{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (بابُ مَسْحِ الخُفَّيْنِ وغَيْرِهِمَا مِن
الحَوَائِلِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه،
وَسَلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا
وإياكم من أهل العلم الراسخين، وأن يجعلنا من العالمين العاملين، وأن يرزقنا الفقه
في الدين، والخير والتعليم، وأن يجعلنا ممن رفع منارة، وأبقى في العالمين مساره،
على الهدى والتوفيق والسداد واليقين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا، ولوالدينا،
ولأزواجنا، ولذرياتنا، وأحبابنا، والمسلمين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بابُ مَسْحِ الخُفَّيْنِ)، فإنَّ المؤلف لَمَّا
أنهى ما يتعلق بالكلام على الطهارة في الصغرى، وهي: الوضوء، من حيث بيان أحكامها
وما يتعلق بها، ذكر مكملاتها، ولَمَّا كان ذلك من أهمها وأظهرها المسح على الخفاف
باعتبار ما جاءت به النصوص، وتواترت به الأحاديث، كان ذلك ذكره بعد ذكر الوضوء
وحكمه، فإنه ذَكَرَ غَسل الرجلين اعتبارًا بالأصل، ثم ما يعقبه ويخلفه من المسح على
الخفاف
ثم لَمَّا ذكر الخفاف، فإن أحكام المسح متقاربة، فأتبع ذلك بجميع ما يمسح عليه من:
الجبائر، والعصائب، والعمائم، والخُمُر، ونحوها، ولذلك قال: (وغَيْرِهِمَا مِن
الحَوَائِلِ)، فإذا هذا باب فيه أحكام مكملة لأحكام الوضوء، مما يُعتبر فيه حكم
المسح.
{قال -رحمه الله-: (وهو رُخْصَةٌ وأَفْضَلُ مِن غَسْلٍ، ويَرْفَعُ الحَدَثَ، ولا
يُسَنُّ أن يَلْبَسَ ليَمْسَحَ)}.
قال: (وهو رُخْصَةٌ)، المسح على الخفين -كما ذكرنا- دلَّت عليه دلالة السنة
بالأحاديث المتواترة، بل دلت عليه دلالة الكتاب كما في قراءة قول الله -جل وعلا-
﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾، فإنه لَمَّا عُطفت على مسح الرؤوس،
قال أهل العلم: إن المراد بذلك في حال كانت الأرجل فيها الخفاف، أو لُبِسَ عليها ما
يستوجب المسح، فهذا من جهة ثبوت ذلك، ولا يختلف أهل العلم فيه، فبعضهم ذَكَرَ أنَّ
فيه سبعون حديثًا، أو أربعون حديثًا.
فإن قال قائل: ما يُذكر في كتب أحاديث الأحكام تقرب من العشرة ونحوها، فهي عشرة من
جهة الألفاظ وما احتف بها، ولكن من جهة الروايات وما ورد عن الصحابة وطرقها، يعني:
على طريقة المحدثين، فإنها تكون كثيرة، وإن كان بعضها على معنى واحد، أو متقاربة
فيما اشتملت عليه من اللفظ، ولكن هذا حديث وهذا حديث وهكذا. فهذا من جهة.
فإن قال قائل: ما دام أنها بهذه الثبوت، فماذا عن ما جاء أو أُثِرَ عن عائشة
"لَأَنْ أَقْطَعَ رِجْلَيَّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْسَحَ عَلَيْهِمَا"[1]،
الذي يظهر -والله أعلم- مع تواتر الأحاديث وشهرتها وظهورها، في أحوال كثيرة من
أحوال النبي ﷺ، فإنها لا تخفى على عائشة، ولذا فالذي يظهر أن مرادها أو متعلق
الكلام في هذا، إنما هو المسح على الأرجل بدون حوائل، وليس المقصود بذلك المسح على
الخفاف وما يلبس على القدمين، فهذا أقرب والله تعالى أعلم.
قد مَرَّ بنا أنَّ المسح هو إمرار اليد على الشيء، وحقيقته في الاصطلاح إصابة البلة
الحائلة لحائل مخصوص في زمن مخصوص، يعني: ما ابتلت به اليد، يُمَرُّ به على ذلك
العضو الذي يراد مسحه.
وقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وهو رُخْصَةٌ) يعني: أنها جاءت على خلاف العزيمة،
فالعزيمة غسل الأرجل، والرخصة حقيقتها ما ثبتت على خلاف دليل أصلي لمعارض راجح، فهي
قد ثبتت في أحاديث خلافًا لِمَا جاءت به النصوص من غسل الأرجل، ووجوب تعميم الماء
عليها.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وأَفْضَلُ مِن غَسْلٍ)، طبعا سيأتي معنا ما الذي
يترتب على كونها رخصة، فيما سيذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- لاحقًا.
قوله: (وأَفْضَلُ مِن غَسْلٍ)، على اعتبار أنَّ الأمر جاء بإتيان الرخص، والتوسيع
على العباد في ذلك، «إنَّ اللهَ يحبُّ أنْ تؤتَى رُخصُهُ كما يكرهُ أن تُؤتَى
معصيتُه»[2]؛ ولأن النبي ﷺ مسح، ومنع من خلع خفيه كما في حديث المغيرة بن شعبة، فكل
ذلك يدل على المسح، وكونه شعيرة من شعائر أهل السنة، لكون أهل البدع لا يمسحون،
فهذا كما أنه فيه امتثال لفعل النبي ﷺ، فيه التأكيد على الثبات على السنة، ومفارقة
البدعة وأهلها، وتكثير أهل السنة، وتقليل البدعة، ومن ينتمي أو ينحرف إليها.
وقوله: (ويَرْفَعُ الحَدَثَ) يعني باعتبار أنها طهارة تامة، يحصل بها ما يحصل بغسل
الرجلين، خلافا لِمَا يكون به الاستباحة، أي: استباحة ما تستباح له الطهارة، كما
سيأتي في التيمم، وسيأتينا الفرق في ذلك.
قال: (ولا يُسَنُّ أن يَلْبَسَ ليَمْسَحَ)، هذه ربما يكون فيها شيء من الإشكال مع
قوله: (وأَفْضَلُ مِن غَسْلٍ)، لأنَّ مُقتضى كونها الأفضل، فللإنسان أن يطلب الأفضل
والأكمل، أليس كذلك؟ فكيف يجمع بينهما؟
طريقة الحنابلة قالوا: فضلناها على الغسل من جهة ما يحصل فيها من إظهار السنة، وما
تواتر عن الصحابة، ومخالفة البدعة، ولكن لما رأينا أنَّ النبي ﷺ لم يكن ليتقصد
اللبس لأجل المسح، وإنما بحسب حاله، فإن كان لابسا مسح، وإن كان غير لابس للخفاف
غسل. فيقولون: لأجل ذلك إنه لا يتقصد هذا، وهذا لا ينفي بقاء شيء من الإشكال، ولذلك
درج ابن تيمية، ونقله عن بعضهم، أنَّ الأفضل هو فعل ما يلائم حاله، فإن كان لابسًا
للخفاف مسح، ولا يُستحب له أن يخلع ليغسل، وإن كان غير لابسٍ للخفاف فإنه يغسل، ولا
يستحب له أن يلبس لأجل أن يمسح، وهذا فيه معنى قوي، ولكن ما ذكره الحنابلة هو تفضيل
الغسل باعتبار مخالفة أهل البدع.
{قال -رحمه الله-: (يَجُوزُ يَوْماً ولَيْلَةً لمُقِيمٍ ومُسَافِرٍ لا يُبَاحُ له
القَصْرُ، ولِمُسَافِرٍ سَفَراً يُبِيحُ القَصْرَ ثَلاثَةُ أيَّامٍ بلَيَالِيهَا؛
لحديثِ عَلِيٍّ يَرْفَعُه «لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ
وللمُقِيمِ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ»[3]، رواهُ مُسْلِمٌ، ويَخْلَعُ عندَ انقضاءِ
المُدَّةِ)}.
يقول: (يَجُوزُ يَوْماً ولَيْلَةً لمُقِيمٍ ومُسَافِرٍ لا يُبَاحُ له القَصْرُ)،
يقصد بقوله: (يَجُوزُ) يعني: يباح للمقيم أن يمسح يوما وليلة، وهذا قد جاءت به
الأحاديث، كما في حديث علي -رضي الله تعالى عنه- الذي ذكره الشارح، وكما في حديث
صفوان بن عسال، وهو أشهر الأحاديث في هذا «لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ
بِلَيَالِيهِنَّ وللمُقِيمِ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ» باعتبار أنه كان في آخر حياة النبي
ﷺ، فدلَّ على استقرار الحكم على اعتبار المدة للمقيم يوما وليلة، وللمسافر ثلاثة
أيام بلياليها.
قال: (يَجُوزُ يَوْماً ولَيْلَةً لمُقِيمٍ ومُسَافِرٍ لا يُبَاحُ له القَصْرُ)،
يعني: لو كان مسافرًا سفر معصية، فمن يُسافر سفر معصية لا يُباح له الرخصة، وبناء
على ذلك لا يباح له أن يترخص فيمسح ثلاثة أيام بلياليها، ولكن أليس مقتضى كونها
رخصة من حيث الأصل ألا يباح المسح على الإطلاق لمن كان عاصيا؟
نقول: صحيح أن الرخصة هي من حيث أصلها رخصة، ولكن هي لا تتمايز إلا في حال السفر،
وأما في حال الحضر فلا يظهر أنه منتقل إلى رخصة، وبناء على ذلك اليوم والليلة تجوز
له ابتداء، لأنه متى يتصور فعل المعصية؟ إذا سافر لأجل المعصية، ولكن الحضر الذي
يقيم، لا يقيم الإنسان لأجل المعصية، وأما أنه أقام فيفعل المعاصي ويفعل الطاعات،
ويستقر على ذلك، فلا تكون إقامته لأجل الفعل بخلاف السفر، الذي هو عارض فيسافر
ليفعل ذلك.
إذًا، إذا كان غير مسافر، فإنه يباح له أن يمسح يوما وليلة، وكذلك لو كان مسافرًا
سفر معصية كمن سافر ليزني، نعوذ بالله، أو سافر ليقتل، أو سافر ليعقد معاملة محرمة،
كشراء خمر، أو تعامل بالربا، أو نحو ذلك، فإنه لا يصح له أن يمسح إلا يوما وليله،
فإذا كان سفره محرما لم يجز، وإذا كان سفرا مكروها فهذا سيأتينا الكلام عليه،
ومقتضى كلامهم أيضا أنه ليس محلا للرخصة، وهو محل للبحث.
قال: (ولِمُسَافِرٍ سَفَراً يُبِيحُ القَصْرَ ثَلاثَةُ أيَّامٍ بلَيَالِيهَا)، وهذا
بالنسبة للسفر الذي يبيح القصر من جهة أنه سفر طويل، وهو الذي يبلغ أربعة برد، وهو
أيضا السفر الذي تباح فيه الرخص، بمعنى أنه ليس بسفر معصية على ما تقدم، وذكر
الشارح -رحمه الله- الحديث في ذلك.
{قال -رحمه الله-: (ويَخْلَعُ عندَ انقضاءِ المُدَّةِ، فَإِنْ خَافَ أَوْ تَضَرَّرَ
رَفِيقُه بانتِظَارِه تَيَمَّمَ، فإن مسَحَ وصَلَّى أعادَ)}.
قال: (ويَخْلَعُ عندَ انقضاءِ المُدَّةِ) يعني: أن هذه المدة مدة لبقاء هذا العضو
طاهرا، فإذا انتهت المدة يقولون: انتهى وقت طهارته، فعاد إليها الحدث، وإذا عاد
إليها الحدث، فإن الحدث لا يتبعض ولا يتجزأ، ولذا لا نقول: رجلاه محدثة وسائر جسده
متطهرًا، يستدرك ذلك بغسل رجليه، لا.
وبناء على ذلك قالوا: (ويَخْلَعُ عندَ انقضاءِ المُدَّةِ) وسيأتي مزيد كلام في
نهاية الباب عن هذه المسألة.
يقول: (فَإِنْ خَافَ أَوْ تَضَرَّرَ رَفِيقُه بانتِظَارِه تَيَمَّمَ)، هذا كالإشارة
إلى قول من يقول: إنه يجوز له أن يمسح، وأن المدة في غير المضطر أو في غير المحتاج،
فإذا كان محتاجًا فإنه يباح له أن يتجاوز المدة المفروضة، حتى ولو تجاوز ثلاثة أيام
بلياليها، فيقول المؤلف: لا، المدة محددة، وبناء على ذلك لا يمسح أكثر من هذا. طيب
إذا كان مضطرا؟
يقول: إذا كان مضطرا يكون حكمه كحكم من تعذَّرَ عليه غسل ذلك العضو، كما لو كان ذلك
العضو لا يمكن غسله لكونه مثلا فيه حريق، لو غسله لأضر به فيتيمم، فيقولون كذلك
يكون حكم هذا كحكم الأصل، وهو أنه يتيمم عند عدم قدرته على غسل رجليه، ولا يمتد حكم
المسح باعتبار أنه قد جاء محددا، وانتفى ما جاء في بعض الأحاديث التي تدل على أنه
يمسح أكثر من ثلاث، فكأنه يشير إلى ما جاء عن ابن تيمية في إجازة الزيادة إذا
احتاج.
قال تأكيدًا لذلك: (فإن مسَحَ) يعني: في مثل هذه الحالة، حالة الاضطرار، فقد فعل
شيئًا لا يصح له، وبناء على ذلك: (فإن مسَحَ وصَلَّى أعادَ) أي: يتوضأ ثم يتيمم
لرجليه إذا لم يمكنه غسلهما لكون عليه هذه الحوائل، ويخاف الضرر بانتظار الرفقة
وفواتها وما يتعلق بذلك.
{قال: (وابتِدَاءُ المُدَّةِ مِن حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ علَى طَاهِرِ العَيْنِ؛ فلا
يَمْسَحُ على نَجِسٍ ولو في ضَرُورَةٍ، ويَتَيَمَّمُ معَهَا لمَسْتُورٍ)}.
قال: (وابتِدَاءُ المُدَّةِ مِن حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ)، يقول المؤلف -رحمه الله
تعالى-: إنَّ من لبس الخفين؛ فله أن تبقى عليه يومًا وليلة، ولكن متى يعتبر ابتداء
ذلك الوقت الذي يحسب منه يوم وليلة؟ هل هو من أول لبسه؟ أو هو من أول مسحه؟ أو هو
من الحدث؟ فالحنابلة -رحمهم الله تعالى- يقولون: إنه إذا لبس الخفين بعد الطهارة،
هذا ليس وقتا للمسح، وبناء على ذلك يبقى إما أن يكون عند المسح أو أن يكون عند
الحدث، فقالوا: إن الابتداء عند الحدث لماذا؟ لأنه إذا أحدث الإنسان احتاج إلى
الطهارة، فهذا أول أوقات الحاجة إلى المسح، فنحن نعتبر هذا الوقت الأول، فكونه هو
يتأخر فلا يغسل إلا بعد ساعة أو بعد ساعتين أو لا يتوضأ إلا إذا قام لصلاة الفجر،
فهذا شأنه، ولكن هو لَمَّا أحدث صار هذا الوقت الذي سيحتاج فيه إلى الطهارة وسيحتاج
فيه إلى المسح، فذكروا أنَّ هذا أولا هو أول الأوقات، وهذا هو الأحوط، فلا يعتبر ما
كان قبل ذلك من اللبس حتى ولو مسح وهو على طهارة، كما لو كان قد جدد وضوءه لا
يعتبر، لأنهم يقولون: إنما هو مسح مستحب، وهو ليس بوقت ابتداء المدة.
إذًا ابتداء المدة عند الحاجة إلى الطهارة، فلذلك عقدوه بالحدث؛ لأن الحدث هو أول
أوقات إمكان الحاجة إلى الطهارة، وغسل الأعضاء، والمسح على الخفين، فقالوا بذلك على
سبيل الاحتياط، ولأنه قد روي فيه بعض الآثار، ولكنها لا تقوى من حدث إلى حدث أو نحو
ذلك. فهذا هو مبنى قولهم -رحمهم الله تعالى-.
قال: (مِن حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ علَى طَاهِرِ العَيْنِ)، وهذا إشارة إلى الشروط،
فلا بد أن يكون طاهر العين، فلو كان نجسا كما لو كانت هذه الخفاف من جلد ميتة،
لكثرتها في تلك الأحوال، فإنه لا يُمسح عليها، لأنها تكون في مثل هذه الحالة رخصة،
والرخصة لا تتعلق بهذا النجس، ولذلك قال: (فلا يَمْسَحُ على نَجِسٍ ولو في
ضَرُورَةٍ) ومثل ذلك: لو كان قد لبث شيئًا من الحرير، والحرير لا يحوز للرجل لبسه،
وبناء على ذلك لا يصح له المسح في مثل هذه الحال، ولذلك قال: (فلا يَمْسَحُ على
نَجِسٍ ولو في ضَرُورَةٍ، ويَتَيَمَّمُ معَهَا لمَسْتُورٍ)، أي أنَّ المؤلف يقول:
لو وجد شخص لبس نجسًا وعنده اضطرار، ولا يمكنه الفسخ، لكون العدو يطلبه على سبيل
المثال، أو مثل ما قلنا: يخاف فوات الرفقة، وفوات الرفقة فيما مضى شيء عظيم، فإن
الإنسان إذا فاتته رفقته أدركته الهلكة، أو أدركه الضياع، أو أدركه العطب، والعدو،
الوحش، ونحو ذلك.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: يعتبر في مثل هذه الحال معذورًا فيتيمم، كما لو تعذر
عليه غسل ذلك العضو على ما ذكرنا.
{قال -رحمه الله-: (مُبَاحٍ فلا يَجُوزُ المَسْحُ على مَغْصُوبٍ ولا على حريرٍ
لرَجُلٍ؛ لأنَّ لُبْسَهُ مَعْصِيَةٌ فلا تُسْتَبَاحُ به الرُّخْصَةُ)}.
من قال: إنَّ تعلق الحكم بالمسح، قال: لأن الحدث لا ذكر له في الأحاديث، وإنما جاء
ذكر المسح، فكان الحكم عند أول مسح بعد الحدث الذي تعلق به الحكم؛ لأنَّ الأحاديث
أناطت ذلك به، وهذا على كل حال له وجه، ولكن قول الحنابلة أدق وأحوط من جهة أنَّه
أول أوقات الحاجة إلى الطهارة، فيُتَعلق ذلك بأول الوقت، وليس باختلاف أحوال
المكلفين متى يفعل ذلك، فنجد هذا يؤخر، وهذا يتقدم، وهذا يستعجل، وهذا لا يُعذر إلى
غير ذلك.
قال: (مُبَاحٍ فلا يَجُوزُ المَسْحُ على مَغْصُوبٍ)، ما دام أننا قلنا: إنها رخصة،
فإنَّ الرخصة لا تناط بالمعصية، وبناء على ذلك لو لبس خفا مغصوبا، لم يجز له أن
يمسح عليه، ومثل ذلك لو كان محرما، كما لو كان حريرًا على رجل فكذلك، قال: (لأنَّ
لُبْسَهُ مَعْصِيَةٌ، فلا تُسْتَبَاحُ به الرُّخْصَةُ)، وهذا على قول الحنابلة على
ما ذكرنا من الفرق بين قولهم وقول الجمهور، فالجمهور يقولون: إن الغصب لا يختص
باللبس، بل لو غصبه ولم يلبس فإنه آثم، ويزيد إثمه كلما طالت المدة لبسه أو لم
يلبسه، فإذا لم تقتصر هذه المعصية باللبس، فإنه يجوز المسح، ويأثم بالغصب على
انفكاك الجهة، وذلك على التفريق في الأصول بين الحنابلة والجمهور -رحمهم الله-.
{قال -رحمه الله-: (سَاتِرٍ للفُرُوضِ ولو بشَدِّه أو شرجِه كالزربولِ الذي له
سَاقٌ وعُرًى يَدْخُلُ بَعْضَهَا في بعضٍ، فلا يَمْسَحُ ما لا يَسْتُرُ مَحِلَّ
الفَرْضِ لقِصَرِه، أو سِعَتِه، أو صَفَائِه، أو خَرْقٍ فيه وإن صَغُرَ، حتَّى
مَوْضِعِ الخَرَزِ، فإن انضَمَّ ولم يَبْدُ مِنْهُ شَيْءٌ جَازَ المَسْحُ عليه)}.
قال المؤلف -رحمه الله-: (سَاتِرٍ للفُرُوضِ)، فلا بد أن يكون ساترا للمفروض، لأن
الواجب في المفروض الغسل، فإذا سُتِرَ مُسح، وأمَّا إذا لم يَستر المفروض، فيفضي
إلى أن يوجد الغسل والمسح في آنٍ واحدٍ، فلا يتصور ذلك؛ لأنه إما أن يصار إلى الأصل
وهو الغسل، وإمَّا إلى البدل وهو المسح، وبناء على ذلك لا بد أن يكون الغسل جميعه
قد سُتِرَ، ولذلك قال: (سَاتِرٍ للفُرُوضِ ولو بشَدِّه)، فإذا شُدَّ كفى.
قال: (أو شرجِه) والشرج إدخال الزر "الأزرار" في العروة، فإذا كان شُدَّ بالخيط
فربط، أو الأزرار جعلت على بعض ثم أطبقت وأدخلت في عراها، فكل ذلك يحصل به الشد،
وهذا مثل ما يسميه الناس البسطار عند أهل العسكرية، يكون كبيرًا وإذا بقي مفتوحا في
الغالب فإنه يكون واسعًا فيرى محل الفرض، فإذا شَدَّ لا يُرى محل الفرض، فهذا يكون
قد ستر المفروض فصحَّ له المسح، وجاز له ذلك، ولذلك قال: (أو شرجِه كالزربولِ الذي
له سَاقٌ وعُرًى) أي هو البسطار كما قلنا: (يَدْخُلُ بَعْضَهَا في بعضٍ فلا
يَمْسَحُ ما لا يَسْتُرُ) أمَّا لو كان قصيرا، كما لو كان على الكعبين كأكثر الخفاف
اليوم، أو يكون فيها شيء من القطع، فيبدو بعض ما يُلحق به الغسل، فما دامت على هذا
النحو، فلا يجوز المسح عليها، ولذلك قال: (فلا يَمْسَحُ ما لا يَسْتُرُ مَحِلَّ
الفَرْضِ لقِصَرِه أو سِعَتِه)، أي: لو كان واسعا وساترا لمحل الفرض، فإذا رأيته
هكذا رأيت كعبه، أو رأيت ظاهر قدمه، فلم يُشد أو لا يمكن شده، فإذا لم يشد أو لم
يمكن شده، فكان يبين بعض محل الفرض الذي يغسل، فإنه لا يجوز الغسل في مثل تلك
الحال.
قال: (أو صَفَائِه)، يعني أن يكون شفافا، من أين جئنا بأن الشفاف لا يجوز المسح
عليه؟ هذا عند أهل العلم كما ذكرنا كثيرا يسمى بساط الحال، أي: الحال التي شُرِعَ
فيها المسح على الخفاف، كانت الخفاف لها صفات محددة، متقاربة تتفاوت قليلا، ولذلك
لم يزل الفقهاء -رحمهم الله- يجمعون تلك الصفات المتقاربة، والتي لا تخرج عن دائرة
ما دل عليه النص، فينظمونها ويعلقون الأحكام بها، فإنه لم يعرف البتة أنَّ خفا يمكن
أن يلبس ويكون شفافًا أو صافيا، فلم لم يكن ذلك متصورًا، عُلِمَ أنَّ النص الذي نزل
لم يتناوله، فإنما تناول النص ما يعرفونه، فلو كان يدخل فيه ذلك لجاء في النص ما
يدل على هذا، تعليمًا للناس، وتقريبًا لِمَا تبرأ به ذمتهم، ويحصل به التوسعة
عليهم، ولأجل ذلك لا يكون المسح على الخف الذي يكون صافيا، فلو كان من زجاج، والآن
وجدت يعني بعض البلاستيك أو نحوها، فإذا كانت شفافة، فلا يجوز المسح عليها على ما
ذكر الفقهاء.
قال: (أو خَرْقٍ فيه وإن صَغُرَ)، إذا وجد خرق في الخف، فيقول: إن هذا يفضي إلى أن
هذا القدر المخروق يُبين محل الفرض، وإذا بان بعض محل الفرض؛ تعلق به غسل، ولا
يُتصور أن يَجب في عضوٍ واحدٍ، الأصل والبدل في واحدة، فيغسل هذا ويمسح، ولا يتصور
أن يمسح على عضو قد بدا بعضه، ولأجل ذلك قالوا: إنه لا يُمسح عليه في هذه الحال،
وهذا أيضا من فقهاء الحنابلة -رحمهم الله- على أصلهم، وهو أنهم يقولون: إن هذا هو
الأحوط، وإنما جاءت الخفاف ولم يبين، فلا شك أنه يتعلق بالخف الذي لا خرق فيه.
وأما تعلقه بالخف الذي فيه خرق محل شك، هل يدخل أو لا يدخل؟ فقالوا: ما دام أنه محل
شك فنحن نطلب الأسلم والأحوط خاصة لعبادة مثل الصلاة، فإذا جاء التعليل الآخر الجمع
فكان مقويا أيضا لطلب الاحتياط، ولأجل ذلك قالوا: إنه لا يمسح فيه، وإن كان في قول
آخر عند الحنابلة بأن الخرق اليسير يُباح، كما هو قول الجمهور، قالوا: لأنه لا تنفك
الخفاف من أن يوجد فيها شيء من ذلك، وعلى كل حال قد يُقبل قد هذا القول، ولكن ما
انتهى إليه ابن تيمية -رحمه الله تعالى- من التوسعة واعتبارها كيفما كان الخرق،
ونحو ذلك، باعتبار أن اسمه خف على كل حال، هذا فيه بعد من وجه، ولأجل ذلك قال: (وإن
صَغُرَ، حتَّى مَوْضِعِ الخَرَزِ)، الخرز، أي: هو موضع الإبرة التي يخرز ويخاط بها.
قال: (فإن انضَمَّ ولم يَبْدُ مِنْهُ شَيْءٌ جَازَ المَسْحُ عليه) بمعنى أن هذا
الخف إذا شُدَّ فيبدو ثغرات فيه، وإذا تُرك يعني: ضُمَّ بعضه إلى بعض اختفت تلك
الثغرات، فما دام أنه لم يشد، ولم تبد تلك الثغرات، فيجوز المسح عليه وإلا فلا.
وكان شيخنا الشيخ بن باز -رحمه الله تعالى- يقول: "ولعله أن يُتسامح في الخرق
القليل".
{قال -رحمه الله-: (يَثْبُتُ بنَفْسِه فإن لم يَثْبُتْ إلا بشَدَّةٍ لم يَجُزِ
المَسْحُ عليه، وإن ثُبِّتَ بنَعْلَيْنِ مَسَحَ إلى خَلْعِهِمَا ما دامَت مُدَّتُه،
ولا يجوزُ المَسْحُ على ما يَسْقُطُ)}.
هنا قال: (يَثْبُتُ بنَفْسِه فإن لم يَثْبُتْ إلا بشَدَّةٍ لم يَجُزِ) ما الفرق بين
هذا الشرط، وبين قوله: (سَاتِرٍ للفُرُوضِ)؟
(سَاتِرٍ للفُرُوضِ) يعني: لو تُرِكَ لَبَانَ محل العضو، أما (يَثْبُتُ بنَفْسِه)
فلو تُرِكَ لسقط، ففرقوا بينهما، فقالوا: إن كونه ساترًا يكفي فيه بأن يُشد، سواء
بالشرج، أو بالربط، أو بالسحب، أو نحوه.
وأمَّا الثبات، أي الخف الذي إذا تحرك الإنسان سقط، نقول: هذا ليس بخف، لأن الخفاف
أصلا إنما أُذِنَ في المسح فيها لأجل مشقة نزعها، ولذا إذا تحرك الإنسان سقط الخف،
فهذا لا مشقة فيه، ولا يحتاج فيه إلى مسح، ومع ذلك ربما قيل: إنه إذا ثبت سواء كان
بشد أو غيره لم يبعد، ولابن تيمية -رحمه الله- كلاما قويًا في هذا، لم يبعد، يقول:
وفي أصول أحمد ونحوه ليس فيه ما يدل على الاعتبار لا ثبوته بنفسه بكل حال، بل حتى
لو ثبت بمثبت كَشَدٍّ أو ربطٍ أو سواه.
فالمهم أن تفهم ما الفرق بين قولهم: (سَاتِرٍ للفُرُوضِ)، وبين قولهم: (يَثْبُتُ
بنَفْسِه)، فغير الثابت بنفسه يسقط إذا مشى، وغير الساتر للمفروض يعني: أنه يمكن
رؤية بعض المغسول إذا لم يشد.
والمؤلف -رحمه الله- يقول: (وإن ثُبِّتَ بنَعْلَيْنِ مَسَحَ إلى خَلْعِهِمَا)
باعتبار أنه ثابت في تلك الحال، وهذا أيضًا يُقوي ما قلت لكم من أنه إذا لم يكن
يثبت فهو ليس فيه إشكالية في نزعه، ولأجل ذلك إذا كان معه خفان تمسكه وتثبته، فإن
هذا في هذه الحال هو الذي يتصور أن يكون فيه صعوبة في نزعه فيتعلق به حكم مسحه.
{قال: (ولا يجوزُ المَسْحُ على ما يَسْقُطُ مِن خُفٍّ)}.
قوله: (ولا يجوزُ المَسْحُ على ما يَسْقُطُ)، لماذا؟ لأن القدم تبين، فيتعلق بها
حكم الغسل، وبناء على ذلك لا بد أن يكون مما يثبت فلا يسقط من القدم، فيتبين شيئا
منه.
أنتم تعرفون أن الخفاف من الجلود غالبها، أو من شيء يقارب ذلك، فالغالب أنه إذا
لبست فمن الصعوبة نزعها، فإذا علمت أيضا أن الصنعة في ذلك الوقت كانت ضعيفة، وإذا
علمت أنه يتعلق بذلك أيضا أن هذه الجلود لا تنفك من وصول الماء إليها، وإذا وصل
الماء إليها تحجرت، فكان النوع واللبس من أصعب ما يكون، ولذلك في الغالب أنهم لا
يلبسون الخفاف ويصبرون عليها إلا في السفر، للحاجة إلى المشي الكثير في الأحجار
ونحوها، وإلا ففي الحضر يتحمل الناس ما يكون من المشي على الأحجار، أو ما يكون من
شيء من البرد، أخف مما يكون من صعوبة اللبس، وما يتبع ذلك من احتكاك، أو ضيق أو
سواه.
{قال -رحمه الله-: (مِن خُفٍّ بَيَانٌ لطَاهِرٍ؛ أي: يَجُوزُ المَسْحُ على خُفٍّ
يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ المَشْيِ فيه عُرْفاً. قالَ الإمامُ أَحْمَدُ: ليسَ في
قَلْبِي مِن المَسْحِ شَيْءٌ، فيه أَرْبَعُونَ حَدِيثاً عَن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ)}.
لأن المؤلف -رحمه الله تعالى- قال: (مِنْ حَدَثٍ بَعْدَ لُبْسٍ عَلَى طَاهِرٍ
مُباحٍ سَاتِرٍ للمَفْرُوضِ يَثْبُتُ بنفسِه من خُفٍّ)، يعني أن هذا بيان لهذا الخف
أن يكون طاهرا، أن يثبت بنفسه، وأن يكون ساترًا للمفروض وهكذا. ولذلك قال: (أي:
يَجُوزُ المَسْحُ على خُفٍّ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ المَشْيِ فيه عُرْفاً)، هذا هو
المحصلة، أنَّ الخفاف هي التي يمشي فيها، ويتقى بها ما يجد الإنسان من دقة الأحجار،
وما يكون من الأشواك، وما يكون من طين، وما يكون من سواه، ويثبت في الرجل فلا يسقط،
ويحتاج إلى معالجة ومتابعة.
ثم ذكر ما جاء في أحكام المسح من أحاديث، ولذلك جاء عن الإمام أحمد: (ليسَ في
قَلْبِي مِن المَسْحِ شَيْءٌ، فيه أَرْبَعُونَ حَدِيثاً عَن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ).
{قال -رحمه الله-: (وجَوْرَبٍ صَفِيقٍ، وهو ما يُلْبَسُ في الرِّجْلِ على هَيْئَةِ
الخُفِّ مِن غَيْرِ الجِلْدِ؛ لأنَّهُ ﷺ «مَسَحَ على الجَوْرَبَيْنِ
والنَّعْلَيْنِ» رواهُ أَحْمَدُ وغَيْرُه وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ،
ونَحْوِهِمَا)}.
قال: (وجَوْرَبٍ صَفِيقٍ)، هذا عطف على المسح على الخفاف، فكما يمسح على الخفاف،
يمسح على الجوارب، فهل في المسح على الجوارب شك؟
نعم، ليس المسح على الجوارب كالمسح على الخفاف، فلا يأتي آت ويقول: إن المسح على
الجوارب فيه أربعون حديثا، لا، هو الآن قرر الحكم المتعلق بما تواترت فيه الأحاديث،
وتعلق به الحكم أصالة في المسح على الخفاف، وبين تفصيل ذلك، وما يعتبر له وما
يشترط، ثم ذَكَرَ ما يتفرع على ذلك ويلحق به، فالمسح على الجوارب إنما جاز على سبيل
القياس على الخفاف، فإذًا هو مقيس على الخفاف، فليست درجة ثبوت المسح على الجوارب
كدرجة مشروعية المسح على الخفاف، بل بينهما فرق كبير؛ لأنَّ الناس جعل الخفاف
والجوارب شيئًا واحدا، وبناء على ذلك أطرد من الأحكام المتعلقة بالخفاف على الجوارب
لسوء هذا الفهم، وليس الأمر كذلك.
ولأجل ذلك إذا قلنا: ما وجه المسح على الجوارب؟ فيمكن أن يقال: إن ذلك له اعتباران،
أو أصلان، ما جاء في الحديث، ولكن حديث المسح على الجوربين فيه ضعف، ولذلك أكثر أهل
العلم إنما ينوطون المسح على الجوارح، كما هي طريقة ابن المنذر، وابن قدامة، وحتى
بناء أحمد -رحمه الله-، إنما هو على ما جاء عن الصحابة، فيقولون: جاء عن تسعة من
أصحاب رسول الله ﷺ.
إذًا أكثر ما في جواز المسح على الجوارب هو مجيء ذلك عن الصحابة -رضوان الله تعالى
عليهم- ومجيء ذلك عن الصحابة مأخوذ من المعنى، فنظروا إلى الجوارب التي تشبه
الخفاف، والجوارب التي تشبه الخفاف من جهتين:
أولا: من جهة شكلها، وثانيًا من جهة ما يحصل بها، فالذي يحصل بالخفاف هو ماذا؟
إمكان المشي فيها على ما ذكروا، فإذًا لا بد أن تكون هذا الخفاء ثابتة قوية، ويمشي
بها، وتتحمل ذلك، وينتفع بها الإنسان، ولأجل ذلك قال: (وجَوْرَبٍ صَفِيقٍ)، فإنَّ
الشيء إنما يلحق بما يشبهه، فلا بد أن تكون هذه الجوارب شبيهة للخفاف، ولهذا في قول
أكثر أهل العلم أنهم قيدوا المسح على الجوارب بما يشبه الخفاف، وتنوعت عبارتهم في
هذا الشبه، والحنابلة أيسرهم، يعني: لا بد أن تعرفوا أن الحنابلة أوسع المذاهب إلى
حد ما في الإلحاق، ومع ذلك قالوا: لابد أن يكون صفيقا، يعني: لا يتبين منه شيء،
ولذلك قال: (وهو ما يُلْبَسُ في الرِّجْلِ على هَيْئَةِ الخُفِّ)، فألحقه بالهيئة،
أي: على هيئة الخف.
وأما الفقهاء الآخرين فاشترطوا، إما أن يكون الجورب "منعلاً"، أو أن يكون "مجلدا"،
يعني: له جلد تحت؛ لأن هذا هو الذي يمكن المشي عليه.
أو منعلا يعني: كهيئة النعال، أيضا التي تمسك في القدم، ويصعب نزعها، ويكثر المشي
عليها. فما الذي يفهم من ذلك؟ ونحن قد أطلنا في هذه المسألة، ولكن هذا كثير عند
الطلاب، وهذه من أحسن الأمثلة التي يتبين منها أحيانا عدم فهم الطالب لمعنى
الفقهاء، وأحيانا اتهام الفقهاء بالتقييد، أو بالتعقيد، أو بكثرة الشروط في
المسألة، وهو لم يعلم مبنى هذه المسألة، ولذلك نجد أن البعض يقول: يمسح على الجورب
على الإطلاق.
نقول: الأحاديث ما جاءت في الجوارب، بل الأحاديث في الخفاف، وبناء على ذلك هل يمسخ
على الجوارب الخفيفة؟
أكثر أهل العلم على أنه لا يمسح عليها، بل لم يعرف أنَّ أحدا من المتقدمين قال
بالمسح على الجوارب الخفيفة، إلا بعض أصحاب الشافعي، أظنهم -إن لم أكن واهمًا- في
المئة الثالثة، لأن عهدي بذلك بعيد.
فالأصل إذًا عند أهل العلم إنما يجوز المسح على الجوارب التي تشبه الخفاف، ولَمَّا
كان الأمر متعلقًا بالصلاة، والطهارة التي هي شرطها، فإنه ينبغي للإنسان ألا يتساهل
في ذلك، وكثير من الناس ينحى منحى -لا نقول التسهيل- بل عدم المبالاة، ونوع من
الاستخفاف أو الاستهتار، وإن خففنا قلنا: وألا مبالاة، فكيف ما حصل؟ يقول: الأمر
سهل، وهناك من أفتى.
نقول: الفتوى وإن جدت من بعض المتأخرين المعتبرين، لكن لا يوجد ما يسندها عند
العلماء والفقهاء قاطبة في المذاهب المختلفة، في عصور متنوعة، حتى ربما قيل: إنه
محل اتفاق أو قول عامة أهل العلم، فليتنبه لذلك، فإن هذه من المسائل التي تكثر
الحاجة إليها، ويكثر التساهل فيها.
{قال: (ونَحْوِهِمَا؛ أي: نَحْوِ الخُفِّ والجَوْرَبِ، كالجُرْمُوقِ ويُسَمَّى:
المُوقَ، وهو خُفٌّ قَصِيرٌ، فيَصِحُّ المَسْحُ عليه لفِعْلِه ﷺ، رواهُ أَحْمَدُ
وغَيْرُه)}.
(الجُرْمُوقِ) كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وهو خُفٌّ قَصِيرٌ)، فما صفته؟
هو أعلى مما يلبسه الناس اليوم، يعني هو يستر الكعبين، ولكنه ليس مثل: الزربول أو
البسطار الذي له ساق، ولكن -بلا شك- أن الجرموق هو قدر يحصل به تغطية الكعبين، ولا
يتبين، يعني: يكون ملتصقا، ويثبت فلا يتبين معه محل الفرض، ولا بد أن تتبين هذا،
فإذا كان كذلك فما دام أنه ساتر لمحل الفرض، ولا يبدو منه المغسول فيصح المسح عليه؛
لأنَّ هذا أيضا من الخفاف التي كانت تستعمل في وقتهم، وإن كانت أقل من الأول.
{قال -رحمه الله-: (ويَصِحُّ المَسْحُ أَيْضاً على عِمَامَةٍ مُبَاحَةٍ لرَجُلٍ لا
لمَرْأَةٍ؛ لأنَّهُ ﷺ مسحَ على الخُفَّيْنِ والعِمَامَةِ، قالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ، هذا إذا كانَت مُحَنَّكَةٍ، وهي التي يُدَارُ مِنْهَا تَحْتَ
الحَنَكِ كَوْرٌ -بفَتْحِ الكَافِ- فأَكْثَرُ، أو ذَاتِ ذُؤَابَةٍ، بضَمِّ
المُعْجَمَةِ، وبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ، وهي طَرَفُ العِمَامَةِ المُرْخَى،
فلا يَصِحُّ المَسْحُ على العِمَامَةِ الصَّمَّاءِ)}.
قال: (ويَصِحُّ المَسْحُ أَيْضاً على عِمَامَةٍ)، هنا أنهى المؤلف -رحمه الله
تعالى- أحكام المسح على الخفاف وما يلحق بها، من الجوارب والخفاف القصيرة ونحوها.
ثم شرع في المسح على العمائم، فيقول: (ويَصِحُّ المَسْحُ أَيْضاً على عِمَامَةٍ)؛
لأن النبي ﷺ مسح على العمامة، كما جاء ذلك عند أهل السنن في غير ما حديث، عن النبي
ﷺ، ولكن بشرط أن تكون العمامة مباحة، باعتبار أيضًا أن العمامة يُمسح عليها، والمسح
رخصة فيتعلق الحكم بما هو مباح، فلو كانت مغصوبة أو كانت محرمة، كما لو كانت من
حرير، أو مسروقة، أو نحو ذلك، فلا يجوز المسح عليها.
وأن تكون للرجل لا للمرأة؛ لأنَّ العمائم إنما يلبسها الرجال، فلو لبستها المرأة
لكانت لابسة للمحرم، لكونها متشبهة بما يختص به الرجال، وهي رخصة، فلا تُباح
للمرأة، والحال هذه لأنها لابسة ما يحرم عليها لبسه.
فذكر الشارح -رحمه الله تعالى- أنَّ ﷺ (مسحَ على الخُفَّيْنِ والعِمَامَةِ، قالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ)، ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- صفات العمامة التي
يُمسح عليها.
هل كل العمائم يمسح عليها أو لا؟ فيقول المؤلف: إنها لا بد أن تكون محنكة، والمحنكة
هي التي يدار طرفها من تحت الحنك، يعني: يؤتى بها من هنا ثم تعاد إلى تكويرات الرأس
فتربط فيه.
لو نظرت في الأحاديث وأتيت إلى الأحاديث كلها ما وجدت إشارة إلى أن تكون محنكة! فهل
يفهم من ذلك أنَّ الفقهاء قيدوا أو ضيقوا هذا؟ نقول: لا، بل كما قلنا قبل قليل:
إنَّ الحكم منوط بالعمامة، والعمامة التي جاءت في النص هي التي كانت موجودة عندهم،
وهو بساط الحال، أي العمائم المعروفة عندهم، فنظرنا فإذا العمامة التي يستعملونها
هي التي تربط من تحت الحنك، ولأجل لذلك قالوا: هي التي تمسح. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية قالوا: إنها هي التي يحتاج إلى المسح عليها، لكون المشقة تلحق في
نزعها، ولأجل ذلك كان المسح متعلقا بها.
قالوا: (أو ذَاتِ ذُؤَابَةٍ، بضَمِّ المُعْجَمَةِ)، ما معنى المعجمة؟ المعجمة
والمهملة يعني: إذا كانت مهملة فهي دال، وإذا كانت معجمة فهي الذال؛ لأنهم ما كانوا
يستخدمون النقط على الحروف، فقد يحتاجون أحيانا في الشرح إلى التوضيح لمن لم يفهم،
فقالوا: (أو ذَاتِ ذُؤَابَةٍ) يعني بضم الذال.
قال: (وبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ وهي طَرَفُ العِمَامَةِ المُرْخَى)، ما معنى
ذلك؟ يعني أن يكون لها طرف متدل، كنحو أربعة أصابع أو أزيد، قالوا: هذا هو النوع
الثاني من العمائم التي كان يستعملها الناس، والتي تكلم عنها النبي ﷺ؛ لأنَّ إذا
كان الناس لا يعرفونها فكان لابد أن يبينها النبي ﷺ، فلما كانت معروفة، فمعنى ذلك
أن هذا هو الذي قصدها الحكم، وتعلق بها النص. أليس كذلك؟ فهذا هو الذي يسمى بساط
الحال، فقالوا: إنها هي (ذَات ذُؤَابَةٍ)؛ ولأنَّ ما سوى ذلك لم يكن المسلمون
يستعملونه، ولهذا سيأتي في الصماء أنها عمامة أهل الذمة، فقال: إذا كانت (ذَات
ذُؤَابَةٍ) فإنه يمسح عليها.
والعجيب أن شيخنا الشيخ بن باز -رحمه الله- يقول: حتى (ذَات ذُؤَابَةٍ) لا يمسح
عليها، لا لكونها ليست عمامة المسلمين، ولكن لكونها لا يشق نزعها، لأنها ليست مثل
المحنكة، فقيد حتى في (ذَات الذُؤَابَةٍ)، ولكن على كل حال هي داخلة في الإطلاق،
وهي من العمائم التي يلبسها أهل الإسلام، وفيها أيضا نوع مشقة لإمكان انفكاك
التكوير، والتكويرات ليست في كل الأحوال يسهل جمعها وإعادتها.
قال: (فلا يَصِحُّ المَسْحُ على العِمَامَةِ الصَّمَّاءِ)، العمامة الصماء هي
العمامة التي ليس لها ذُؤَابَة ولا حنك، وليست محنكة، وأشبه ما تكون بالطاقية، ولكن
فيها دوائر، ويستعملها الآن بعض الجهات، أظنها في بعض تركيا، وهذه العمامة صماء،
يعني: بدون ذُؤَابَة ولا تحنيك، ولها دوائر، فهذه عمامة صماء، فيقولون: هذه لا يمسح
عليها، وهذا من جهتين: الأول: أنها عمائم أهل الذمة، وبها يفترق المسلمون عن الذمة،
فإذا رأى الناس شخصا لبس عمامة صماء فهو من أهل الذمة، فيلحقون به أحكام أهل الذمة.
ومن جهة ثانية قالوا: إنها لا يشق نزعها، فيسهل إزالتها والمسح عليها، وبناء على
ذلك لم تأخذ أحكام العمامة التي جاء النص بجواز المسح عليها.
{قال -رحمه الله-: (ويُشْتَرَطُ أَيْضاً أنْ تَكُونَ سَاتِرَةً لِمَا لم تَجْرِ
العَادَةُ بكَشْفِه كمُقَدَّمِ الرَّأْسِ والأُذُنَيْنِ وجَوَانِبِ الرَّأْسِ
فيُعْفَى عنه لمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، بخِلافِ الخُفِّ، ويُسْتَحَبُّ
مَسْحُه معَهَا)}.
قال: (ويُشْتَرَطُ أَيْضاً أنْ تَكُونَ سَاتِرَةً لِمَا لم تَجْرِ العَادَةُ
بكَشْفِه كمُقَدَّمِ الرَّأْسِ والأُذُنَيْن)، مقدم الرأس جرت العادة بكشفه فيتساهل
فيه، حتى ولو كان منكشفًا فلا يضر، ولا يمنع من المسح على تلك العمامة، ولهذا جاء
في الحديث أنَّ النبي ﷺ مسح على مُقدم رأسه والعمامة والأذنين.
وهنا تلحظ دقة الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، ففي الخفاف قالوا: لا بد أن يكون ساترا
للمفروض كله، طيب لماذا لم يقولوا في العمامة لا بد أن تكون ساترة لمحل الفرض
جميعه؟
لِمَا ذكرنا، لأن هذه العمائم كان يبدو تحت طرف من الصدغين، وما يكون من مقدمة
الرأس أحيانا، وكذلك الأذنين وهما من الرأس، لا تغطى لحصول المشقة أو الأذية لو
شملت بالعمامة في الغالب، فبناء على ذلك يقول: (فيُعْفَى عنه لمَشَقَّةِ
التَّحَرُّزِ مِنْهُ)، وحتى ولو كانت مكشوفة فيجوز المسح على العمامة، ويصح في ذلك
الحكم؛ لأن هذه العمائم التي كانت هذا شأنها، أو هذا حالها في عهد النبي ﷺ.
قال: (ويُسْتَحَبُّ مَسْحُه معَهَا)، لأنَّ النبي ﷺ مسح على الرأس والعمامة،
ولَمَّا كانت مكشوفة فلا يشق مسحها، وكان مسحها وتعميمها مع العمامة، أحوط وأتم،
وأيضا أكثر أو أقرب إلى الاقتداء بالسنة عن النبي ﷺ.
{قال -رحمه الله-: (وعلى خُمُرِ نِسَاءٍ مُدَارَةٍ تَحْتَ حُلُوقِهِنَّ، لمَشَقَّةِ
نَزْعِهَا كالعِمَامَةِ بخِلافِ وِقَايَةِ الرَّأْسِ)}.
شيخنا الشيخ ابن باز يقول: إنه يجب مسح ما بَانَ، وهذا فيه شيء من التشديد.
قال: (وعلى خُمُرِ نِسَاءٍ)، كانت النساء فيما مضى لا تنفك من لبس هذه الخمر، ولا
تكد تحيدها إلا إذا أوت إلى فراشها، أو إلى زوجها، لعظيم سترهن، ولا زالت النساء
كبار السن عندنا في هذا الوقت يجرين خمرًا كثيرة يُدرنها على وجوههن، على رؤوسهن
ورقبتهن، وتنزل على صدورهن وبعض أجزائهن، تذهب بها وتجيء، فإنَّ ذلك يكون أسهل في
سترها إذا احتاجت إلى ذلك، وَأَحْفَظَ لها من أن ينكشف ما لا تحب أن ينكشف عند
محارمها وغيرهم.
فهذا يجوز المسح عليه إذا كانت على هذا النحو، وهي المدارة، ولذلك قال المؤلف -رحمه
الله-: (مُدَارَةٍ تَحْتَ حُلُوقِهِنَّ)، فمن جهة هي التي تشبه العمامة، ومن جهة
أخرى هي التي يكون فيها مشقة في نزعها، وأيضا لأن أم سلمة جاء عنها أنها مسحت على
خمارها أو على خمرها، وتعرفون أن المذهب يعتمد ما جاء عن الصحابة، وكيف إذا كان
مؤيدا أيضا بما يشبهه بالمسح على العمامة، إذا كانت مدارة تحت الحنك.
قال: (لمَشَقَّةِ نَزْعِهَا كالعِمَامَةِ بخِلافِ وِقَايَةِ الرَّأْسِ) ووقاية
الرأس هي الأشياء التي تجعل على الرأس كالطاقية ونحوها، وسيأتي ذكر ذلك، وهذه لا
مشقة في نزعها، ولا يصح المسح عليها، وسيأتي كلام المؤلف فيها بعد ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وإنَّمَا يَمْسَحُ جَمِيعَ ما تَقَدَّمَ في حَدَثٍ أَصْغَرَ لا
في حدثٍ أَكْبَرُ بل يَغْسِلُ ما تَحْتَها)}.
(وإنَّمَا يَمْسَحُ جَمِيعَ ما تَقَدَّمَ في حَدَثٍ أَصْغَرَ)، لا على العمامة، ولا
على الخف، ولا على الجورب، ولا على خمر النساء، وهذا في حديث صفوان «كان رسولُ الله
ﷺ يأمُرنا إذا كنَّا على سفَرٍ أنْ لا ننزِعَ خِفافنا ثلاثةَ أيَّام وليالِيَهنَّ،
إلَّا مِن جَنابةٍ، ولكِنْ مِن غائطٍ وبولٍ ونومٍ»[4]، فدل ذلك على أن تعلق الحكم
بالمسح إنما هو في الحدث الأصغر، وأما إذا كان على الإنسان حدث أكبر، فإنه يلزمه أن
يزيل هذه الحوائل كلها، من خفاف، أو من جوارب، أو خمر النساء، أو عمائم الرجال،
وهذا لا يختلف فيه أهل العلم أن الحدث الأكبر يجب فيه تعميمه بالغسل، ولا يتعلق به
حكم المسح لواحد من هذه الأربعة المتقدمة.
{قال رحمه الله-: (ويَمْسَحُ على جَبِيرَةٍ مَشْدُودَةٍ على كَسْرٍ أو جُرْحٍ
ونَحْوِهِمَا، لم تَتَجَاوَزْ قَدْرَ الحَاجَةِ، وهو مَوْضِعُ الجُرْحِ والكَسْرِ
وما قَرُبَ مِنْهُ بحيثُ يُحْتَاجُ إليه في شَدِّهَا، فإن تَعَدَّى شَدُّها مَحِلَّ
الحَاجَةِ نَزَعَهَا، فإن خَشِيَ تَلَفاً أو ضَرَراً تَيَمَّمَ لزَائِدٍ)}.
قال: (ويَمْسَحُ على جَبِيرَةٍ)، الجبيرة هي ما يجبر به الكسر، من عظم الإنسان
ونحوه، وسميت جبيرة من الجبر، وهو تفاؤل بما يحصل من جبرها وعودها واستقامتها، وهي
ما يكون من خشب أو نحوها مما يسند بها عظم المريض أو المكسور، فتربط على هذا النحو،
على هيئة معروفة، فمع طول الوقت يشتد العظم، ويتماسك ما فيه من رضوض أو كسر أو
نحوه.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن استعمال هذه الجبائر يطول، حتى يلتئم العظم،
وبناء على ذلك إن خلعها لم ينجبر العظم، وإن تركها فما الحكم؟ فَبُدٌ من المسح،
فيقول الفقهاء: إنه يمسح على الجبيرة كما يمسح على الخف وأولى، ولا يختلفون في ذلك،
ولأن هذا من حكم الاضطرار، ولأن هذا من حكم الضرورة، ولذلك جعلوه عزيمة لا رخصة،
فلا يختلف في المسح على الجبيرة، أحد في سفر أو حضر، عاص بسفره أو غير عاص؛ لأن ذلك
عزيمة وليس برخصة.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: المسح على الجبيرة مشروع، ولا يختلف في ذلك، قياسا
على الخف وأولى، وداخلا في قول الله -جل وعلا-: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ﴾، ولأنه لا يتأتى له تطهير العضو إلا على هذا النحو، فكان هذا هو
المشروع في حقه، كما في حديث صاحب الشجة، لَمَّا شُجَّ ذلك الرجل وأصابته جنابة،
فسأل هل لي من رخصة؟ قالوا: لا نجد لك رخصة، وأنت تستطيع أن تستعمل الماء، فاستعمل
الماء فاغتسل فمات.
فلمَّا جاءوا إلى النبي ﷺ بعد الرجوع من السفر، ذكروا له ما جرى، فقال: «قَتَلُوهُ
قَتَلَهُم الله، ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ،
إنَّما كان يَكفيه أنْ يَتيَمَّمَ ويَعصِرَ أو يَعصِبَ -شَكَّ موسى- على جُرحِه
خِرقةً، ثم يَمسَحَ عليها ويَغسِلَ سائِرَ جَسَدِه»[5]، وذكر المؤلف لفظا آخرا
ستأتي الإشارة إليه.
إذا هذا أصل في المسح على الجبائر، وهو محل اتفاق من أهل العلم، ولذلك قال: (على
كَسْرٍ أو جُرْحٍ ونَحْوِهِمَا)، وما يجعل على الجرح من لصوق ونحوها، فعلى الكسور
جبائر، وعلى الجروح ملصقات ونحوها.
قال: (لم تَتَجَاوَزْ قَدْرَ الحَاجَةِ)، إذًا يُشترط في هذه الجبيرة التي يجوز
المسح عليها، أن تكون مشدودة في موضع الحاجة، وموضع الحاجة عند الفقهاء بَيَّنه
الشارع، قال: (وَهُوَ مَوْضِعُ الجُرْحِ والكَسْرِ وما قَرُبَ مِنْهُ)، لأنَّ الكسر
إذا كان هنا، فإذا جعلت الجبيرة على هذا القدر لم يستفد الإنسان من ذلك، ولكن هي أن
يوصل بالصحيح من هذه الجهة، فيدعو إلى أن يلتئم هذا الكسر، ويشتد هذا العظم بعضهما
بعض حتى يقوى ويكون عظما واحدا ويزول كسره.
ولأجل ذلك ما يدخل في حكم الجبيرة، هو ما يأتي على موضع الكسر، وما يكون من هذه
الجهة أو ما قرب منه، مما يحتاج إليه وما قرب منه مما يحتاج إليه في الجهة الأخرى،
وهذا يحدده أهل الخبرة، وكانوا فيما مضي يعرفون ذلك، وقد كان في هذا الوقت بعض من
عرف بالجبائر التي كانت على طريقة الأولين، من يفوق بفعله وإتقانه، ما يفعله
الأطباء المعاصرون الذين وصلوا إلى ما وصلوا من آلة الطب، وطريقة التجبير ونحوها.
فإذا هذا موضع الجرح والكسر وما قرب منه.
قال: (بحيثُ يُحْتَاجُ إليه في شَدِّهَا) كما قلنا: حتى يلتئم ونحوه.
قال: (فإن تَعَدَّى شَدُّها مَحِلَّ الحَاجَةِ نَزَعَهَا)، إذا كان على حال أكثر،
فهذا القدر الزائد هو قدر قد سُتِر، وستره لا حاجة إليه؛ لأنه لا يحتاج إلى التطبب،
وما حقه الغسل، وستره يمنع ذلك، ولأجل هذا قال الشارح -رحمه الله-: (فإن تَعَدَّى
شَدُّها مَحِلَّ الحَاجَةِ نَزَعَهَا)، لأنه تعلق بحكم الغسل، ولا يجوز أن يدخل في
حكم المسح؛ لأنه ليس مما يحتاج إليه، ولا داخل في اسم الجبيرة التي يجوز المسح بها،
وهي موضع الحاجة وما قرب منها.
وكان فيما مضي يتحقق في ذلك، والآن ربما يتفاوت المجبرون في المستشفيات، أحيانا
بعضه لعدم المبالاة، ولأجل ذلك لا بد لمن عرضت له هذه الأمور أو عرض له بعض من يقوم
عليه من أهل أو من قل فقهه، أو عوام الناس، أن يرجع إلى الطبيب فيسأله بالحد الذي
يحصل به المقصود، ولا يتساهل فيه، وما زاد عن ذلك فانه لا يفعل، حتى لا يتعرض لمثل
هذا، ولذلك يقول المؤلف: (نَزَعَهَا).
(فإن خَشِيَ تَلَفاً) أحيانا يخشى التلف لكونه إذا نزعها لا يوجد المجبر الذي كان
موجودا، خاصة فيما مضي، يكون في الصحراء، ولا يوجد من يحسن ذلك، ولا يوثق بأي أحد،
فيقول المؤلف: (فإن خَشِيَ تَلَفاً) والجبيرة زائدة، فإن نزعها خاف على عظمه ألا
يجبر بعد اليوم، وإن تركها ترك شيئا زائدا يجب عليه غسله، فيقول المؤلف -رحمه الله
تعالى-: (فإن خَشِيَ تَلَفاً أو ضَرَراً تَيَمَّمَ لزَائِدٍ)، فإذا يبقيه، ولكنه لا
يكتفي بالمسح على الجبيرة، بل يمسح على الجبيرة التي حقها المسح، ثم يتيمم للقدر
الزائد الذي لا يدخل في اسم الجبيرة، ولا يتعلق به حكم المسح في تلك الحال.
{قال -رحمه الله-: (ودَوَاءٌ على البَدَنِ تَضَرَّرَ بقَلْعِهِ كجَبِيرَةٍ في
المَسْحِ عليه)}.
كذلك إذا كان فيه دواء على البدن لا يستطيع قلعه، أو يحتاج إلى بقائه مثل: بعض
الأدوية كالتلبية أو نحوها، أحيانا يحتاج إلى بقائها ويخاف من نزعها، أو أحيانا مثل
ما يكون فيه نزيف من جريان الدم، فما يكون من هذه اللواصق، وما معه من خرق ونحوها،
محتاج إليها، فلو نزعها لخاف الضرر، فبناء على ذلك يكون حكمها كحكم الجبيرة، فيجوز
المسح عليها.
{قال -رحمه الله-: ولو في حَدَثٍ أَكْبَرَ، لحديثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ: «إِنَّمَا
كانَ يَكْفِيهِ أنْ يَتَيَمَّمَ ويَعْضِدَ أو يَعْصِبَ على جُرْحِه خِرْقَةٌ
ويَمْسَحُ عليها ويَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِه» رواهُ أَبُو دَاوُدَ).
قال: (ولو في حَدَثٍ أَكْبَرَ) وهذا من الفروق بين الجبيرة وغيرها، فالجبيرة تمسح
جميعها عزيمة في الحدث الأصغر والأكبر، ولا تختص بعضو من الأعضاء، تكون في اليد،
وتكون في الرجل، وتكون في الوجه، وتكون في الرأس، إلى غير ذلك.
طبعًا في الرأس أنا ما أدري، ولكن يمكن أو يتصور أن تكون في الرقبة أحيانا، المهم
أنها لا تختص بعضو محدد، ولكنها تكون في أكثر من عضو.
إذا يقول: (ولو في حَدَثٍ أَكْبَرَ)، فإذا كان الإنسان احتاج إلى غسل جنابة، أو
امرأة من حيض، أو نحو ذلك، فإنها أيضا تبقي هذه الجبيرة، إذا طَلَبَ منها الطبيب
المختص ذلك، ولا يجب عليها نزعها.
{قال -رحمه الله-: (والمَسْحُ عليها عَزِيمَةً)}.
كما قلنا: (والمَسْحُ عليها عَزِيمَةً) فلا تتعلق بالرخصة أو المترخص دون غيره.
{قال -رحمه الله-: (إلى حَلِّهَا؛ أي: يَمْسَحُ على الجَبِيرَةِ إلى حَلِّهَا أو
بُرْءِ ما تَحْتَها، وليسَ مُؤَقَّتاً كالمَسْحِ على الخُفَّيْنِ ونَحْوِهِمَا؛
لأنَّ مَسْحَها للضَّرُورَةِ فيَتَقَدَّرُ بقَدْرِهَا)}.
هذا أيضا من الفروق في المسح على الجيرة غيرها، فإنَّ المسح عليها لا يتحدد بوقت،
فليس كالجوارب ولا العمائم ولا الخمر، ولا الخفاف، وبناء على ذلك يمكن أن يمسح
عليها شهرًا، ويمكن أن يمسح عليها شهرين، ويمكن أن يمسح عليها أكثر من ذلك، ما دام
محتاجًا إلى بقائها، ولذلك قال: (لأنَّ مَسْحَها للضَّرُورَةِ فيَتَقَدَّرُ
بقَدْرِهَا).
{قال -رحمه الله-: (إذا لَبِسَ ذلك؛ أي: ما تَقَدَّمَ مِن الخُفَّيْنِ ونَحْوِهِما
والعِمَامَةِ والخِمَارِ والجَبِيرَةِ بعدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ بالمَاءِ، ولو
مَسَحَ فيها على حَائِلٍ أو تَيَمَّمَ لجُرْحٍ، فلو غَسَلَ رِجْلاً ثُمَّ
أَدْخَلَهَا الخُفَّ خلَعَ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ غَسْلِ الأُخْرَى)}.
هنا قال: (إذا لَبِسَ ذلك) يعني: بعد كمال الطهارة، يعني: المسح على الخفاف وعلى
العمامة، والخمر، والجبائر بعد كمال الطهارة، أما الخفاف فإن هذا ظاهر، والنبي ﷺ في
حديث المغيرة قال: فأهوَيتُ لأنزِعَ خُفَّيهِ فقال: «دَعهُما فإنِّي أدْخَلتُهُما
طاهِرَتينِ»[6]، فكان ذلك ظاهرًا بَيِّنًا ونصًا جليًا لا إشكال فيه، فلا يختلف أحد
من أهل العلم بلزوم ذلك في الخفاف وما يلحق بها من الجوارب.
ولَمَّا كانت العمائم أيضا والخمر مسحًا، وعلى سبيل الترخص والتخفيف، أُلحق حكمها
بحكم الخفاف والجوارب، فاعتبر أن يكون لبس العمامة والخمار على طهارة حتى يتحصل
للمكلف المسح عليه وعدم نزعه.
ولأن هذا أقرب إليه في المسح، فكان مثله في الحكم، وهو أحوط للعبد، وأبرأ لذمته.
قالوا: وكذلك (الجَبِيرَةِ)، حتى الجبيرة فإنه لا بد أن يجعلها على طهارة، وهذا إذا
تأتى فهو ظاهر لا إشكال فيه، وأيضا لأنها من المسوحات، فواضح معناه بالقياس على
الخف، وكما هو قول بعض المحققين من المذهب، كالموفق بن قدامة، وجماعة غير واحد
منهم، قالوا: إن ذلك قد لا يتأتى في الأحوال، خاصة أن هذه مما تنزل فجأة، ويلحق
بالإنسان الضرر، ويسرع إلى طبيب، وربما لا يتأتى له فعل الطهارة قبلها، ويتعسر عليه
نزعها بعد ذلك، أو يفوت عليه.
وبناء على ذلك قيل: إن الجبيرة لا يشترط لها أن يكون لبسها على طهارة على قول، وعلى
المذهب فالجبيرة مثل الخفاف، ويلزم أن تكون معمولة على طهارة.
فإذا قيل: إنها لا تلزم، فتكون هذه أيضا من الفروقات بين الجبيرة والخفاف في كون
ذلك لا بد أن يكون على طهارة، وهذه لا يلزم على القول الآخر، وهو اختيار ابن تيمية
وعليه قول كثير من المعاصرين.
قال: (ولو مَسَحَ فيها على حَائِلٍ أو تَيَمَّمَ لجُرْحٍ)، يعني: لو كانت هذه
الطهارة التي لبس بعدها العمامة، أو لبس الخفاف، أو لبست المرأة الخمر، كانت قد
مسحت فيها على الجرح، فالمسح على الجرح، أو التيمم لأجل جرح، يحصل معه كمال الطهارة
ورفع الحدث، يعني: لو أنَّ شخصا الآن كان فيه جرح في يده، فلا يصيبه ماء، ولا
يستطيع المسح عليه، فلما توضأ تيمم لأجل ذلك الجرح الذي لم يُصبه الماء، ثم لبس هذه
العمامة، أو لبست المرأة هذه الخمر، أو لُبِسَتْ الخفاف، فيقول المؤلف -رحمه الله-:
إن هذه الطهارة التي حصل فيها التيمم، هي طهارة تامة، رافعة للحدث، وبناء على ذلك
يترتب على هذا الملبوس أحكام المسح على الحائل من خف، أو جبيرة، أو عمامة، أو خمار.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- فرعًا آخر يكثر ذكره عند الفقهاء، فقال: (فلو غَسَلَ
رِجْلاً ثُمَّ أَدْخَلَهَا الخُفَّ خَلَعَ، ثُمَّ لَبِسَ بَعْدَ غَسْلِ الأُخْرَى)،
في الحديث قال: «دَعهُما فإنِّي أدْخَلتُهُما طاهِرَتينِ»[7]، يعني: بعد كمال
الطهارة، ولأجل ذلك قال الفقهاء: لابد أن يكون لُبس الخفاف بعد تمام الطهارة، وبناء
على ذلك لو أن شخصًا لَمَّا غسل رجله اليمنى لَبِسَ الخف، ثم غسل اليسرى فلبس الخف،
فيقولون: حين لبس الخف الأولى "اليمنى" لم يكن ذلك بعد كمال الطهارة، فلم يوافق
ظاهر الحديث، ولأجل ذلك قالوا: إنه في هذه الحالة لا يمسح، ولا بد أن يكون لبسه
للخفاف بعد الانتهاء من الطهارة تمامًا؛ لأن هذا هو ظاهر الحديث وهو الأحوط.
وبناء على ذلك قالوا: عليه أن ينزع الخف التي لبسها، "اليمنى" ثم يعيد لبسها،
وأمَّا اليسرى فقد لبسها بعد كمال الطهارة، ولأجل ذلك قال: إن هذا على سبيل
الاحتياط، وموافقة ظاهر الحديث وعدم المخالفة.
ومخالفة ظاهر الحديث حتى ولو رؤي أنها ليست مقصودة أو نحوه، ولكن طلب المتابعة
والتوقي والاحتياط، هذا من أعظم ما يقر في القلوب، ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32]، وحتى مفارقة ما
أمر به النبي ﷺ في الشكل أو في الظاهر -يعني ليس في الحقيقة- ينبغي أن يترفع عنه
الإنسان، وإذا كان يترفع عن ذلك، فإن هذا مما يُقَرّ في قلبه من تعظيم شعيرة الله
-جل وعلا- وهو أيضا على سبيل الاحتياط كما قلنا.
{قال -رحمه الله-: (ولو نَوَى جُنُبٌ رَفْعَ حَدَثَيْهِ وغَسَلَ رِجْلَيْهِ
وأَدْخَلَهُمَا الخُفَّ ثُمَّ تَمَّمَ طَهَارَتَهُ، أو مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ
لَبِسَ العِمَامَةَ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، أو تَيَمَّمَ ولَبِسَ الخُفَّ أو
غَيْرَهُ لم يَمْسَحْ ولو جَبِيرَةً، فإنْ خافَ نَزْعَهَا تَيَمَّمَ)}.
هنا ذكر الصورة الثانية لمن حصل منه غسل، والغسل لا يشترط فيه الترتيب، ومع ذلك لو
أنَّ واحدًا عليه غسل، فغسل رجليه، ثم لبس الخفاف، ثم أكمل الغسل، فيقول المؤلف
-رحمه الله-: إنه قد لبس الخفاف قبل كمال الطهارة، وبناء على ذلك لا بد أن يخلعهما
ثم يلبسهما بعد ذلك، حتى يتحقق أنه لبث الخفاف بعد كمال الطهارة، وهذا على سبيل
الأحوط.
ومثل ذلك لو مسح رأسه، ثم لبس العمامة، ثم غسل رجليه، فَكان لُبْسُهُ للعمامة قبل
تمام الطهارة، ولذا لا بد أن يخلعها ثم يلبسها بعد ذلك؛ ليكون لبسه للعمامة بعد
كمال الطهارة.
ثم قال: (أو تَيَمَّمَ ولَبِسَ الخُفَّ أو غَيْرَهُ لم يَمْسَحْ ولو جَبِيرَةً)،
وهذا مختلف عما تقدم، فليس يحتاج فقط إلى التكميل، بل هذا لا يُتصور فيه أنه لبس
الخفاف على طهارة، والتيمم عند الحنابلة أنه مبيح، وليس برافع للحدث، وبناء على ذلك
إذا لبس المتيمم الخف أو العمامة، أو لبست المرأة الخمر وقد تيممت، فهي لبسته على
غير طهارة، ولكن لبسته بعد فعل شيء يُبيح لها الصلاة، فنقول: تُباح لها الصلاة،
ولكن لا يباح لها المسح؛ لأنَّ هذه الأشياء لُبست على غير طهارة، لأن التيمم مبيح
وليس برافع.
قال: (ولو جبيرة) باعتبار أننا إذا قلنا: إن الجبيرة يعتبر لها الطهارة.
قال: (فإنْ خافَ نَزْعَهَا تَيَمَّمَ) يعني: إذا كانت الجبيرة على وجه الخصوص يخاف
نزعها، فيلزمه أن يتيمم كلما أراد أن يتوضأ أو يغتسل؛ لأنه لبسها على غير طهارة،
والأصل أن ينزعها ثم يعيدها، ولكن الجبيرة ليست مثل: الخفاف، وليست مثل: العمائم
يستطيع الإنسان أن يخلعها ويلبسها، بل لا بد أن يكون ذلك عند بعض أهل الخبرة، وقد
لا يتسنى له وجود ذلك، فيخاف على عضوه العطب، وبناء على ذلك إذا خاف ولم يوجد من
يُعيد الجبيرة على ما هي عليه، فله أن يُبقيها، ولكن يلزمه أن يتيمم لكل طهارة في
وضوء أو غسل، باعتبار أنه ترك غسل ذلك العضو، ولا يجوز له المسح؛ لأنه لم يلبسها
على طهارة.
هذا باعتبار الاشتراط على ما ذكرنا، وإن كان هذا خلاف الفتوى عند مشايخنا من
المعاصرين تبعًا لابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
هل عليكم تعب؟ ربما يشق عليكم، ولكن ما رأيت شيئا آنس للنفس، إذا أحس الإنسان أنه
قطع شوطا واستفاد.
كنا فيما مضي في الدروس، ابتدأنا كتبا كثيرة، وكان يُشرح في المجلس الواحد خمسة
أسطر، أو ستة أسطر، أو عشرة أسطر بالكثير، فيدخل الملل على كثير من الطلاب، ولأجل
ذلك ربما ابتدأ طلاب بهمة في العلم عالية، حتى إذا بقوا سنة وجد نفسه ما انتهى حتى
من الوضوء، ما وصلوا إلى الوضوء، فينقطع عن العلم، فعلى كل حال الأيام أيام شتاء،
والشتاء ليله طويل، وعسى الله أن يجزيكم خيرًا، ومن كان متغربا في العلم تجتمع له
الأجور من كل وجه، قربة في العلم، ومجاهدة فيه، وحتى مع ما يفوت أحيانا من وقت طعام
أو غيره، ولكن كل ذلك لا يفوت عند الله -جل وعلا-.
أظن أن الباقي مسائل سهلة، فهي لن تكون طويلة إن شاء الله.
{قال -رحمه الله-: (ويَمْسَحُ مَن بهِ سَلَسُ بَوْلٍ أو نَحْوِه إذا لَبِسَ بعدَ
الطَّهَارَةِ؛ لأنَّهَا كَامِلَةً في حَقِّهِ)}.
مَرَّ بنا أنَّ من به سلس البول إذا توضأ ارتفع حدثه، أليس كذلك؟ فلما كان مرتفعًا
حدثه، فمعنى ذلك أنه إذا لبس خفًا، أو لبست خمارا، أو لبس عمامة؛ جاز له أن يمسح،
وكذلك الجبيرة من باب أولى.
{قال -رحمه الله-: (فإنْ زالَ عُذْرُه لَزِمَهُ الخَلْعُ واستِئْنَافُ
الطَّهَارَةِ، كالمُتَيَمِّمِ يَجِدُ المَاءَ)}.
كذلك يقول: من به سلس البول إذا شفي، أي: إذا ذهب به السلس، كأن يكون عارضًا لخوف
أو ذعر أو نحو ذلك، أو تطبب كجراح عملية، أعطى بعض المسيليات أو المسهلات للبول،
الذي لا يتماسك معه، ففي هذه الحالة إذا زال عذره فانتهى حكم الطهارة؛ وصار يحتاج
إلى طهارة جديدة، وبناء على ذلك لا بد أن يخلع ما لبسه من خف أو عمامة ونحوها، ثم
يلبسها بعد كمال طهارة تامة، لِمَا جاء في المتيمم «الصَّعيدُ الطَّيِّبُ طَهورُ
المسلمِ، وإن لم يجدِ الماءَ عشرَ سنين، فإذا وجد الماءَ فليمسَّه بشرتَه فإن ذلك
خيرٌ»[8]، وكذلك هنا إذا سَلِمَ من به السلس، فقد وجب عليه أن يتوضأ، وأن يخلع
خفيه، وأن يغسل رجليه، ثم يلبسهما.
{قال -رحمه الله-: (ومَن مَسَحَ في سَفَرٍ ثُمَّ أقَامَ أَتَمَّ مَسْحَ مُقِيمٍ إن
بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وإلا خلَعَ)}.
إذا كان في سفر ثم أقام فقد تعلق به أحكام السفر والحضر، فأيهما يغلب؟ يعني: هل يتم
ثلاثة أيام بلياليها باعتبار الابتداء؟ أو يتم يوم ليلة باعتبار الانتهاء؟
يقول الحنابلة: إنه يتم يوم وليلة، وبناء على ذلك إذا وصل إلى البلد وكان قد مضى
ثلاثة أرباع اليوم يتم الربع، وإذا وصل إلى البلد بعد يوم وليلة، فمعنى ذلك أنه يجب
عليه المسح، وذلك لأنهم يرون أن يعمل الأحوط، والأحوط تغليب جانب الحضر على السفر.
{قال -رحمه الله-: (أو عَكَسَ؛ أي: مسَحَ مُقِيماً ثُمَّ سَافَرَ لم يَزِدْ على
مَسْحِ مُقِيمٍ تَغْلِيباً لجَانِبِ الحَضَرِ)}.
هنا العكس، يعني: لو كان مقيمًا فمسح من العصر إلى العشاء ثم سافر، فهل يمسح؟ هل
يستمر ثلاثة أيام إلى العصر من اليوم الثالث، أو إذا جاء من الغد في العصر باعتبار
أنه ابتدأ المسح وهو مقيم.
الحنابلة يقولون: إنه يمسح مسح مقيم، وهذا من المفردات، خلافا للجمهور الذين
يقولون: له أن ينتقل إلى السفر، ولكن كما قلنا: إن الحنابلة في هذا يغلبون جانب
الحضر على سبيل الاحتياط.
{قال -رحمه الله-: (أو شَكَّ في ابتِدَائِهِ؛ أي: ابتِدَاءِ المَسْحِ، هل كانَ
حَضَراً أو سَفَراً فمَسْحُ مُقِيمٍ؛ أي: فيَمْسَحُ تَتِمَّةَ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ
فَقَط؛ لأنَّهُ المُتَيَقَّنُ)}.
مثل ذلك إذا شك، فإذا شَكَّ يرجع إلى اليقين، واليقين أن يعتبر الأقل، والأقل أن
يكون مسح مقيم لا مسح مسافر.
{قال -رحمه الله-: (وإنْ أَحْدَثَ في الحَضَرِ ثُمَّ سافَرَ قَبْلَ مَسْحِه فمَسْحُ
مُسَافِرٍ؛ لأنَّهُ ابتدَأَ المَسْحَ مُسَافِراً)}.
هذا ظاهر في أنه إذا أحدث في الحضر، ثم سافر قبل مسحه، فمسح مسافر؛ لأنه ابتدأ
المسح في السفر، مع أننا قلنا: إن الوقت من الحدث، ولكنهم خففوا هذا، وهذا على خلاف
مسألة أخرى هل تعرفونها؟
هناك مسألة فرقوا عنها مع أنها على نفس أصلها، وهي: مَن دخل عليه الوقت وهو مقيم ثم
سافر، فعند الحنابلة أنه لا يَقصر، بل يصلي تاما، فمقتضى ما ذكروه هنا أن هناك
وسيأتي الكلام عليها وهل تفرط عن هذه المسألة؟ هموما سيأتي الكلام عليها وكيف تفترق
عن هذه المسألة؟!
فعلى كل حال، إذا كان أول مسحه في السفر، وحتى ولو كان حدثه في الحضر، فإنهم في هذا
سهلوا فيه، وألحقوه بحكم المسافرين، فله أن يمسح ثلاثة أيام بلياليها.
{قال -رحمه الله-: (ولا يَمْسَحُ قَلانِسَ، جَمْعُ قَلَنْسُوَةٍ، وهي
المُبَطَّنَاتُ كدَنِيَّاتِ القُضَاةِ والنَّومِياتِ قالَ في مَجْمَعِ
البَحْرَيْنِ: على هَيْئَةِ مَا تَتَّخِذُه الصُّوفِيَّةُ الآنَ)}.
إذا هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- توضيح لِمَا لا يدخل في حكم المسح، فقال:
(القَلانِسَ)، وهي: (جَمْعُ قَلَنْسُوَةٍ) وهي كهيئة الطاقية على اختلاف أنواعها،
سواء كانت الكبيرة، أو التي لها جناح، أو لها مقدمة، أو سواها، مثل الطاقية أيضا،
وكل هذه الأنواع التي تلبس على الرأس، فلا تدخل في حكم المسح، ولذلك قال: (وهي
المُبَطَّنَاتُ كدَنِيَّاتِ القُضَاةِ) وهي طواقٍ كبار، وهي وإن كانت طاقية أو
(قَلَنْسُوَةٍ) إلا أنَّ هيئتها مثل: العمامة لعظمتها، ومع ذلك لا يمسح عليها،
لأنها ليست في اسم العمامة، ولا في حكمها من جهة مشقة نزعها، وبناء على ذلك يجب أن
تزال ويمسح الرأس.
قال: (والنَّومِياتِ) هي قبعات أو طواق أو قلانس يلبسن في حال النوم، ونسبت إلى
النوميات، أي: إلى النوم، يتقون بها البرد، والصوت، وخلافه، ويحفظ بها الرأس من
الهوام ونحوه. فيقولون: حتى هذه فإنه لا يمسح عليها.
{قال -رحمه الله-: (ولا يَمْسَحُ لِفَافَةً وهِي الخِرْقَةُ تُشَدُّ على الرِّجْل
تَحْتَهَا نَعْلٌ أو لا، ولو معَ مَشَقَّةٍ لعَدَمِ ثُبُوتِهَا بنَفْسِهَا)}.
قال: (ولا يَمْسَحُ لِفَافَةً) واللفافة وإن سترت محل القدم أو الغسل، لكن الفقهاء
لم يلحقوها بالخفاف، لماذا؟ لأنها ليست في معناه، وليست في حقيقته، فلأجل ذلك قال:
إذا شدت اللفافة فلا تدخل في حكم الخفاف، باعتبار أن الحكم تعلق بالخفاف، وما
ماثلها أو ما شابهها، وهذه لا تدخل، وهذا على سبيل التحوط، خلافا لابن تيمية، وابن
تيمية نظر إلى التغطية والمشقة والحاجة، ولكن الفقهاء غَلَّبُوا أنَّ الحكم تعلق
بهذه الصورة وما شابهها مع ما يكون فيها من المشقة، فاعتبروا الأمرين جميعا، ولكن
ابن تيمية ذهب إلى اعتبار حال واحدة، فأدخلها في حكم المسح، ولكن المؤلف ينص على
أنها لا يمسح عليها لعدم دخولها في اسم الخفاف ولا في معناه، ولذلك قال: (ولو معَ
مَشَقَّةٍ لعَدَمِ ثُبُوتِهَا بنَفْسِهَا) وبناء على ذلك لا تدخل في حكم الممسوح،
أو في حكم الخف.
{قال -رحمه الله-: (ولا يَمْسَحُ ما يَسْقُطُ مِن القَدَمِ أو خُفًّا يُرَى مِنْهُ
بَعْضُه؛ أي: بَعْضُ القَدَمِ أو شَيْءٌ مِن مَحِلِّ الفَرْضِ؛ لأنَّ ما ظهَرَ
فَرْضُهُ الغَسْلُ)}.
قوله: (ولا يَمْسَحُ ما يَسْقُطُ مِن القَدَمِ) هذا يشير إلى ما لا يثبت بنفسه،
فإنه يسقط، وبناء على ذلك لا يصح مسحه.
(أو خُفًّا يُرَى مِنْهُ بَعْضُه؛ أي: بَعْضُ القَدَمِ أو شَيْءٌ مِن مَحِلِّ
الفَرْضِ) أي: غير ساتر للمفروض، فإذا كان يُرى بعض القدم، فالذي يرى حقه الغسل،
فبناء على ذلك لا يجتمع الغسل والمسح، فلا يجوز المسح على هذا.
قال: (سواء بعض القدم أو شيء من محل الفرض) سواء من مقدم الأصابع، أو كان من رأس من
الكعبين وما قاربهما، كما هو الغالب.
{قال -رحمه الله-: (فإنْ لَبِسَ خُفًّا علَى خُفٍّ قَبْلَ الحَدَثِ) ولو معَ خَرْقِ
أَحَدِ الخُفَّيْنِ (فالحُكْمُ لـ) للخُفِّ (الفَوْقَانِيِّ؛ لأنَّهُ سَاتِرٌ
فأَشْبَهَ المُنْفَرِدَ، وكذا لو لَبِسَهُ على لِفَافَةٍ)}.
نعم إذا (لَبِسَ خُفًّا) تعلق به حكم المسح، سواء كان تحته لفافة أو كان تحته
العضو، لماذا؟ لأنه لبس خفا وتعلق بحكم المسح، فبناء على ذلك جاز له أن يمسح، ومثل
ذلك لو لبس خفا على خف، ولو كان أحدهما مخروقا، أو فيه خرق، فيجوز المسح. لماذا؟
لأنه إذا كان هو الأعلى، وهو الذي فيه الخرق، فهو مكمل لِمَا تحته، وليس منفردا
بالحكم، فيوجد ما يجوز أو يتعلق به حكم المسح على وجه، وبناء على ذلك لم يكن ثم ما
يمنع من المسح عليه، سواء كان الخرق في الذي فوق أو في الذي تحت.
{قال -رحمه الله-: (وإن كانا مُخَرَّقَيْنِ لم يَجُزِ المَسْحُ ولو سَتَرَا)}.
يقول: إذا كان جميعا مخرقين ولكن بمجموعهما حصل بهما الستر، فإنه لا يمسح عليهما،
لماذا؟ قالوا: لأنه ليس واحد منهما يتعلق به حكم المسح بمفرده، أو تكتمل فيه الشروط
بنفسه، وبناء على ذلك لا يتعلق بحكم المسح، وهذا قد يبحث أنه قد يدخل في المسألة
التي قبله، إذا لبس خفين في أحدهما خرق، فيجوز المسح عليهما، فقد يقال هنا، فهي محل
بحث في المسألة التي ذكرها هنا، ولكن على كل حال مبناهم أنه ليس واحد من الخفين
يمكن المسح وتعلق وأحكام وشروط المسح به.
{قال -رحمه الله-: (وإن أَدْخَلَ يدَهُ مِن تَحْتِ الفَوْقَانِيِّ ومَسَحَ الذي
تحتَهُ جازَ)}.
يعني إذا كان عليه خفان، فعلق الخف الذي تحت، وكان يمسحه، فيخلع الفوقاني أو يدخل
يده، فكيفما حصل ذلك؛ حصل المقصود، لأنه مسح ممسوحا اكتملت الشروط فيه، فجاز تعلق
المسح به، وصحت بذلك طهارته.
{قال -رحمه الله-: (وإنْ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ الفَوْقَانِيَّ قبلَ مَسْحِ
التَّحْتَانِيِّ أو بَعْدَهُ لم يَمْسَحِ الفَوْقَانِيَّ بل مَا تَحْتَهُ، ولو
نَزَعَ الفَوْقَانِيَّ بعدَ مَسْحِه لَزِمَ نَزْعُ ما تَحْتَهُ)}.
خلونا نذكر المسألة أولا، يعني: لو أن شخصا لبس خفين أو جوربين، كما هو أكثر حال
الناس اليوم، وصفيقين، يعني: كل واحد منهما يصح المسح عليه، فلبس خفيه، فهذا اللابس
للخفين يجوز له أن يمسح على أي واحد منهما، إن شاء مسح علي الفوقاني، وإن شاء مسح
علي التحتاني، وإذا مسح الفوقاني فهو واضح، وإذا أراد أن يمسح علي التحتاني مثل ما
قلنا، إمَّا أن يدخل يده، وإمَّا أن ينزع الفوقاني ويمسح ثم يلبس.
ثم قال: (وإنْ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ الفَوْقَانِيَّ)، فإذا لبس خفين، ولكن وقت
لبوسهما مختلف، فيقول المؤلف -رحمه الله-: إذا كان لبسه للفوقاني بعد الحدث من
الطهارة التي غسل فيها القدم، فلا يصح له بعد ذلك أن يمسح على الفوقاني، فالحكم
يتعلق بالتحتاني. واضح؟
(وإنْ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ الفَوْقَانِيَّ قبلَ مَسْحِ التَّحْتَانِيِّ أو
بَعْدَهُ لم يَمْسَحِ الفَوْقَانِيَّ)، لماذا؟ لأن الحكم حينما لبس فأحدث تعلق
بالتحتاني، فالفوقاني لُبِسَ على غير طهارة، فلم يتعلق به حكم.
(ولو نَزَعَ الفَوْقَانِيَّ بعدَ مَسْحِه لَزِمَ نَزْعُ ما تَحْتَهُ) يعني: لو أنَّ
شخصًا يمسح الفوقاني، يعني: لبس خفين على طهارة، من غسل قدميه، ثم مسح على
الفوقاني، ثم أحسَّ بالحر فنزع الفوقاني، فيقولون: لزم أن ينزع التحتاني. لماذا؟
لأن المسح كان يتعلق بالفوقاني، فلما نزعه، ذهب عليه حكم المسح ووجب عليه غسل
القدم، ولم يجز له أن يمسح التحتاني، لأنَّ التحتاني لم يتعلق به حكم المسح.
{قال -رحمه الله-: (ويَمْسَحُ وُجُوباً أَكْثَرَ العِمَامَةِ، ويَخْتَصُّ ذلك
بدَوَائِرِهَا)}.
(ويَمْسَحُ وُجُوباً أَكْثَرَ العِمَامَةِ)، يعني: ليس لازما أن يمسح جميعها؛ لأن
المسح من حيث الأصل هو على سبيل التخفيف، فأذن أن يحصل بجملة هذا لا بكلها.
{قال -رحمه الله-: (ويَمْسَحُ أَكْثَرَ ظَاهِرِ قَدَمِ الخُفِّ والجُرْمُوقِ
والجَوْرَبِ)}.
شرع المؤلف هنا فيما يتعلق بحكم المسح، قال: (ويَمْسَحُ أَكْثَرَ ظَاهِرِ قَدَمِ
الخُفِّ)، وهذا لحديث صفوان بن عسال، أنه مسح ظاهر خفيه، وأيضا في حديث علي "لو كان
الدينُ بالرأي لكان أسفلُ الخفِّ أولَى بالمسحِ من أعلاهُ"[9]، فدلَّ على أن المسح
متعلق بأعلاه، وفي حكم الخف الجوارب والجرموق الذي هو الموق، أو كما قلنا: هو الخف
القصير.
{قال -رحمه الله-: (وسُنَّ أن يَمْسَحَ بأَصَابِعِ يَدِه مِن أَصَابِعِهِ؛ أي:
أصابعِ رِجْلَيْهِ إلى سَاقِه، يَمْسَحُ رِجْلَهُ اليُمْنَى بيَدِه اليُمْنَى،
ورِجْلَهُ اليُسْرَى بيَدِه اليُسْرَى، ويُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ إذا مَسَحَ، وكَيْفَ
مسحَ أَجْزَأَ)}.
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا صفة المسح، وقد ذكر الصفة الكاملة والصفة التي
يحصل بها الطهارة، ففي الكاملة قال: أن يَمْسَحَ بأَصَابِعِ يَدِه مِن أَصَابِعِهِ؛
أي: أصابعِ رِجْلَيْهِ إلى سَاقِه، يَمْسَحُ رِجْلَهُ اليُمْنَى بيَدِه اليُمْنَى،
ورِجْلَهُ اليُسْرَى بيَدِه اليُسْرَى في مرة واحدة، كما جاء ذلك عند البيهقي
وغيره، فجاء في رواية، فاعتبره الحنابلة أصلا في هيئة المسح وطريقته.
قال: (ويُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ إذا مَسَحَ) على ما جاء في هذا الأثر.
قال: (وكَيْفَ مسحَ أَجْزَأَ) فإذا لم يلتزم هذه الطريقة، ولكن حصل أن مسح ظاهر
الخف، وهو أكثر الظاهر، يعني ليس بالضرورة أن يعم، فيحصل له المقصود، وتكمل له
الطهارة.
{قال -رحمه الله-: (ويُكْرَهُ غَسْلُه وتَكْرَارُ مَسْحِه دُونَ أَسْفَلِه؛ أي:
أَسْفَلِ الخُفِّ وعَقِبِهِ، فلا يُسَنُّ مَسْحُهُمَا ولا يَجْزِي لو اقتَصَرَ
عليه)}.
قوله: (ويُكْرَهُ غَسْلُه)، يعني: ما يأتي واحد ويغسل خفه يكره، وإن كان الغسل هو
مسح وزيادة، ولكنه خلاف المقصود، ولأنَّ الشارع جاء بالتخفيف على الإنسان، بأن لا
يُضر به في غسل هذا الخف، وما يعقب ذلك من ثقل في قدمه، وضرر في خفه، ونقص في ماله،
فبناء على ذلك (يُكْرَه).
قال: (وتَكْرَارُ مَسْحِه) كذلك المسح يكون مرة واحدة، كما جاء في مسح الرأس، ولأن
المسح أيضًا على سبيل التخفيف، فَسُنَّ ألا يكون فيه تكرار، ولأن الدليل جاء في
المسح مرة واحدة لا تكرار ذلك.
قال: (دُونَ أَسْفَلِه) أي: أسفل الخف أو عقبه، فلا يحتاج إلى أن يمسح أسفل الخف أو
عقبه لعدم الدليل بالمسح في ذلك، وليس بداخل في القدر الممسوح، ولذلك قال: (ولا
يَجْزِي لو اقتَصَرَ عليه)، ولا يدخل فيه حكم الممسوح.
وبناء على ذلك لو أنَّ شخصًا ما مسح إلا أسفل الخف، نقول: طهارته غير تامة؛ لأنَّ
الحكم متعلق في المسح بظاهر الخف لا باطنه.
{قال -رحمه الله-: (ويَمْسَحُ وُجُوباً على جَمِيعِ الجَبِيرَةِ لِمَا تَقَدَّمَ
مِن حَدِيثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ)}.
أمَّا الجبيرة فهذا أيضا من الفروقات بين الجبائر والخفاف وما في حكمها، أن الخفاف
والجوارب يمسح على ظاهرها، وأما الجبيرة فيمسح على جميعها.
{قال -رحمه الله-: (ومتَى ظهَرَ بَعْضُ مَحِلِّ الفَرْضِ مِمَّن مَسَحَ بَعْدَ
الحَدَثِ بخَرْقِ الخُفِّ، أو خُرُوجِ بَعْضِ القَدَمِ إلى سَاقِ الخُفِّ، أو ظهَرَ
بَعْضُ رَأْسٍ وفَحُشَ، أو زَالَت جَبِيرَةٌ؛ استَأْنَفَ الطَّهَارَةَ)}.
يعني هذا متى ما ينتقض أحكام المسح، فقال: (ومتَى ظهَرَ بَعْضُ مَحِلِّ الفَرْضِ)
من القدم، سواء كانت من خف أو جورب صفيق، فإذا بدا شيء من ذلك انتفت الطهارة، ووجب
أن ينزع هذه الخفاف ويغسل، وكذلك إذا ظهر بعض الرأس سواء كانت من عمامته إذا ظهر،
ما لا يظهر غالبًا، فانكشفت فعاد نقول: خلاص لا يمسح عليها بعد الآن، وإذا أراد أن
يتوضأ فيمسح على رأسه، ومثل ذلك قال: (وفَحُشَ) وأما الشيء اليسير فقلنا: إنه
يتساهل فيه؛ لأنه أصلا العمامة لا تغطي جميع الرأس، فكان الشيء اليسير مما يعتاد أن
تتحرك فيه العمامة، فلا يؤثر على حكم المسح فيها.
(أو زَالَت جَبِيرَةٌ)، إذا انكسرت الجبيرة، فقبل أن يأتي بجبيرة ثانية، أو فسدت أو
تحركت أو نحو ذلك، قبل أن يصلح جبيرة ثانية يتوضأ، ثم يجعل الجبيرة لتكون على
طهارة.
{قال -رحمه الله-: (فإِنْ تَطَهَّرَ ولَبِسَ الخُفَّ ولم يُحْدِثْ لم تَبْطُلْ
طَهَارَتُه بخَلْعِه ولو كانَ تَوَضَّأَ تَجْدِيداً ومَسَحَ)}.
قال: (فإِنْ تَطَهَّرَ ولَبِسَ الخُفَّ)، يعني أن هذه طهارة بغسل القدمين، فلبس
الخف لا يؤثر بعد ذلك لو نزعهما، لأن الطهارة متعلقة بالغسل وليست بالمسح، وبناء
على ذلك بقاء الخفين أو نزعهما لا يضر، فمن نزع خفيه لغاسل رجليه، لمن غسل رجليه
طهارته على ما هي عليه.
قال: (ولو كانَ تَوَضَّأَ تَجْدِيداً ومَسَحَ) يعني: تأمل، هذا شخص توضأ الآن لصلاة
الضحى، وغسل رجليه ثم لبس الخف، ثم لَمَّا جاءت صلاة الظهر ما أحدث، لكن قال لأجل
السنة تجديد الوضوء، فتوضأ، ثم أحس بحر فأزاح الخفاف أو الجوارب، فنقول: طهارته على
ما هي عليه من الطهارة الأولى التي من الضحى، لأنَّها طهارة من مغسول لم يأت ما
ينقضها، فبقيت على ما هي عليه، ولم يتعلق الحكم بمسح التجديد.
{قال -رحمه الله-: (أو تَمَّتْ مُدَّتُه؛ أي: مُدَّةُ المَسْحِ استَأْنَفَ
الطَّهَارَةَ، ولو في صَلاةٍ؛ لأنَّ المَسْحَ أُقِيمَ مَقَامَ الغَسْلِ، فإذا زالَ
أو انقَضَت مُدَّتُه بَطَلَت الطَّهَارَةُ في المَمْسُوحِ)}.
هذه من المسائل التي فيها خلاف كثير، هل الحكم في المدة متعلق بالمسح؟ أو متعلق
بالطهارة؟ فالجمهور والحنابلة يقولون: إن الحكم بالطهارة، فإذا انتهت المدة انتهت
الطهارة، وبناء على ذلك إذا كان الشخص قد أحدث ظهر يوم الخميس، ثم لَمَّا جاء ظهر
يوم الجمعة وعليه خفيه، نقول: يجب عليك أن تنزعهما وتتوضأ، لأن الوقت انتهى، وبناء
على ذلك ذهبت الطهارة، هذا على قول من يقول: إن الحكم متعلق بالطهارة، وفي هذا خلاف
كثير، ولكن على كل حال هذا هو الأحوط، وأذكر أن شيخنا الشيخ بن باز تردد كثيرا في
هذا، وقال: الأحوط أن يتوضأ إذا انتهت المدة، وكما قلنا: لقد نحا الحنابلة منحى
الاحتياط في مثل هذا لاعتبار أنها عبادة من أهم العبادات، فيطلب خلوص العبد منها،
وبراءة ذمته بيقين، وقالوا: حتى ولو كان في أثناء الصلاة، مثلما قلنا، فلو كان في
صلاة الجمعة فهنا يتوقف ثم يذهب ويتوضأ ويزيل الخفين، ويغسل رجليه، ثم يأتي فإذا
وجدهم أتم معهم وإلا قضاها ظهرا.
{قال -رحمه الله-: (وإن انقَضَت مُدَّتُه بَطَلَت الطَّهَارَةُ في المَمْسُوحِ
فتَبْطُلُ في جَمِيعِهَا لكَوْنِهَا لا تَتَبَعَّضُ)}.
ولذلك يقولون: إنَّ الحكم هنا بأنها انتقاض الطهارة لأنه قد ارتفعت الطهارة عن هذا
الممسوح بانتهاء المدة، فانتفت الطهارة عن الإنسان كله، فلو افترضنا -هذه مسألة
دقيقة- شخص الآن هو بدأ وقت المسح في الساعة الثانية عشر وقت الظهر، فلما جاء من
اليوم الثاني الساعة الثانية عشر إلا ثلاث دقائق، توضأ ومسح على الخفين، ثم لما
جاءت الساعة الثانية عشرة انتهى الوقت، فهل له أن ينزع الخفين ثم يغسل رجليه
باعتبار أنه لم يفت وقت عليهما؟
يقول الحنابلة: لا، لماذا؟ يقولون: بمجرد انتهاء المدة انتقضت طهارته، والانتقاض
ليس لأجل الموالاة، بل لأجل انتقاض الطهارة، فيلزمون بابتداء الطهارة من جديد.
وعلى كل حال فهذا كما قلنا على قول الحنابلة خلافا لشيخ الإسلام، وبعض الفتوى التي
تقول: إنه يجوز له أن يستمر باعتبار انتهاء حكم المسح لا حكم الطهارة.
قال: (فتَبْطُلُ في جَمِيعِهَا لكَوْنِهَا لا تَتَبَعَّضُ) هذا هو شرح المسألة
الصورة، أنه لَمَّا جات الساعة الثانية عشرة إلا ثلاث دقائق إذا مسح، فجاءت الساعة
الثانية عشرة يقولون: انتقضت طهارته، وبناء على ذلك يجب عليه إعادة الطهارة من
ابتدائها، ولا يجوز له -حتى ولو كان متطهرًا قبل قليل- أن يغسل رجليه ليكمل طهارته؛
لأن العلة ليست هي عدم الموالاة، بل العلة هي انتهاء المدة، فانتقضت طهارته في
رجليه، فالحدث لا يتجزأ، ولذا فينتقل الحدث إلى جميعه، ولأجل ذلك احتاج إلى ابتداء
طهارة جديدة.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وأستبيحكم عذرا على الإطالة، وأسأل الله أن
يُتم علينا وعليكم نعمه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على
نبينا محمد.
-------------------------------------
[1] مصنّف ابن أبي شيبة: (1/169).
[2] أخرجه أحمد (5866)، وابن حبان (2742).
[3] رواه مسلم.
[4] رواه الترمذي (96) واللفظ له، والنسائي (127)، وابن ماجه (478)، وأحمد (4/239)
(18116). حسَّنه البخاريُّ كما في ((التلخيص الحبير)) (1/247).
[5] أخرجه أبو داود (336)، والدارقطني (1/189)، والبيهقي (1115).
[6] رواه البخاري (5799).
[7] رواه البخاري (5799).
[8] أخرجه أبو داود (332)، والترمذي (124)، والنسائي (322).
[9] أخرجه أبو داود (162)، والنسائي في السنن الكبرى (119)، وأحمد (737).