مكتبـــــة الدروس

2024-03-19 13:49:10

باب سنن الوضوء - فروض الوضوء (2)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين والمستمعين.
{قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (ومِن سُنَنِ الوُضُوءِ وهي جَمْعُ سُنَّةٍ، وهي في اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ، وفي الاصطِلاحِ: ما يُثَابُ على فِعْلِه ولا يُعَاقَبُ على تَرْكِه.
وتُطْلَقُ أَيْضاً على أَقْوَالِه وأَفْعَالِه وتَقْرِيرَاتِه ، وسُمِّيَ غَسْلُ الأَعْضَاءِ على الوَجْهِ المَخْصُوصِ وُضُوءاً لتَنْظِيفِه المُتَوَضِّئَ وتَحْسِينِه)
}.
 
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد على آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعدُ:
فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل الفقه والنُهى، وأن يبلغنا الخير والهدى، وأن يجعلنا على ذلك أبدًا ما حيينا، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
شرع المؤلف -رحمه الله تعالى- في سنن الوضوء، وإن كان ذِكر كثيرٍ من الفقهاء لها عقيبَ ذكر الفروض والصفة، إلا أن المؤلف هنا جرى على تقديمها أو ذكرها، وذلك لعله لما ذكر السواك وأنه متعلقٌ بالوضوء رأى أو توجه إلى تِعدادها في أول مناسبةٍ لذلك.
قال: (ومِن سُنَنِ الوُضُوءِ)، بيّن أن السنن جمع سنة، والسنة هي ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، وهذا في اصطلاح الفقهاء، السنة تطلق أيضًا فيما يقابل البدعة، وتطلق السنة في مقابل منهج أهل الرفض والضلالة الذين سموا أنفسهم بالشيعة، فكل ذلك من أسماء السنة.
وليس هذا بيان تحقيق أو تفصيل الكلام على ما يتعلق بكل واحدٍ منها، إلا أن محل الكلام أن السنة هنا هو ما أُمر به على غير وجه الإلزام، فهي السنة التي قصدها الفقهاء، ويترتب على ذلك أن فاعلها مثاب، وأن تارك ذلك لا يستحق العقاب.
ثم قال: (وسُمِّيَ غَسْلُ الأَعْضَاءِ على الوَجْهِ المَخْصُوصِ وُضُوءاً لتَنْظِيفِه المُتَوَضِّئ)، يعني هذا سببٌ لتسمية الوضوء بالوضوء، وسيأتي مزيد بيانٍ لذلك في أول ذكر فروض الوضوء، وما يتعلق به.
 
{قال -رحمه الله-: (السِّوَاكُ وتَقَدَّمَ أنَّهُ يَتَأَكَّدُ فيهِ، ومَحِلُّهُ عِنْدَ المَضْمَضَةِ)}.
(السِّوَاكُ)، يعني كأن المؤلف بدأ بأول هذه السنن والمستحبات، فذكر السواك وهو كما أنه سنةٌ على وجه العموم والإطلاق، فإنه سنةُ من سنن الوضوء يشرع عند المضمضة، كما جاء في الحديث: «لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرْتُهم بالسواكِ عند كلِّ وضوء»[1]؛ ولأن استعمال السواك مع ماء المضمضة يكون أنفع في تحريك الوسخ والتخلص منه.
 
{قال -رحمه الله-: (وغَسْلُ الكَفَّيْنِ ثَلاثاً في أَوَّلِ الوُضُوءِ ولو تَحَقَّقَ طَهَارَتَهُمَا)}.
 
(وغَسْلُ الكَفَّيْنِ) من مستحبات الوضوء من حيث الأصل؛ لأن النبي توضأ «فَاسْتَوْكَفَ ثَلَاثًا»[2]، واستوكف يعني: غسل كفيه ثلاثًا، وجاء ذلك في حديث حمران مولى عثمان، وفي غير ما حديث لا، السنة متواردةٌ بغسل النبي لكفيه ثلاثًا؛ ولأنه من جهة المعنى أنها آلة الوضوء وطريق كمال النظافة والنزاهة من الأقذار، فكان تنظيفهما أصلٌ في حصول النظافة لسائر الأعضاء.
ولا فائدة من جهة النظافة والتخلص من الأقذار إذا غُسلت الأعضاء بآلتين قذرتين، أو بآلتين غير نظيفتين، ولذلك قال: (في أَوَّلِ الوُضُوءِ ولو تَحَقَّقَ طَهَارَتَهُمَا)؛ لأنه وإن قلنا إنها من جهة المعنى لأنها آلة الوضوء، لكن ليس هذا هو الحامل على الاستحباب فحسب، بل الحامل على ذلك كون النبي فعلهُ، فهو مستحبٌ في كل حال، وإذا كانت اليدين في حال قذرٍ أو فيهما شيءٌ من الوسخ أو نحو ذلك تأكد غسلهما وسنية البداءة بذلك.
 
{قال -رحمه الله-: (ويَجِبُ غَسْلُهُمَا ثَلاثاً بنِيَّةٍ وتَسْمِيَةٍ، مِن نَوْمِ لَيْلٍ نَاقِضٍ لوُضُوءٍ لِمَا تَقَدَّمَ في أَقْسَامِ الماءِ)}.
هذا كالتنبيه، يعني: هو ليس ذِكرٌ للواجبات، لكن لما ذَكر أن غسل الكفين ثلاثًا أراد أن ينبه على أنه يستثنى من ذلك القائم من نوم ليل، فإن المشهور عند الحنابلة على ما ذكرنا أن غسل الكفين واجبٌ، وإن كان ليس من الوضوء، هو واجب يعني بمجرد أن يقوم القائم من نوم ليل عليه أن يغسل يوم لديه ثلاثًا.
وتقدم ما يتعلق بذلك أن هذا من مفردات الحنابلة، وربما خالف جمعٌ من الحنابلة في لزوم ذلك، من جهةٍ أولًا أن الوجوب لا يبنى على المشكوك فيه، يعني كونه لا يدري ما باتت يده! يمكن لأن يُطلب التحقق أو التيقن أو كمال التطهر على سبيل الاستحباب، لكن أن يوجب ذلك خشية أن يكون فيه قذر، فإن عادة الشارعِ ألا يأمر بذلك إيجابًا.
ولذلك كان قول كثيرٍ من أهل التحقيق من الحنابلة، وقول الجمهور على استحبابها، وكونها متعلقة بالليل دون النهار، ونحو ذلك..
فعلى كل حال: الحنابلة في هذا على ما تقدم:
أول شيء: عبادات ومبناها على الاحتياط، وعلى التوقيف، ومراعاة ما جاء في النصوص، والتوقي في ذلك، في أعلى درجات التوقي والاحتياط.
 
{قال -رحمه الله-: (ويَسْقُطُ غَسْلُهُمَا والتَّسْمِيَةُ سَهْواً)}.
 
(ويَسْقُطُ غَسْلُهُمَا والتَّسْمِيَةُ سَهْواً)، لأجل ما تقدم من الخلاف في أن ما يتعلق بوجوب غسلهما يعني ليس مقطوعًا به، ولذلك تخففوا في حال السهو والنسيان.
مر بنا ما يتعلق بالتسمية، وأنها واجبةٌ عند الحنابلة تسقط مع النسيان، وذكرنا ما يتعلق بأصل ذلك، وهو ما جاء في الحديث: «لا وُضوءَ لِمن لم يَذْكر اسم الله تعالى عليه»[3]، وأحمد -رحمه الله- هو ممن أعلَّ الحديث من جهة الرواية، لكن التسمية مشروعةٌ بلا شك.
لماذا؟ لأنه لم يختلف في ذلك أحدٌ من أهل العلم، كل أهل العلم قالوا بمشروعية التسمية عند الوضوء، وإنما الكلام في درجة المشروعية: هل هي واجبة أو مستحبة؟ فهذا هو الخلاف بين الحنابلة والجمهور.
فإذًا قول بعض المحدثين أن التسمية لا دليل عليها، فيفضي ذلك إلى أن يقول بعدم مشروعية هذا قولٌ شاذ، وهذا قولٌ مخالف؛ لأنهم إنما أوتوا جهلًا بآلة الاستدلال، فليس بالضرورة أن يكون الدليل نازلًا نصًا على المسألة على ما يفهمون، لا، نصوص الشارع منها ما هي نصيٌ، ومنها ما هو ظاهر، ومنها ما هو مجموعٌ بين عمومات وبين دلالةٍ فيها خفاء أو نحوه.
ولذلك ذكرنا في الدرس الماضي: أن البخاري لما قال: (باب التسمية في الوضوء) ذكر حديث التسمية عند الجِماع من باب أولى؛ لأنه أظهر في اعتبارها.
على كل حال: التسمية مرت بنا، ولهذا الحديث الحقيقة يعني حاجة إلى التفصيل من جهة طريقة الاستدلال وفهم طرائق الفقهاء في هذا ربما يأتي له مناسبةٌ أكثر فنتوسع فيه، أو يكون ذلك أيضًا في مجالس خاصة، أو خارج الدرس للتنبيه على ذلك؛ لكثرة اللغظ أو الخطأ في ذِكر أن هذه المسألة لا دليل عليها من بعض المتأخرين، أو بعض الأحداث من طلاب العلم، أو من سلكوا مسلكًا وهم لم يعرفوه مسلك أهل الظاهر، بل هم أكثروا ليسوا على طريقة أهل الظاهر من جهة معرفة أصول ذلك، والالتزام به، وإنما هو الظاهر الذي علق بما بدى لأفهامهم وأذهانهم.
وهذا فيه جنايةٌ على الشرع كثيرة، وفيه خطأٌ كبير، وفيه مفارقة الحقيقة لما ذَكر أهل العلم واستقر به النقل وتتابع عليه المتقدمون من الفقهاء، على اختلاف المذاهب -رحمهم الله-.
 
{قال -رحمه الله-: (وغَسْلُهُمَا لمَعْنًى فِيهِمَا؛ فلو استَعْمَلَ المَاءَ ولم يُدْخِلْ يَدَهُ في الإناءِ لَمْ يَصِحَّ وُضُوؤُه)}.
كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- أراد أن ينبه على مسألة، وهي مما جرى بينهم فيها كلامٌ: هل هو لمعنى فيهما، أو هو لأجل إدخالهما في الإناء؟ فكأن المؤلف يقول: أن الغسل لا لأجل إدخالهما في الإناء، بل لمعنى فيهما.
فيترتب على ذلك: أن الشخص أدخل يديه في الإناء أو صُب على يديه ماءٌ وهو لم يغسلهما، فإن ذلك يفضي إلى عدم صحة وضوؤه وفساد الماء الذي وصل إلى يديه، ولذلك قال: (فلو استَعْمَلَ المَاءَ ولم يُدْخِلْ يَدَهُ في الإناءِ لَمْ يَصِحَّ وُضُوؤُه)؛ لأجل أنه استعمل آلتين لم يكمل تطهيرهما، وفسد الماء باعتبار ما ذكرنا أن الماء إذا غُمست فيه يد القائم من نوم ليل ينتقل إلى كونه ماءً طاهرة.
فيقول: (فَسَدَ المَاءُ) يعني فسد التطهر به، وهذا إذا كان الماء قليلًا، أما لو كان الماء كثيرًا فانغمس فيه المكلف ثم خرج مرتبًا، فهنا لم يحصل غمس، ولم يحصل فساد للماء لكونه كثيرًا فتصح الطهارة، أو كما قالوا: إنه ما غسل يديه ثلاثًا لكنه لا يقدر أن يوضئ نفسه، وإنما جاء من وضئه فحصل له وضوءٌ كامل بدون أن يستعمل يديه فيهما، فيقولون بأنه يصح وضوؤه في هذه الحال.
 
{قال -رحمه الله-: (ومِن سُنَنِ الوُضُوءِ: البَدَاءَةُ قَبْلَ غَسْلِ الوَجْهِ بمَضْمَضَةٍ ثُمَّ استِنْشَاق ثَلاثاً ثَلاثاً بيَمِينِه، واستِنْثَارُه بيَسَارِه)}.
هنا قال: (ومِن سُنَنِ الوُضُوءِ البَدَاءَةُ)، بفتح الباء وكذلك ضمها، والفتح أشهر.
(قَبْلَ غَسْلِ الوَجْهِ بمَضْمَضَةٍ ثُمَّ استِنْشَاق)، المستحب هنا أو السنة هي البداء لا حكم المضمضة والاستنشاق، فأما حكم المضمضة والاستنشاق فإنه سيأتي عند الحنابلة فيما يذكرونه في فروض الوضوء عند غسل أو حكم غسل الوجه.
فإذًا الكلام هنا: أن البداءة يعني: كأن المؤلف -رحمه الله- يقول: أن المضمضة والاستنشاق والوجه شيءٌ واحدٌ، لكن إذا أراد المتوضأ أن يتوضأ فيسن له أن يبدأ بالمضمضة والاستنشاق ثم يغسل وجهه، هذا هو معنى المسألة.
قال: (بمَضْمَضَةٍ ثُمَّ استِنْشَاق ثَلاثاً)، والتثليث معروفٌ من أنه سنة، وسيأتي أيضًا إشارةٌ إليه بعد ذلك.
قال: (واستِنْثَارُه بيَسَارِه)، يعني استعمال اليسار في الانتثار هذا مستحب؛ لأن النبي نثر بيده اليسرى.
 
{قال -رحمه الله-: (ومِن سُنَنِه المُبَالَغَةُ فِيهِمَا؛ أي: في المَضْمَضَةِ والاستِنْشَاقِ لغَيْرِ الصَّائِمِ فتُكْرَهُ، والمُبَالَغَةُ في مَضْمَضَةٍ إدَارَةُ المَاءِ بجَمِيعِ فِيه، وفي الاستِنْشَاقِ جَذْبُه بنَفَسٍ إلى أَقْصَى الأَنْفِ، وفي بَقِيَّةِ الأعضَاءِ دَلْكُ مَا يَنْبُو عَنْهُ المَاءُ للصَّائِمِ وغَيْرِه)}.
هذه مسألة في حكم المبالغة، وبيان المبالغة في كل شيءٍ بحسبه:
أول شيء: المبالغة من المستحبات؛ لأن فيها كمالٌ وتمامٌ في الطهارة؛ ولأن النبي أمر بذلك وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا من حيث الاستنشاق، والإشارة إلى هذا إشارةٌ إلى سائر الأعضاء، وإنما خُص الاستنشاق لأجل أنه يُحتاج فيه إلى المبالغة، ولا تتأتى فيه تمام الطهارة إلا بذلك..
وأيضًا ما جاء في الحديث: «ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى حتَّى أشْرَعَ في العَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ اليُسْرَى حتَّى أشْرَعَ في العَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنَى حتَّى أشْرَعَ في السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُسْرَى حتَّى أشْرَعَ في السَّاقِ»[4]، كل ذلك يدل على التأكيد والاهتمام بالمبالغة فيهما.
ثم قال: (لغَيْرِ الصَّائِمِ)، أما الصائم فكما قلنا من أنه مكروه حفظا لصيامه؛ لأن المبالغة غاية ما تكون مستحبة، وحفظ الصيام مما ينقضه واجبٌ، فكان اعتبار حفظ الصيام مقدمٌ على تحصيل كمال السنة في المبالغة في الاستنشاق.
ثم بيّن حقيقة المبالغة، قال: (المُبَالَغَةُ في مَضْمَضَةٍ إدَارَةُ المَاءِ بجَمِيعِ فَمِه)، إذًا عندنا ثلاثة أحوال:
·     إدارة الماء في جميع فمه.
·     وإدارة الماء في بعض فمه.
·     وإدخال الماء إلى فمه بدون إدارة.
فعندهم أن الإدارة في جميع الفم هذه تحصل به المضمضة والمبالغة فيها، أما إدخال الماء إلى الفم وحصول بعض إدارة تحريكٌ يسير هذا فيه تحصيل الواجب بالمضمضة، وأما الثالث عند الحنابلة أن مجرد إدخال الماء إلى الفم ثم يمجه أو يبتلعه هذا لا يحصل به المضمضة.
فرقٌ بين الحنابلة والشافعية، الشافعية يقول مجرد إدخال الماء إلى الفم، لكن الحنابلة يقول لابد في حصول المضمضة من بعض إدارة، والمبالغة التمام أو حصولها في جميع فمه.
ثم أيضًا الاستنشاق، شوفوا هذه مسألة أو لفظة بسيطة كيف دخل فيها من فروع! فهذا كلام الفقهاء -رحمه الله تعالى- فيه قوة وفيه معاني كثيرة وتحتاج من الطالب إلى مزيد نظر وتأمل فيما يدخل في ذلك وما لا يدخل.
قال: (وفي الاستِنْشَاقِ جَذْبُه بنَفَسٍ إلى أَقْصَى الأَنْفِ)، إذًا عندنا أيضًا في الاستنشاق ثلاثة أحوال:
·     جذبه إلى أقصى أنفه؛ حتى يحسبه في بعض حلقه.
·     أو جذبه بنفسه إلى أدنى أنفه، يعني حسبه في خياشيمه.
·     والثالث: أن يدخله إلى داخل أنفه بدون أول أنفه، بدون أن يدخل إلى أن يكون في ظاهر أنفه، أو فيما ظهر من ذلك.
فلا تتأتى كمال الاستنشاق إلا أن يصل إلى أقصى، والواجب أن يحس به في خياشيمه، أما إذا مثل ما يفعل بعض العوام أنه هو يُدخل الماء بيده، أو يرش ظاهر أنفه، فهي ربما أصابت بعض أنفه من الداخل، لكن هذا ليس استنشاقًا؛ لأن الاستنشاق حقيقة جذب بالنفس، والجذب بالنفس يدخل به إلى خياشيمه فيتأتى به الواجب ويحصل به التمام والمبالغة في أن يصل إلى أقصى.
فقال: (وفي بَقِيَّةِ الأعضَاءِ دَلْكُ مَا يَنْبُو عَنْهُ المَاءُ)، فسائر الأعضاء من اليدين والوجه والرجلين أن يدلك ما ينبو عنه الماء، إما مثلاً تَعك في جلده، بعض الناس يكونوا إما لكبره أو لسمنه أو نحو ذلك جلده يتكسر بعضه على بعض، فيحتاج إلى أن يدلك حتى يدخل ما بين عُكن شحمه التي في وجهه، أو في يديه، أو في رجليه، أو نحو ذلك، وإذا كان أيضًا من جنابة في جنبي بطنه وهذا كثير، وهكذا.
إذًا هو الدلك ما ينبو عنه الماء، وما بين أصابع الرجلين واليدين، وسيأتي مزيد تفصيلٍ لذلك في محله بإذن الله.
 
{قال -رحمه الله-: (ومِن سُنَنِهِ: تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ الكَثِيفَة، بالثَّاءِ المُثَلَّثَةِ، وهي التي تَسْتُرُ البَشَرَةَ، فيَأْخُذُ كَفًّا مِن مَاءٍ يَضَعُهُ مِن تَحْتِهَا بأَصَابِعِه مُشْتَبِكَةً، أو مِن جَانِبَيْهَا ويَعْرُكُهَا، وكذا عَنْفَقَتُه وبَاقِي شُعُورِ الوَجْهِ)}.
إذًا المؤلف -رحمه الله تعالى- قال: (ومِن سُنَنِهِ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ الكَثِيفَة)، فالسنة تخليل اللحية الكثيفة، أما الخفيفة فلا تخلل، لا يقصد أنها لا تخلل؛ لأن اللحية الخفيفة يجب أن يصل الماء إلى باطنها، وسيأتي بيان ذلك.
فإذًا لما قال: (ومِن سُنَنِهِ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ الكَثِيفَة)؛ لأنها هي التي يستحب تخليلها، أما الخفيفة فيجب إيصال الماء إلى باطنها، وسيأتي بيان ذلك.
فإذًا كون ذلك مُستحبًا فدلت عليه السنة: «أن النبي كانَ إذا تَوضَّأ أخذَ كفًّا من ماءٍ فأدخلَهُ تحتَ حنَكِهِ فخلَّلَ بهِ لِحيتَهُ»[5].
ثم ذكر الصفة: أول شيء ذكر الضابط في الكثيفة، ثم ذكر الصفة، أما الضابط في الكثيفة فيقول: (وهي التي تَسْتُرُ البَشَرَةَ)، هي التي تستر البشرة، فاللحية التي لا يرى البياض الذي بين الشعر فهذه كثيفةٌ، فمعنى ذلك أن ما بَطن منها إنما يُستحب إيصال الماء إليه ولا يجب.
وأما اللحية التي تكون خفيفةً فيبدو ما بين الشعر، فهذه يجب غسل ما بين الشعرات، لكونها يحصل بها المواجهة فيصل إليها الماء وجوبًا.
وبناءً على ذلك: وهذا حال أكثر الناس أن لحيته تجمع الأمرين، فأطرافها تبدو أو يكون ما بينها فيه فراغ أو يبدو ما تحته من الجلد فيجب غسله وإيصال الماء إليه، وأدناها أو أسفلها يكون كثيفًا أو يتكثف فيه الشعر وهو داخل في الوجه -يعني على الذقن والعارضين- فيستحب إيصال الماء إلى باطنه، أما الظاهر فيجب غسله.
قال: (فيَأْخُذُ كَفًّا مِن مَاءٍ)، إذًا هذا الصفة -صفة التخليل- قال: (فيَأْخُذُ كَفًّا مِن مَاءٍ يَضَعُهُ مِن تَحْتِهَا بأَصَابِعِه مُشْتَبِكَةً)، يعني إذا وضع هكذا مشبكةً أو مشتبكة أو من جانبيها ويعرفها، إذًا يدخلها هكذا ثم يُدخل الماء إلى أطرافها.
(أو مِن جَانِبَيْهَا ويَعْرُكُهَا)، يفعل هكذا، فإذا عركها وصل الماء إلى داخل أو باطن لحيته.
قال: (وكذا عَنْفَقَتُه)، العنفقة هي ما فوق الذقن من شعر خفيف وتحت الشفة السفلى، هذه تسمى عنفقةٌ، فأيضًا يكون إذا كانت كثيفةً فيستحب تخليل باطنها.
قال: (وبَاقِي شُعُورِ الوَجْهِ)، كذلك لو كان في الوجه شعر كحاجبين ثخينين أو كثيفين فيستحب إيصال الماء إلى باطنهما، وإلا كحال أكثر الناس بأن حاجبيه خفيفين فيجب غسلهما وإيصال الماء إلى باطنهما، باعتبار أن الشعر لا يغطي أو لا يستر البشرة.
 
{قال -رحمه الله-: (ومِن سُنَنِه تَخْلِيلُ الأَصَابِعِ؛ أي: أَصَابِعِ اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ. قالَ في الشَّرْحِ: وهو فِي الرِّجْلَيْنِ آكَدُ، ويُخَلِّلُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بخِنْصَرِ يَدِهِ اليُسْرَى مِن بَاطِنِ رِجْلِهِ اليُمْنَى مِن خِنْصَرِهَا إلى إِبْهَامِهَا، وفي اليُسْرَى بالعَكْسِ، وأَصَابِعَ يَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا بالأُخْرَى، فإنْ كانَت أو بَعْضُها مُلْتَصِقَةً سَقَطَ)}.
قال: (ومِن سُنَنِه تَخْلِيلُ الأَصَابِعِ)؛ هذا من السنن، وخلل بين الأصابع، ودلك أصابعه وخلل أو دلك أصابع رجليه في الحديث، كلها تدل على ذلك، كما أن أيضًا ما جاء في المبالغة، وما جاء في الأمر في تكميل الوضوء؛ كله يدل على ذلك، لكن هذه أحاديث بخصوصها.
والأصابع تشمل الرجلين واليدين، أما تخليل أصابع الرجلين من جهة الحاجة هذا ظاهر، لكن هل تحتاج إلى ذلك أصابع اليدين؟ نعم؛ لأنك لا تنظر إلى الحال المعتادة أو الحال العادية أن يصل تكون إلى أصابع اليدين بسهولة، أول شيء: لكون اليدين يعني مفرقة الأصابع، وكون الماء قويًا.
لكن في بعض الأحوال يكون الماء خفيف، وما بين الأصابع قد تكثف إما مع كبر السن في بعض تجاعيد أو نحوها، فالمقصود أنها في بعض الأحوال يُحتاج إلى ذلك، أو لعلةٍ في يديه، تكون حركة اليدين صعبة يحتاج إلى تخليل، أو أيضًا لكون خلقتهما فيها نوع تقاربٍ فتحتاج إلى تخليل، وربما أيضًا كان ذلك، يعني المقصود بالتخليل أن يكون أيضًا في محله، يعني ربما في أول غسل الكفين ثلاثًا يصل الماء إلى ما بين الأصابع، ثم إذا جاء إلى غسل يديه غَسلهما هكذا، ولم يتحقق من وصولها ما بين أصابعه.
لأنَّ أول شيء الماء قد وصل إليهما من قبل، فلم يدري هل وصل أو لم يصل؟ فيفضي ذلك إلى الاستعجال أو الظن أنه وصل في حال الغسل، ومن المعلوم قطعًا أن ما وصل إلى ما بين الأصابع قبل محله لا عبرة به، ولا يكون كافيًا لحصول الواجب.
فبناءً على ذلك إذًا في كل هذه الأحوال: تخليل أصابع اليدين محتاجٌ إليه، وإن كان بعض الفقهاء خفف فيه أو أكدوا على الرجلين مثل ما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وهو فِي الرِّجْلَيْنِ آكَدُ)، لكنه أيضًا محتاجٌ إليه في اليدين لما ذكرنا في أحوالٍ كثيرة.
فإذًا لابد للإنسان أن يتحقق من حصول التخليل في محله، يعني إذا شرع في غسل يديه إلى المرفقين فبدأ بأطراف أصابعه، أول ما يبدأ فيُخلل أصابعه، يخلل أصابعه.
وصفة تخليل أصابع اليدين مثل ما ذكر المؤلف: أن يدخل إحدى يديه في الأخرى، فهكذا يحصل تخليل كل واحدةٍ للأخرى، فإذا بدأ في غسل اليمنى أدخل أصابع يديه اليسرى بينهما، وإذا شرع في غسل يديه اليسرى أدخل أصابع يديه اليمنى فيها أو في اليسرى.
قال: (وفِي الرِّجْلَيْنِ آكَدُ)، لِمَا ذكرنا من أن الماء ينبو عنها كثيرًا، وخلقة أصابع اليدين في تخليل اليدين تقارب بعضها وعدم حصول الفجوات بينهما أكثر، فلأجل ذلك في أكثر الأحوال لا يصل الماء إلا بالتخليل.
ثم المؤلف ذكر الصفة، هو كيفما حصل التخليل حصلت السنة، لكن هذه جاءت في بعض الآثار وهي أكثر ما يمكن أن يتحقق به ذلك، قال: (ويُخَلِّلُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بخِنْصَرِ يَدِهِ اليُسْرَى مِن بَاطِنِ رِجْلِهِ اليُمْنَى مِن خِنْصَرِهَا).
يعني لو افترضنا هذه رجلة اليمنى يأتي بخنصره اليسرى ثم يبدأ هكذا، فيدخل أصبعه اليسرى بين أصابع رجليه هكذا؛ حتى يصل إلى إبهامها.
ثم يقول: (بخِنْصَرِ يَدِهِ اليُسْرَى مِن بَاطِنِ رِجْلِهِ اليُمْنَى مِن خِنْصَرِهَا إلى إِبْهَامِهَا، وفي اليُسْرَى بالعَكْسِ)، يعني في اليسرى يبدأ من إبهامها ثم يدخل إلى آخر ذلك.
طبعًا هذه إذا افترضنا أنها الرجل اليسرى فهو، يعني إحنا ما نبي نقول: لنفرض هذه الرجل اليسرى، يعني حتى ما يظن أحد منكم أنني قصدت أنها يغسلها باليمنى، لا، اليمنى مقامها مقام التشريف، لا، فلنفرض أن هذه هي الرجل اليسرى أيضًا يبدأ بها من الإبهام بخنصره هكذا إلى أن ينتهي بخنصرها.
ثم قال: (إنْ كانَت أو بَعْضُها مُلْتَصِقَةً سَقَطَ)؛ لأن هذا واضح.
 
{قال -رحمه الله-: (ومِن سُنَنِهِ التَّيَامُنُ بلا خِلافٍ وأَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ للأُذُنَيْنِ بَعْدَ مَسْحِ رَأْسِه)}.
(ومِن سُنَنِهِ التَّيَامُنُ)، هذا طبعًا في الأعضاء التي فيها يمنى ويسرى، وهي اليدين والرجلين، فيبدأ باليمنى قبل اليسرى، وهذا معلومٌ من أدلةٍ كثيرة، حديث أبي هريرة: «وإذا توضَّأتُمْ فابدَؤوا بأيامنِكُم»[6]، وفعل النبي سنةً مستديمة، وتكريم اليمنى أو ما جاء في الأحاديث الدالة على ذلك.
وعلى هذا: يعني يحمل ما جاء عن علي، أو جاء في بعض الأثر (أنا لا أبالي بأي أعضاء الوضوء بدأت)، قالوا: إنه ليس دليلاً على أن الترتيب ليس بواجب، لكنه دليلٌ على أنه لو بدأ باليسرى قبل اليمنى لكان ذلك صحيحًا، وهذا هو قول عامة أهل العلم، ونُقل فيه الإجماع وإن خالف في ذلك ابن حزم أو بعض الظاهرية، فلا إشكال.
يعني لو أن شخصاً غسل رجله اليسرى أو يده اليسرى قبل رجله اليمنى أو يده اليمنى لكان وضوؤه صحيحاً، وغاية ما فيه أنه ترك السنة.
قال: (وأَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ للأُذُنَيْنِ بَعْدَ مَسْحِ رَأْسِه)، هذا جاء في رواية للبيهقي وأوردها الحافظ ابن حجر في حديث البلوغ، وهو قولٌ عند متأخري الأصحاب، وهو مبناها أيضًا على كمال النزاهة وزيادة في التوقي للطهارة.
وإن كان عند جمعٍ من أهل التحقيق من الحنابلة، يعني اختاره من متوسطيهم، واختاره جمعٌ منهم أن الأذنين من الرأس، وأنه لا يحتاج إلى تجديد الماء إلا أن تنشف يديه، فتكون تبعًا لرأسه فيسعهما ماءٌ واحد، وأن الحديث الذي في مسلم «أَخَذَ لِرَأْسِهِ غَيرَ فَضْلِ يَدَيهِ» يعني أخذ ماءً لمسح رأسه غير فضل يديه خلافًا لِمَا جاء أنه أخذ ماءً لأذنيه غير فضل رأسه.
 
{قال -رحمه الله-: (ومُجَاوَزَةِ مَحِلِّ فَرْضٍ)}.
(ومُجَاوَزَةِ مَحِلِّ فَرْضٍ)، هذا أيضًا ذكرها الحنابلة من المستحبات، وهي إن قُصد بها التحقق من وصول الماء إلى كمال العضو فهذا ظاهر، وهذا هو الذي يفهم من حديث: «ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى حتَّى أشْرَعَ في العَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ اليُسْرَى حتَّى أشْرَعَ في العَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُمْنَى حتَّى أشْرَعَ في السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ اليُسْرَى حتَّى أشْرَعَ في السَّاقِ»
لكنهم قالوا أو قال بعضهم بما هو أكثر من ذلك، وأن هذا مما ينبغي، وأنه مما يدخل فيه الحديث: «إنَّ أُمَّتي يُدْعَوْنَ يَومَ القِيامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثارِ الوُضُوءِ»[7]، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل.
فحملوه –وإن كان هذا في الأخير- من قول أبي هريرة، لكن عند الحنابلة أنه معتبر وجاء في ظاهر النص ما يدل عليه، وهو أيضًا أكثر دلالة على حصول الطهارة.
لكن على كل حال: إذا قلنا أن المقصود من ذلك التحقق باكتمال غسل العضو، ولا يتأتى ذلك إلا بالشروع في العضد أو في الساق، فهذا قدرٌ صحيح، أما الغرّ والتحجيل فهما موضعان معلومان لا يزيدان، الغرّة هي من غرّة التي تكون في الخيل وهي البياض الذي في جبهته، والتحجيل هو ما يكون في أطراف أقدامها.
يقولون: إنه ليس فيه إطالةٌ ولا غيره، ولابن تيمية وكثير من المعاصرين وهو قولٌ لجمع من أهل التحقيق بما ذكرنا أنه غاية ما يقال الشروع في العضد والساق، ولا يُزاد على ذلك.
 
{قال -رحمه الله-: (ومِن سُنَنِه: الغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ والثَّالِثَةُ وتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ علَيْهَا، ويَعْمَلُ فِي عَدَدِ الغَسْلاتِ بالأَقَلِّ ويَجُوزُ الاقتِصَارُ على الغَسْلَةِ الوَاحِدَةِ، والثِّنْتَانِ أَفْضَلُ والثَّلاثَةُ أَفْضَلُ مِنْهُمَا، ولو غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ أَكْثَرَ مِن بَعْضٍ لم يُكْرَهْ ولا يُسَنُّ مَسْحُ العُنُقِ، ولا الكَلامُ على الوُضُوءِ)}.
 
(ومِن سُنَنِه: الغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ والثَّالِثَةُ)، وهذه التي ذكرناها أو أشرنا إليها في أول الكلام، الوضوء اثنتين اثنتين اثنتين أو ثلاثًا ثلاثًا سنةٌ، وجاء ذلك كله عن النبي توضأ مرةً مرة، وهو التي يتأتى بها الوجوب، ويحصل بها القدر اللازم، وتوضأ مرتين مرتين فغسل أعضاءه أو كل عضوٍ مرتين في المغسولات دون الممسوح على ما سيأتي بيانه، وأيضًا توضأ ثلاثًا وهذا هو الكمال والتمام.
ولذلك قال: (وتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ علَيْهَا)، وكراهية الزيادة أولًا: لما جاء في الحديث: «فمَن زادَ علَى هذا فقَد أساءَ وتعدَّى وظلمَ»؛ ولأنه لا أحسن ولا أتم من سنة النبي ، ولذلك لما قال الصحابي: « كان رسولُ اللهِ يتوضأُ بالمُدِّ ويغتسلُ بالصاعِ، فقال رجلٌ: إنه لا يكفيني، قال: لقد كان يكفي من هو أفضل منك وأوفر منك شعرًا»[8]، فلا يزاد على ذلك.
يستثنى من هذا أن يحتاج إليه، كأن يبقى وسخٌ لم يزل فيحتاج إلى التكرار، لكن من حيث الأصل أن ما زاد على ذلك فهو مكروه، وربما كان آثمًا في ذلك على ما ذكروه.
قال: (ويَعْمَلُ فِي عَدَدِ الغَسْلاتِ بالأَقَلِّ)، يعني لو شكَّ في عضوٍ أنه مرتين وواحد ثلاث يزيد في المرتين ثالثةً حتى يتيقن حصول الثلاث، والوضوء ثلاثًا ثلاثًا هذا قليلٌ عند كثيرٍ من الناس؛ لأن كثير من الناس أول ما يبدأ مثلًا في غسل وجهه يُحقق فيه الثلاث مرات، لكنه إما أن ينسى، وإما أن يحسب في اليدين والرجلين بعض الغسلة غسلة.
فإذا مثلًا أَمر الماء إلى مرفقه هكذا ظنها غسلة، وهو لم يستوعب العضو بالماء، فالثلاث غسلات يعني أن تكون كل غسلةٍ منها مستوعبةُ للعضو على التمام والكمال.
فبناءً على ذلك: لو أن شخصًا غسل وجهه، كما هو حال كثير من الناس، أنظر الآن بقي قدر بسيط وهو ما بين العارضين والأذنين لم يصبه الماء، ثم غسل ثانية هو يظن أن هذه ثانية، ما دام أن الأولى لم تأتي على الجميع حتى ولو بقي قدر نصف أنملة، فإنه لم يغسل غسلةً تامة، فبناءً على ذلك: تصير الثانية متممة للأولى وجزء منها.
فالثلاث الغسلات معناها أن تكون كل واحدةٍ منها مستوعبةٌ للعضو على التمام، وهذا قليلٌ جدًا، وتأملوا: الآن أنت إذا جئت تتوضأ الآن حاول تحسب بالضبط ثلاث تجد أنك قليل أنك فعلت ذلك، يعني تامًا مكملًا لكل عضوٍ ثلاث مرات، فمن أراد الكمال والتمام السنة فليتنبه لهذا، ولا يتأتى ذلك إلا لراغبٍ في الخير، عارفٍ به، طالبٍ للسنة، ومتبعٍ لها يتعاهد نفسه فيها.
قال: (ويَجُوزُ الاقتِصَارُ على الغَسْلَةِ الوَاحِدَةِ، والثِّنْتَانِ أَفْضَلُ) بلا شك، (الثَّلاثَةُ أَفْضَلُ) من الثنتين، وهذا هو التمام كما قلنا.
ثم قال: (ولو غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ أَكْثَرَ مِن بَعْضٍ لم يُكْرَهْ)، يعني غسل وجهه كما هو حال كثير من الناس غسل وجهه ثلاثًا، ثم يده اليمنى مرتين، ثم اليسرى مرة، ثم غسل رجله اليمنى مرتين ثم اليسرى ثلاث مرات، أو فاوت بينها على هذا النحو، لم يكن ذلك مكروهًا.
ثم قال: (ولا يُسَنُّ مَسْحُ العُنُقِ)، يعني أن متعلق المسح إنما هو الرأس، وكأنه يشير إلى ما جرى عليه بعضهم من أن مسح العنق مستحب، وما جاء فيه من الحديث أن مسح العنق أمانٌ من الغل يوم القيامة؛ كل ذلك لا يصح، وكأن المؤلف ينبه على ما يجري عند بعض العوام ويتناقلونه.
قال: (ولا يُسَنُّ مَسْحُ العُنُقِ، ولا الكَلامُ على الوُضُوءِ)، الكلام على الوضوء لا يستحب، وهذا أيضًا ظاهر، أولًا من جهة أنها عبادة وعادة، ووجود كلام الإنسان حال فعل الوضوء يفضي ذلك كأنه لا يعبأ بها أو لا يعظمها، هذا من جهة.
ومن جهةٍ ثانية أن الكلام مدعاةُ إلى الإخلال بالوضوء، فإنه إذا تكلم انشغل، وإذا انشغل ربما أخل ببعض ما يجب أن يأتي به: إما أن ينسى الاستنشاق، وإما أن لا يُتم غسل وجهه، وإما أن يضعف عن مسح أذنيه، أو غير ذلك مما يحصل للإنسان حال انشغاله، فلأجل ذلك تتابع الفقهاء على ذكرهم لأن ترك الكلام سنةٌ على الوضوء، لكن لا يمنع من رد سلام، أو نصحٍ إذا احتج إليه في وقته، أو غير ذلك مما يؤمر به وفيه مطلب شرعي.
 
{قال -رحمه الله-: (بابُ فَرْضِ الوُضُوءِ وصِفَتِه)}.
قال المؤلف: (بابُ فَرْضِ الوُضُوءِ وصِفَتِه)، فروض الوضوء هنا في كل تعابير الفقهاء الحنابلة يعبرون بالواجب أو بالركن، إلا هنا قالوا فروض الوضوء، فهل قصدوا بالفروض هنا الواجبات أو قصدوا بالفروض هنا الأركان؟
الظاهر -والله تعالى أعلم- أنَّ مرادهم هنا بالفروض هي الأركان؛ لأنهم قالوا وتجب التسمية مع الذكر، فالواجبات ذكروها واحدًا مستقلًا، فهذه هي الفروض.
والدليل على ذلك أنهم قالوا في معاني الفرض: ما لا يسقط لا عمدًا ولا سهوًا، وهذا رديف الركن، وهذا ظاهر فيما ذكروه أو ما كان دليله قطعيًا أو ظاهرًا، ومن المعلوم أن الفرق بين الركن والواجب: أن الركن جاء التنصيص عليه والتأكيد عليه من الشارع أكثر مما قد يتحكم، لكن ليس في درجة التأكيد على ذلك.
فإذًا الفروض هنا هي الأركان.
قال: (الوُضُوءِ)، والوضوء من الوضاءة والنضارة، وذلك؛ لأن الوضوء يُعقب المتوضئ وضاءةً في وجهه ونزاهةً وطهارةً لأعضائه، يقال: توضأ وضوءً وهو الماء الذي يتوضأ به، ووضوءً وهو فِعل الوضوء.
والوضوء من حيث معناه هو غسل الأعضاء الأربعة بصفةٍ أو على صفةٍ مخصوصة، أو ذكر بعض قالوا استعمال الماء في الأعضاء الأربعة على صفةٍ مخصوصة، واستعمال الماء هنا أتم؛ لأن استعمال الماء إما بالغسل وإما بالمسح، فيشمل الأمرين جميعًا.
والمسح مشروعٌ في ماذا؟ في مسح الرأس، وفي مسح العمامة، وفي مسح الخف، وفي مسح الجبيرة؛ كل ذلك فيه مسحٌ، فلذلك استعمال الماء تكون أتم في هذا.
ومما ينبغي للطالب في مثل ما يجيء من الوضوء أو الغُسل أو الصلاة أو نحوها: أن يعرف أو يتعلم أو يحفظ ما جاء في فضل هذا الباب وإن لم يكن هذا من حيث الأصل، الفقهاء ربما يذكونه عرضًا وإن لم يكن من اختصاص الفقيه؛ لأن اختصاص الفقيه بيان الأحكام.
لكن لا شك أن الفضل وذكره هو مما يدعو النفوس إليه ويرغب فيه، ولا يتأتى للناس الإتيان بالواجبات، والاستقامة عليها، والمحافظة على السنن إلا بما فيها من حثٍ وفضلٍ، وما في تركها من ترهيب وتخويف.
وفي أحاديث الوضوء أو في الوضوء أحاديث كثيرة؛ لأنه «لا يحافظ عليه إلا مؤمن»، «ولا يقبل الله صلاة إلا بطهور»، «ومن توضأ فأحسن وضوؤه فغفر له»، «ومن توضأ فأتم وضوؤه فصلى ركعتين وجبت له الجنة»، «مَن تَوضَّأ فأحسَنَ الوُضوءَ حتى تخرج من جَسدِهِ، حتى تخرج من تحت أظفاره»، وفي ذلك أحاديث كثيرة.
وينبغي للطالبِ أن يعنى بذلك، ويُذكر أن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله مفتي عام المملكة العربية السعودية شيخنا –حفظه الله تعالى- حج عن المنذري، إنه حج عن ابن حزم وعن المنذري، فقيل: بما؟ قال: أني لم أزل أستفيد منه فيما ألفه في كتابه (فضل الترهيب والترهيب) في خطبٍ كثيرة، فله عليّ سابقة فضل، وهذا دأب أهل العلم في حفظ الفضل، ورد الحسنى، وذكرها وإذاعتها، ولا يُحرم من ذلك إلا من فسد قلبه، وأظلمت نفسه.
فليتعاهد الإنسان أو الطالب نفسه بإصلاحها، وحفظ ما عهده من خير لصاحب أو صديق أو قرينٍ في العلم أو شيخ أو صاحب فضلٍ عليه بنصيحة أو نحو ذلك من الأمور ونحوها.
 
{قال -رحمه الله-: (الفَرْضُ لُغَةً: يُقَالُ لمَعَانٍ أَصْلُها الحَزُّ والقَطْعُ، وشَرْعاً: ما أُثِيبَ فَاعِلُه وعُوقِبَ تَارِكُه، والوُضُوءُ: استِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ في الأَعْضَاءِ الأربعَةِ على صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ)}.
إذًا (الفَرْضُ: يُقَالُ لمَعَانٍ) منها الحز والقطع ومنها السخوط وغيرها، وهذه معاني تُذكر، فالمقصود ومنه التقدير، المقصود من ذلك أنه ما كان فيه حتمٌ ولزوم، وذكرنا حده.
وهنا قال: (وشَرْعاً: ما أُثِيبَ فَاعِلُه وعُوقِبَ تَارِكُه)، هذا طبعًا التعريف يشمل الواجب ويشمل الركن على حدٍ سواء في اشتراكهما في الإثابة على الفعل واستحقاق العقاب على الترك.
لكن من أين يحصل الفرق عند الفقهاء في التفصيل، أو في التفريق بينهما؟
بقدر ما جاء من اعتبارٍ في الوجوبِ وحتميةٍ في اللزوم.
ثم قال: (والوُضُوءُ: استِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ في الأَعْضَاءِ الأربعَةِ على صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ)، على ما ذكرنا قبل قليل.
 
{قال -رحمه الله-: (وكانَ فَرْضُه معَ فَرْضِ الصَّلاةِ كما رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ في المُبْدِعِ)}.
(وكانَ فَرْضُه معَ فَرْضِ الصَّلاةِ)، هذا كان يشير إلى قول من قال: إنه تأخر فرضه، فهو مما فُرض مع الصلاة؛ لأن غسل الجنابة كان في مكة، وهو كان قبل ذلك، وجاء في حديث جبريل: «أنه علمني الوضوء والصلاة».
والوضوء ليس من خصائص هذه الأمة، بل وجد فيمن قبلها كما جاء عن سارة لما دخلت على ذلك الملك، وأيضًا قوله في الحديث وإن كان فيه مقال: «هذا وضوء الأنبياء من قبلي».
ويدل عليه: «إنَّ أمَّتي يأتونَ غرًا مُحجلينَ من أثرِ الوضوءِ»، يعني أن اختصاصهم بالغرة والتحجيل لا بالاشتراكِ في الوضوء، فخصوا بفضيلةٍ تتعلق بما أمروا به في الوضوء مع كون غيرهم قد توضأ، فقال: (وكانَ فَرْضُه معَ فَرْضِ الصَّلاةِ).
ما الذي يفيد؟ أو ما الذي يفيده ذكر المؤلف لهذا المعنى؟
يعني إشارةٌ إلى عظمه والاهتمام به، ولذلك جاء في الحديث: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ عبدٍ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ».
 
{قال –رحمه الله-: (فُرُوضُهُ سِتَّةٌ: أَحَدُها غَسْلُ الوَجْهِ لقَوْلِه تعَالَى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ والفَمُ والأَنْفُ مِنْهُ؛ أي: مِن الوَجْهِ لدُخُولِهِمَا في حَدِّه؛ فلا تَسْقُطُ المَضْمَضَةُ ولا الاستِنْشَاقُ في وُضُوءٍ ولا غُسْلٍ لا عَمْداً ولا سَهْواً)}.
 
قال: (فُرُوضُهُ سِتَّةٌ)، وكما ذكرنا فيما مضى أن هذا العد والحصر مبناه من الفقهاء -رحمه الله تعالى- على التتبع، فالنبي ما قال يومًا أن فروضه ستة، لكنهم تقربًا للطالب وجعل الأشياء التي وردت على نحوٍ واحدٍ من القوة أو الاعتبار، ومن تعلقها بالكُنه، وكونها داخل العبادة أو خارجها يصنفونها، فما يكون حتمًا غير داخل في العبادة يكون شرطًا، وما كان داخلاً في كُنهها إما أن يكون فرضًا ركنًا أو يكون واجبًا، أو يكون مأمورًا به على سبيل الاستحباب؛ كل ذلك إنما يتأتى بتتبع الفقهاء ونظرهم، ثم بعد ذلك اجتهادهم.
ولذلك قد يختلفون في بعض الأركان فيعدها بعضهم ركنًا وبعضهم واجبًا، وقد يختلفون في بعض الواجبات، بعضهم يعدها واجبًا وبعضهم يعدها مستحبة، وهكذا.. لكن على كل حال هذا ما استقر عليه قول الحنابلة -رحمهم الله تعالى-.
قال: (غَسْلُ الوَجْهِ)، والغسل هو إمرار الماء على العضو بأن يسيل عليه، حقيقة الغَسل هو إمرار الماء على العضو بأن يسيل عليه، بل يديه، لكن ليس فيهما ماءُ، فأمرهما على وجههِ، فنجد رطوبةً وطوبة في الوجه، لكن لم يحصل للماء إمرارٌ وسيلان فلا يعتبر ذلك غسلاً.
إذًا الغسل ولابد أن يكون فيه إمرارُ الماء على العضو وسيلان ولو كان يسيرًا، يعني ليس المقصود أن يصب؛ لأن الإنسان أيضًا يكتفي بالوضوء بالمد، مما يدل على أن المقصود هو معنى الإسالة من حيث أصلها.
ثم قال: لقَوْلِه تعَالَى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، وغسل الوجه لا يختلف فيه.
لكن ما حد الوجه؟ قال: (والفَمُ والأَنْفُ مِنْهُ)، إذًا الوجه من حيث الأصل المعنى ما تحصل به المواجهة، ولذلك قال: وأنه من شعر الرأس المعتاد إلى من انحدر من الذقن واللحيين، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا، فيدخل في الوجه البياض الذي بين شعر الوجه وبين الأذن، ويدخل في ذلك الصماخ الذي هو العَظم الذي في منتصف العظم الذي يحاذي صماخ الأذن، فإنه يدخل في اسم الوجه –العذار-.
فلا يدخل في ذلك الصُدغ ولا النزعتان، ولا تحذيف الوجه، ما معنى ذلك؟ النزعتان يعني لو دائمًا ينزع عن الرأس الشعر الذي في جهتي هذا، فلو انتزع الشعر من هذه الجهة ومن هذه الجهة فلا يدخل حكمه في الوجه في وجوب الغسل.
وكذلك الصُدغ؛ الصدغ هو هذا الموضع الذي يحاذي رأس الأذن، وهو عظمٌ يتحرك بالكلام ونحوه، فهذا لا يدخل، لماذا يقولون لا يدخل؟ لأنهم كانوا فيما مضى يحذفون، ما معنى يحذفون؟ يحلقون الشعر الذي عند النزعتين إلى العظم -عظم العذار-؛ لأن العرب تحب الوجوه الواسعة الكبيرة، فإذا أزيل هذا الشعر فكأنه من الوجه.
فيقول الفقهاء: أن كونه يُزال أو نحو ذلك لا يعني دخوله في الوجه، فإذًا هو من أطراف الشعر المعتاد إلى ما انحدر من الذقن، ومن الأذن إلى الأذن عرضًا.
فمن كان أفرع، والأفرع هو كثيف الشعر، الذي ينبت شعره على جبهته لا يعتبر المعتاد، قالوا المعتاد، ولا الأنزع الذي كان فيه صلعُ في أول رأسه، فلا يجب غسل مقدم الرأس، فإذًا المعتبر هو بالشعر المعتاد، فهذا هو الوجه.
فيدخل في ذلك الفم والأنف عند الحنابلة، فيدخل في اسم الوجه، من أين الدخول في اسم الوجه؟ قالوا: لأنه تحصل به المواجهة ولو في بعض الأحيان.
كيف في بعض الأحيان؟
يعني إذا سكت الإنسان ما بدأ من فمه شيء، لكنه لا يسكت الإنسان عادةً، فإذا تكلم بدى فمه، وإذا تثائب أو رفع رأسه بدى ما برز من أنفه أو ما قرب من داخل أنفه، فإذًا قالوا هذا تحصل به المواجهة ولو في بعض، فدخل في اسم الوجه.
ثم جاءت النصوص بأن النبي حافظ على المضمضة والاستنشاق، وأمر بذلك، فلأجل هذا قلنا من أنها داخلةٌ في الوضوء إلى محالة، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: (فلا تَسْقُطُ المَضْمَضَةُ ولا الاستِنْشَاقُ في وُضُوءٍ ولا غُسْلٍ لا عَمْداً ولا سَهْواً)، للتأكيد على أنها هي داخلة في اسم الوجه، وتوافرت النصوص عليها، وواظب النبي على ذلك فلم يترك، وهو قال: «توضئوا كما توضأت»، كما في بعض الأحاديث بمعناه، والنبي توضأ وعلم أصحابه الوضوء.
فلأجل ذلك قالوا من أنه داخلٌ في هذا عند الحنابلة -رحمه الله تعالى- وهو من مفرداتهم خلافًا للجمهور.
 
{قال -رحمه الله-: (والثَّانِي غَسْلُ اليَدَيْنِ معَ المِرْفَقَيْنِ لقَوْلِه تعَالَى: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ﴾)}.
قال: (والثَّانِي غَسْلُ اليَدَيْنِ معَ المِرْفَقَيْنِ)، غسل اليدين أيضًا ظاهر، وبه جاءت الآية والنصوص في ذلك كثيرة، ولا يختلف في ذلك.
واليدين غسلهما من أطراف الأصابع إلى أن يَشرع في العضد، فيدخل في ذلك الأصابع والكفين، ويدخل في ذلك الذراع، ويدخل في ذلك العظم المرفق الذي هو أصل بين عضم الذراع وعظم العضد، فيدخل في ذلك.
وإلى هنا بمعنى "مع" إما على ما قالوا من أن هذا من دلالة النصوص أو مما فُهم أو مما فُسر بالسنة، أو أن "إلى" تكون بمعنى "مع" في مواضع عدوها ثلاثة، أو بأن الغاية تدخل في المغيّا إذا كانت جزءً منه.
فعلى كل حال: كل هذا لا يُختلف معه، أي ما استدللنا به على أن المرفق داخلٌ فيما يجب غسله لا محالة، وكما ذكرنا هنا يُتنبه أن كثيرًا من الناس إذا جاء ليغسل يديهِ في الوضوء، فيبدأ من مَبدأ ذراعيه، ولا يُعنى بغسل كفيه، فنقول: من فعل ذلك فإن وضوؤه لا يصح؛ لأن غسل اليدين السابق إنما هو غَسلٌ مستحب، وغسل اليدين الواجب إنما هو من أطراف الأصابع بعد غسل الوجه، فلابد أن يكون في محلهِ، وأن يكون في كامل موضعه، فمحلهُ بعد غسل الوجه وموضعهُ من أطراف الأصابع إلى أن يَشرع في عضده، فيدخل المرفق في ذلك.
 
{قال -رحمه الله-: (والثَّالِثُ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ ومِنْهُ الأُذُنَانِ لقَوْلِه تَعَالَى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾، وقَوْلِه : «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» رواهُ ابنُ مَاجَهْ)}.
قال: (مَسْحُ الرَّأْسِ)، فكما ذكرنا أن مسح الرأسِ من فروض الوضوء، وهو ركنٌ وفرضٌ لدلالة القرآن والسنة، ومواظبة النبي والإجماع على ذلك.
والمسح هو إمرار العضو المبلول على الرأس، يعني بأن يبل يديه فيمرهما على الرأس، فهذا هو الفرق بين الغسل والمسح، فالغسل فيه إسالةُ الماء على العضو، وأما المسح فهو إمرار اليدين المبلولتين على محل المسح سواءُ من خفين أو من الرأس أو من جبيرةٍ أو نحوها، فهذا هو المسح.
والمسح عند الحنابلة مُتعلقه جميع الرأس، سواءُ كان ذلك من رجلٍ أو امرأة، فلا يُكتفى ببعضه، قالوا: لأن الله -جلّ وعلا- أمر بذلك، ولا يتأتى هذا إلا بجميع الرأس، والسنة دالةٌ على هذا، فالنبي مسح على رأسهِ فبدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، فدل ذلك على متعلق جميع الرأس.
قالوا: وما جاء في الأحاديث أنه مسح بعض رأسه، فإن ذلك محصورٌ في حال خاصة بأن تكون عليه عمامة ونحو ذلك، وإلا من حيث الأصل فإنه جاء على الإطلاق، والإطلاق متعلقٌ بالجميع، والباء هنا دالةٌ على الإلصاق، فيعني لا للتبعيض، قالوا فإن هذا مما يدل على الإيهام، يعني لو كانت دالة على التبعيض.
فعلى كل حال: هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، قالوا: «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» فيجب مسحهما، وهذا قول الحنابلة -رحمهم الله تعالى- ويعني هو مما جاء فيه الحديث أن «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» وجاء ذلك أيضًا عن الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وغيرهم.
فلذلك كان الماسح لرأسهِ لا يتأتى له مسحه، أو لا يكتمل فرضه إلا بأن يمسحهما، ومسحهما سيأتي، قال في صفة الوضوء: (أن يدخل سبابتيه في داخل أذنيه ويمسح بإبهامه ظاهرهما).
 
{قال -رحمه الله-: (والرَّابِعُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ معَ الكَعْبَيْنِ لقَوْلِه تعَالَى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ﴾)}.
هذا هو الرابع وهو (غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ)، وذلك أيضًا دالٌ عليه الآية والإجماع والأحاديث المتكاثرة، وحسبك قول النبي : «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»[9]، وفي بعضها: «وبُطون ِالأقدامِ»، والكعبان هما العظمان الناتئان في جانب القدم، وتربطُ ما بين القدم والساق.
فإذًا يجب غسلهما حتى يشرع في العضد على ما ذكرنا أيضًا في بعض الأحاديث.
وغسلهما هو المتعين، فلا يصح فيهما مسح حتى ولو قيل إن القراءة في ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ [المائدة:6]، فإن على هذه القراءة لأهل العلم فيها تأويلان:
أولًا: أن أرجلكم على المسح باعتبارِ المعنى العام، باعتبار المعنى العام وهو الإصابة، لكن قالوا: إن هذا مفسر بالسنة، وأيضًا القراءة الأخرى ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ [المائدة:6] عائدٌ على ما تقدم مما يجب غسله، وهذا هو الذي عليه كلام أكثر أهل العلم.
ولذلك جاء عن عائشة: «لأن أقطع قدمي بالسكاكين أحب إليّ من مسحهما»، يعني في الرد على من قال: أن الواجب في ذلك مسحٌ.
 
{قال -رحمه الله-: (والخَامِسُ: التَّرْتِيبُ على ما ذَكَرَ اللَّهُ تعَالَى؛ لأنَّ اللَّهَ تعَالَى أَدْخَلَ المَمْسُوحَ بينَ المَغْسُولاتِ ولا نَعْلَمُ لهذَا فَائِدَةً غَيْرَ التَّرْتِيبِ، والآيَةُ سِيقَت لبَيَانِ الوَاجِبِ، والنَّبِيُّ رَتَّبَ الوُضُوءَ وقَالَ: «هَذَا وُضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إِلاَّ بِهِ» فلَو بَدَأَ بشَيْءٍ مِن الأعضاءِ قَبْلَ غَسْلِ الوَجْهِ لم يُحْسَبْ لهُ، وإِنْ تَوَضَّأَ مُنَكِّساً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ صَحَّ وُضُوءُه إِن قَرُبَ الزَّمَنُ، ولَو غَسَلَهَا جَمِيعاً دُفْعَةً وَاحِدَةً لم يُحْسَبْ له غَيْرُ الوَجْهِ وإِن انغَمَسَ نَاوِياً في ماءٍ وخَرَجَ مُرَتِّباً؛ أَجْزَأَهُ، وإلا فَلا)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (التَّرْتِيبُ) يعني أن من فروض الوضوء وأركانه الترتيب، فلابد أن يفعل الوضوء مرتبًا، والدليل على ذلك كثير:
أولًا: ما جاء في الآية فإنه أدخل الممسوح بين المغسولات، والعادة أن العرب لا تفرق بين المتماثلات إلا لمعنى، قالوا: ولا معنى في ذلك إلا إرادة الترتيب على ما جاء في سياق الآية، وقالوا: أن أدلة السنة دالةٌ على ذلك، فالنبي في كل من حكى صفة وضوؤه ذكروه على صفةٍ واحدة؛ ولأن هذا هو الأحوط والأكمل، فدل ذلك على أن هذا هو المطلوب، ولا يجوز غير ذلك خلافًا لبعض الفقهاء.
فقالوا: من أن هذا أولًا هو أتبع للنص، وأحوط للمرء، وأسلم من النقص؛ لأن الله -جلّ وعلا- قال: توضأ كما أمرك الله، ومن توضأ منكسًا أو مخالفًا أو غير مرتب فيمكن أن يكون على ما أمر الله يمكن أن يكون على غيره، فلأجل ذلك قالوا من أنه لا تبرأ الذمة إلا بفعله على هذا الوجه.
وفي قول النبي : «هَذَا وُضُوءٌ» وهي إشارة إلى ما فعله على هذا الترتيب المعتاد: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ إِلاَّ بِهِ»، فدل ذلك إذًا على اعتبار الوجوه.
ثم قال: (وإِنْ تَوَضَّأَ مُنَكِّساً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ)، ما معنى هذه العبارة؟ يعني: لو أنَّ رجلا توضأ أول مرة بدأ برجله، ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه للمرفقين ثم غسل وجهه، ثم الثانية غسل رجليه ثم مسح رأسه، ثم غسل يديه إلى المرفقين، ثم غسل وجهه وتمضمض واستنشق، ثم الثالثة كذلك، ثم الرابعة.
يقولون في المرة الأولى ما حسبنا له إلا غسل الوجه، في المرة الثانية حسبنا له غسل اليدين، في المرة الثالثة حسبنا له مسح الرأس، وفي الرابعة غسل الرجلين.
على كل حال: ما معنى كلام الفقهاء هذا؟ هل هو إذنٌ بأن يفعل الواحد هذا الفعل؟ لا، ولا شك أنهم لا يقصدون ذلك، ومن تقصد ذلك فإنه لا شك أنه تقصد التعنت والتكلف وهذا أمر في غاية الظلم والعدوان، لكن الفقهاء حينما ذكروه إنما أرادوا بذلك بيان الحد في الترتيب.
يعني ليس بالضرورة أن شخصًا يفعل ذلك على هذا النحو، لكن لما ذكروا لك هذه الصورة لو جاء واحد وبدأ وضوؤه غير مرتب، ثم سألك بعد ما انتهى، قل الآن نوى وبدأ غير مرتب؟ تقول لها الآن كمل، الآن يعتبر لك غسل الوجه، فكمل غسل يديك، فإنما يتأتى لك العلم بذلك، بالعلم بهذه الصورة.
فما يذكر الفقهاء من بعض صور فيها غرابة، يظن بعض الناس أنها تكلفٌ منهم وتعمق، إنما هذا عدم فهمٍ لمرادهم، وآفته من الفهم سقيم، فهم مرادهم بيان الحد في ذلك الذي يعرف به الفقيه المسائل، ويحكم على الحوادث، وإلا كما قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "حسبك أنهم قالوا: إن هذا الوضوء منكسٌ"، ولا يمكن أن يكون لمنكسٍ قصدَ فعل ذلك إلا أن يكون عليه تبعةٌ ومغبةُ عظيمةُ في الدنيا والآخرة.
من قصد مخالفة الشرع لم يوفق، ومن قصد مخالفة الشرع لم يقبل منه ذلك، وكانت عليه تبعةٌ ووبالٌ في الدنيا والآخرة، فلذلك ذكروا صورًا يريد بها أن يتحقق المتعلم والطالب ما يتأتى به الترتيب وما لا يتأتى.
ثم قال: (ولَو غَسَلَهَا جَمِيعاً دُفْعَةً وَاحِدَةً لم يُحْسَبْ له غَيْرُ الوَجْهِ)، مثل ما قلنا هذه صورة ثانية، يعني جاء واحد مثل لينغمس فيه الماء بنية الوضوء ثم خرج، قال: أنا توضأت، قلنا: لا، أنت نويت الوضوء، والآن يعتبر لك غسل الوجه صحيح كمل.
قال: (وإِن انغَمَسَ نَاوِياً في ماءٍ) ثم (خَرَجَ مُرَتِّباً)؛ يعني هو أول ما خرج بوجهه، فقصد بذلك أنه أنهى غسل وجهه، ثم رفع يديه فقصد بذلك أنه انتهى من غسل يديه، ثم رأسه، ولابد أن يقولون أنه أن يُمر يديه على رأسه؛ لأنها عندنا مسألة -وهذه المفروض أننا نبهنا عليه قبل قليل- لو أن شخصًا استعاض عن المسح بالغسل فهل يحصل له ذلك؟ يقولون أنه لا يتأتى له ذلك إلا بأن يمر يديه مع الغسلِ على رأسه، وإلا لم يكن ذلك صحيحًا؛ لأن المأمور به المسح ولم يؤمر بالغسل.
وهذا فيه بيان؛ لأن المكلف يجب أن يؤدي ما أمر به غير متكلفٍ في ذلك ولا منقص، فلا يتكلف ويزيد الشيء ما لم يأمره الله به، ولا ينقص عما أمره الله وأوجب.
وذكرنا مسألة: وهو أنه متعلق المسح والرأس وليس الشعر، إيش معنى ذلك؟ لو أن امرأة لها شعرٌ طويل لا يلزمها أن تمسح ما نزل من شعرها، إنما تمسح رأسها، ولذلك يقولون، يعني لو أنها أيضًا امرأة لها شعرُ طويل ثم ربطته فكأنه هو الذي جاء على أعلى رأسها، فلابد أن تمسح الرأس بإزالة ذلك؛ حتى يكون للشعر الذي على الرأس لا أن يكون على هذا الشعر الذي عقصته أو كان عقيصةً لها أو مربوطًا فيه، فيتنبه لذلك.
 
{قال -رحمه الله-: (والسَّادِسُ: المُوَالاةُ لأنَّهُ : «رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرُ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا المَاءُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الوُضُوءَ» رواهُ أَحْمَدُ وغَيْرُه، وهي؛ أي: المُوَالاةُ أنْ لا يُؤَخِّرَ غَسْلَ عُضْوٍ حتَّى يَنْشَفَ الذي قَبْلَهُ بزَمَنٍ مُعْتَدِلٍ أو قَدْرِه مِن غَيْرِه، ولا يَضُرُّ إِنْ جَفَّ لاشتِغَالِه بسُنَّةٍ كتَخْلِيلٍ وإِسْبَاغٍ وإزَالَةِ وَسْوَسَةٍ أو وَسَخٍ، ويَضُرُّ لاشتغالٍ بتَحْصِيلِ مَاءٍ أو إِسْرَافٍ أو نَجَاسَةٍ أو وَسَخٍ لغَيْرِ طَهَارَةٍ)}.
الموالاة هذا هو الشرط السادس عند الحنابلة -رحمه الله تعالى- والموالاة بمعنى التوالي وهو التتابع أو عدم حصول الفاصل، هذا من جهة المعنى، وحقيقته في الوضوء أن لا يُؤخر غسل عضو حتى يَنشف الذي قبله في الزمن المعتاد.
فبعضهم يقول: ألا يؤثر غسل عضوٍ عن الذي بعده عادةً، يعني فيما أُعتيد عليه فيما جرت به العادة، لكن الذي اعتمد في المذهب هو بقدر النشافِ من عدمه في الأزمنة المعتادة، والأصل في الموالاة:
أولًا أن هذه عبادةٌ واحدة لها أولٌ وآخر، فلابد أن يؤتى بآخرها مع أولها كالصلاة وكالصيام ونحوه.. فلا يتصور أن شخصًا يصوم أول النهار، ثم يأتي بآخر النهار بعد يومين، فإذًا كما أن العبادة لها أولٌ وآخر قالوا فكذلك الوضوء عبادةٌ واحدة لها أولٌ وآخر، فلم يجز فيها التفريق والفصل.
ثم قالوا: أن وضوء النبي على هذا النحو، كان لم يُعهد عنه أنه فَصل في وضوئه أو غسل بعض أعضائه ثم جلس إلى أهله ثم أتمها، وأيضًا استدل بحديث خالد بن معدان أن النبي «رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرُ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا المَاءُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الوُضُوءَ».
يقولون: لو كانت الموالاة غير واجبة لأمره أن يغسل رجليه؛ لأنها آخر الأعضاء، أليس كذلك؟ لكن لما أمره بإعادة الوضوء دلَّ على أن الأعضاء بعضها مرتبطٌ ببعض، فلما أخر غسل رجلهِ التي لم يكتمل وفات وقته احتاج إلى أن يُعيد الوضوء من أوله، مما يدل على أن الموالاة معتبرةٌ ولازمة، وهذا خلاف لقول بعض الفقهاء كالشافعي -رحمه الله تعالى- في عدم اعتبار الموالاة.
ثم قال: (ولا يَضُرُّ إِنْ جَفَّ لاشتِغَالِه بسُنَّةٍ)، يعني لو أن إنسان اشتغل بتخليل أصابعه، وكانت أصابعه فيها، يعني خِلقةٌ معيبة واحتاج في ذلك إلى أن يتكلف حتى يصل الماء ما بين أصابعهِ أو فيه ضعفٌ، أهو في بدنه لعلة أو مرض أو عاهةٍ أو سواها ويحتاج إلى وقتٍ طويل.
فلما كان في غسله مثلاً إحدى يديه أخذ وقتًا طويلًا، لكون يده الأخرى معيبة أو قصيرة أو نحو ذلك.. فربما احتاج إلى وقتٍ طويل، فهل نقول: أنه في مثل هذه الحال إذا طال الوقت فجف وجههُ يحتاج إلى أن يعيد؟ لا، فيقولون: (ولا يَضُرُّ إِنْ جَفَّ لاشتِغَالِه بسُنَّةٍ كتَخْلِيلٍ وإِسْبَاغٍ) مثل ما ذكرنا.
(وإزَالَةِ وَسْوَسَةٍ)، يعني لو كان يأتيه الوسوسة، فلما غَسل وجهه وجاءه الشيطان وهو يعتاد ذلك، أن الشيطان أراد أن يقول له: أنت ما استنشقت ارجع فأعد الاستنشاق، فلا يزال في مجاهدة.
فالفقهاء -رحمه الله تعالى- هو بين أمرين: بين أن يعيد الاستنشاق ويكمل ولا ينقطع وضوؤه، لكن هذا لما كان يُضره في دينه ويزيد أن يتسلط عليه الشيطان فتفسد عليه وسوسته وضوؤه وصلاته بعد ذلك، وربما أفسد الدين قالوا لا حتى ولو بقي يجاهد نفسه وقتًا طويلًا ليتأكد، يقول: لا يمكن أن أرجع.
فأحيانًا يحتاج بعض الموسوسة يقال موسِوس ويقال موسَوس فيُنسب الوسوسة إليه؛ لأنها تحصل فيه، وتُنسب إلى أنها تُفعل به لأجل أنها فعل الشيطان وتلاعب الشيطان به فتصح هكذا وهكذا..
فإذًا بدأ يجاهد نفسه يقول أنا توضأت، أنا استنشقت، أحيانًا لا يستطيع أن ينتقل إلى عضوٍ آخر حتى يجد طمأنينةً في قلبه بذلك، فيحتاج إلى وقت، فيقول الفقهاء: لو طال هذا الوقت بما جفّ معه العضو الذي قبله لم تذهب عليه الموالاة؛ لأنه كأنه في أعضاء الوضوء وفي الانتقال من واحدٍ إلى آخر.
(أو وَسَخٍ)، لو كان فيه وسخ ويحتاج مثلًا صبغ ولصق بيده، ولا يزول إلا بمعاودة غسلٍ وزيادة عنايةٍ ونحو ذلك، وربما احتاج إلى تقشير، أو إتيان بشيء أو نحو ذلك.
قال: (ويَضُرُّ لاشتغالٍ بتَحْصِيلِ مَاءٍ)؛ لأن تحصيل الماء وإن كان لمصلحة الوضوء لكن ليس منه، فلأجل ذلك قالوا: من أنه يَضره، فلو حصل شيءٌ من هذا، فإنه يكون كما لو لم يوالي بين أعضاء وضوؤه فلم يصح ذلك، ووجب عليه الابتداء واستئناف الوضوء من أوله.
قال: (بتَحْصِيلِ مَاءٍ أو إِسْرَافٍ)، كذلك لو كان شخصًا ممن يسرف فيزيد في الغسلات على ثلاث، جلس يزيد في غسل يديه خمس وست وسبع، مما حصل في وجهه نشاف، فهذا إنما حصل بسببٍ صحيح أو غير صحيح؟ بسببٍ غير صحيح، فيقولون بناءً على ذلك يفسد الموالاة، فيؤمر بإعادة الوضوء من أوله.
(أو نَجَاسَةٍ أو وَسَخٍ لغَيْرِ طَهَارَةٍ)؛ لو وجدت فيه نجاسة، لما جاء يغسل يده نظر فإذا ثوبه فيه نجاسة تذكرها، فبدل أن يغسل يديه ويكمل وضوؤه ثم يرجع إلى النجاسة فيغسلها، فبدأ يغسل هذه النجاسة، فلم يزل لونها وجلس في ذلك وقتٌ طويل، فيقولون: هذا وإن كان إزالةٌ للنجاسة لكن ليست من الوضوء.
أما لو كانت النجاسة على يدهِ كعذرةٍ متحجرةٍ على يدهِ أو نحو ذلك، فهذه داخلة في الوسخ، فإذا كان الوسخ الأول الذي على يديهِ أو على رجليهِ لا يمنع الموالاة فمن باب أولى النجاسة التي على العضو.
فإذًا كلامهم هنا النجاسة التي لا مدخل لها في الوضوء، لا تعلق لها فيه، كما لو كانت على ثوبهِ أو كانت في موضع صلاته فوقف ليغسلها وترك وضوؤه، نقول: لو عاد إلى الوضوء بعد أن نشفت أعضاؤه فإنه يعيد الوضوء من أوله.
(أو وَسَخٍ لغَيْرِ طَهَارَةٍ)، مثل ما قلنا، لو كان وسخ على ثوبه أو كان وسخ مثلاً وجده في عضده، أو وسخ وجده في شعره الذي طال عن رأسه، لما جاء يمسح رأسه وجد في طرف شعره قذر، فذهب وغسله ونحو ذلك، واحتاج إلى وقتٌ طويل، نقول: هذا اشتغالٌ بما لا يلزم، فبناءً على ذلك يفسد الموالاة ويقطعها، فكما لو فصل بين أعضاء وضوؤه، فإذا نشف العضو الذي قبله لزمه أن يعود فيستأنف الوضوء من أوله.
 
{قال -رحمه الله-: (سَبَبُ وُجُوبِ الوُضُوءِ الحَدَثُ، ويُحِلُّ جَمِيعَ البَدَنِ كجَنَابَةٍ)}.
(سَبَبُ وُجُوبِ الوُضُوءِ الحَدَثُ)، الوضوء هل هو واجب لكل صلاة؟ إذا أحدث، فإذًا سبب الوضوء هو وجود الحدث، والشارع أوجبه بعد ذلك، لكن يجب عند إرادة الصلاة أو دخول الوقت أو الخلاف هذا يعني قريب على كل حال.
لكن المقصود: أنه إنما يتحتم على المسلم الوضوء إذا أحدث؛ لأنَّ النبي قال: «لا يقبلُ اللَّهُ صلاةَ أحدِكُم إذا أحدَثَ حتَّى يتَوضَّأ»[10]، فمعنى ذلك إذا كان على وضوءٍ سابق أو طهارةٍ متقدمة جاز له أن يصلي، وأن يستقبل ما تعتبر له الطهارة من طواف، أو قراءة، أو سوى ذلك؛ ولا يلزمه الوضوء.
فإذًا متى يلزمه الوضوء؟
إذا وجد سببه وهو الحدث، وجد سببه الذي يقتضيه، لا أنه هو الموجب له؛ لأن الشارع هو الذي أوجبه؛ لأن الله -جلّ وعلا- هو الذي أمر به؛ لأن النبي هو الذي سنه وبينه.
{قال -رحمه الله-: (ويُحِلُّ جَمِيعَ البَدَنِ كجَنَابَةٍ)}.
قال: (ويُحِلُّ جَمِيعَ البَدَنِ كجَنَابَةٍ)، ما معنى هذا الكلام؟ هذا الكلام يتبين بصورة، يعني لو أن شخصًا شرع في الوضوء ثم لما غسل يداه ما أتم الوضوء، ثم قام ومسك المصحف، قلنا أنت الآن ما توضأت، قال: أنا الآن خلصت من غَسل الوضوء من غسل اليد، فيقول الفقهاء ما دام أن الحدث يحلُّ بالبدن، فإنه لا يرتفع عن البدن إلا بكمال الطهارة.
فبناءً على ذلك: من غَسل يده في الوضوء لم يجز له أن يحمل المصحف حتى يتم طهارته؛ لأنه بتمام الطهارة يزول الحدث عن جميع بدنه، ولا يتعلق به حكم الحدثِ، أو هذا الوصف الذي يمنعه من فِعل حمل المصحف وما تعتبر له الطهارة.
 
{قال -رحمه الله-: (والنِّيَّةُ لُغَةً: القَصْدُ. ومَحِلُّها القَلْبُ، فلا يَضُرُّ سَبْقُ لِسَانِه بغَيْرِ قَصْدِه، ويجعلها للَّهِ تَعَالَى، شَرْطٌ هو لُغَةً: العَلامَةُ، واصطِلاحاً: ما يَلْزَمُ مِن عَدَمِهِ العَدَمُ، ولا يَلْزَمُ مِن وُجُودِه وُجُودٌ ولا عَدَمٌ لِذَاتِه لطَهَارَةِ الأحداثِ كُلِّهَا لحَدِيثِ: «إِنَّمَا الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ» فلا يَصِحُّ وُضُوءٌ وغُسْلٌ وتَيَمُّمٌ ولو مُسْتَحَبَّاتٍ إلا بها)}.
قال: (والنِّيَّةُ لُغَةً: القَصْدُ)، إذًا النية شرطُ كما ذكر الماتن، فكونها شرطًا من شروط الوضوء هذا ظاهر؛ لأن كل عبادةٍ تعتبر لها النية، فإن النبي قال: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ»، وحقيقة النية في اللغة القصد، وفي الاصطلاح قالوا هو قصد الشيء مقترنًا بفعله؛ لأن النية من حيث الأصل لابد أن تكون مقترنة بالفعل.
ولذلك يقولون: ولا يضر تقدمٌ يسير إلا في شيء واحد وهو الصيام، فلو نوى شخصٌ من أول الليل ثم نام فلم يقم إلا بعد طلوع الفجر لصحَّ صيامهُ لوجود النية ولو متقدمةً على ابتداء العبادة، فبناءً على ذلك: هذا هو معنى النية في الاصطلاح، هو قصد الشيء مقترنًا بفعله.
قالوا: (ومَحِلُّها القَلْبُ)، هذا هو الأصل، أن محلها القلب، لكن هل يلفظ بها أو لا يلفظ بها؟ لعل ذلك كان يأتينا في آخر ما ذكر المؤلف ويستحب نطقها سرًا، لكن من حيث الأصل أن محلها القلب فهو ما ينعقد عليه قلبهُ، ويجتمع عليه عزيمته وما استقر في صدره.
ثم قال: (فلا يَضُرُّ سَبْقُ لِسَانِه بغَيْرِ قَصْدِه)، يعني لو تعارض ما لفظ به مع من عقد في قلبه فالعبرة بمن عقد في قلبه وسيأتي مزيد توضيح لذلك.
ثم قال: (ويجعلها للَّهِ)، هذا على سبيل الاستطراد من المؤلف -رحمه الله تعالى-؛ لأن ذكرنا لكم فيما مَضى في شرح الأسئلة والأجوبة للشيخ حافظ "أن النية لها متعلقات إما القصد والإخلاص فهذا مما يبحثه أهل التوحيد والاعتقاد".
فإذًا قوله: (ويجعلها للَّهِ) هذا محل في باب الاعتقاد، لكن مع ذلك؛ لأن العلم واحد ودأب أهل العلم أن يذكروا الشيء لحاجةٍ إليه ملحًا، فإنه أراد أن ينبه على ذلك، فلابد أن ينويها لله، لكن من جهة النية المقصودة عند الفقهاء: قد ذكرنا لكم أن المراد بها هي ما يحصل به من قصد أو تمييز العبادة عن العادة، والعبادات بعضها عن بعض.
فإذا توضأ شخصُ، فلا فرق بين من أراد غسل أطرافه الظاهرة لقصد التنظف، ولا بين من أرادها للصلاة إلا بالنية، فإذًا هذا تميزٌ بين العادة والعبادة، ومن أعطى شخصًا مالًا يريد أن يستميل قلبهُ لفعل شيءٍ له، أو يريد أن يطلب بها رضا الله والصدقة عليها، لا فرق بينهما إلا بالنية، فإذًا تمييزٌ بين العادات وبين العبادات.
وبين العبادات بعضها عن بعض، إذا أعطى شخصًا على سبيل الصدقة أو الهدية، وإن كانت الهدية يقولون لمن هو أعلى، والصدقة لمن هو أدنى، لكن قد في بعض الأحوال يُهدي الإنسان لمن هو أقل، فبما يترتب ذلك؟ بالنية.
وإذا بذل الإنسان مالًا صدقةً مستحبة أو صدقةً واجبة، بما يتميز ذلك؟ بالنية، وإيش نحتاج أنها تكون صدقة واجبة أو مستحبة؟ المستحبة تستحق تُفعل لكل أحد، أليس كذلك! لكن الواجبة لا تصح إلا للثمانية، فإذا قصدها زكاةً واجبة وهو من غير الثمنية لم تصح ولم تقع موقعها.
والتمييز بين صلاة الفجر وسنة الفجر، والتمييز بين قضاء صلاة الفجر أو فعل الضحى إنما يكون بالنية، فإذًا هي تمييز بين العبادات بعضها من بعض.
ثم ذكر ما الفرق بين الشرط والركن أو الفرض؟
الفرق بينهما: أن الركن أو الفرض من ماهية العبادة -جزء من العبادة- وأما الشرط فهو خارجٌ عن حقيقتها أو كُنهها.
النية معتبرة للوضوء، لكن هل هي جزء منه؟ لكن غَسل الوجه ركن في الوضوء، لكن هو جزء منه، أن الشرط لابد أن يوجد من ابتداء العبادة إلى انتهائها، أما الركن فلا، يوجد في بعض العبادة، السجود هل هو في كل الصلاة؟ لا، وهو ركن، النية في الصلاة تعتبر من أول العبادة إلى نهايتها، ستر العورة من أول الصلاة إلى نهايتها، وهكذا... استقبال القبلة ونحو ذلك، فالشروط هي من خارج العبادة لا من داخلها بخلاف الفرض أو الركن.
ثم بيّن قال: (ما يَلْزَمُ مِن عَدَمِهِ العَدَمُ، ولا يَلْزَمُ مِن وُجُودِه وُجُودٌ ولا عَدَمٌ لِذَاتِه)، هذه عرفتموه كثيرًا وله أمثلةُ متعددة، فإذا عُدمت النية عُدم الوضوء، وإذا وجدت النية فإن وجد فعل استعمال الماء على الصفة المخصوصة تَم الوضوء، ولا يلزم من وجودها يعني النية وجود الوضوء، فقد يفعله وقد لا يفعله.
واحد نوى أن يتوضأ ثم وقف، أو جاءه جوال فانشغل به وترك الوضوء، فلا يلزم من وجود النية وجود الوضوء، لكن إذا عُدمت النية لا يوجد وضوء حتى ولو فعل الفروض كلها، وأجرى الماء على ما يعتبر في الوضوء كله.
ثم قال: (شرطٌ لطَهَارَةِ الأحداثِ كُلِّهَا)، طهارة الأحداث سواء كانت غسلًا أو وضوءً أو تيممًا، فهنا أراد أن يُنبه على حُكم لما نحن بصدده وهو الوضوء وما يأتي بعده من الغسل والتيمم، (لحَدِيثِ: «إِنَّمَا الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ»).
(فلا يَصِحُّ وُضُوءٌ وغُسْلٌ وتَيَمُّمٌ ولو مُسْتَحَبَّاتٍ إلا بها) يعني واحد أراد أن يتوضأ لأن يذكر الله جلّ وعلا، فيذكر الله لا يلزم منه الوضوء لكنه مستحب، فلو أراد أن يتوضأ لأجل ذلك، نقول: لا يصح وضوؤك إلا بنية، وهكذا فلو أراد أن يغتسل للجمعة أو يغتسل من الجنابة، فهذا غسلٌ مستحبٌ وهذا غسلٌ واجب، وكلاهما لابد له من نية.
وكذلك لو أراد أن يتيمم لطواف، أو أراد أن يتيمم لفعل صلاة كانت الصلاة نافلةً أو كانت فرضًا، فكل ذلك لا يكون إلا بنية.
 
{قال -رحمه الله-: (فَيَنْوِي رَفْعَ الحَدَثِ أو يَقْصِدُ الطَّهَارَةِ لِمَا لا يُبَاحُ إِلاَّ بِهَا؛ أي: بالطَّهَارَةِ كالصَّلاةِ والطَّوَافِ ومَسِّ المُصْحَفِ؛ لأنَّ ذلك يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ الحَدَثِ، فإِنْ نَوَى طَهَارَةً أو وُضُوءاً أو أَطْلَقَ أو غَسَلَ أَعْضَاءَهُ ليُزِيلَ عنها النَّجَاسَةَ)}.
قال: (فَيَنْوِي رَفْعَ الحَدَثِ)، إذًا لما بيّن أن النية شرط، كيف يحقق المتوضأ النية؟
قال: (فَيَنْوِي رَفْعَ الحَدَثِ)، وهذا يحصل كثيرًا لطلبة العلم ينوون رفع الحدث، أو ما لا تصح الطهارة إلا به، وهذا عوام الناس الغالب إذا أراد أن يتوضأ لا يقصد رفع الحدث، لكن لأجل أنه سيصلي، يعني ما لا تباح الصلاة إلا به، أو لأجل أن يطوف، أو لأجل أن يقرأ القرآن، أو لأجل أن يمس المصحف.
فبناءً على ذلك أيًا كان يتأتى بهم المقصود ويحصل بهما الشرط، فإذا نوى رفع الحدث أو نوى الطهارة لما لا تباح إلا به، فيصح ذلك ويحصل منه المقصود، سواءُ كان ذلك في الطهارة الواجبة أو كانت المستحبة.
ولذلك قال: (كالصَّلاةِ والطَّوَافِ ومَسِّ المُصْحَفِ)، ثم سيأتي ما يتعلق بمسألةٍ متفرعةٍ عن هذا لاحقًا.
ثم قال: (فإِنْ نَوَى طَهَارَةً أو وُضُوءاً أو أَطْلَقَ أو غَسَلَ أَعْضَاءَهُ ليُزِيلَ عنها النَّجَاسَةَ أو ليُعَلِّمَ غَيْرَه أو للتَّبَرُّدِ لم يُجْزِه)، هذا صحيحٌ.
ما معنى هذا الكلام؟
يعني هو لما فرض حالين يحصل بهما تحقيق النية، أراد بيان ما يقابل ذلك، فالذي يقابل ذلك أنه نوى طهارة، غَسل الأعضاء زين ونشط الإنسان في بداية يومه، هذا نوى طهارة للصلاة ولا لا؟ هذا نوى رفع الحدث ولا لا؟ لا يرتفع إذًا حدثه ولا تصح منه الصلاة؛ لأنه لم ينوي لا رفع الحدث، ولم ينوي ما تباح الطهارة إلا به، فبناءً على ذلك حتى ولو نوى هذه الطهارة، نوى أن يغسل أعضاءه، نوى أن يتبرد، نوى أن يتقوى، نوى أن يتنشط؛ كل ذلك لا يجدي عليه شيئًا.
فإذًا إذا نوى طهارة وأطلق؛ لأن الطهارة تكون منها ما هو لأجل العبادة، وما هو لأجل التنظف والتنشط، ونحو ذلك.. أو غسل أعضاءه ليزيل عنها النجاسة، فيها نجاسة فشرع وغسلها كما يغسل المتوضأ وضوء أعضاءه، فنقول: حتى ولو؛ لأن هذا غسلٌ لإزالة النجاسة، وهذا ليس تحقيق لا نية له بالوضوء، فبناءً على ذلك لم يحقق شرط الوضوء فلم يصح وضوؤه.
(أو ليُعَلِّمَ غَيْرَه)، أراد أن يتوضأ ليعلم غيره، لكنه لم يقصد في نفسه أن يتوضأ، فإذًا المعلم غيره له حالان:
·     إما أن ينوي الأمران، ينوي الأمرين: ينوي أن يتوضأ وأن يُعلم غيره، فهذا يرتفع حدثه، وتصح صلاته.
·     لكن إذا نوى مجرد التعليم ولم ينوي رفع الحدث فلا، فلو أراد أن يصلي بذلك أو يطوف، نقول: لا يصح لك.
والتبرد من باب أولى أن ذلك لا يجزئه، وهذا ظاهرٌ.
 
{قال -رحمه الله-: (وإن نَوَى صَلاةً مُعَيَّنَةً لا غَيْرَها ارتَفَعَ مُطْلَقاً)}.
يعني لو أنه نوى صلاة الضحى وفقط، قال: أنا أتوضأ أصلي بهذا الضحى، طيب أصلي بهذا، قال: لا، أتوضأ إن شاء الله، ثم لما جاء الظهر كَسل عن الوضوء، فنقول صح وضوؤك الأول، أن تصلي به الضحى، وأن تصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ما دمت لم تُحدث، وصح أن تصلي به وأن تطوف أو تمس المصحف، أو تقرأ القرآن، أو نحو ذلك.. مما يستحب أو تَجب له الطهارة.
 
{قال -رحمه الله-: (ويَنْوِي مَن حَدَثُه دَائِمٌ استِبَاحَةَ الصَّلاةِ ويَرْتَفِعُ حَدَثُه ولا يَحْتَاجُ إلى تَعْيِينِ النِّيَّةِ للفَرْضِ فلو نَوَى رَفْعَ الحَدَثِ لم يَرْتَفِعْ في الأَقْيَسِ، قالَهُ في: "المُبْدِعِ")}.
قال: (ويَنْوِي مَن حَدَثُه دَائِمٌ استِبَاحَةَ الصَّلاةِ)، يعني لما المؤلف توضح وهذه مسألة دقيقة؛ لأن فيها إشكال، هو لما بيَّن المؤلف -رحمه الله تعالى- أن النية شرطٌ للوضوء، وكيفية تحصيل هذه النية بنية رفع الحدث أو ما لا تصح الطهارة إلا به، انتهينا من هذا.
لو جاء لمن حدثه دائم، حدثه دائم هو يتوضأ وريحه تخرج، فماذا ينوي؟ يقولون: لا يمكن أن ينوي رفع الحدث؛ لأن حدثه باقٍ، فينوي رفع الحدث يصير فيه نوع تناقض، فينوي ما هو حاصلٌ في وقت وضوؤه، فبناءً على ذلك: ما الذي يتأتى له به فعل الشرط؟ قالوا: هو أن ينوي استباحة الصلاة.
إذا حصل ذلك: هل يكون حالهُ حال المتوضأ أو حال المتيمم؟ المتيمم يقولون هن نجس لكن صح لها الصلاة، يقولون: لا، يرتفع حدثاً يعني حاله حال المتطهر.
ما الفرق بينهما؟
قالوا: أنه فعل الطهارة الأصلية، فنعتبر أن هذا الحدثَ لأجل الضرورة والاضطرار كالعدم، كأنه لم يحصل، وهذا يعني محتملٌ وفيه إشكال، ولذلك يترتب على كونه متطهر أو ليس في حُكم المتيمم، قالوا: لا يحتاج إلى تعيين نية الفرض؛ لأن لو كان ينوي استباحة ولا يحصل لها ارتفاع حدث سيكون مثل المتيمم الذي لابد أن يُعين: ما الذي تيمم له؟ هل هو تيمم لقراءة المصحف، مس المصحف، أو هو تيمم لقراءة القرآن، أو تيمم لصلاة نفل، أو تيمم لطواف، أو تيمم لصلاة فريضة، فمن تيمم لأجل نفل لم يصح أن يصلي بها فرضًا، ومن تيمم لأجل طوافٍ لم يصح أن يصلي به، وهكذا..
فهم يقولون: أن هذا الذي حدثه دائم وإن كان يشترك مع المتيمم في أنه ينوي استباحة، لكنه أيضًا يشترك مع المتوضأ الذي ليس حدثه دائم في أن حدثه مرتفعٌ، فبناءً على ذلك هو كأنه بين المتيمم من جهة أنه ينوي مثل ما ينوي المتيمم استباحة الصلاة، وهو مثل المتوضأ في أن أحكامه أحكام المتوضأ فيكون حدثه مرتفعًا، ولا يحتاج إلى أن ينوي ما تحتاج له الطهارة، فلا يعين لا فرض ولا نفل، وإذا توضأ صلى وقته ذلك من فروضٍ ونوافل.
 
{قال -رحمه الله-: (ويُسْتَحَبُّ نُطْقُهُ بالنِّيَّةِ سِرًّا)}.
هنا قال: (فلو نَوَى رَفْعَ الحَدَثِ لم يَرْتَفِعْ في الأَقْيَسِ، قالَهُ في: "المُبْدِعِ")، يعني هذا راجع إلى قوله: (ومَن حَدَثُه دَائِمٌ استِبَاحَةَ الصَّلاةِ)، كأنه يقول انتبه لابد أن تنوي أيها الذي أصابه حدثٌ دائم لا يصح لك إلا أن تنوي الاستباحة، فلو نويت رفع الحدث ترى ما يصح لك الحدث على القياس، وهو يشير أيضًا إلى وجود شيءٍ من الخلاف، لكن هذا هو المقصود وهذا هو المراد.
ثم قال المؤلف: (ويُسْتَحَبُّ نُطْقُهُ بالنِّيَّةِ سِرًّا)، النية مثل ما ذَكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أن محلها القلب، ويتأتى الشرط بذلك، لكن هل ينطق بها؟ هل يجهر بها؟ ما الحكم في ذلك؟ ما الحكم إذا توافقت النية مع النطق أو اختلفت؟
فالمؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: أن النية تتأتى بالقصد وما انعَقد في النفس، ثم إن صاحب ذلك نطق سر، بأن يقول: نويت أن أتوضأ فأرفع حدثي، أو نويت أن أتطهر لما يعتبر له الطهور من صلاةٍ أو نحوها.
فهنا يقولون: أن ما يلفظ به يقوي ما ينعقد عليه قلبه، فما كان استدعاءً لتحصيل الشرط كان مطلوبًا تبعًا لذلك، فهذا وجه قولهم بأنه يستحب النطق بها سرًا، ولذلك قالوا: لو جهر بها لكان منهيًا عنه؛ لأنهم لم يُعهد أن أحدًا جاهر بالنية، إلا في الإهلال بالحج أو العمرة، وهذا هل يسمونه نطق بالنية أو إهلال؟ لهم فيه كلام سيأتي إن شاء الله.
إذا قيل هذا فطبعًا جاء من الحنابلة، وعلى هذا جرى صاحب الإقناع على ما ذَكر نقله عن ابن تيمية وابن القيم وغيره نقله أيضًا شارح ابن القيم، أنه لا يستحب النطق بها، وأن استحباب النطق بها إنما هو جرى عليه المتأخرون، يعني من باب زيادة التحقيق أو التأكيد على تحقيق النية.
ويتفرع على ذلك: أنه يقولون لو اختلفت فالعبرة بالقلب، فإذًا النطق كان يعني مكملًا وليس مقصودًا، أيًا كان فعندنا مسألتان؛ لأن هذا يكثر فيها..
أولًا: من قال بالنطق فهذا وجهه، يعني يرى أن النية شرط، وأن النطق هو سبيلٌ إلى تحقيق هذا الشرط وتأكيدهِ، فهو داخلٌ فيما يتأتى به المطلوب لتحقيق ذلك الشرط، فلا يأتي آت ويشنع في ذلك.
ومن قال: بعدم هذا، فهذا وجهه وجيه من جهتين:
أولًا: أنَّ النية في الأصل محلها القلب، ولم ينقل شيءٌ من ذلك، وأن الواقع يَسند هذا، لماذا؟ لأن الواقع في الذين ألفوا النطق بالنية أنهم يغلطون كثيرًا، فإذا جاء يتوضأ، فيقول: نويت أن نصلي ينسى؛ لأنه يجري على لسانه مثلًا الصلاة أكثر، أو هذا هو الذي جاء لأجله، مع أنه ناوي يتوضأ حقيقةً، فيقولون: لما كان النطق من حيث الواقع أكثرهُ يحصل فيه اللغط، ويكون به التشويش أكثر مما يكون به التأكيد، فلذلك جرى بعضهم كما جرى عليه صاحب الإقناع، يعني تتابع عليه بعض أهل العلم، وأكدوا على أن النُطق لا يُحتاج إليه، فيكون ليس مطلوبًا.
نكتفي به هذا القدر، وأسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (887)، ومسلم (252),
[2] رواه أحمد والنسائي.
[3] رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد
[4] أخرجه البخاري (136) بنحوه، ومسلم (246).
[5] أخرجه أبو داود (145)، والبيهقي (250).
[6] أخرجه أبو داود (4141)، وأحمد (8637).
[7] أخرجه مسلم (246).
[8] أخرجه النسائي (140) واللفظ له، وابن ماجه (422)، وأحمد (6684).
[9] رواه مسلم (رقم/241).
[10] رواه البخاري (135).

دروس ذات صلة