مكتبـــــة الدروس

2024-03-19 21:04:44

باب الغسل (6)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (بابُ الغُسْلِ
بضَمِّ الغَيْنِ: الاغتِسَالُ، أي: استِعْمَالُ الماءِ في جميعِ بدَنِه على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ. وبالفَتْحِ: المَاءُ أو الفِعْلُ، وبالكَسْرِ: ما يُغْسَلُ بهِ الرَّأْسُ مِن خَطْمِيٍّ وغَيْرِه)
}.
بسم الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم والفقه والتقى، وأن يبلغنا الخير والعمل والهدى، وأن يجعلنا على سنة النبي المصطفى، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولا في كتاب الطهارة، فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في (باب الغُسْلِ)، وذلك أن المؤلف لَمَّا أَنْهَى ما يتعلق بأحكام الطهارة من الحدث الأصغر أو الطهارة الصغرى، بدأ في الطهارة الكبرى وما يتعلق بها، ولذلك قال: (بابُ الغُسْلِ)، والغسل (بضَمِّ الغَيْنِ) وأيضًا تقرأ بفتحها.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنها (بضَمِّ الغَيْنِ: الاغتِسَال) يعني: الفعل، (وبالفَتْحِ) تدل على ما يُتطهر به وهو الماء، ومثل ذلك: الوَضوء يعني: الماء الذي يتوضأ به، والوُضوء هو فعل وأعمال الوضوء، ومثل ذلك: السَّحور والسُّحور، وهذه مُطردة عند أهل اللغة العربية.
وذُكِرَ الغَسل أيضًا بمعنى: الغسل من الجنابة خاصة، يعني: يُطلق عليه غسلة.
ولَمَّا ذَكَرَ المؤلف -رحمه الله تعالى- ذلك، بَيَّنَ أنها بالكسر تعني: ما يحصل به التنظيف مما يستعمل في الغسل والتطهير، ولذلك قال: (ما يُغْسَلُ بهِ الرَّأْسُ مِن خَطْمِيٍّ وغَيْرِه) يعني: من منظف كأشنان وصابون ونحوها.
ثم ذكر التعريف الاصطلاحي، فقال: (استِعْمَالُ الماءِ في جميعِ بدَنِه على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ)، وهذا واضح من أصل المعنى، فإنَّ أصل المعنى في الغسل هو إفاضة الماء على الإنسان، ولأجل ذلك قال: (استِعْمَالُ الماءِ في جميعِ بدَنِه على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ)، وعند أهل الاصطلاح أنه لا بد أن تكون معه نية، وما يعتبر له من تسمية، وأيضا من تعميم تام وكامل لا يَنِدُّ عنه شيء؛ لأنه لو أفاض الماء على بدنه فنبا الماء عن آليته، أو بعض تساقيط شحمه أو نحو ذلك، لَعُدَّ في اللغة أنه غسل؛ لأنه أفاض الماء، ولكنه من جهة الاصطلاح لا يعتبر غسلا حتى يشمل الماءُ الجسدَ كله، حتى أصول شعره وبشرته التي في رأسه، وجميع ما يكون من مغابن ونحوها.
وأصل الغسل في كتاب الله -جل وعلا-: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة:6]، وقد قال أهل العلم -رحمهم الله تعالى-: إن الله -جل وعلا- ذكر الوضوء بتفاصيله، وذكر الغسل بإجمال، وذلك لأنَّ الغسل كان معروفا عندهم، فلا يُحتاج إلى زيادة توضيح، بخلاف الوضوء فإنه من خصائص هذه الأمة، وهذا على قول بعضهم، وإلا فتعرفون أنه قد تقدم معنا في بعض الروايات قوله: «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» ، فعلى كل حال هذه مقالة من قال: إن الغسل ذكر مجملا، والوضوء ذكر مفصلا.
والسنة دالة في أحاديث كثيرة -قولية وفعلية- على الغسل ومشروعيته، والإجماع منعقد على ذلك لا يُختلف فيه.
{قال: (ومُوجِبُه سِتَّةُ أَشْيَاءَ)}.
كلمة (ومُوجِبُه) بكسر الجيم، وهو ما يكون سببا له وموجبا، يعني: أن يكون الغسل عند حصول ذلك واجبًا.
فقال: (ومُوجِبُه سِتَّةُ أَشْيَاءَ) وهذه ستة بناء على حصر الحنابلة -رحمهم الله تعالى-، فيما اعتبروه من وجوب الطهارة الكبرى، أو الطهارة من الحدث الأكبر، وذلك بالاستقراء والجمع.
{قال: (أَحَدُها: خُرُوجُ المَنِيِّ مِن مَخْرَجِه دَفْقاً بلَذَّةٍ، لا إن خرجَ بدُونِهَا مِن غَيْرِ نَائِمٍ ونَحْوِه، فلو خرجَ مِن يَقْظَانَ لغَيْرِ ذلك كبَرْدٍ ونَحْوِه مِن غيرِ شَهْوَةٍ لم يَجِبْ به غُسْلٌ؛ لحديثِ عَلِيٍّ يَرْفَعُه «إِذَا فَضَخْتَ المَاءَ فَاغْتَسِلْ، وإِنْ لَمْ تَكُنْ فَاضِخاً فَلا تَغْتَسِلْ» رواهُ أَحْمَدُ. والفَضْخُ: هو خُرُوجُه بالغَلَبَةِ، قالَهُ إِبْرَاهِيمُ الحَرْبِيُّ؛ فعلى هذا يكونُ نَجِساً وليسَ بمَذْيٍ، قالَهُ في: الرِّعَايَةِ)}.
قال: (أَحَدُها: خُرُوجُ المَنِيِّ) يعني: هذا أول ما يُوجب الغسل، وهو (خُرُوجُ المَنِيِّ مِن مَخْرَجِه دَفْقاً بلَذَّةٍ)، والمني هو: الماء الأبيض الغليظ بالنسبة للرجل، الذي يخرج (دَفْقاً بلَذَّةٍ) وهما مترادفتان إحداهما تغني عن الأخرى، ولذلك في بعض كتب الحنابلة (بلَذَّةٍ)، لأنه لا يكون (بلَذَّةٍ) إلا أن يكون (دَفْقًا)، وإذا كان (دَفْقًا) تتأتى به اللذة.
إذًا كما قلنا: هو ماء أبيض غليظ، يخرج عند اشتداد الشهوة بالغلبة، بمعنى أن المرء لا يستطيع حجبه ولا منعه إذا تحرك.
أمَّا المني بالنسبة للمرأة فهو ماء أصفر رقيق، يخرج أيضا بلذة وبالغلبة، وربما انتشر حتى خرج خارج فرجها، وليس كل النساء يَشعرن به، أو تحس به في كل حال، يعني: أنه أقل منه في شعور من حال الرجل، فهذا بالنسبة المني.
فإذا وجد المني وُجد الاغتسال؛ لأنَّ النبي قال: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ، يعني: إنما الماء الذي هو الاغتسال من الماء الذي هو المني إذا خرج، ولقول الله -جل وعلا-: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة:6]، والجنب: اسم من لمن وصف بالجنابة وهو حصول خروج المني والمعاشرة.
قال: (دَفْقاً بلَذَّةٍ، لا إن خرجَ بدُونِهَا مِن غَيْرِ نَائِمٍ ونَحْوِه) إذا خرج بغير اللذة كما قلنا: الدفق واللذة هما كالشيء الواحد، إذا اقتصر على أحد القيدين كفى، وإذا ذُكِرَا فيكونا كالتأكيد، ولذلك أظن أن عبارة المنتهى أنها "بلذة" بدون الوصف الآخر، هذا بالنسبة خروج المني.
قال: (لا إن خرجَ بدُونِهَا مِن غَيْرِ نَائِمٍ)، وسيأتي تفصيل أحكام النائم، ويقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا اختل قيد من هذه القيود، بأن خرج من غير مخرجه، فإنه لا يكون له حكم الجنابة، ولا يتعلق به حكم الغسل، ولزوم الطهارة الكبرى من الحدث الأكبر، وسيأتي بيان ما الذي يلزمه؟
الثاني: أنه لو خرج من مخرجه ولكن بغير شهوة أو بغير لذة أو بغير دفق، فإنه لا يكون موجبا للطهارة الكبرى أو للغسل، وذلك (لحديثِ عَلِيٍّ يَرْفَعُه «إِذَا فَضَخْتَ المَاءَ فَاغْتَسِلْ، وإِنْ لَمْ تَكُنْ فَاضِخاً فَلا تَغْتَسِلْ» رواهُ أَحْمَدُ. والفَضْخُ: هو خُرُوجُه بالغَلَبَةِ، قالَهُ إِبْرَاهِيمُ الحَرْبِيُّ)، وإبراهيم الحربي من أشهر من ألف في غريب الحديث، يعني: في الألفاظ الغريبة، في تفسيرها وبيان معناها.
إذًا دل ذلك على أن كون خروج المني يلزم به الغسل، أن يكون دفقا بلذة لحديث عليٍّ هذا، ولذلك قالوا: لو خرج بغيرها، كأن يكون الإنسان يشعر ببرد شديد، فهي أحوال ليست معتادة، يعني: أحوال لا ينفك غالبا صاحبها من أن يكون فيه علة، أو خارج عن المعتاد، ولكنها يمكن أن تكون، ولذلك قال: إذا خرج على هذا النحو لم يكن موجبا للغسل، ولذلك قال: (فعلى هذا يكونُ نَجِساً)، يعني: أنه إذا لم يخرج على الحال الذي يحصل به الدفق واللذة أو يحصل به تكوين النطفة، فإنه في هذه الحالة لا يكون له الحكم الخاص، وهو أنه طاهر.
إذ أنَّ من خصائص المني -في المشهور من المذهب عند الحنابلة، وكما هو قول جمهور أهل العلم- أنه طاهر؛ لأنه أصل ابن آدم، ولا يمكن أن يكون أصل ابن آدم نجسًا، ولأجل ذلك قالوا: هو طاهر.
يقول المؤلف -رحمه الله-: لو خرج بغير دفق، فإنه يكون في هذه الحالة نجسا، ويأخذ أحكام النجاسة من حيث وجوب الطهارة الصغرى أو الطهارة بالوضوء على ما مر بنا.
ثم قال: (وليسَ بمَذْيٍ) المذي هو سائل يخرج من الرجل ومن المرأة على حد سواء، وذلك عند حصول تحرك في الشهوة، إما بمماسة، أو بتذكر جماع، أو بنظر.
ويختلف المذي عن المني:
أولا: في صفته، أنه بخلاف ماء غليظ المني، ثم إن هذا أبيض، وهذا مثل الماء لا لون له، ورب مال إلى شيء من الصفرة القليلة، ولكن في الأصل أنه ليس له لون مثل: الماء.
وهو أيضا يخرج بعد فراغ الشهوة، ولا يشعر به الإنسان في بعض الأحوال حتى يخرج منه، أو يجد أثره في ثيابه، فهذا نجس، وموجب للطهارة الصغرى، أي: الوضوء، كما جاء في حديث المقداد، لَمَّا طلب منه على -رضي الله عنه- أن يسأل النبي ، قال: "كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنِّي، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» ، فدل على أن المذي موجب للوضوء وهو نجس، وسيأتي معنا -بإذن الله جل وعلا- في إزالة النجاسة، هل نجاسته مخففة أو لا؟!
{قال -رحمه الله-: (وإِنْ خرجَ المَنِيُّ مِن غَيْرِ مَخْرَجِه كما لو انكَسَرَ صُلْبُه فخَرَجَ مِنْهُ لم يَجِبِ الغُسْلُ، وحُكْمُه كالنَّجَاسَةِ المُعْتَادَةِ)}.
قوله: (وإِنْ خرجَ المَنِيُّ مِن غَيْرِ مَخْرَجِه كما لو انكَسَرَ صُلْبُه) أي: لو انكسر صلب الإنسان -نسأل الله السلامة والعافية- فخرج منه مني، ففي هذه الحالة لا يكون موجبا للغسل أو للطهارة الكبرى لِمَا ذكرنا، لأنه لا بد أن يكون (دَفْقاً بلَذَّةٍ) ويكون نجسا، وإذا خرج من غير المخرج المعتاد وهو نجس، فقد تقدم بما يتعلق بإيجاب النجاسة الخارجة من غير المخرج المعتاد للطهارة وللوضوء على ممر.
وقال: (وحُكْمُه كالنَّجَاسَةِ المُعْتَادَةِ) أي: في تنظيفه وإزالته.
{قال -رحمه الله-: (وإنْ أَفَاقَ نَائِمٌ أو نَحْوُه يُمْكِنُ بُلُوغُه فَوَجَدَ بَلَلاً؛ فإن تَحَقَّقَ أنَّهُ مَنِيٌّ اغتَسَلَ، فَقَط ولو لم يَذْكُرِ احتِلاماً، وإن لم يَتَحَقَّقْهُ مَنِيًّا؛ فإنْ سَبَقَ نَوْمَهُ مُلاعَبَةٌ أو نَظَرٌ أو فِكْرٌ أو نَحْوُه أو كان به أَبْرِدَةٌ لم يَجِبِ الغُسْلُ، وإلا اغتسَلَ وطَهَّرَ ما أصَابَهُ احتِيَاطاً)}.
هنا المسألة الثانية، وفيها قال -رحمه الله-: (وإنْ أَفَاقَ نَائِمٌ)، فدل ذلك على أن الأحكام المتقدمة في غير النائم. ما الذي يتعلق بالنائم؟
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا خرج من النائم فلا يخلو، إمَّا أن يتحقق أنه مني، وبناء على ذلك يجب عليه الغسل، وهو الذي يسمى احتلامًا، فإذا تحقق أنه مني فعليه أن يغتسل.
طيب لماذا لم يذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- اعتبار القيود السابقة، أن يكون دفقًا وبلذة وكذا؟ لأن حال النائم ما يشعر، وقد يذكر اللذة وقد لا يذكرها، كما هو حال كثير من الناس، ولكن لَمَّا كان الأصل أن المني يخرج على هذا النحو، ولِمَا جاءت به السنة، ولذلك يتعلق به حكم البلوغ ونحوه، فإنه يجب عليه الاغتسال، هذا إذا تحقق أنه مني.
وأما إذا لم يتحقق أنه مني، لأن هذا الأثر إن كان قد سبقه محركات للشهوة وأسباب لها، كقبلة أو ضَمٍّ أو نحوه، فإن ذلك من الأسباب التي في الغالب أنه يتبعها مذي، وبناء على ذلك لا نحكم عليه بأنه مني. لماذا؟ لأنَّ هذا خلاف الأصل، ولأنَّ القرينة دالة أيضا على خلافه، فإذًا اجتمع الأصل مع ظاهر، ولأجل ذلك حكمنا أنَّه ليس بمني، وبناء عليه لا يجب عليه سوى أن يتوضأ، وأن يغسل ما أصابه على سبيل الاحتياط، وسبب أنه يغسل ما أصابه، أننا حكمنا بأنه مذي.
وأما إذا لم يسبق نومه شيء من ذلك البتة، يعني: هو لم يعرف هل هو مني أو ليس بمني؟ بالإضافة إلى أنه حصل في حال نومه، وكذلك لم يسبق ذلك سبب من أسباب تحرك الشهوة كقبلة أو غيرها.
ففي هذه الحال يقولون: يحكم بأنه مني، ويغتسل على سبيل الاحتياط.
فإن قال قائل: الأصل أن هذا مشكوك فيه، وجرت عادة أهل العلم ألا يبنوا المسائل على الشك. قالوا: إنه لا يخرج من تبعة الطاعة بيقين إلا بذاك، يعني: لا توجد قرينة أو شيء يمكن أن نتكئ عليه لنصرفه إلى غيره، والعبادة واجبة عليه، ويمكن أن يكون منيًا، وبناء على ذلك لا يتأتى له اليقين، بأن هذه العبادة وقعت على وجهها إلا بالغسل، أو بالطهارة الكبرى.
ولأجل ذلك قالوا: يلزمه في ذلك اغتسال، ولذلك قال: (وإلا اغتسَلَ وطَهَّرَ ما أصَابَهُ احتِيَاطاً)، يعني: هم حكموا أنَّه مني، ومقتضى حكمهم أنه مني أن يكون هذا الماء طاهرًا، ومع ذلك قالوا: يغسله احتياطا؛ لأنه يمكن أن يكون مذيًا فيكون نجسا. إذًا لَمَّا كان مبنى المسألة على الاحتياط، احتاطوا لأجل الاغتسال، واحتاطوا لأجل الماء هل هو طاهر أو نجس، وحكموا بالأحوط، وهو أن يحكم بنجاسته، ولذلك قالوا: طَهِّر ما أصابه احتياطًا.
{قال -رحمه الله-: (وإن انتقَلَ المَنِيُّ ولم يَخْرُجْ اغتَسَلَ لَه)؛ لأنَّ الماءَ قد باعَدَ مَحِلَّهُ فصَدَقَ عليه اسمُ الجُنُبِ، ويَحْصُلُ به البُلُوغُ ونَحْوُه ممَّا يَتَرَتَّبُ على خُرُوجِه)}.
هذه المسألة من المسائل التي انفرد بها الحنابلة، وربما حُكي الإجماع على خلافها، ولكن بلا شك أنه قول أكثر أهل العلم، الإمام أحمد -رحمه الله- كما استقر عليه قول المتأخرين من أصحابه، أن الإنسان لو أحسَّ بانتقال المني من صلبه، ولكن إما لضعف هذا الرجل أو وهن قواه، أو لكونه قد جرى منه أكثر من مرة في الجماع فأحس بضعف، فبناء على ذلك هو قد يحس بانتقاله من صلبه، ولكنه لا يخرج منه شيء، فهل يرتب عليه أحكام خروج المني؟ أي: هل تجب عليه الطهارة الكبرى؟ وهل يلزمه الغسل أو لا؟
الحنابلة قالوا: يلزمه الغسل لماذا؟ لأنَّ حصول الانتقال يصدق معه الاسم وهو الجنب، لأنَّ الجنب من المجانبة، وهو انتقال الماء من محله ومفارقته له. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية قالوا: ما شُرِعَ لأجله الغسل حاصل في مسألة الانتقال، من ضعف يعقب البدن ونحو ذلك، فلأجل هذا احتاج إلى الغسل.
ولكن كما قلنا: وإن كان هذا هو مشروع المذهب، إلا أنه من مفرداته، ولذلك ذهب أكثر أهل العلم، وجملة من محققي الأصحاب، منهم: الموفق، ومنهم صاحب الشرح الكبير وغيرهم، أنَّ الغسل لا يلزم إلا بالخروج.
وفَرَّعَ ابن تيمية على هذا مسألة أخرى، فقال: إن المرأة في حيضها إذا أحست بانتقال الحيض وإن لم يخرج فتأخذ أحكامه؛ لأنَّ النساء في الغالب يشعرن بابتداء العادة، وهن يتفاوتن في ذلك، ولكنهن يشتركن في آلام تجدها المرأة في ظهرها، ووهن في جسدها ونحو ذلك، وربما قلست نفسها وتغيرت أيضًا. فيقولون: إذا حصل هذا الانتقال، فيُجري ابن تيمية -رحمه الله تعالى- به حكم لزوم الغسل، أو يرتب الأثر الذي رتبه أحمد على خروج المني.
{قال -رحمه الله-: (فإِنْ خَرَجَ المَنِيُّ بَعْدَهُ؛ أي: بعدَ غُسْلِه لانتِقَالِه لم يُعِدْهُ؛ لأنَّهُ مَنِيٌّ وَاحِدٌ فلا يُوجِبُ غُسْلَيْنِ)}.
المني أحيانا بعد الانتقال يبقى مدة، ثم إذا ارتخت أعصاب الإنسان خرج، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: ما دام أننا قلنا: إنَّه يغتسل للانتقال، فإن هذا سبب واحد، والسبب الواحد لا يوجب غُسلين، ولأنَّ المقصود هو دفع ما وجده من وهن وضعف، وذلك حاصل بالغسل الأول.
كذلك هذه المسألة لا تحصل في هذه الصورة فقط، بل في بعض الأحوال ربما خرج من الإنسان مني دفقا ثم بعد اغتساله يخرج منه شيء، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: هذا الخروج لا يوجب غسلا؛ لأنه لما اغتسل له، فإنه سبب واحد لا يوجب إلا غُسلاً واحدًا. هذا إذا كان منيا، وفي بعض الأحوال يخرج من الإنسان شيء يشبه المني، فيه بياض ولكنه ليس بمني، وهو الذي يخرج بعد البول، وهو الذي يسمى: "ودي"، وهذا في الغالب لا يحصل إلا بعلة، لكنه يشبه ذلك.
فإذا كان عقيب بول، ولم تتمحض صفات المني عليه، فهو ودي، وحكمه حكم المذي وسائر النجاسات، من إيجابه للطهارة الصغرى لا الكبرى.
على كل حال، تبين معنا أن المني لو خرج بغير دفق ولا لذة بعد خروجه لأول وهلة، أو بعد انتقاله وغسل المغتسل، فإنه لا يوجب عليه غسلا، ولكنه يتوضأ له، ويجب عليه ما تقدم من أن هذا الخارج من السبيلين، فيوجب وضوءا.
قال -رحمه الله-: (والثَّانِي: تَغَيُّبُ حَشَفَةٍ أَصْلِيَّةٍ أو قدرُها إن فُقِدَت، وإن لم يُنْزِلْ
في فَرْجٍ أَصلِيٍّ قُبُلاً كانَ أو دُبُراً وإن لم يَجِدْ حَرَارَةً، فإنْ أَوْلَجَ الخُنْثَى المُشْكِلُ حَشَفَتَهُ في فَرْجٍ أَصْلِيٍّ ولم يُنْزِلْ، أو أَوْلَجَ غَيْرُ الخُنْثَى ذَكَرَهُ في قُبُلِ الخُنْثَى؛ فلا غُسْلَ على واحدٍ مِنْهُمَا إن لم يُنْزِلْ، ولا غُسْلَ إذا مَسَّ الخِتَانُ الخِتَانَ مِن غيرِ إِيلاجٍ ولا بإيلاجِ بَعْضِ الحَشَفَةِ)
}.
يقول المؤلف: (تَغَيُّبُ حَشَفَةٍ أَصْلِيَّةٍ) هذا هو السبب الثاني من الأسباب التي توجب الغسل، فيقول المؤلف -رحمه الله-: (وَتَغَيُّبُ حَشَفَةٍ أَصْلِيَّةٍ)، والحشفة معلومة لكل أحد، وهي رأس الذكر، وسميت بذلك لقربها من صورة حشف التمر في شكلها.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إذا غيبت الحشفة في فرج امرأة، ففي هذه الحالة يجب بذلك الغسل، والدليل على ذلك أن النبي قال: «إذا جَلَسَ بيْنَ شُعَبِها الأرْبَعِ ومَسَّ الخِتانُ الخِتانَ فقَدْ وجَبَ الغُسْلُ» . وفي الحديث الآخر: «ثُمَّ جَهَدَهَا»، يعني: حصل منه إيلاج؛ لأنَّ الإيلاج هو الذي يحصل به الإجهاد، فقال: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» .
وعبر المؤلف -رحمه الله- بتغييب الحشفة الأصلية، ولم يعبر بمس الختان للختان؛ لأنَّ مس الختان للختان على صورتين، صورة يجب بها الغسل، وصورة لا يجب بها الغسل.
أمَّا الصورة التي يجب بها الغسل فهي أن يكون بإيلاج؛ لأنَّ محل الختان من الرجل هو عقيب الحشفة بقليل، هو موضع الختان، والجلدة المقطوعة، منه أليس كذلك؟ والغالب أنه إذا غَيَّبَ الحشفة فقد دخل ختانه.
وختان المرأة يكون بقطع الجلدة التي هي في وسط الفرج كعرف الديك، قطعها أو بعضها، «أَشِمِّي ولا تَنْهَكي» كما جاء في الحديث.
فإذا كان على وجه الدخول، فالغالب أنه إذا غُيبت الحشفة فقد وصل ختان الرجل إلى ختان المرأة، ولا غضاضة من المثال، وفي الحديث «وإنَّما معَه مثلُ هُدبةِ الثَّوبِ» ، يعني: أنه لا ينتشر ذكره، وجاء في غير ما حال، فلا بد من اتضاح ذلك.
إذًا إذا دخل ووصل محل الختان من فرج الذكر ففي الغالب أنه يمس ختانها، الذي هو في أعلى مسلك الذكر، فهذه حال توجب الغسل.
الحالة الثانية أنه يمس الختانُ الختانَ بدون إيلاج، وذلك بأن يعترض الذكر على فرج المرأة، فإذا اعترض على هذا النحو، فإنه يمكن أن يمس ختانها ولكنه بغير إيلاج، ولذا لا يجب بذلك غسل، وهو الذي قال: (ولا غُسْلَ إذا مَسَّ الخِتَانُ الخِتَانَ مِن غيرِ إِيلاجٍ ولا بإيلاجِ بَعْضِ الحَشَفَةِ)، هذه الحال الثانية، ولذلك أعرض المؤلف -رحمه الله تعالى- عن ذلك كله، وعبَّر بتغييب الحشفة؛ لأنَّ تغييب الحشفة هو الذي لا مناص من أنَّه يحصل معه مس الختان للختان.
وإيجاب الغسل بمس الختان الختان، أو بتغييب الحشفة دون ما إنزال، هذا هو المشهور من المذهب، كما هو قول عامة أهل العلم، وإن ورد عن بعض الصحابة، كـ "علي، وعائشة، وغير واحد" أنهم قالوا: لا يجب، وهذا للحديث «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» ، قالوا: إنَّه قد جاء حديث عائشة، «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ»، فكان صريحًا، وكذلك عموم حديث: «إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ»، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وتَغَيُّبُ حَشَفَةٍ أَصْلِيَّةٍ) أو قدرُها إن فُقِدَت، وإن لم يُنْزِلْ) كما ذكرنا، أنَّ الإنزال ليس بشرط، وذلك لِمَا جاء في الحديث.
(في فَرْجٍ أَصلِيٍّ) أما لو كان فرجا زائدا، كما لو كان فرج خنثى مشكل، فانه يمكن أن يكون هذا الفرج فرجًا موجودًا في ذكر، فبناء على ذلك يكون زائدا، فلا يعتبر بذلك إيجاب الغسل، ولو أولج فيه فمع الشك لا يحصل، كما ذكر المؤلف بعد هذا فقال: (فإنْ أَوْلَجَ الخُنْثَى المُشْكِلُ حَشَفَتَهُ في فَرْجٍ أَصْلِيٍّ ولم يُنْزِلْ، أو أَوْلَجَ غَيْرُ الخُنْثَى ذَكَرَهُ في قُبُلِ الخُنْثَى؛ فلا غُسْلَ على واحدٍ مِنْهُمَا)؛ لأنه لا يتيقن أن الذكر دخل في فرج أصلي، بل يمكن أن يكون دخل في فرج زائد، ولا يجب الغسل إلا بيقين.
ولكن هنا قال: (في فَرْجٍ أَصلِيٍّ قُبُلاً كانَ أو دُبُراً) يعني: حتى وإن كان الإيلاج في الدبر، وهذا لا يعني أن الإيلاج في الدبر جائز، وليس هذا من الفقهاء تسهيل فيه، ولكن هو بيان للحد هنا، الحد الذي يحصل به الإيلاج الذي يوجب الغسل.
وأما هذا الحكم فسيأتي في أبواب الحدود فيما ذكروه هناك، وهذه مسائل كثيرة يقولون: لو أولج في بهيمة! لو أولج في ميت! لو أولج في كذا! فإنهم لا يقصدون بذلك أن هذه الأفعال مأذونًا فيها، ولكنهم يريدون أن يبينوا الحد الذي هم بصدده.
فهل يصدق عليه أنه غَيَّبَ حشفة وأوجب غسلا؟ نقول: نعم، لأن كل هذا يعتبر إيلاجًا، ويعتبر إدخالا وإن كان محرما، ويكون آثمًا، فما يكون من عقوبته، وما يكون من محاسبته، سواء كان من أجنبية، أو كان من زوجة، أو كان من رجل، فكل كل شيء من ذلك له حكمه، ولكن من جهة وجوب الغسل فهو يجب عليه الغسل.
قال: (وإن لم يَجِدْ حَرَارَةً)، يعني: كأن يكون الفرج فيه رغوة كثيرة، أو ماء كثير، أو لزوجة عالية، أو نحو ذلك مما يعرفه المتزوجون.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: إنه يتحقق بذلك اسم الإيلاج، وحصول تغييب الحشفة، وتعلق حكم وجوب الاغتسال.
قال: (ولا بإيلاج بعض الحشفة) لأنه قال: «إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ»، وإذا أولج بعض حشفته، فإنه لا يحصل بذلك مس لختان بعضه لبعض، ولا يكون في ذلك أيضا حصول الإجهاد وحقيقة الإيلاج.
قال -رحمه الله-: (ولو كانَ الفَرْجُ مِن بَهِيمَةٍ أو مَيِّتٍ أو نَائِمٍ أو مَجْنُونٍ أو صَغِيرٍ يُجَامِعُ مِثْلَهُ، وكذا لو استَدْخَلَت ذَكَرَ نَائِمٍ أو صَغِيرٍ ونَحْوِه)}.
يقول المؤلف: حتى ولو كان الفرج من بهيمة، وفي بعض الكتب يقولون: ولو سمكة، وهذا عجيب عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، وأحيانا يقول بعض الناس: هو تكلف، ولكن هو من جهة من يعرف عجائب هذه المخلوقات وبعض أنواعها، وأنه ربما كان لها نحو من فرج الآدمية، ومن يدخلون البحار ويصطادون ونحو ذلك، ربما يكون لهم بعض تلك الأفعال، وحصول ذلك السلوك، فأراد الفقهاء أن يبينوا الحكم فيه.
قال: (أو مَيِّتٍ) مع أنه تنفر الطباع عادة، ولكنهم أرادوا أن يبينوا الحد، هل يدخل أو لا يدخل؟ هل يدخل لو حصل ذلك؟ وهذا يرى الآن مع -نسأل الله السلامة- ما يكون من تعاطي هذه السموم والمخدرات وغيرها، فربما تٌفعل أفعالا لا يأتي على الذهن أن أحدا سويا يمكن أن يفعلها.
قال: (أو نَائِمٍ أو مَجْنُونٍ أو صَغِيرٍ يُجَامِعُ مِثْلَهُ) حتى ولو كان غير بالغ، ما دام أنه يحصل منه انعاض يعني: أن ذكره ينتشر، فإنه يحصل منه إيلاج، ويتعلق به حكم الاغتسال، وليس المقصود بذلك أنه لو ترك الاغتسال يكون آثمًا، نقوب لا يأثم؛ لأنه غير بالغ، ولكن لو أراد أن يصلي، أو أراد أن يقرأ القرآن، نقول: ليس لك أن تفعل شيئا من ذلك حتى تغتسل.
قال: (وكذا لو استَدْخَلَت ذَكَرَ نَائِمٍ أو صَغِيرٍ ونَحْوِه) إذا استدخلت يعني: لم يكن ذلك بفعله ولكنه بفعلها، فيقولون: يجب الغسل في هذه الأحوال، ولكن على من يجب؟
يقولون: لو استدخلت ذكرا، فهذا الاستدخال من غير قصد، فيقول: لا يجب عليه، ولكن بالنسبة للمفعول به يقولون: لو حصل ذلك دون قصده، فإنه يتعلق به غسل، لماذا؟ لأنهم يقولون: إن القصد لا يشترط في المفعول به، ولكنه يشترط في الفاعل أو العامل.
{قال -رحمه الله-: (والثَّالِثُ: إِسْلامُ كَافِرٍ أَصْلِيًّا كانَ أو مُرْتَدًّا ولو مُمَيِّزاً، أو لم يُوجَدْ في كُفْرِه ما يُوجِبُه؛ لأنَّ قَيْسَ بنَ عَاصِمٍ أَسْلَمَ فأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ أن يَغْتَسِلَ بمَاءٍ وسِدْرٍ، رواهُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ. ويُسْتَحَبُّ له إِلْقَاءُ شَعْرِه، قالَ أَحْمَدُ: ويَغْسِلُ ثِيَابَهُ)}.
هذا هو الثالث من موجبات الغسل، قال: (إِسْلامُ كَافِرٍ)، ولا يختلف أهل العلم في أن إسلام الكافر يشرع معه الاغتسال، ولكن هل يكون ذلك على سبيل الوجوب واللزوم، أم يكون على سبيل الاستحباب؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة أن ذلك واجب، لأن قيس بن عاصم أسلم، فأمره النبي بذلك، وأيضا ثمامة بن أثال لَمَّا أسلم أمره أن يغتسل، فبناء على ذلك قالوا: يجب عليه الاغتسال، وإن كانت عند الحنابلة رواية قوية، وهي خلاف مشهور المذهب، أنَّ ذلك مُستحب وليس بواجب.
ولكن على كل حال، لو قيل بالاستحباب في حال أنه لم يوجد منه في حال الكفر ما يوجب الغسل، يعني: يمكن أن يكون ذلك، ولكن إذا وجد منه في حال الكفر ما يوجب الغسل، فالظاهر أن القول بوجوب أو لزوم الغسل ظاهر جدا أو متعين إذا وجد منه ما يوجب الغسل. وأيضا القول حتى ولو لم يكن قد وجد منه ذلك، ولكن لا شك أنه إذا لم يكن سبق منه ما يوجب الغسل، فلو قيل: بالاستحباب، أو التأرجح بين الاستحباب والوجوب ممكن.
وأما إذا وجد منه ما سبقه ما يوجب الغسل، فما ذكره الحنابلة في ذلك قوي جدا.
ثم قالوا: (ويُسْتَحَبُّ له إِلْقَاءُ شَعْرِه) لقوله : «أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الكُفرِ وَاخْتَتِن» ، ولأنه من جهة المعنى يظهر بحال أخرى مخالفة لحاله الأولى، أي: حال الكفر بالله -جل وعلا-، وعبادة الأصنام والأوثان.
قالوا: ويغسل ثيابه أيضا؛ لأنَّ الغالب في الكفار أنهم لا يتنزهون من النجاسات.
{قال -رحه الله-: (والرَّابعُ: مَوْتُ غَيْرِ شَهِيدِ مَعْرَكَةٍ ومَقْتُولٍ ظُلْماً، ويَأْتِي)}.
الموت هو الرابع من أسباب وموجبات الغسل، فإذا مات الميت، فقد وجب تغسيله، وهذا جاء في غير ما حديث عن النبي ، كقوله: «اغسِلْنَها ثَلاثًا، أو خَمسًا، أو أكثَرَ مِن ذلك، إنْ رأيتُنَّ ذلك» ، وهناك أحاديث كثيرة في تغسيل الميت.
إذًا من جهة الأصل هو مشروع، وأنه واجب بالنسبة للميت، فرض كفاية على الناس في أن يقوم به أحدهم حقا له، لأنه لا يقوم به في نفسه، لأجل ما حدث به من الموت.
ولكن هذا الميت واجب تغسيله، وبالنسبة لمن يليه فهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وقد استثني من ذلك شهيد المعركة كما جاءت بذلك الأحاديث أنهم لا يُغسلون لا يصلى عليهم، وسيأتي تفصيل ذلك في كتاب الجنائز كما ذكر المؤلف.
قال: (ومَقْتُولٍ ظُلْماً) المقتول ظلما جاء في الأدلة تسميته شهيدا، ولكن هل يلحق بالشهيد في حكم التغسيل أو لا؟ هذا هو مشروع المذهب عند الحنابلة، وأيضا المسألة سيأتي تفصيلها في كتاب الجنائز -بإذن الله جل وعلا-.
{قال: -رحمه الله-: (والخَّامِسُ: حَيْضٌ والسَّادِسُ: نِفَاسٌ ولا خلافَ في وُجُوبِ الغُسْلِ بهما، قالَهُ في المُغْنِي، فيَجِبُ بالخُرُوجِ والانقِطَاعُ، شَرْطٌ لا وِلادَةٌ عَارِيَةٌ عَن دَمٍ فلا غُسْلَ بها، والوَلَدُ طَاهِرٌ)}.
قوله: (والخَّامِسُ: حَيْضٌ والسَّادِسُ: نِفَاسٌ) هذا محل إجماع أنها موجبة للغسل، ولا يختلف في ذلك أهل العلم، والسنة دالة على ذلك، فإن النبي قال لزينب لما كان فيها استحاضة: «إِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي»، فدلَّ ذلك على أنَّ الحائض تغتسل، وهو محل إجماع، والنفاس هو مشتمل وداخل في اسم الحيض من جهة أحكامه، وإن اختلف من حيث سببه، فأحكام من جهة ما يجب به، ومن جهة ما يجتنب في حال الحيض وفي حال النفاس ومنع الزوج من معاشرة زوجه فيهما حال واحدة، ولكن يختلفان في سبب وجود الحيض من سبب وجود النفاس.
ثم قال: (فيَجِبُ بالخُرُوجِ والانقِطَاعُ شَرْطٌ له) هذه مسألة جرى فيها الخلاف، وهي: ما هو موجب الغسل؟ هل خروج الدم موجب للغسل أم انقطاعه؟
طبعا لا ينبني على ذلك كبير أثر، ولكنهم يتفقون أنَّ الغسل لا يكون إلا إذا انقطع الدم، وحتى من قال إن موجبه خروج الدم يقول: (والانقِطَاعُ شَرْطٌ له) كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-.
هل يترتب على ذلك مسألة؟ قالوا: لو استشهدت في حال الحيض، فالحائض من جهة أنها شهيدة لا تُغسل، ولكن هل تُغسل لأجل الحيض؟
من قال: إن سببه خروج الدم، قال: إن السبب موجود والآن ماتت فيجب غسلها، ولكن من قال: إنَّه يجب بانقطاع الدم، قال: لا تغسل. وبعضهم اعترض على هذا المثل وقال: حتى هذا لا يتحقق بالمعنى، حتى الذين قالوا: يكون بخروج الدم، قالوا: الانقطاع شرط له، وهذه لم ينقطع دمها بعد.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (لا وِلادَةٌ عَارِيَةٌ عَن دَمٍ فلا غُسْلَ بها)، هذا ذكره بعض الفقهاء رحمهم الله تعالى- وربما علق عليه بعض الشراح بأنَّ ذلك لا يعرف. وعلى كل حال، إذا حصل ذلك فإنه لا يتعلق بها حكم الغسل؛ لأنَّ الغسل منوط بحصول الدم، والمرأة التي لم يحصل منها دم في ولادتها، لا يجب عليها غسل في الحال هذه.
قلت لكم ربما في هذا المجلس، أن الفقهاء يقولون: إنه لم يذكر، وإنما فرض من الفقهاء، ولكن أذكر أنَّ واحدًا اتصل بي وسألني عن هذه المسألة، أنَّ امرأة عندهم ولدت، ولم يخرج مع ولادتها دم البتة، ولم أكن الحقيقة في حينها قد تفطنت لِمَا ذكره الفقهاء، فتذكرت بعد حين فحاولت أن ابحث عن الرقم الذي اتصل بي فلم أعثر عليه، ولم أستطع التحقق من حصول ذلك.
{قال -رحمه الله-: (ومَن لَزِمَهُ الغُسْلُ لشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ حَرُمَ عليه الصَّلاةُ والطَّوَافُ ومَسُّ المُصْحَفِ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ؛ أي: قِرَاءَةُ آيَةٍ فصَاعِداً، وله قَوْلُ مَا وَافَقَ قُرْآناً إن لم يَقْصِدْهُ كالبَسْمَلَةِ والحَمْدَلَةِ ونَحْوِهِمَا كالذِّكْرِ)}.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- في بيان ما يترتب على الحدث الأكبر، أو على حصول واحد من هذه الموجبات المتقدمة، فيقول: (ومَن لَزِمَهُ الغُسْلُ لشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ) كأن يكون جنبا بإنزال أو تغييب حشفة، أو أن تكون امرأة حائضا، أو نحو ذلك، فيقول المؤلف -رحمه الله- هنا: (حَرُمَ عليه الصَّلاةُ) وهذا بالإجماع، لا يختلف أهل العلم على أن من عليه حدث أكبر لا تجوز منه الصلاة، ولا يحل له تعاطيها، وإذا كان لا يحل لمن حدثه أصغر، فكيف بمن كان حدثه أعظم وأكبر؟ فإنه بلا شك من باب أولى.
قال: (والطَّوَافُ) وقد تقدم معنا أن الطواف تعتبر له الطهارة، وسيأتي أيضا ذلك في الحج، لأنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج:26]، فإذا طُلِبَ تطهير البيت الذي هو موضع الطواف، فمن باب أولى أن يكون الطائف كذلك، أليس كذلك؟ ولأنَّ الطواف صلاة أيضا، كما جاء عن ابن عباس، هذا دليل ثان، ودليل ثالث، وهو أنه كما سيأتي معنا، أنَّه أُحِلَّ للحائض أن تدخل لحاجة ولغير حاجة، كدخول المسجد وخروج من جهة ثانية، أليس كذلك؟ فلو كان المنع من الطواف لأجل التلويث وليس لأجل طلب الطهارة، لكان الدخول لفعل واجب من واجبات الحج أولى من الدخول لمرور ونحوه، الذي جاء الشارع بالإذن فيه، فَعُلِمَ من ذلك أنَّ العلة ليست هي منع الحائض من دخول المسجد؛ لأنه أبيح لها في غير واجب، في أمر مباح، فيما تحتاجه من دخول أو عبور أو بحث عن ولد، أو نحو ذلك، أو لأجل أن تغتسل في المسجد إذا وجد فيه مغتسل على ما سيأتي.
فدلَّ ذلك على أن الطواف مما تطلب له الطهارتين، الطهارة الصغرى كالطهارة الكبرى.
قال: (ومَسُّ المُصْحَفِ) أيضًا مر بنا ذلك، وهذا قول أكثر أهل العلم، وقد نقل عن الأئمة الأربعة، وربما نقل ابن هبيرة أو غيره الإجماع أو الاتفاق على ذلك.
قال: (قِرَاءَةُ القُرْآنِ؛ أي: قِرَاءَةُ آيَةٍ فصَاعِداً) وذِكْرُ المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا للموجبات على حد سواء، فمعنى ذلك أن من كان بها نفاس، أو من كان بها حيض، أو من كان به جنابة، فإنهم في ذلك سواء، لأنهم لا يجوز لهم قراءة القرآن، وذلك لأنَّ هذا حدث أكبر فَغُلِّظَ على صاحبه فلم يكن له ليقرأ شيئا من القرآن، واستدل الحنابلة، «إِنِّي لَا أُحلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا جنُبٍ» ، قالوا: إنَّه جاء في هذه الأحاديث منع الحائض والجنب من قراءة القرآن، كما أيضا من دخول المسجد، وسيأتي هذا.
أما الجنب فهذا واضح، وكان النبي «لَا يَحْجُزُهُ عَنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَابَةُ» ، فيمكن أيضا أن الحنابلة أخذوا أن الحيض في معنى الجنابة في أن الجميع موجبات للغسل، وهي حدث أكبر، فاستوت في منع قراءة القرآن على تلك الحال.
لكن ربما قيل -وهذا قول لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو وجيه جدا، قال: لا يمكن أن نسوي بين الحائض والجنب، فأما الحديث الذي في الجنب فهذا معلوم، وأما الحديث الذي جمع بينهما ففيه ضعف، وأما التسوية من جهة المعنى فمحل نظر، وذلك أولاً لأنَّ الجنابة لا تطول، ولأنَّ الحدث بالجنابة يكون رفعه بيد الإنسان، فيمكن أن يغتسل فيذهب عنه، وأما الحيض والنفاس فليس بيد المرأة، ويطول ذلك، وربما إذا مُنعت فإن كانت حافظة نسيت، فلأجل ذلك قالوا: إنها إذا احتاجت إلى تذكر القرآن أو نحوه يخفف في جانبها، أو يؤذن لها في أن تقرأ؛ لئلا يطول بها العهد عن القرآن، ولئلا يكون ذلك سبب لنسيانها، ولأنَّ الحيض لا يساوي الجنابة من جهة الحدث في أصله، يعني في شدته، ولا من جهة الاختيار فيه، ولأجل ذلك قالوا بإمكان القراءة في تلك الحال، وهو محتمل.
هنا قال: (وقِرَاءَةُ القُرْآنِ؛ أي: قِرَاءَةُ آيَةٍ فصَاعِداً)، يعني: الذي يتأتى بالقرآن، لأنَّ القرآن يتأتى بالآية، فهي التي يكون بها الإعجاز، وينتظم بها المعنى، وتتم بها الجملة ونحو ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وله قَوْلُ مَا وَافَقَ قُرْآناً إن لم يَقْصِدْهُ، كالبَسْمَلَةِ والحَمْدَلَةِ ونَحْوِهِمَا كالذِّكْرِ، وله تَهَجِّيهِ والتَّفَكُّرُ فيه وتَحْرِيكُ شَفَتَيْهِ به ما لم يُبَيِّنِ الحُرُوفَ، وقِرَاءَةُ بَعْضِ آيَةٍ ما لم تَطُلْ)}.
قال: (وله قَوْلُ مَا وَافَقَ قُرْآناً)، يعني: هو لَمَّا منَعَ الآن من قراءة القرآن، أراد أن يبين أمرًا له تجاذبان، أن يكون من القرآن، وأن يكون من عموم الذكر. فإذا قال الإنسان على سبيل الدعاء: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، فهذا من جهة: هو بعض آية في كتاب الله -جل وعلا-، ومن جهة أخرى: هو دعاء يألفه كثير من الناس، وهو من أعظم الأدعية لِمَا اشتمل عليه من الابتهال وتعظيم الله بالتوحيد، والانكسار بين يديه.
وبناء على ذلك قال المؤلف -رحمه الله-: ما كان موافقا للقرآن، ولكنه يطلب على كونه ذِكرًا، فلا يمنع منه، فلو قال: بسم الله الرحمن الرحيم، أو سمي باسم الله ونحوه، ليس على سبيل القراءة، ولكنه على سبيل الذكر، أو حمد الله -جل وعلا- فيقولون: ذلك لا يكون ممنوعا منه مَن عليه جنابة، أو بها حيض أو نفاس على ممر، فيما ذكرنا من تسويتهم بينهم على ما تقدم.
ثم قال: (وله تَهَجِّيهِ) إذا تهجاه فقال: "قد أفلح" فهذه لا تكون قراءة إلا باكتمالها، فهذا التهجي على هذا النحو، لا يعتبر قراءة للقرآن، فلو كان على سبيل التعلم ويتهجى بعض ذلك في هذا النحو، ولا يقرأها قراءة متصلة؛ لأنَّ الإعجاز في كمال التركيب وقراءة الآية متصلة. وبناء على ذلك قالوا: إنَّه لا يدخل فيه.
ومثل ذلك: التفكر، كأن يتفكر في أية ويتدبرها بذهنه، أو ينظر إليها كذلك ولكنه لم يلفظ.
وهنا قال: (والتَّفَكُّرُ فيه وتَحْرِيكُ شَفَتَيْهِ به ما لم يُبَيِّنِ الحُرُوفَ) ما دام أن الحرف لم يتبين، فإنه لا تحصل به قراءة؛ لأنَّ القراءة من المقروء، والمقروء هو الملفوظ، والملفوظ لا يكون إلا أن يبين الحرف، فبناء على ذلك قالوا: إذا لم يتبين الحرف فإنه لا يكون قارئا، فلا يكون مَن حاله في جنابة أو نحوه، لو فعل دون إبانة حرف وظهوره، قارئًا للقرآن، ولا فاعلا للمنهي عنه.
ومثل ذلك قراءة بعض آية، كما قلنا: لو قرأ بعض أية ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ يعني: يستدل بها كثير من الناس وهي بعض أية، فلو تلاها على هذا النحو بعض أية، فإنه لا يعتبر بذلك قراءة؛ لأنَّ القراءة للآية إذا اكتملت إلا إذا كانت أية طويلة، فلو قرأ مثلا نصف آية الدين أو نحوها، كان لو ما قرأ أكثر من آية غير هذه الآية، فبناء على ذلك إذا قرأ بعض آية لم تطل، فإنه لا يعتبر في ذلك داخلا أو فاعلا للمنهي عنه.
{قال: -رحمه الله-: (ولا يُمْنَعْ مِن قِرَاءَتِه مُتَنَجِّسُ الفَمِ، ويُمْنَعِ الكَافِرُ مِن قِرَاءَتِه ولو رُجِيَ إِسْلامُه)}.
هذا على سبيل الاستطراد، وهذه لا علاقة لها بالمسائل المتقدمة، ولكن لو وجد شخص في فمه دم، والدم نجس، أو وجد في فمه بول، وأراد أن يقرأ القرآن، يقول المؤلف: (ولا يُمْنَعْ مِن قِرَاءَتِه مُتَنَجِّسُ الفَمِ)، ولكن ذلك بلا شك أنه خلاف الأولى، ويكره له فعل ذلك، ولكنه لا يكون حاله كحال الجنب، الذي يمنع من قراءة القرآن.
قال: (ويُمْنَعِ الكَافِرُ مِن قِرَاءَتِه ولو رُجِيَ إِسْلامُه)؛ لقوله -جل وعلا-: ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ [التوبة:6]، وأما تمكين الكافر من قراءته، فإنه تمكين له على حال غير موافقة لِمَا للقرآن من تعظيم، وما فيه من إجلال، وإذا كان المحدث يُمنع حدثا أكبر منه، فالكافر متلبس بالحدث الأكبر وزيادة على ذلك ما فيه من سوء الاعتقاد، وعبادة الأوثان، أو التثليث، أو التوجه إلى الصلبان.
{قال -رحمه الله-: (ويَعْبُرُ المَسْجِدَ لحاجة؛ أي: يَدْخُلُه لقَوْلِه تعَالَى: ﴿وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ [النساء:٤٣]؛ أي: طَرِيقٍ لحَاجَةٍ وغَيْرِهَا على الصَّحِيحِ، كما مَشَى عليه في الإِقْنَاعِ، وكَوْنُهُ طَرِيقاً قَصِيراً حَاجَةٌ، وكَرِهَ أَحْمَدُ اتِّخَاذَهُ طَرِيقاً)}.
قول الماتن: (ويَعْبُرُ المَسْجِدَ لحاجة)، أي أنه قيده بالحاجة، فالشارع -رحمه الله تعالى- على ما مشى عليه الحنابلة، من أنَّهم أطلقوا أنَّ من كان هذه حاله، وأراد العبور ويؤمن أن يكون فيه تلويث، فالآية دالة على الإذن ﴿وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ [النساء:٤٣]، وإذا أذن للجنب أن يعبر، فمن باب أولى من كان حدثه أقل.
وبناء على ذلك قالوا: يجوز للجنب أن يعبر لحاجة أو لغيرها، أو نحو ذلك، ومثل ذلك الحائض والنفساء، ولكن يشترط في الحائض والنفساء، لَمَّا كانت حاملة لنجاسة أن تأمن تلويث المسجد؛ لأنه لو لم تكن حائضا، وكان ثم شخص حاملا لنجاسة يمكن أن تلوث المسجد لمنع من دخوله؛ لئلا يلوث المسجد، فإذا أرادت الحائض أن تدخل نقول: حكمها حكم الجنب، ولكن بشرط أن تأمن حصول نجاسة تقطر منها، أو تخرج من فرجها فتصيب المسجد وتُقَذره.
ثم قال: (وغَيْرِهَا على الصَّحِيحِ) كالتنبيه على ذلك، ثُمَّ علل الشارح فقال: (كما مَشَى عليه في الإِقْنَاعِ)، يعني كأنه يقول: إنه لم يقيدها بالحاجة هناك، فكأنه لَمَّا استدرك عليه قال: هذا ليس مني بل هو منه، وهو الذي ذكره في كتاب الإقناع، وهو صاحب السابقة فيه، وكأنه يعتذر له بسبق قلم أو نحو ذلك، أو ربما كان رأيا ظهر له أو نحوه.
ولكن كأن المؤلف -رحمه الله- يقول: إن ما مشى عليه في الإقناع، وهي طريقة سائر الأصحاب، هي الأقعد في المذهب والأتم على الأصل.
ثم قال: (وكَوْنُهُ طَرِيقاً قَصِيراً حَاجَةٌ)، يعني الحاجة لأبسط سبب وليست مثل الضرورة، فلو كان يمكن أن يمر هكذا فتزيد عليه بضع خطوات، أو يدخل من أثناء المسجد، فيقول: هذه حاجة تستدعي، أو يؤذن للجنب أو للحائض إذا آَمِنَا من التلويث أن يمرا على هذا النحو، ولكن كره أحمد اتخاذه طريقا. يعني: أحدهم كلما أراد أن يدخل أو يخرج، لو كان الشخص بيته هنا، ويوقف سيارته في هذه الناحية، فكلما أراد أن يذهب إلى سيارته دخل من هذا الباب وخرج من هذا الباب، فهذا أخرج المسجد عما جعل له، فالمسجد إنما جعل للعبادة، وهذا جعله كأنه طريق مسلوكة، وقارعة مبذولة، فكان ذلك على خلاف تعظيم المسجد، وجعله لِمَا بُني له وأوقف عليه، من الصلاة والعبادة.
قال -رحمه الله-: (ومُصَلَّى العيدِ مَسْجِدٌ لا مُصَلَّى الجَنَائِزِ) هذا مشتهر عند الحنابلة، وأصله ظاهر، لِمَا جاء في الحديث، وأمرت الحيض أن يعتزلن المصلى، فلولا أن له حرمة، وأن الحيض يمنعهن من ذلك، لما منعهن النبي ، ولأنَّ ذلك سيستدعي أن يكن خلفه، أو بعيدات، فربما فات عليهن الصوت، فلولا أن له حرمة، وأنه داخل في اسم المسجد وحرمته، وما يتعلق به، وما يعتبر له، لَمَا كان للنبي أن يعزل الحيض في ذلك الموطن، أو في تلك الحال التي يطلب فيها إجابة الدعاء، واجتماع الناس.
وأما مصلى الجنائز فهو دون ذلك، لم يثبت فيه شيء، لأنه في الأصل يوجد مصلى جنائز، ومصلى عيد، ومسجد، فالمسجد للصلوات والجمعة، ومصلى العيد لصلاة لعيد، ومصلى الجنائز لها، فمصلى الجنائز ثبت أن النبي كان يصلي فيه، ولكن ما ثبت لمصلى الجنائز من حجب الحيض عنه، فلأجل ذلك فرقوا في الحكم بينهما.
{قال -رحمه الله-: (ولا يجوزُ أنْ يَلْبَثَ فيهِ؛ أي: في المَسْجِدِ مَن عليه غُسْلٌ بغيرِ وُضُوءٍ، فإنْ تَوَضَّأَ جَازَ له اللُّبْثُ فيه)}.
قال: (ولا يجوزُ أنْ يَلْبَثَ فيهِ؛ أي: في المَسْجِدِ مَن عليه غُسْلٌ بغيرِ وُضُوءٍ، فإنْ تَوَضَّأَ جَازَ له اللُّبْثُ فيه) هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، أن من كانت عليه جنابة، أو من كان به حدث أكبر، فأراد الدخول إلى المسجد، فإن له ذلك بشرط أن يتوضأ، والوضوء وإن لم يكن مطهرا له من حدثه الأكبر، ولكنهم قالوا: هو مخفف لهذا الحدث، فإذا تخفف الحدث جاز لصاحبه أن يدخل المسجد، فكما أن من به حدث أصغر يجوز لها أن يدخل المسجد ويجلس فيه، فقالوا: من به حدث أكبر إذا تخفف من الحدث الأكبر، كان كحكم الحدث الأصغر في جواز الدخول والمكث، وأصل ذلك ما جاء عن الصحابة أنهم عليهم الجنابة فيتوضؤون فيدخلون المسجد ويتحدثون، فدل على أنهم يمكثون في المسجد وقتًا طويلاً، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وهو من المفردات، خلافا للجمهور الذين يقولون: الأصل أنه حدث أكبر، وأن صاحبه يمنع منه، وهذا مبني على اعتبار ما جاء عن الصحابة حجة أو لا؟
{قال -رحمه الله-: (ويُمْنَعُ مِنْهُ مَجْنُونٌ وسَكْرَانٌ ومَن عليه نَجَاسَةٌ تَتَعَدَّى)}.
المجنون والسكران يمنع من المسجد، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء:43]، والمجنون أشد من السكران، فكانوا في الأصل أنهم في الغالب لا يُؤمنوا من أن يدنسوا المسجد أو يؤذوا المصلين ونحوه، فيمنعون منه تعظيما للمسجد.
قال: (ومَن عليه نَجَاسَةٌ تَتَعَدَّى) يعني: لا يمكن حفظها كصغير فيه أثر غائط أو بول، أو شخص فيه دم يتأذى الناس به أو يسيل منه، فلا يجوز.
{قال -رحمه الله-: (ويُبَاحُ به وُضُوءٌ إن لم يُؤْذِهِمَا)}.
هذا أيضا استطراد من الشارع -رحمه الله تعالى- وهو لو كان على الإنسان غسل، فهل له أن يفعل الغسل والوضوء داخل المسجد؟ هذا محل تفصيل، فيقول: لا يخلو إما أن يحصل إيذاء أو لا، فإذا لم يحصل به إيذاء كأن يكون في مكان مخصص لذلك ونحوه، فلا بأس، وأما إذا حصل بذلك إيذاء فلا يجوز، فعلى سبيل المثال، عندنا الآن في هذا لو اغتسل أحد في جهة من جهاته لأفضى ذلك إلى أن تبتل أرضه، وينشأ من ذلك رائحة ونحوه، فيكون في ذلك حصول أذية لا محالة، ولكن لو أراد أن يفعل شيئا من ذلك في سرحة المسجد ورحبته، فإذا كان ذلك ليس مكانا للصلاة، ولا يكون عليه أذى، ولم يتعدَّ بالماء، بأن يأخذ ماء الشرب أو نحوه، فلا بأس بلك، وهذا طبعا كان في أوقات لا يكون فيها أماكن مخصصة للوضوء ونحوه، فالحمد لله الآن وجدت أماكن ملحقة به، تُجعل في محلها.
ولكن لو كان عندنا شخص يمكن أن يتوضأ في المسجد، ويوجد مكان خارج المسجد يمكن أن يتوضأ فيه، فهل وهو معتكف يخرج أو لا؟
الظاهر أنه لا يخرج، لماذا؟ لأنه لا يخرج إلا إذا استدعى سبب الخروج لحاجة لا بد له منها، أو هو مشترط لها وهي داخلة في الشروط المأذون فيها، فإذا أمكنه الوضوء في مثل هذه الحال لم يجز له الخروج. فليتنبه لذلك فإن هذه من المسائل التي قد تفوت على بعض الناس.
يوجد في بعض المساجد مكان مهيأ للوضوء، فيذهب ليتوضأ في الخارج، فنقول: لا، ومثل ذلك إذا ذهب ليغسل إناء أو نحوه، وكان يمكنه فعله في المسجد، لا يحتاج إلى ذلك، وقد ينقطع اعتكافه به، ولكن ما يحصل كما قلنا في الحرم الآن من وضوء بعض الناس بماء الشرب فيه مخالفة ظاهرة، ولا أقل من أن يقال: إن وضوءه ليس بصحيح، وإنه آثم في فعله، وتحصل به الأذية، ولأجل ذلك يمنعون منه، ويدفعون من يفعل ذلك؛ لأنه ربما أثر البلل على مشي الناس وإمكان الصلاة في تلك البقاع.
{قال -رجمه الله-: (وإذا كانَ الماءُ في المَسْجِدِ جازَ دُخُولُه بلا تَيَمُّمٍ، وإنْ أرادَ اللُّبْثَ فيه للاغتِسَالِ تَيَمَّمَ، وإنْ تَعَذَّرَ المَاءُ واحتَاجُ للُّبْثٍ جَازَ بلا تَيَمُّمٍ)}.
هذه مسألة عجيبة، وهي كالتالي: عندنا الآن ثلاثة أحوال:
واحد أراد أن يدخل لأن الاغتسال موجود داخل المسجد، كأن يكون فيه مستحم مهيأ للناس لا يجد غيره، وهو جنب، فهذا يدخل كما يدخل عبورًا، فمن باب أولى إذا كان يدخل لأجل تحصيل الطهارة من الحدث الأكبر؛ ولهذا قال: (جازَ دُخُولُه بلا تَيَمُّمٍ)، وكأنه يشير إلى بعض قول الفقهاء الذين يقولون: إنه يتيمم.
ومثل ذلك قال: (وإنْ أرادَ اللُّبْثَ فيه للاغتِسَالِ تَيَمَّمَ) يعني: هو دخل إلى المسجد وينتظر مثلا مكان المستحم حتى يفرغ، فهو سيكون منه مكث بين يدي الاغتسال، وليس هو مرور إلى المحل المغتسل، وإنما مكث؛ فيتيمم.
هاتان مسألتان لا إشكال فيها، ولكن ما الحالة الثالثة؟
إذا تعذر الماء -التي في المسألة الأولى- والتي فيها شخص أراد أن يجلس في المسجد، وقلنا إنه يتوضأ، طيب إذا لم يجد وضوءًا وكان في حاجة للمكث والجلوس في المسجد، يقولون: (واحتَاجُ للُّبْثٍ جَازَ بلا تَيَمُّمٍ)، وهذا في الحقيقة مشكل، لأن المسألة التي قبلها يقول فيها: (وإنْ أرادَ اللُّبْثَ فيه للاغتِسَالِ تَيَمَّمَ)، وإذا أراد البقاء في المسجد لحاجة، ولم يجد ماء للوضوء لا يتيمم! لو ألحقوا هذه المسألة للمسألة التي قبلها لكان أولى، ولذلك نُقِلَ عن الموفق بن قدامة -رحمه الله تعالى- أنه قال: هذا غير صحيح، يعني: لا بد له أن يتيمم، لأنَّ الآن الذي دخل لأجل الاغتسال يلبث ويمكث حتى ينتهي من قبله ونحو ذلك يتيمم، وهذا الذي يدخل ليس لأجل الاستحمام والطهارة الكبرى، وإنما يريد الجلوس لا يتيمم إذا تعذر عليه الماء!
نقول: هذا بعيد، ولكن هذا تقرير الحنابلة -رحمهم الله تعالى-.
{قال -رحمه الله-: (ومَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً مُسْلِماً أو كَافِراً سُنَّ لهُ الغُسْلُ لأَمْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بذلك، رواهُ أَحْمَدُ وغَيْرُه.
أو أفاقَ مِن جنونٍ أو إِغْمَاءٍ بلا حُلُمٍ؛ أي: إنزالٍ، سُنَّ له الغُسْلُ؛ لأنَّ النَّبِيَّ اغتَسَلَ مِن الإغماءِ، مُتَّفَقٌ عليه، والجنونُ في مَعْنَاهُ بل أَوْلَى)
}.
هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في الأغسال المستحبة، والأغسال المستحبة ذكر الحنابلة فيها ستة عشر غسلا، فقالوا: (ومَنْ غَسَّلَ مَيِّتاً)، فهو ليس عليه غسل من جهة الوجوب، ولكنه على سبيل الاستحباب، كما سألت أسماء بنت عميس هل عليَّ غسل؟ قال: لا، ولكن جاء عن أبي هريرة وعن عليٍّ -رضي الله تعالى عنهما- أنهما أَمَرَا بالغسل. قالوا: هذا على سبيل الاستحباب؛ لأنَّ من غسَّل ميتا لا بد من أن يتلطخ ببعض النجاسات، وأن تصيب أجزاء من جسده لا يُتنبه لها، فلذلك إذا اغتسل كان ذلك أكد لحصول الطهارة وتمام النقاء والخلوص من النجاسة.
قالوا: (أو أفاقَ مِن جنونٍ أو إِغْمَاءٍ) قالوا: لأنَّ النبي لَمَّا أفاق من الإغماء اغتسل، فقالوا: والجنون أشد من الإغماء.
(بلا حُلُمٍ) أي: بلا احتلام، وأما إذا وجد منه احتلام، فالاحتلام موجب للغسل، ولكن إذا لم يوجد منه في حال الإغماء أو في حال الجنون ما يُوجب الغسل، فإنَّ الغسل مُستحبٌ له؛ لأنه جاء عن النبي في حال إغمائه، والجنون من باب أولى، فكان ذلك داخل فيه، ولذلك قال: (والجنونُ في مَعْنَاهُ بل أَوْلَى).
{قال -رحمه الله-: (وتَأْتِي بَقِيَّةُ الأَغْسَالِ المُسْتَحَبَّةِ في أَبْوَابِ مَا تُسْتَحَبُّ له، ويَتَيَمَّمُ للكُلِّ ولِمَا يُسَنُّ له الوُضُوءُ لعُذْرٍ)}.
(وتَأْتِي بَقِيَّةُ الأَغْسَالِ المُسْتَحَبَّةِ في أَبْوَابِ مَا تُسْتَحَبُّ له) ذكروا منها: الغسل للجمعة، والغسل للميت، والغسل للعيد، ولرمي الجمار، وللمبيت بمزدلفة، وللاستسقاء، ولصلاة الكسوف، وغيرها.
فعلى كل حال قال المؤلف: ستأتي في محلها، لدخول مكة، ولدخول الحرم، وللإحرام، يعني: مذكورة في مواضعها، وستأتي -بإذن الله جل وعلا- الإشارة إليها.
قال: (ويَتَيَمَّمُ للكُلِّ) فلو تعذر عليه الاغتسال تيمم، ومن أكثر الأشياء التي يَغفل عنها الناس اليوم، هو: الاغتسال لدخول مكة، ولذلك نقول: لَمَّا كان الوقت بين الإحرام والاغتسال له ودخول مكة وقت قليل بالسيارات، فينبغي على أقل الأحوال أن الإنسان إذا اغتسل ينوي الغسل للأمرين جميعًا، للإحرام ولدخول مكة؛ لأنَّ الشيء عند حصول سببه، وما دام أن سبب الدخول يحصل قريبًا، أي: خلال وقت قصير، ساعة ونحوها أو أكثر من ذلك بقليل، فهو شيء ليس بالكثير، فالسبب هو تمام النظافة عند الدخول، ولو وقف الإنسان في بعض المواضع التي يجد فيها محلا للاغتسال لكان ذلك أيضا أكمل وأتم وأوفق لمتابعة السنة -بإذن الله جل وعلا.
قال: (ولِمَا يُسَنُّ له الوُضُوءُ لعُذْرٍ) يعني: لو أنَّ شخصا أراد أن يتوضأ فلم يجد مما يستحب له الوضوء كذكر الله -جل وعلا- ونحوه، لم يجد الوضوء فتيمم، فيستحب له ذلك.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

دروس ذات صلة