلا أن فيه مسائل دقيقة، ولا ينفك من وقائع مُشكلة، وَذُكِرَ عن السلف إطالة النظر في هذا الباب، وإدامة الدراسة فيه أوقاتًا طويلة، حتى ذُكِرَ عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه ربما أمضى فيه وقتًا طويل، والإمام النووي أفاض في ذكره، حتى بلغ مسائله التي جمعها فيه مجلدات.
وكونه أيضا مما يعرض للنساء، وكل امرأة لها عوارضها وما يُداخلها، ولذا تفرقت المسائل، وأشكلت الوقائع، واحتيج فيه إلى مزيدِ تأمل ونظر.
والحيض مأخوذ -كما قال المؤلف رحمه الله تعالى- من: (السَّيَلان) والجريان، ولذلك قال: من (حاضَ الوَادِي إذَا سالَ)، لأنَّ رحم المرأة يسيل بالدم، ولأجل ذلك أيضا الشجرة إذا بدأ ينزل منها بعض صمغ فيه حمرة، يقال: حاضت الشجرة.
ويقال: امرأة حائضٌ وحائضةٌ، فلا يُحتاج إلى التأنيث، وذلك لأنَّ الحيض مما تختص به النساء، فلا يكون مثله في الرجال، وهذا كما يقال: امرأة حامل، فلا يحتاج أن يقال: حاملة؛ لأنَّ التاء للتأنيث فيما يستوي فيه الرجل والمرأة، وأما ما تختص فيه المرأة، فلا يحتاج فيه إلى التأنيث للعلم به.
ويقال: حيض، نفاس، طمث، ويقال: غراس، ويقال: إعصار، حتى قيل أيضًا في تسميته: ضحك، وقد ذكر بعض أهل العلم أنَّ الحيض يكون بمعنى الضحك، ولذلك بعض المفسرين قال في قول الله -جل وعلا-: ﴿فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ [هود:71]، قالوا: إن ضحكت هنا ليست بمعنى ابتسمت، وإنما هي بمعنى: حاضت، وهذا أحد الأقاويل، وإن كان ليس هو المتقرر عند أهل التحقيق.
والحيض يُسمى: إكبارا أيضا.
والتي تحيض: المرأة، يقولون: والأرنب أيضا تحيض، والناقة تحيض، والخفاش تحيض، فذكروا والوزر تحيض، والضبع أيضًا، والفرس تحيض، والكلبة تحيض، فكل مما ذُكِرَ آنفًا ذكر أنها تحيض.
{قال: (وهو شَرْعاً: دَمُ طَبِيعَةٍ وجِبِلَّةٍ يَخْرُجُ مِن قَعْرِ الرَّحِمِ)}.
هذا هو الحيض في اصطلاح الفقهاء، هو الدم الذي يخرج على سبيل الطبيعة والجبلة، يخرج من قَعر الرحم في أوقات معلومة، وهذا التعريف يُبِينُ الفرق بينه وبين ما سواه من الدماء، كدم الاستحاضة مثلا. ما الفرق بين دم الحيض والاستحاضة؟
الاستحاضة أول شيء ليس بدم طبيعة، وإنما هو دم فساد، فإذًا دم الحيض دم طبيعة، ودم الاستحاضة دم فساد ومرض وعلة.
دم الحيض يخرج من (قَعْرِ الرَّحِمِ)، ودم الاستحاضة يخرج من أدنى الرحم، من عرق يقال له: العاذر.
دم الحيض يخرج في أوقاتٍ معلومة محددة من كل شهر، ولكل امرأة عادتها، ودم الاستحاضة لا وقت له، فربما استحيضت المرأة شهرًا، وربما دام الدم معها سنة، وربما طالت كما جاء في بعض الآثار أنها سبع سنين، كما في حديث حمنة.
وهذا من الفروق بين هذا دم الحيض ودم الاستحاضة.
الفرق الرابع: أنَّ دم الحيض الغالب فيه أنه أسود فيه نتن، يعني: رائحة، هذا هو الغالب فيه، وأمَّا دم الاستحاضة فهو أحمر رقيق.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- في تعريفه: هو (دَمُ طَبِيعَةٍ وجِبِلَّةٍ يَخْرُجُ مِن قَعْرِ الرَّحِمِ في أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ) ما حكمته؟ قال: (خَلَقَهُ اللَّهُ لحِكْمَةِ غِذَاءِ الوَلَدِ وتَرْبِيَتِه) وتوضيح ذلك: أنَّ المرأة إذا حملت انقطعت عادتها، وإذا أرضعت ففي الغالب أنها ترتفع حيضتها أيضا، مما يدل على أنَّ هذا الدم خُلِقَ لِغِذَاءِ الولد، ففي وقت الحمل يتغذى الولد فلا يفيض من المرأة شيء يحتاج إلى أن يخرج منها، وإذا كانت تُرضع فصدرها يدر وبالتالي لا يبقى معها دم يزيد ويخرج من رحمها على ما ذكرنا.
فإذًا هذا هو بيان وذِكرِ لتعريفِ دمِ الحيض، والفرق بينه وبين دم الاستحاضة.
طبعا أحاديث الحيض ثلاثة أحاديث، حديث أم حبيبة، وحديث فاطمة، وحديث حمنة، وقيل: حديث أم سلمة، وعليه تدور الأحكام.
ولَمَّا كانت الأحاديث فيه قليلة أيضًا كانت المسائل التي تشكل فيه كثيرة، ولذلك سيأتي أنَّ بناء كثيرٍ من أحكامه العرف والعادة، ولذلك يقول أهل العلم: إنَّ المسائل التي جاءت في الشرع ولم يُبين فيها تفاصيل، فمردها إلى العُرف والعادة، ولأجل ذلك كان بناء كثير من مسائل وأحكام الحيض على ذلك.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (لا حَيْضَ قَبْلَ تِسْعِ سِنِينَ فإِنْ رَأَت دَماً لدُونِ ذلك فلَيْسَ بحَيْضٍ؛ لأنَّهُ لم يَثْبُتْ في الوُجُودِ، وبَعْدَهَا إن صَلَحَ فحَيْضٌ.
قالَ الشَّافِعِيُّ: رَأَيْتُ جَدَّةً لهَا إِحْدَى وعِشْرُينَ سَنَةً)
}.
قال: (لا حَيْضَ قَبْلَ تِسْعِ سِنِينَ) هذا إشارة إلى أنَّ الحيض الذي تُصاب به النساء، أو يعرض للمرأة، إنما يكون بعد التسع سنين، وأمَّا قبل ذلك فإنه لو وُجِدَ شيء من الدم، أو لو رأت صغيرة ابنة ثماني سنين أو سبعة دما، فنقول: هذا لا تُلقيَ له بالاً، ولا تترتب عليه أحكام الحيض، فلا يُحكم ببلوغها، ولا يمنعها صلاة، ولا يحول بينها وبين طهارةٍ وغيرها.
(لا حَيْضَ قَبْلَ تِسْعِ سِنِينَ)، والمقصود بالسنين هنا: السنون الهلالية؛ لأنَّ هذا هو مناط الأحكام الشرعية، وهو ما جاء في كتاب الله -جل وعلا-، «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» ، فأشار إليه ثلاثين أو تسع وعشرين، يعني: بالأهلة، فدلَّ ذلك على أنَّ السَّنَة يُراد بها السَّنة الهلالية؛ لأنَّ هذا يفرق في تسع سنين، ثلث سنة تفرق في ذلك.
قال: (فإِنْ رَأَت دَماً لدُونِ ذلك فلَيْسَ بحَيْضٍ)، هذا هو الذي يترتب على قولنا: لا حيض قبل ذلك. طيب من أين أخذتم هذا؟ قالوا: السُّنَّة الماضية، أو العادة المستقرة، يعني: على مر الدهور، واختلاف البلدان والأوقات، لم يُعرف أنَّ بنتًا أقل من تسع سنين نزلت عادتها واستمرت على الصفات التي تُعرف في دم الحيض، ولكن عند تسع سنين عُرف ذلك، ولأجل هذا نقل الشارح ما رُوي عن الإمام الشافعي، ولذلك قال: (رَأَيْتُ جَدَّةً لهَا إِحْدَى وعِشْرينَ سَنَةً) يعني: أنها حاضت، ثم نكحت فحملت فولدت، ثم ولدت بنتًا، فلمَّا بلغت تسع سنين حاضت، يعني: أنها بلغت فتزوجت فنكحت فحملت فولدت، فدلَّ ذلك على أنه يمكن أن يُوجد الحيض بعد تسعِ سنين.
هنا قال: (لهَا إِحْدَى وعِشْرينَ سَنَةً) ولو قال: إحدى وعشرون سنة له أصح لماذا؟ لأنه مرفوع بالعطف على المبتدأ المؤخر "إحدى"، فـ "إحدى" مُبتدأ مُؤخر، فكذلك عشرون معطوف عليها.
{أحسن الله إليك.
قال -رحمه الله-: (ولا حَيْضَ بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةٍ لقَوْلِ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: «إِذَا بَلَغَتِ المَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الحَيْضِ. ذكرَهُ أَحْمَدُ، ولا فَرْقَ بينَ نساءِ العربِ وغيرِهِنَّ»)}.
لعلك تلحظ أنَّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- ذكروا هذه المسائل كحدود يُعرف بها دم الحيض من غيره؛ لأنه يَعرض للنساء دمٌ يخرج من هذا الرحم، فهل إذا رُؤى يُعد دمَ حيضٍ ويحكم فيه بأحكام الحيض؟ أم أنه علة وعرض يَعرض لها، وبناء على ذلك لا تمنع من صلاة، ولا يمنع زوجها، منها ونحو ذلك؟
ذكر الفقهاء المسائل التي هي مثل الضوابط، أو العلامات والمنارات التي يقوم عليها هذا الباب، فقالوا: (ولا حَيْضَ بَعْدَ خَمْسِينَ سَنَةٍ) فإذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض.
إذًا مبدأ الحيض تسع سنين، وانتهاؤه خمسين سنة، ولكن الحكم بأن انتهاء الدم عند الخمسين، فهذا ليس بمستقر عند عامة أهل العلم، أي: أنه ليس بمستقر كسن ابتداء الحيض، بل فيه شيءٌ من الأخذ والنظر، وذلك لأنه لم يوجد عادة من تحيض دون تسع، والمسألة مردها إلى الوجود، وما يُحفظ من أمرِ النساء. فلما كان يوجد من النساء على حالٍ ليست بالقليلة من تستقر عادتها بعد الخمسين، فلأجل ذلك قال بعض أهل العلم: الحدُّ خمسون، ولأنَّ الحنابلة استندوا على ما جاء عن عائشة، وتعرفون أنهم يقولون بقول الصحابي، فكيف إذا كانت عائشة الفقيهة؟ فكيف إذا كانت لأم المؤمنين؟ فكيف إذا كان ذلك مما يخص أمر النساء، وهي من فقيهات الصحابة والصحابيات، بل ومن أفقه أهل الإسلام؟
فبناء على ذلك قالوا: إنَّ هذا هو الحد، ولكن يُشكل عليه وجود نساء كثير يستمر معها هذا الدم على النحو الذي يستمر معها قبل أن تبلغ الخمسين، ولأجل ذلك كان القول الثاني عند الحنابلة -وهو قول كثير من أهل التحقيق، كابن تيمية وغيره، وأظنه قولا للأئمة الثلاثة- أنه لا يُحد بخمسين، بل ما دام هذا الدم مُنتظمًا بصفات دم الحيض، في نزوله في كل شهر، أو على العادة التي اعتادتها المرأة، وهو يصلح أن يكون حيضًا، فيمكن الحكم ببقاء عادتها، وثبوت أحكام الحيض عليها.
وهنا قوله: (ولا فَرْقَ بينَ نساءِ العربِ وغيرِهِنَّ) كأنه إشارة إلى قول بعض الفقهاء الذين يفرقون، فيقولون: هذه إذا وصلت خمسين تنقطع عادتها، والمرأة في العجم -في البلاد الباردة- إذا بلغت ستين تنقطع عادتها، فيقول الشارح: إنه لا أصل لذلك ولا فرق، والحكم في النساء واحد.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ولا حَيْضَ معَ حَمْلٍ، قالَ أَحْمَدُ: إنَّمَا تَعْرِفُ النِّسَاءُ الحَمْلَ بانقِطَاعِ الدَّمِ. فإِنْ رَأَتْ دَمًا فهو دَمُ فَسَادٍ لا تَتْرُكُ لهُ العِبَادَةَ ولا يُمْنَعُ زَوْجُهَا مِن وَطْئِهَا، ويُسْتَحَبُّ أنْ تَغْتَسِلَ عندَ انقِطَاعِه إلاَّ أنْ ترَاهُ قبلَ وِلادَتِهَا بيَوْمَيْنِ أو ثَلاثَةٍ معَ أَمَارَةٍ فنِفَاسٌ ولا تَنْقُصُ به مُدَّتُه)}.
يقول: (ولا حَيْضَ معَ حَمْلٍ)، هذا أيضًا من الضوابط، فالحاملُ لا تحيض، وذلك لِمَا ذكرنا من العلة، وهو أنَّ الدم ينصرف إلى الولد، فلا يكون عندها دم زائد تحتاج إلى إخراجه وتصريفه، وهذا جاء عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنه إنما تعرف النساء الحمل من انقطاع الدم؛ ولأن النبي قال: «لَا تُوطأُ حاملٌ حتَّى تضعَ، ولا غيرُ ذاتِ حملٍ حتَّى تحيضَ حيضةً» في سبايا أوطاس.
فدلَّ ذلك على أنَّ الحامل لا تحيض، وأنَّ غير الحامل هي التي تحيض، فجعل ذلك هو علامة براءة رحمها، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وهو من جهة الانضباط ظاهر، ومن جهة الاعتماد على ما جاء عن عائشة والمستَقِرُّ عَادةً.
ولكن هل يوجد أن امرأة استقر حملها وانتفخ بطنها، يخرج منها دم؟
نعم يوجد، فالحنابلة يقولون: لو وجد، وذلك بناء على قولهم: إنه لا حيض مع حمل لِمَا جاء عن عائشة، ولِمَا استقر من حال النساء، فإنهم يعتبرون ذلك دم فساد، وإذا قلنا: إنه دم فساد فمعنى ذلك: أنه لا تُرتب عليه أحكام الحيض، من امتناع عن صلاة ولا صيام، ولا إتيان زوجها لها، ولا غير ذلك، ولذلك قال: (ولا يُمْنَعُ زَوْجُهَا مِن وَطْئِهَا) يعني: ولا يمنع هذا الدم الذي رأت من أن يطأها زوجها.
لكن قال بعض أهل العلم، وهو مشهور قول الأئمة الثلاثة، وأيضا قول جماعة من أهل التحقيق عند الحنابلة، ومن أشهرهم ابن تيمية، قال: العادة المستقرة هي أنَّ الحامل لا تحيض، ولكن إذا وجدت امرأةٌ حامل، واستمر معها الدم بصفاته، يعني: لم يخرج منها مرة أو نحوه، بل بصفاته، يعني: مستقرًا بأيامه، ووقته من عادتها من الشهر، أو نحو ذلك، فيقولون: يمكن أن يحكم بأن ذلك دم حيض، لأنَّ هذا هو الأصل فيما يخرج من المرأة، وما دام أنَّ صفاته صفات دم الحيض من الانتظام والوقت ونحوه، فالأصل أنه دم حيض، ولأنه صحيح أنه يكون غذاء للولد، والعادة أن الحامل لا تحيض، ولكن من النساء من يكون دمها كثير فيفيض عن سقيا الولد وإطعامه، فيبقى من ذلك بقية تخرج في أوقاتها، فيمكن الحكم بأنه دم حيض، وتترتب عليه أحكامه.
طيب إذا قلنا: إنها تحيض، فلو أنها طلقت وهي حامل، فحاضت ثلاثة حيض، فظاهر كلامهم أنهم وإن اعتبروا الدم دم حيض، إلا أنه لا تتعلق به أحكام العدة في هذه الحال، بل جاء النص بأنَّ الحامل عدتها وضع حملها، ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق:4]، وقوله : «لَا تُوطأُ حاملٌ حتَّى تضعَ»، يعني: حتى يستقر براءة رحمها، ولأنَّ ذلك هو الأصل في العدد، والعلم ببراءة الرحم، والحامل لا يبرأ رحمها إلا أن تُنزل ما في بطنها.
ولذلك قال النبي : «مُرْهُ فليُراجعها ثم ليُطلِّقها طاهرًا أو حاملًا» ، فإذا كانت حاملا فليس عليه غضاضة، ولكن هذا يمكن أن يستدل به الحنابلة أنَّ الحامل لا تحيض، ولكن هم يقولون: إنها يمكن أن تحيض، ولا يمنع ذلك أن تبقى لها أحكام الحمل من جهة تعلق العدة والطلاق وغيره، فيكون جريانا أحكام الحيض فيها على سبيل التبع لا على سبيل الأصل.
ثم يقول: (ويُسْتَحَبُّ أنْ تَغْتَسِلَ عندَ انقِطَاعِه) لإمكانه أن يكون دم حيض، فيغلب الحنابلة عادتهم في الاحتياط، ولذلك احتاطوا وقالوا: إنها تغتسل، ويحتاطون فيقولون: فيما لو كان دم حيض إذا اغتسلت، فإنها تصح عبادتها بيقين، ولذلك استحب لها ذاك.
قال: (إلاَّ أنْ ترَاهُ قبلَ وِلادَتِهَا بيَوْمَيْنِ أو ثَلاثَةٍ معَ أَمَارَةٍ فنِفَاسٌ ولا تَنْقُصُ مُدَّتُه) هذه إشارة إلى مسألة أخرى، وهي أنَّ الحامل إذا رأت دمًا قبل الولادة، يعني: مع قرب الولادة، فهل يعتبر دم حيض، أو دم فساد أو دم نفاس؟
الحنابلة يقولون: إذا وُجِدَتْ أمارة، ما معنى أمارة؟ يعني: علامة على الوضع، والعلامة على الوضع هو ما تجد من الطلق، يعني: آلام المغص التي هي إرهاص ومقدمات للولادة، فيقولون: إذا وجد ذلك فنحكم أنَّ هذا دم نفاس، ودم النفاس يُحكم بأنها تمتنع من الصلاة ونحوها، وإن كانت لا تفرق عن أحكام الحيض في مسائل، فهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة.
ولعلك تلحظ هنا أمرًا، وهو أنَّ الفقهاء الثلاثة -رحمهم الله- يرون أنَّ دم النفاس إنما يكون بعد الولادة، ولا يمكن أن يتصور أن يكون قبلها، فلا يعتبرون هذا الدم من النفاس، بل إنما يكون دم حيض إذا استقر أو دم فساد، ولكنهم أجروا أحكام الحيض، يعني: جروها من غير الحامل إلى الحامل.
والحنابلة لا يرون أن الحامل تحيض، ولكنهم أيضا جروا أحكام النفاس إلى الحامل بقيدها، فقالوا: إذا كان قبل الولادة مع أمارة -الطلق وما تجده من مقدمات الولادة- فيحكمون به، مع أن أحكام النفاس لا تكون إلا بعد الولادة، ولأجل ذلك قالوا: (ولا تَنْقُصُ به مُدَّتُه)، يعني: هم ألحقوه بدم النفاس إلحاقًا، وإلا فمن جهة مدة النفاس التي هي أربعين يوم -كما سيأتينا- فإنهم يجعلون الأربعين منذ الولادة، فلو أنَّ هذه المرأة مثلا جرى معها الدم قبل الولادة بيومين، ثم استمرت أربعين يوما ودمها ينزل، فعندهم أن اليوم الأربعين والتاسع والثلاثين هو في الأصل كم رقمه؟ اثنان وأربعين أليس كذلك؟ من جهة أن النفاس ابتدأ قبل الولادة.
فإذا كان أكثر من أربعين، فالأصل أن يكون الدم دم فساد، فلا تمنع من صلاة ولا غيرها، وتغتسل ويتألف بها، ولكنهم يقولون: وإن ألحقنا ذلك الدم بأنه دم فساد لكنه لا يُنقص المدة، فالمدة التي تعتبر للمرأة النفاس، إنما تبتدئ بوضع الحمل إلى تمام أربعين يوما.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وأَقَلُّه؛ أي: أَقَلُّ الحَيْضِ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ؛ لقَوْلِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عنه-: وأَكْثَرُه؛ أي: أَكْثَرُ الحَيْضِ خَمْسَةُ عَشَرَ يَوْماً بلَيَالِيهَا، لقَوْلِ عَطَاءٍ: رَأَيْتُ مَنْ تَحِيضُ خَمْسَةَ عَشَرَةَ يَوْماً)}.
هنا قال: (وأَقَلُّه؛ أي: أَقَلُّ الحَيْضِ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ) يقولون عن الحيض: هو سيلان، ولأجل ذلك لو وجدت نقطة، أو نقطتين فهذا ليس عادة بحيض، وليس هذا هو الذي تراه النساء في كل شهر، فحتى تعرف المرأة هل هذا الدم هو دم خرج من رحمها لعلة أو لمرض أو لجرح أو تعب إلى غير ذلك، أو أنه دم الحيض الذي تترتب عليه الأحكام؟ فيقول الماتن -رحمه الله-، ويقرر ذلك الشارح أيضًا: أنَّ (أَقَلَّ الحَيْضِ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ).
واعتبروا في ذلك بأمرين:
الأول: أن حقيقة دم الحيض هو سيلان يسيل مدة، ومن جهة أخرى أنَّ هذا هو المعتاد عند النساء، وبناء على ذلك عند الحنابلة أنه لو رأت المرأة دمًا استمر معها ساعتين أو ثلاث ساعات ثم انقطع، فهذا لا تعتبر به، ولا يتعلق به أحكام الحيض، وهو دم فساد.
قال بعض أهل العلم هنا مثل ما قالوا، قالوا: إذا كان ينتظم يومًا أو حتى نصف يوم، شيخ الإسلام قال بالعادة، فإذا استقر للمرأة كذلك، فهو يكون دم حيض، ولكن المذهب من جهة النظر هو أفضل. سواء قيل: يومًا وليلة كاملة، أو كما يقول بعضهم: يومًا، ولكن من الفقهاء مَنْ يقول: مَرَدُّ ذلك إلى ما تعتاده المرأة في نفسها بحسبها، فلا حدَّ لأقله، كما هو أيضًا قول -أظن للإمام مالك-، وبناء على لا يعتبرون مثل هذا الضابط.
وأما الحنابلة فقد رتبوا ذلك على نحو ما استقر من الوجود المستقر، الذي ظهر وعرف عند النساء على اختلاف المكان، وتعاقب الزمان، وأنَّ هذا هو الذي يمكن الحكم من أنه حيض، وإجراء ما يترتب عليه من أحكام.
ثم قال: (وأَكْثَرُه؛ أي: أَكْثَرُ الحَيْضِ خَمْسَةُ عَشَرَ يَوْماً بلَيَالِيهَا)، هذا أيضًا عندهم من ضوابط الحيض، فلو أنَّ امرأةً كانت ترى الدم تسعة أيام، فهي أيام حيض، وإذا كانت امرأة ترى الدم ثلاثة عشر يوما فهو دم حيض، ولو أنَّ امرأة ترى الدم خمسة عشر يومًا فهو دم حيض، فإذا كان ستة عشر يومًا فيقول الحنابلة: إنَّ هذا لا يمكن أن يكون حيضًا، لأنَّ دم الحيض لا يستقر أو لا يستمر أكثر من خمسة عشر يوما.
وبناء على ذلك يرون أنَّ هذا دم استحاضة، وهذه مُستحاضة، ويجرون عليها أحكام الاستحاضة، وسيأتي بيانها كيف تعرف عادتها من استحاضتها، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة.
أيضا كل ما ذكرناه، من قال بعدم التحديد، بناء على أن هذه مردها إلى الوجود، وهم جمهور الفقهاء يقولون: لا حَدَّ لذلك، بل إذا استقر أنَّ امرأة في كل شهر تأتيها العادة عشرين يوما، فيُحكم بأنه دم حيض، ولكن عمومًا أنا الآن أذكر لكم ما يقابل القول الذي قرره الحنابلة؛ لأنَّ المسائل الحقيقة ليس مردها إلى الاستدلال، وإنما إلى الوجود أو الوجدان، يعني: الحصول، ففي حقيقة أحوال الناس فيها تنوع كثير، فيحتاج الفقيه أحيانًا إلى العلم بالقول الآخر؛ لأنه في بعض الأحوال لا تستقر إلا على هذا القول، فالنظر للفقيه، والفقيه يَعرف ضوابط هذا الباب على ما ذكره فقهاؤنا -رحمهم الله تعالى-، ولكن قد يعرض له مما يعوجه على أن يحملها على هذه الضوابط، ويحوجه إلى أن يصير إلى قول الجمهور، خاصة إنه مثل ما قلنا: إنَّ وقائع النساء في هذا الباب فيها من العسر، وفيها من الإشكال ما هو كثير جدا.
{قال: (وغَالِبُه؛ أي: غَالِبُ الحَيْضِ سِتُّ لَيَالٍ بأَيَّامِهَا أو سَبْعُ لَيَالٍ بأيَّامِهَا)}.
هذا لا إشكال فيه، أمَّا غالب الحيض فهو (سِتُّ لَيَالٍ بأَيَّامِهَا أو سَبْعُ لَيَالٍ) وهذا أيضًا ما جاءت به السنة، حينما أمر النبي أن تتحيض في كتاب الله ستة أيام أو سبعة، وهذا هو غالب الحيض في النساء، أن تكون ستة أيام بلياليها، أو سبع أيام بلياليها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وأَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْنَ الحَيْضَتَيْنِ ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْماً، احتَجَّ به أَحْمَدُ بما رُوِيَ عَن عَلِيٍّ أَنَّ امرَأَةً جَاءَتْهُ وقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فزَعَمَت أنَّهَا حَاضَت فِي شَهْرٍ ثَلاثَ حِيَضٍ.
فقالَ عَلِيٌّ لشُرَيْحٍ: قُلْ فِيهَا. فقَالَ شُرَيْحٌ: إِنْ جَاءَتْ بَبَيِّنَةٍ مِن بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّن يُرْجَى دِينُه وأَمَانَتُه فشَهِدَت بذلك، وإلاَّ فهِيَ كَاذِبَةٌ، فقالَ عَلِيٌّ: قَالُونْ؛ أي: جَيِّدٌ بالرُّومِيَّةِ)
}.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (وأَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْنَ الحَيْضَتَيْنِ ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْماً)، وهذا هو مشهور المذهب، والاعتبار فيه بما جاء في أثر علي، وهذا لا شك من جهة أصول مذهب أحمد أنه مُعتبر، لأنه قول صحابي، وهو من الخلفاء الراشدين، ومثله قد اشتهر، فالحكم به ظاهر لا إشكال فيه، وهو أنَّ (أَقَلّ الطُّهْرِ بَيْنَ الحَيْضَتَيْنِ ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْماً)، فلو أنَّ امرأة قالت: حضت هذا الأسبوع يوما وليلة، وحضت بعد أسبوع يومًا وليلة، فهذه حيضتان؟
نقول: لا، لماذا؟ لأنَّ ما بين الحيضة وهذه الحيضة خمسة أيام أو ستة، ومثل ذلك لا يكون، فينتظم في هذا قول أحمد -رحمه الله تعالى- والفقه فيه. وبناء على ذلك يكون (أَقَلّ الطُّهْرِ بَيْنَ الحَيْضَتَيْنِ ثَلاثَةَ عَشَرَ يَوْماً).
طبعا هذا القول لا شك أنه مُهم للغاية، فأقل الطهر بين الحيضتين، من أهم المسائل المتقدمة لماذا؟ لأنَّ من النساء من تكون حيضتها مُتقطعة، بمعنى: أنها ترى الدم يومًا وليلة، ثم تطهر طهرًا تامًا، وبعد يومين ترى الدم يومًا وليلة، ثم تطهر أربعة أيام، ثم ترى الدم يومًا وليلة، فعلى قول الحنابلة: هذا ليس إلا حيضة واحدة، وهو ما يُعرف عندهم بالحيضة المتقطعة، فيُضم بعضها إلى بعض، فما دام أنَّ بعضها إذا ضُمَّتْ إلى بعض لم تبلغ أكثر الحيض، ولم تنقص عن أقله، وفيها مما يستقر من أنها مثل دم الحيض، فيحكم بأنها حيضة واحدة.
ولكن إذا قلنا: إنه لا حَدَّ لأقل الطهر بين الحيضتين، فإنَّ ذلك يُفضي إلى أنها يمكن أن تنتهي عدتها في أربعة أيام، أو خمسة أيام، ترى الدم يومًا وليلة، ثم طهرت نصف نهار أو نهارا، ثم رأت الدم يومًا وليلة، ثم رأت الطهر نهارًا أو نصف نهار، ثم رأت الدم يومًا وليلة، ثم طهرت، فهي لن تتجاوز خمسة أيام أو أربعة.
ولذلك من يقول من الفقهاء: إنَّه لا حدَّ لأقل الطهر بين الحيضتين يلزمه ذلك، وهذا مُشكل جدا، ومما يمكن أن يؤكد على ما قرره الحنابلة هنا، أنَّ عليًا -رضي الله تعالى عنه- لم يقبل قولها بمجرد المقالة، مما يدل على أنَّ ذلك بعيد جدا، ولذا قال لها: (إِنْ جَاءَتْ بَبَيِّنَةٍ مِن بِطَانَةِ أَهْلِهَا) يعني: أنَّ هذا مستقر في هؤلاء النسوة، أنهن يحضن يومًا وليلة، وترى الطهر ثلاثة عشر يوما ثم تحيض. فَحَكَمَ بذلك لَمَّا جاءت البينة، ولذلك في المشهور من المذهب عند الحنابلة: أنَّ من ادَّعت انقضاء عدتها في أقل من شهر، فلا بد من البينة، وأمَّا إذا كان في أكثر من شهر، فذاك معتاد، فيقبل بدون ما بينة.
وعلى قول من يقول: إنه لا حدَّ لأقل الطهر بين الحيضتين، يوجد هذا الإشكال في إمكانية انتهاء العدة في الوقت القصير، وَيَرِدُ عليه ما ذكره الفقهاء من تلفيق الدم المتفرق ليكون حيضة واحدة، فإنه على مثل هذا القول لا يستقر ذلك الأمر، إلا أن يقال: إذا كان من عادتها أن يأتيها الدم على هذا النحو فيحكم، وبناء على ذلك كل يوم هو: طُهرٌ وحيضٌ، وطهرٌ وحيضٌ، وطهرٌ وحيضٌ، وإذا كان ذلك على خلاف العادة، ثم رأت الطهر، ثم رأت الدم، فيمكن القول بالتلفيق، وجمع ذلك لتكون حيضة واحدة.
يمكن أن يكون هذا كالمصلح لقولهم، أو الذي ينتظم به أو يستقيم به قول من قال: إنه لا حد لأقل الطهر بين الحيضتين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (ولا حَدَّ لأَكْثَرِه؛ أي: أَكْثَرِ الطُّهْرِ بينَ الحَيْضَتَيْنِ؛ لأنَّهُ وقد وُجِدَ مَن لا تَحِيضُ أَصْلاً، لَكِنَّ غَالِبَهُ بَقِيَّةُ الشَّهْرِ)}.
أكثر الطُّهر لا حدَّ له، لأنه وجدت من النساء من لا تحيض، وذكر بعض الفقهاء أنَّ امرأة تحيض في السنة يومًا وليلة فقط، أي: في السنة الكاملة.
إذًا هذا لا إشكال فيه في أنه لا حدَّ لأكثر الطهر، فيمكن أن توجد امرأة لا تحيض، أو ترى الدم مرة كل ثلاثة أشهر، كما يكون من حال بعض النساء أو أكثر من ذلك.
إذًا لا حدَّ لأكثر الطهر كما ذكر الماتن وقرر ذلك الشارح بقوله: (لأنَّهُ وقد وُجِدَ مَن لا تَحِيضُ أَصْلاً، لَكِنَّ غَالِبَهُ بَقِيَّةُ الشَّهْرِ)، فالغالب في النساء أنها إذا حاضت خمسة أيام أنها تطهر خمسة وعشرين يوما، وإذا كانت تحيض سبعة أيام، تطهر من الشهر ثلاثة وعشرين يوما وهكذا، تزيد يومًا أو تنقص بحسب الأشهر وتحركها بالأهلة أو التمام.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (والطُّهْرُ زَمَن حَيْضٍ خُلُوصُ النَّقَاءِ بأنْ لا تَتَغَيَّرَ معَهُ قُطْنَةٌ احتَشَت بِهَا، ولا يُكْرَهُ وَطْؤُهَا زَمَنَهُ إن اغتَسَلَت)}.
قال: (والطُّهْرُ زَمَن حَيْضٍ خُلُوصُ النَّقَاءِ) كيف تعرف المرأة الطهر؟
تعرف المرأة الطهر بأحد أمرين: إمَّا أن ترى قَصَةً بيضاء، والمقصود بالقصة البيضاء: ماء أبيض رقيق يأتي في نهاية الدورة، تعرف به المرأة انقضاء عادتها، وقد لا يكون ذلك عند كثيرٍ من النساء، أو عند جُملة من النساء، بل غاية ما يكون من حالها: خُلوص النقاء. ما معنى خلوص النقاء؟
يعني: أن لا ترى الدم، بمعنى: أنها لو أتت بقطنة بيضاء أو منديل أبيض، فاحتشت به في محل خروج الدم، الذي هو مسلك الذكر، فإنه يخرج كما دخل، أي: أبيض لا يتغير، فإذا كان كذلك فنعتبر أنها طهرت.
لماذا نقول هذا؟ لأنك لا بد أن تعلم أنه ليس معنى أن الحيض يستمر معها سبعة أيام أنه يصب كما تصب الماء من الآلة التي تُفتح، لا. وإنما تَقذف دمًا، أحيانا قطعة دم، وأحيانا سيلانا، يعني كالخيط الخفيف، وأحيانًا يكون فيها ما يصب الدم، ولكن فيه كدرة، أو فيه صفرة، أو نحو ذلك، فهذه كلها تعتبر من حال الحيض الذي هو سيلانه.
إذًا ليس بالضرورة أن يكون سيلانه على هيئة واحدة، كما تصب الآلات التي تُفتح منها الماء أو نحو ذلك.
وبناء على ذلك، بعض الناس إذا لم ير دمًا، يظن أنها نقت وطهرت، نقول: لا. بل لا يحكم بالطهر إلا بقيد، والقيد ما هو؟ أن تأتي بقطنة فإذا احتشت بها لم تتغير، فنعتبر أنها قد طهرت، وهذا سواء كان في انتهاء عادتها، وهذا لا إشكال فيه، يعني: امرأة كانت عادتها يومًا وليلة، فبعد يوم وليلة احتشت بهذه الفطنة فلم تر شيئًا، فنقول: طهرت وهذا ظاهر.
أو عادتها ستة أيام، وفي اليوم السادس لَمَّا احتشت بالقطنة لم تر شيئا، فعادت القطنة كما دخلت بيضاء نقية لا كدر فيها، فنقول: قد طهرت.
ولكن في بعض الأحوال أيضًا -لأي عارض من العوارض- أنَّ المرأة عادتها ستة أيام، ثم بعد اليوم الثالث انقطع الدم، واحتشت بقطنة وخرجت القطنة كما دخلت بيضاء نقية، فنقول هنا: طهرت وهذا هو الذي قاله المؤلف، (والطهر زمنَ الحيض)، يعني: العادة أنه زمن حيض، وأن الحيض سيستمر معها ستة أيام، وهو لم من يستمر معها إلا ثلاثة أيام، فجاءت إليك تسأل، تقول: عادتي في كل شهر ستة أيام، واليوم بعد ثلاثة أيام لَمَّا جربت وأدخلت قطنة وجدتها نقية. هل أصلي وأتطهر وأفعل ما تفعل الطاهرات أم لا؟
فيقول المؤلف -رحمه الله-: (والطُّهْرُ زَمَن حَيْضٍ خُلُوصُ النَّقَاءِ) فنقول: هل رأيت النقاء الخالص الصافي الذي لا تتكدر معه القطنة؟ فإذا قالت: نعم. قال: (بأنْ لا تَتَغَيَّرَ معَهُ قُطْنَةٌ احتَشَت بِهَا) فنحكم بأنها طهرت، وأنه يلزمها ما يلزم الطاهرات.
ولذلك قال الشارح: (ولا يُكْرَهُ وَطْؤُهَا زَمَنَهُ إن اغتَسَلَت)، يعني: أنها لَمَّا طَهرت في نصف عادتها، فالأصل أنَّ هذه الأيام الثلاثة هي وقت عادتها في الشهور الماضية، ولكن ما دام أنها رأت النقاء التام فنقول: لا يُكره أن يجامعها زوجها ويستمتع بها؛ لأنَّ النقاء التام قد رأت، وقد حُكِمَ به، فترتب عليها أحكام الطاهرات من كل وجه.
وكأنه يشير بهذا إلى قول آخر عند بعضهم: وهو أنهم يكرهون إتيان زوجها لها خشية أن عادتها باقية، وأن أحكام الحيض لا زالت موجودة، فلأجل ذلك قال: (ولا يُكْرَهُ وَطْؤُهَا زَمَنَهُ إن اغتَسَلَت).
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وتَقْضِي الحَائِضُ والنَّفْسَاءُ الصَّوْمَ لا الصَّلاةَ إِجْمَاعاً. ولا يَصِحَّانِ؛ أي: الصَّومُ والصَّلاةُ مِنْهَا؛ أي: مِن الحائِضِ. بل يَحْرُمَانِ عليها كالطَّوَافِ وقِرَاءَةِ القُرْآنِ واللُّبْثِ في المَسْجِدِ لا المُرُورِ به إن أَمِنَت تَلْوِيثَهُ)}.
هذه الأحكام التي تترتب على الحائض، فيقول -رحمه الله تعالى-: (وتَقْضِي الحَائِضُ والنَّفْسَاءُ الصَّوْمَ لا الصَّلاةَ إِجْمَاعاً)، فمعنى ذلك أنَّ الحائض إذا حاضت لا تُصلي، ولا يجب عليها فيها قضاء، فهي إذًا غير مأمورة بالصلاة، وغير مأمورةٍ بقضائها، ولا يجوز لها الصوم حال الحيض، وإن كان يجب عليها القضاء.
وكذلك يقول المؤلف -رحمه الله-: الأدلة في هذا واضحة، قال: (بل يَحْرُمَانِ عليها كالطَّوَافِ) وكذلك الطواف فإنه لا يصح منها، والدليل أنه قد خفف طواف الوداع عن الحائض، دليلٌ على أنها لا تطوف، ومثل ذلك: القرآن ومس المصحف، وأما قراءة القرآن فعند الحنابلة الحديث «لا أحله لحائض ولا جنب»، ولكن هذا الحديث معلول عند أهل العلم، ولذلك كانت الفتيا على الرواية الثانية عند الحنابلة، كما هو قول ابن تيمية، وجماعة من أهل التحقيق، وعليه الفتيا، أنَّ المرأة لا تمنع من القراءة دون مس مصحف، كأن تقرأ من حفظها، أو من شاشة، أو من صفحة، أو من صحيفة، لا تمسها بيدها، ولا تصل إليه ببدنها، فلا تمنع من ذلك في تلك الحال؛ ولأنَّ الحيض مدته تطول، فربما بقيت ستة أيام، أو عشرة، أو خمسة عشر يومًا بحسب عادتها، فتنسى القرآن، وهي محتاجة إلى القراءة!
ولذا قالوا: كون هذا الحديث معلول، وهو حديث: «لا أحله لحائض ولا جنب»، وقول جمهور أهل العلم بإباحة القراءة، ولأن المدة تطول، وقد تحتاج إلى القراءة لمراجعة حفظها، أو ذهاب ما تجده في نفسها من جفاء، أو نحوه، فلأجل ذلك قالوا: لها أن تقرأ القرآن بدون مس مصحف.
وكذلك اللبس في المسجد، لا يجوز لها، وإنما أُذِنَ لها كالجنب أن تمر إذ احتاجت مع أمن التلويث، وإذا كانت ستلوث المسجد، كأن لا يوجد عليها ما يمنع تقاطر دمها، فإنه لا يجوز لها المرور، حتى ولو كان لحاجة مرور ونحوه.
وذكر بعض الفقهاء خمسة عشر حُكمًا مما تمنع منه المرأة حال حيضها.
يقولون: إنه لا يصح منها الغسل؛ لأنَّ الغسل وإن كان هو من موجباته الحيض، ولكن شرطه الانقطاع، فما دام الدم فهي ممنوعة من غسل الحيض فقط، وأمَّا غسل الجنابة، كأن تكون عليها جنابة وعليها حيض، فأرادت أن تغتسل لأجل الجنابة فترتفع جنابتها، فيخف الحدث؛ لأنَّ حدث الجنابة أعظم، فإذا الغسل للحيض تمنع منه.
وكذلك الوضوء؛ لأنَّ الوضوء أيضًا من شرطه انقطاع ما يمنع صحته.
وكما قلنا أيضا: قراءة القرآن على قول الحنابلة، وإلا ذكرنا الكلام فيه.
ومس المصحف كذلك تمنع منه.
وكذلك تمنع من الطواف، وتمنع من الصلاة ووجوبها؛ لأنها لا تجب عليها، ولأجل ذلك لا تقضيها.
الصيام تمنع منه أيضًا، ومثل ذلك أيضا قالوا: المرور من المسجد إن لم تأمن التلويث، اللبس في المسجد أيضًا تمنع أيضا الحائض.
تمنع من الجماع في الفرج، وأيضا الحائض في حال حيضها، يمتنع عليها الطلاق، وابتداء العدة فيه؛ لأنها إذا طُلِّقَتْ في حال الحيض لا تبدأ عدتها.
وعلى كل حال فهذه بعض الأحكام ويمكن أن نكملها في أول الدرس القادم.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله -جل وعلا- لنا ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

دروس ذات صلة