مكتبـــــة الدروس

2024-03-19 21:01:37

باب فروض الوضوء وصفته (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (تَتِمَّةٌ: يُشْتَرَطُ لوُضُوءٍ وغُسْلٍ أَيْضاً: إِسْلامٌ، وعَقْلٌ، وتَمْيِيزٌ، وطُهُورِيَّةُ مَاءٍ، وإِبَاحَتُه، وإِزَالَةُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَهُ، وانقِطَاعُ مُوجِبٍ، ولوُضُوءٍ: فَرَاغُ استِنْجَاءٍ أو استِجْمَارٍ، ودُخُولُ وَقْتٍ على مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ لفَرْضِه)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدْ وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم النافع، الذين تعلموا فانتفعوا، وعملوا فاستنوا بسنة نبيهم ، وما زاغوا وما انحرفوا، وأن يعصمنا من الفتن، وأن يحفظنا من البلايا، وأن يبلغنا التمام والكمال، في الأقوال والأعمال والنيات، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولًا في هذا الشرح المبارك والكتاب العظيم، الذي هو شرحٌ لمتنٍ من أهم متون الحنابلة -رحمهم الله تعالى- وهو (الروض المربع في شرح زاد المستقنع)، ولا يزال الحديث موصولًا في أحكام الوضوء.
وقد ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- هذه التتمة أو عنون لها بتتمة، وهذا من لطيف التأليف، وحُسن الكتابة والتصنيف، فإنه لَمَّا أراد أن يستطرد في شرحهِ، وأن ينتقل عما ذكره صاحب أصله أراد أن يُبين ذلك، أو أن يستأذن، أو أن يعتذر لنفسه بأن هذه كالتتمة لما ذُكر، فهي مكملةٌ للأصل، وتذيلٌ على ما جاء، فليست من المؤلف -رحمه الله- أو من الشارح بذكر حديثٍ لا حاجة إليه، وليست أيضًا بابتداءٍ منه، وإنما لها مناسبةٌ في التكميل.
فقال: (ويُشْتَرَطُ لوُضُوءٍ)، وذلك؛ لأنه لما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أن من شرط الوضوء النية أراد أن يُبين بقية هذه الشروط التي ربما تركها الماتن لكونها معتبرةً بعضها في كل العبادات فهي معلومةٌ مستقرة، وهي: الإسلام والعقل والتمييز، أو لكونها أيضًا مضمنة فيما ذُكر من المسائل، وتقدم من الأحكام.
فقال: (يُشْتَرَطُ لوُضُوءٍ وغُسْلٍ)، يعني هما على حدٍ سواء.
(أَيْضاً: إِسْلامٌ)؛ لأنه لا يصح عملٌ بدون إسلام، وهذا هو الذي يتعلق بشرط النية من جهة الإخلاص؛ لأننا ذَكرنا فيما مضى أن النية لها جهتان:
جهة الإخلاص والقصد، وهذا يتحقق بالإسلام.
وجهة نية القصد والتعبد بتمييز العبادة عن العادة، وتمييز العبادات بعضها عن بعض، وهذا هو الذي اشترطه المؤلف وتقدم ذكره، وهو الذي يتعلق به أحكام الفقهاء -رحمهم الله تعالى-.
قال: فإذًا الفقهاء ذكروا معنى القصد أو الإخلاص فيما تضمنه من اشتراط الإسلام، فإن هذا هو حقيقته، وهذا هو الذي يتأتى به هو الإخلاص، وتكميل ما أُمر به العبد من الأحكام وما استسلم له من الشرائع والأعمال.
قال: (وعَقْلٌ، وتَمْيِيزٌ)، فلا عبادة بدون عقل، وقد رفع القلم عن غير العاقل، ولا تتصور منه نية؛ فلأجل ذلك لا تصح منه العبادة، فإذا عَقل الإنسان عرف معنى القصد والتوجه إلى الله، وإرادة العبادة، وتمييزها عما يماثلها من العادات ونحوها.
والتمييز فإنه غير المميز لا يُفرق بين قيام الصلاة وقيام غيرها، وبين أن يُكب على وجهه في الأرض ساجدًا لله وبين أن يكون في ذلك لاعبًا لاهيًا، فلابد من التمييز، وهذا معتبرٌ في العبادات كلها إلا ما جاء الدليل باستثنائهِ كالحج على ما سيأتي بإذن الله جلّ وعلا أنه يصح من غير المميز لما جاء في حديث مسلم، وسيأتي بإذن الله جلّ وعلا، وأيضًا العبادات التي يدخلها النيابة وهي العبادات المالية كالزكاة ونحوها.
قال: (وطُهُورِيَّةُ مَاءٍ)، فلابد أن يكون الماء طهورًا؛ لأنه لو لم يكن طهورًا، فإنه لا يتأتى به التطهير ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان:48].
قال: (وإِبَاحَتُه)، فلو كان الماء غير مباح فإن الطهارة لا تصح به؛ لأنه منهيٌ عنه، فإذا كان منهيًا عنه فمعنى ذلك أنه لا تتأتى به العبادة على طريقة الحنابلة -رحمه الله تعالى- فإن النهي عن شيء يقتضي الفساد.
فعلى سبيل المثال: لو غصب الإنسان ماءً فتوضأ به لم يصح وضوؤه؛ لأن هذا الماء غير جائز وغير مباح، وكذلك لو أن الشخص -وهذا يحصل كثيرًا- توضأ بماءٍ خُصص لغير الوضوء كالماء الذي خُصص للشرب، فلو أخذ الإنسان عبوةً من هذه العبوات ثم خرج وتفضلها وتوضأ بها، فإن هذا من جهة الأصل والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا "أن هذه المياه جُعلت للناس ليشربوها"، فبناءً على ذلك لا تصح الطهارة.
طبعًا لمن كان عالما ذاكرًا، أما لو صُب في إناء وجيء إلى شخصٍ بهذا الماء وهو لا يدري، فإن ذلك يصح منه.
ومثل ذلك على سبيل المثال وهو يحصل كثيرًا في الحرم: أن بعض الناس يأخذ أو يستقي من ماء زمزم الذي خُصص للناس للشرب فيتوضأ به خاصةُ في أوقات الزحام، وهذا أيضًا فيه مخالفة، فهذا الماء خُصص للشرب ومكتوب عليه مياهُ للشرب، فهذا فيه افتيات على صاحبها أو على ما جُعلت له، فيكون في ذلك هذا الماء محرمًا استعماله في الوضوء، فلو توضأ به الإنسان لم يصح وضوؤه، وهذا كثير الوقوع عند كثيرٍ من الناس.
قال: (وإِزَالَةُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَهُ)، إلى البَشرة، فلو كان على الإنسان مثلًا صبغٌ، فالصبغ أو العجين تمنع وصول الماء فلابد أن يزيله؛ لأن المقصود هو غسل هذا العضو، وغسل هذا العضو يتأتى بمباشرة الماء لجلده ولا يتأتى ذلك إلا بإزالة ما يمنع سواءُ كان على جميع العضو أو على بعضه.
سيأتي طبعًا أنه يستثنى من ذلك الأشياء القليلة جدًا، قالوا: كوسخ على الأظفار، وسيأتي هذا فيما يذكره المؤلف -رحمه الله تعالى-، لكن من حيث الأصل فإنها مما يعتبر ويشترط.
قال: (وانقِطَاعُ مُوجِبٍ)؛ لأن الوضوء هو لرفع الحدث، فإذا وجد موجب الوضوء وهو الحدث كدمٍ ينزف أو بولٍ يخرج فإنه لو توضأ وهو يبول فإنه لا يجذي عليه شيئًا؛ لأنها إنما يتأتى ذلك بانقطاعه، ويُرفع الحدث بعد الفراغ منه، وهذا ظاهرٌ بيّن لا يحتاج إلى توضيح.
وهم يقولون سواء كان الخارج من السبيل يعني يبول، أو كان خارج نجاس من سائر البدن كما لو كان يتقيأ، أو كان فيه مثل ما قلنا نزيف دم، أو له فتحةُ تخرج منه النجاسة من سائر بدنه وهكذا.
قال: (ولوُضُوءٍ: فَرَاغُ استِنْجَاءٍ أو استِجْمَارٍ)، وهذا معتبرٌ عند الحنابلة كما تقدم بيانه، وذكرنا الكلام فيه، وما جرى عليه بعض محقق الحنابلة من أنه: هل الوضوء متوقفٌ على الفراغ من الاستنجاء أو أنه لا يلزم الترتيب بينهما ولا تعلق لهما؟ تقدم ذلك، وبيان المذهب عند الحنابلة فيه.
قال: (ودُخُولُ وَقْتٍ على مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ لفَرْضِه)، فمن حدثه دائم -نسأل الله السلامة والعافية- كمن به سلس بول، أو عدم انقطاع ريح تخرج منه الروائح باستمرار ونحو ذلك، فإنه يشترط لوضوئهِ دخول الوقت، ولذلك قال النبي : «والوضوء لكل صلاة»، ولذلك ذهب جمهور أهل العلم كما هو المتقرر في المذهب: أنه لا بد أن يتوضأ من هذه حاله لكل صلاة.
{قال -رحمه الله-: (فإِنْ نَوَى ما تُسَنُّ له الطَّهَارَةُ كقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وذِكْرٍ وأَذَانٍ ونَوْمٍ وغَضَبٍ ارتَفَعَ حَدَثُه أو نَوَى تَجْدِيداً مَسْنُوناً بأَنْ صَلَّى بالوُضُوءِ الذي قَبْلَهُ، نَاسِياً حَدَثَهُ ارتَفَعَ حَدَثُه؛ لأنَّهُ نَوَى طهَارَةً شَرْعِيَّةً)}.
هذه مسألةٌ مهمة وهي: لو أن الإنسان قصد الوضوء فعلًا للمستحب، يعني لم يكن متذكرًا لحدثه سواءُ كان حدثهُ بنوم، أو كان بقيء، أو كان ذلك ببول، أو كان ذلك بسائر نواقض الوضوء، أو أكل لحم الجزور، أو نحو ذلك، ثم توضأ؛ لأنه يريد أن يقرأ القرآن ناسيًا الحدث.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه يرتفع حدثه، وتصح منه الصلاة لو صلى بذلك الوضوء، بشرط أن يكون ذلك الوضوء مشروعًا مستحبًا، ولذلك قال: (كقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وذِكْرٍ)، فإن هذه من الأحوال التي يستحب لها أن يكون الإنسان على أكمل أحواله، (وأَذَانٍ ونَوْمٍ)، فإن النبي إذا أراد أن ينام توضأ وغضب، فإن النبي أمر بأن يتوضأ الغضبان، فإن ذلك يطفئ جمرة غضبه، وكذلك لو كان من معصية كغيبة وأراد أن يتوضأ؛ لأن الوضوء مكفرٌ للسيئات، فيقولون بأنه يرتفع حدثه في تلك الأحوال كلها.
(نَاسِياً حَدَثَهُ ارتَفَعَ)، أما لو لم يكن ناسيًا حدثه فإن هذا يكون عبث تلاعب، واحد يتوضأ لأجل للمستحب وهو يعلم أن عليه حدث ولا يريد رفع الحدث، هذا فاعلٌ لما يحصل به التناقض، فلأجل ذلك قال الفقهاء: هذا تلاعبٌ، فبناءً على ذلك لا يصح منه.
لكن الحال المعتادة: أن يفعل الإنسان ذلك ناسيًا الحدث، ومثل ذلك قال: تجديد وضوءٍ مسنون، ما معنى تجديد الوضوء المسنون؟ النبي قال: «لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرْتُهم بالوضوء لكل صلاة».
فلو صلَّى الإنسان بوضوء، ثم أراد أن يصلي صلاةً أخرى فتوضأ لها فإن هذا من الكمالات، لكن لو أن شخصًا توضأ ولم يفعل شيئًا بهذا الوضوء ثم أراد أن يجدد الوضوء لكان هذا من الوسوسة فليس بمشروع.
فإذًا التجديد المسنون، فإذا كان تجديدًا مسنونًا وكان قد نسي الحدث فحدثه يرتفع، أما من فعل ذلك ولم يكن هذا التجديد له وجهٌ أو اعتبار في الشرع، فإنه لا ينفعه ولا يرفع حدثه.
قال -رحمه الله-: (وإِنْ نَوَى) مَن عليه جنابَةٌ (غُسْلاً مَسْنُوناً) كغُسْلِ الجُمُعَةِ، قالَ في (الوَجِيزِ): نَاسِياً (أَجْزَأَ عَن وَاجِبٍ) كما مَرَّ فِيمَن نَوَى التَّجْدِيدَ.
هذا أيضًا مثل المسألة الأخرى، فالمسألة الأولى في الحدث الأصغر، أليس كذلك! فإذا أراد أن يتوضأ على سبيل الاستحباب لما يُستحب له الوضوء، وكان عليه حدث من نومٍ أو بولٍ أو غائطٍ أو خروج دمٍ أو قيءٍ أو نحو ذلك، وناسيًا هذا الحدث فيرتفع، فكذلك من اغتسل أو من نوى الغسل المستحب كغسل الجمعة ناسيًا أن عليه جنابة، أو ناسية المرأة أنها لم تغتسل للطهارة من حيضها، أو ما شابه ذلك، فيقولون: أنه يرتفع حدثه لما ذكرنا؛ لأنه فعل ما تُشرع له الصلاة قاصدًا ذلك، فهذا وضوءُ شرعي فيحصل بالمسنون ما يحصل بالواجب على الصحيح عند المحققين من أهل العلم.
{قال -رحمه الله-: (وكذا عَكْسُه؛ أي: إِنْ نَوَى وَاجِباً أَجْزَأَ عَن المَسْنُونِ)}.
وهذا من باب أولى، يعني لو أنه نوى الواجب، هنا مثلًا اغتسل الإنسان عن جنابة ضحى الجمعة ولم يتذكر أن هذا ضحى الجمعة وأنه سيخرج للصلاة ويحتاج إلى غسلها، فلما فرغ وانتهى من غُسله تذكر أن هذا يوم الجمعة، يقولون يكفيه ذلك عن غُسل الجمعة.
ومثل ذلك لو كان من جنابة، من احتلام، ونحو ذلك.. فالواجب يجزئ عن المستحب من باب أولى، فإذا صح في الأولى فالثانية أظهر وأوجب؛ لأن الواجب يتأتى به ما يتأتى بالمسنون وزيادة.
{قال -رحمه الله-: (وإِنْ نَوَاهُمَا حَصَلا)}.
(وإِنْ نَوَاهُمَا حَصَلا)، فإذا جاء الإنسان مثلاً ضحى الجمعة ويعلم أن عليه جنابة، وأنه يذهب لصلاة الجمعة، فاغتسل قاصدًا رفع الجنابة وغسل الجمعة المستحب حصل له، وهذا طبعًا أفضل وأكمل وفيه الحديث: «من غسل واغتسل».
قال أهل العلم: ما هو الفرق بين غسل واغتسل؟
قالوا أنه في تفسير بعض أهل شُراح الحديث، قالوا: أنه غسل من الجنابة، واغتسل لغُسل الجمعة المستحب، فجمع بينهما.

{قال -رحمه الله-: (والأَفْضَلُ أن يَغْتَسِلَ للواجِبِ ثُمَّ للمَسْنُونِ كَامِلاً)}
هذه ذكرها الشارع كما ذكره الحنابلة -رحمه الله تعالى-.
ما هو الأولى والأكمل؟ لمن اجتمع في حقهِ غُسلٌ واجبٌ ومسنون، أو وضوءٌ واجب ومسنون، هل أن يتوضأ مرتين أو يغتسل مرتين فيغتسل للجنابة، ثم يعود ويغتسل للجمعة؟ هذا ظاهر كلامه، وذلك وجهه أنهما مأمورانِ لكلٍ غرضه فطُلب في كل شيءٍ ما يخصه، والكمال في فعل كل شيءٍ على وجه الاستقلال، وهذا أيضًا من الحنابلة -رحمه الله- على طريقتهم في التحوط وطلب الكمال.
لكن قال كثيرٌ من المحققين وعليه أئمة الدعوة أو جماعةٌ منهم فيما حشوا على هذا، قالوا: أن التداخل هنا أقرب وأنه لا يُحتاج إلى تكرار الغسل أو تكرار الوضوء، فالوضوء الذي يحصل به رفع أحداثٍ كثيرة، كذلك ينوب عما يحصل به رفع الحدث وما يحصل به المستحب، فبناءً على ذلك يكفي واحدٌ عن فعلهما مرتين.

{قال -رحمه الله-: (وإِن اجتَمَعَت أَحْدَاثٌ مُتَنَوِّعَةٌ ولو مُتَفَرِّقَةٌ (تُوجِبُ وُضُوءاً أو غُسْلاً فنَوَى بطَهَارَتِه أَحَدَهَا) لا على أن لا يَرْتَفِعَ غَيْرُه، ارتَفَعَ سَائِرُها؛ أي: بَاقِيها؛ لأنَّ الأحداثَ تَتَدَاخَلُ فإذا ارتفعَ البَعْضُ ارتفَعَ الكُلُّ)}.
كذلك يعني أن من نوى ارتفاع حدثه على الإطلاق أو نوى وضوؤه من خروج ريح، ولم يقصد الوضوء؛ لأنه كان أقرب شيءٍ حصل له أو آخر شيءٍ حصل له، ولم يقصد ما جرى منه من بول أو خرج منه من دم، أو نحو ذلك.. فيقولون: أن ذلك كافٍ.
فلأجل ذلك قال: (وإِن اجتَمَعَت أَحْدَاثٌ مُتَنَوِّعَةٌ ولو مُتَفَرِّقَةٌ)، يعني في أوقاتٍ متباينة وهي أيضًا متنوعة في غائطٌ وبولٌ وريحٌ وخروج دمٍ أو قيءٌ أو نحو ذلك.
(فنَوَى بطَهَارَتِه أَحَدَهَا) ارتفع سائرها؛ لأن مؤدى ذلك واحدٌ؛ ولأنه فعل ما يُطلب به رفع الحدث، وما يتحصل به أداء الصلاة، فيتأتى بنية الواحد عن الجميع.
قالوا بشرط أن لا يكون في نفسه أنه قصد الوضوء من خروج الريح، قالوا ولا أقصد الوضوء من البول، طبعًا هذا من جهة الحقيقة لا يُتصور في الأحوال المعتادة، لكن الفقهاء إذا بيّنوا ذلك يريدون أن يبينوا حد المسألة التي يقصدوها، أو التي يدخل فيها الحكم؛ لأن من يفعل مثل هذا، مثل ما قلنا في المسألة الأولى أن هذا نوع تلاعب، وفيه نوع استخفاف، وقد يلحق الإنسان في ذلك تبعةٌ عظيمة، أو تكون عليه في هذا من الموبقة والوقوع في الخطيئة ما هو ظاهر.
ومثل ذلك أيضًا الأغسال: لو أن امرأة مثلًا كانت قد احتلمت، وقارن ذلك أيضًا طُهرها من حيضها، فنوت الغسل للطهر من الحيض، فيكفي ذلك أيضًا عما جرى منها من الاحتلام.
أو لو أن امرأةً -وهذا يحصل كثيرًا- يعني حصل منها جنابةٌ ثم دخل عليها الحيض فلم تغتسل، فلما طهرت من الحيض نوت الغُسل من الحيض ونسيت أن عليها جنابة، ثم جاءت تسأل تقول أنا نسيت علي جنابة ما قصدت رفع، نقول: إذا نوت واحداً ارتفع سائرها مثل ما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-.

{قال -رحمه الله-: (ويَجِبُ الإتيانُ بها؛ أي: بالنِّيَّةِ عند أوَّلِ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ وهو التَّسْمِيَةُ فلو فَعَلَ شَيْئاً مِن الوَاجِبَاتِ قَبْلَ النِّيَّةِ لم يُعْتَدَّ بهِ، ويَجُوزُ تَقْدِيمُها بزَمَنٍ يَسِيرٍ كالصَّلاةِ، ولا يُبْطِلُهَا عَمَلٌ يَسِيرٌ)}.
هذا إذًا موضع النية، يقول المؤلف -رحمه الله-: (ويَجِبُ الإتيانُ بها)؛ أي: بالنِّيَّةِ (عند أوَّلِ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ)، ليتأتى للعبد أنه فعل جميع واجبات الطهارة وما يعتبر فيها بنية، فإنه لو نوى بعد أن فعل واجبًا فإن ذلك يعني أن الواجب الذي فعله قبل النية فعله بغير نية، فكأنه نوى بعض طهارةٍ ولم ينوي طهارةً تامة؛ لكون الطهارة التي دخلت في نيته وما لحقها من العمل.
فإذا كان نوى ذلك بعد أن غسل وجهه فكأن شخصُا توضأ فغسل يديه، ومسح رأسه وغسل رجليه، فغسل وجهه قبل النية لا يُعتد به، ويدخل في عمل العادة، أو لا يدخل في حكم العبادة.
فبناءً على ذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (ويَجِبُ الإتيانُ بها؛ أي: بالنِّيَّةِ عند أوَّلِ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ، وأول واجبات الطهارة وهو التَّسْمِيَةُ).
لماذا قال بأنها هي التسمية؟
لإرادة التنبيه على أن:
أولًا لو كان يغسل يديه لقائم من نوم ليل، فإن هذا الغسل هو صحيح واجب، لكن مثل ما مر بنا ليس له تعلقًا بالوضوء، هو واجبٌ منفرد، كل من قام من نوم ليلٍ تعلق به حكم غسل يديه ثلاثًا، ولا يعتبر ذلك من الوضوء وليس بداخلٍ في أحكامه، هذا واحد؛ فلأجل ذلك أراد أن ينبه المؤلف على ذلك.
وكذلك أيضًا لو أن شخصًا نوى عند ابتداء المضمضة؛ لأنها هي الأول الأعمال الفعلية الواجبة، فبناءً على ذلك نقول: أنه لم يفعل النية عند أول الواجبات وهو التسمية فأراد أن يبين أن التسمية هي محل ابتداء الوضوء، أو ابتداء واجباته، فبناءً على ذلك يجب النية أن تكون عند ذلك.
ذكرنا فيما مضى أن حقيقة النية هي عزم القلب المقارن للفعل، ولذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (عند أوَّلِ) العندية يعني التي هي الملازمة هنا والمقارنة، الملازمة والمقارنة؛ ولأجل ذلك قال: (ويَجُوزُ تَقْدِيمُها بزَمَنٍ يَسِيرٍ)؛ لأن هذا هو حقيقة النية أن تكون مقارنةً للعمل، وكل العبادات على ذلك على الإطلاق؟ إلا الصيام لمجيء النص بذلك، فإنه فيه فسحة، قال النبي في حديث حفصة، «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل»، فجعل له الليل مطلقًا، وهذا من رحمة الله؛ لأن أكثر الناس ربما نام فلم يقم إلا بعد دخول الوقت.
دخول وقت الصيام، فتكون قد فاتت عليه النية فجعل الشارع في ذلك تيسيرًا، وهذا هو المتقرر عند أهل العلم، وإن كان عند بعض الحنابلة وهو قول بعض الفقهاء يقولون: إذا تقدمت بزمنٍ كثير لكن لم يأتي ما يقطعها فيمكن أن يصح معها العمل، لا يقرر ذلك تقريرًا، لكن يمكن أن يُنظر في بعض المستفتين إذا حصل منه ذلك تصحيحًا.
فيقول: (ولا يُبْطِلُهَا عَمَلٌ يَسِيرٌ)، يعني لما قرر أنها التقدم اليسير، فلو أن الإنسان نوى نعم أن يصلي ثم اتصل به شخص فرفع السماعة وأجابه في ربع دقيقة، ثم كبر، ثم لما كبر جاءه خاطرٌ: هل قارنت النية؟ فنقول: هذا التقدم اليسير ولو تخلل لذلك عملٌ ليس بالطويل فإنه لا يبطل النية ولا يفوت محلها على ما قرر الحنابلة هنا.

{قال -رحمه الله-: (وتُسَنُّ النِّيَّةُ عِنْدَ أَوَّلِ مَسْنُونَاتِهَا؛ أي: مَسْنُونَاتِ الطَّهَارَةِ كغَسْلِ اليَدَيْنِ في أَوَّلِ الوُضُوءِ، إِنْ وُجِدَ قَبْلَ وَاجِبٍ؛ أي: قَبْلَ التَّسْمِيَةِ)}.
لاحظ هنا دقة الفقهاء -رحمهم الله تعالى- قال: (ويَجِبُ عند أوَّلِ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ وهو التَّسْمِيَةُ)، ثم قال هنا: (وتُسَنُّ النِّيَّةُ عِنْدَ أَوَّلِ مَسْنُونَاتِهَا كغَسْلِ اليَدَيْنِ)، لماذا قال: تجب هنا، ويغسل يديه بعد ذلك؟
ليبين ما يترتب على ذلك من الحكم فيما لو فات، فهو يقول لك نعم أنه لو أن شخصًا غسل يديه ثم نوى فهذا لا يضر، هي تسن، ففاته الوقت المسنون؛ لأن ترك غسل اليدين لا يفسد الوضوء لغير القائم من نوم ليل، فبناءً على ذلك لا..
لكنه فوّت عليه حصول هذا المستحب في وضوئه؛ فلأجل ذلك، قال: من جهة الوجوب تجب عند التسمية؛ لأنها هي الأول الواجبات المتعلقة بالوضوء، من جهة المستحب والكمال والتمام حتى يدخل غَسل يديك في وضوئك، وتفعل مستحبًا من مستحباته فلابد أن تكون النية سابقةً لذلك العمل؛ حتى يكونا مشمولًا بها داخلًا في حقيقة المنوي وهو الوضوء بمسنوناته وواجباته، وما يعتبر فيه.

{قال -رحمه الله-: (ويُسَنُّ استِصْحَابُ ذِكْرِهَا؛ أي: تَذَكُّرِ النِّيَّةِ في جَمِيعِهَا؛ أي: جَمِيعِ الطَّهَارَةِ لتَكُونَ أَفْعَالُه مَقْرُونةً بالنِّيَّةِ)}.
(ويُسَنُّ استِصْحَابُ ذِكْرِهَا)، ما معنى (استِصْحَابُ ذِكْرِهَا)؟ يعني أن العبد المكلف كلما شرع في غسل عضوٍ تذكر أنه يتوضأ، فهذا هو كمالٌ في استحضار النية وتحقيق العبادة والقيام بها على الوجه أكمل، لكن ذلك أحيانًا لما جُبلت عليه النفوس من الذهول وخواطر النفس ونحوها يكثر على الناس خاصةً لمن كثرت أشغالهم، أو عظمت همومهم، أو كبر سن الإنسان، أو شُغل بشيء عرض له عارض؛ فلأجل ذلك كان هذا مستحب؛ لأن العوارض كثيرةٌ، فلأجل ذلك لم يكن ذلك لازما وإلا لترتب عليه مشقةٌ كثيرة؛ لأن العوارض للعبد في هذا كثيرة.

{قال -رحمه الله-: (ويَجِبُ استِصْحَابُ حُكْمِهَا؛ أي: حُكْمِ النِّيَّةِ بأن لا يَنْوِي قَطْعَها حتَّى يُتِمَّ الطَّهَارَةَ)}.
أما استصحاب حكمها فهو واجب، ما معنى استصحاب حكمها؟ حقيقته أن لا يَقر في نفسهِ قطع هذه النية، أن لا يقر في نفسه قطع الوضوء، فلو أنه يتوضأ ويفكر في الدراسة أو في الاختبار أو في ما يشتري من حاجة أهله، فهذا خرج من استصحاب ذكرها، لكنه لم ينفك من استصحاب حكمها.
لكن لما أحس بأهمية الذهاب للاختبار أو الإسراع، أو أنه قد يتأخر فوقع في قلبه أنه يقطع الوضوء ويخرج، فهنا حصل له ترك استصحاب حُكمها، فهنا لو أراد أن يُكمل، نقول: يستأنف الوضوء من أوله؛ لأن استصحاب حكمها واجب، وما قرّ -إذا كان قر في نفسه- إذا كان استقر فلا يلتفت إلى أفعال الموسوسة، وكثرة الأوهام التي تَرد للجهلة وما في حكمهم.
فإذا قر في نفسه، فنقول: إنه قد فات عليك استصحاب حكمها فلزمك البداءة في الوضوء من أوله، وإعادة النية وما بعدها من مسنوناتٍ وواجبات، كما ذكرنا سابقًا إن نوى دخول المستحبِ فلابد أن ينوي قبله، وإلا كان عند أول واجبٍ على ما مر.
قال: (فإن عَزَبَت عَن خَاطِرِه، لم يُؤَثِّرْ)، مثل ما قلنا، وهذا تأكيدٌ لقوله: (ويَجِبُ استِصْحَابُ حُكْمِهَا)؛ يعني كونه يذهل قليلاً ويُكمل الوضوء، هو نوى الوضوء في أوله، ثم لما جاء يغسل يديه، قال أنا ماذا أفعل؟ فاستحضر أنه يتوضأ، وهذا عزوبُ يسير يحصل لكل إنسان، فلم يرد منه ما يكون من قطع النية المفسد لها.

{قال -رحمه الله-: (وإن شكَّ في النِّيَّةِ في أَثْنَاءِ طَهَارَتِه استأْنَفَها إلا أن يكونَ وَهْماً كالوَسْوَاسِ فلا يُلْتَفَتُ إليه، ولا يَضُرُّ إبطالُها بعدَ فَرَاغِه، ولا شَكٌّ بَعْدَه)}.
قال: (وإن شكَّ في النِّيَّةِ في أَثْنَاءِ طَهَارَتِه استأْنَفَها)، لماذا؟ لأن النية هي أصلٌ في العمل، وإذا شك في بعض عمله فإن هذا العمل الذي وقع حال الشك هو وقع بغير نية، فبناءً على ذلك لزمه الاستئناف.
فأنا نويت ولا ما نويت وهو يغسل يده؟! هذا الغسل وقع في وقتٍ لم يكن ينوي شيئًا فلزمه الاستئناف.
يقول المؤلف: (إلا أن يكونَ وَهْماً كالوِسْوَاسِ)، أو (الوَسْوَاسِ)، تصح بهما بكسر الواو وفتحها، الوسواس وهي حالةٌ ترد لبعض الناس يغلبه الشيطان فلا يزال يمانعهُ من العبادة أو يشككه فيها؛ حتى يمنعه من صفاء نيته، وإكمال عمله، ويريد أن يصرفه عن العبادة أو يصعبها عليه، أو يصرفه عنها، وربما حصلت في الأمور الدنيوية تسلطًا من الشيطان على الإنسان لضعف دينه ولضعف قلبه.
وكلما كان الإنسان أقوى قلبًا وأكثر دينًا واستنانًا بسنة نبيه كان أبعد من هذه الوساوس وغير ملتفتٍ إليها، ولا عابئ بها، وإن الشيطان ليبدأ بالأفكار الصغيرة حتى إذا طاوعه الإنسان جاءه بالأمور العظيمة الكبيرة فأفسد عليه دينه ودنياه.
فمن الناس من لا يزال به الشيطان يوسوس له أنه جرى منه الطلاق حتى يفسد عليه عشرته مع زوجته، ويشككه في بقائه معها، فينتهي بالأمر لأن يطلقها؛ لأن كل ما جاء يباشرها أو يعاشرها ظن أنها ليست زوجة، وأنه يعاشرها بالحرام، فلا يزال به الشيطان حتى يفسد عليه نكاحه.
ومثل ذلك في الأمور الدينية في عبادة، في طاعة، وربما وصل إلى ما يعتقده وما يكون في اعتقاده في حق ربه، فيلعب به الشيطان فيفسد عليه عقيدته -نسأل الله السلامة والعافية-.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (ولا يَضُرُّ إبطالُها بعدَ فَرَاغِه)، فلو أن الإنسان إذا انتهى من الوضوء، قال: لا أنا ما أريد صلي وهذا الوضوء، أبى أتوضأ مرة ثانية، ثم جاء وقت الصلاة الثانية ولم يجد ماء، قال: هل يصح وضوئي؟ قلنا يصح، قال: أنا أبطلت، قلنا: إبطالك لا محل له، فأنت فعلت هذه العبادة بكل ما يعتبر فيها من نيةٍ، وواجبٍ، وفروضٍ، وكل ما يعتبر فيها، واستكملت شروطها من طهورية ماءٍ وإباحته لغير ذلك، فلم يكن لهذا الإبطال معنًا ولا أثر.
كما لو أن الإنسان قال الآن: لا أريد صلاة العشاء، صلاة العشاء وقعت وانتهت وذهبت وارتفعت إلى الله جلّ وعلا بما فيها من كمالٍ، وما جرى فيها من نقص، فإذًا لا يضر إبطاله بعد فراغه فيها.
(ولا شَكٌّ بَعْدَه)، بعد الوضوء، وكذلك سائر العبادات، فإن الإنسان قد يشك أحيانًا، إذا بدأنا مثلاً في ذكر أحكام الوضوء، قال: أنا لما توضأت غسلت يدي اليسرى أم لم أغسلها؟ فيقولون: لا يلتفت إلى ذلك، حينما صليت المغرب أنا كنت مشوش الذهن وصليت لوحدي وكنت مستعجل، أنا ما أدري جلست للتشهد الأخير ولا ما جلست؟ فلا يزال به الشيطان يشك.
فلو فتحنا هذا الباب لربما شك الإنسان في كل أعماله، تذكر الصلاة اللي قبل سنة، الصلاة اللي قبل شهرين، والصيام، وهكذا... أنا صائم رمضان هذا كاملاً وهكذا! فإذًا قال أهل العلم: بأن الشك بعد الفراغ من العبادة لا يلتفت إليه، ولا حُكم له، ولا يلتفت الإنسان إلى شيءٍ من ذلك ما دامت شكوكًا.
أما إذا كان يقينًا، تيقن الإنسان أنه صلى ولم يسجد إلا سجدةً واحدة، فنقول: أعد صلاتك، وتوضأ الإنسان وعلم أنه لم يغسل رجله اليسرى أو لم يمسح رأسه، فنقول: أعد وضوؤك وما صليت به من صلاةٍ واجبة، وهكذا.

{قال -رحمه الله-: (وصِفَةُ الوُضُوءِ الكَامِلِ؛ أي: كَيْفِيَّتُه، أن يَنْوِيَ ثُمَّ يُسَمِّيَ وتَقَدَّمَا، ويَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلاثاً) تَنْظِيفاً لهما فيُكَرِّرُ غَسْلَهُما عند الاستِيقَاظِ مِن النَّوْمِ وفي أَوَّلِه)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (وصِفَةُ الوُضُوءِ)، صفة الوضوء ذِكرها هنا بعد أن ذكر الواجبات والفروض والمستحبات، فذِكر الصفة وهي الهيئة والطريقة التي يُتوضأ بها على وفق ما جاء به السنة من كمالٍ وتمام، أو ما يحصل به الإجزاء والحد الأدنى وهو ارتفاع الحدث وفعل الإنسان للطهارة بوجهٍ صحيح.
يعني الصفة يتأتى بها الكمال ويتأتى بها الإجزاء، فيذكر الفقهاء ذلك، أحيانًا ينصون عليهما جميعًا كما في الغسل وسيأتينا وربما أشاروا إليه -يعني القدر الكامل والقدر المجزي كما هو هنا.
فقال: (وصِفَةُ الوُضُوءِ)، والنبي لم يزل يُبين صفة وضوئه لأصحابه ويتوضأ لهم وينقلوه على وجه ما توضأ به؛ لأن ذلك هو الذي يتأتى به المقصود ويحتاج إليه الناس؛ ولأن العوام لو ذكرت له الواجبات، وذكرت له الفرائض، وذكرت له المستحبات لا يستطيع أن يُعملها على وجهٍ تام، أو على وجهٍ صحيح، فربما غسل رجليه لكن بعد رأسه، وربما أخل ببعض ما يعتبر من لازمٍ فيها، فلا يتأتى ذلك إلا بذكر الصفة وبيانها.
قال: (وصِفَةُ الوُضُوءِ الكَامِلِ؛ أي: كَيْفِيَّتُه)، مثل ما قلنا هنا نص على الكامل وأشار إلى الإجزاء، كما سيأتي التنبيه على ذلك في كل مسألةٍ بعينها.
قال: (أن يَنْوِيَ) قد ذكرنا حقيقة النية، حقيقة النية للوضوء أن ينوي رفع الحدث، أو أن ينوي فعل ما لا يصح فعله إلا بالطهارة، أو ما تُسن له على ما ذكرنا في المسألة الماضية إذا كان ناسيًا الحدث ولم يكن ذاكرًا له.
فهنا قال: (أن يَنْوِيَ ثُمَّ يُسَمِّيَ) والتسمية بأن يقول: "بسم الله" لا يزيد ولا يقوم غيرها مقامها، وهذا أصلٌ في الأذكار بأنها معتبرةٌ بألفاظها، كما نص على ذلك أهل العلم، وكما دل على ذلك حديث البراء ابن عازب، فلا يزيد فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن هذا إنما يكون عند قراءة القرآن، وأما عند الوضوء فيقول: بسم الله، ولا ينوب غير لفظ الله عنه فلا يقول بسم الأكبر، أو بسم الجليل، أو بسم العظيم.
(ثُمَّ يُسَمِّيَ وتَقَدَّمَا، ويَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلاثاً)، والكف من أطراف الأصابع إلى العظم الناتئ في أول الذراع، وما كان عنده من مفصل.
ثم يقول: (ويَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلاثاً تَنْظِيفاً لهما)؛ لأنهما آلة الطهارة، فإذا بقي فيهما قذر فإن ذلك يفضي إلى أن تتقذر سائر أعضائه -أعضاء الوضوء التي سيغسلها بيديه-.
قال: (فيُكَرِّرُ غَسْلَهُما عند الاستِيقَاظِ مِن النَّوْمِ وفي أَوَّلِه)، يُكرر غسلهما عند الاستيقاظ من النوم لما ذكرنا من أن غسلهما للقائم من نوم ليل، إيش؟ أن ذلك واجبٌ، ثم ذكرنا أيضًا أن ذلك منفصلٌ عن الوضوء ولا تعلق له به.
لكن: هل يمكن أن يتداخلا؟
فيقال: هنا ما قيل في المسألة التي قبلها، إذا كان ثم غسل واجب وغسلٌ مستحب، أو وضوءٌ واجب ووضوء مستحب.
فهنا على كل حال: يعني لما ذكروا أن غَسل الكفين لا تعلق له بالوضوء يجعل المسألة مختلفةً قليلًا عن المسألة التي قبلها؛ لأن من يتوضأ لشيءٍ مستحب وشيءٍ واجب الوضوء شيءٌ واحد ويجعله لهما جميعًا، لكن هنا غسل اليدين منفصلٌ عن الوضوء كليةً، فلأجل ذلك لما قالوا هناك أن التكرار أكمل، فمن باب أولى هنا لكونها مختلفين.
لكن مع ذلك قيل هنا كما قيل في المسألة المتقدمة: أنه يمكن أن يكون بينهما تداخل فينوي بغسل كفيه ثلاثًا ما يكون ممن يغسل يديه عند القيام من نوم الليل، وإرادة الغسل المستحب في أول الوضوء، فيحصل له ذلك، وجرى عليه بعض أهل التحقيق من الحنابلة وغيرهم -رحمهم الله تعالى-.

{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ ويَسْتَنْشِقُ ثَلاثاً ثَلاثاً بيَمِينِه ومِن غَرْفَةٍ أَفْضَلُ، ويَسْتَنْثِرُ بيَسَارِه)}.
(ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ)، والمضمضة هي من حيث المعنى هي التحريك، فلأجل ذلك اعتبر الحنابلة على ما مر بنا أنه لابد في إدخال الفم من أدنى درجات التحريك.
قال: (ثُمَّ يَتَمَضْمَضُ)، إذًا بعد أن يغسل كفيه فيتمضمض، وهو إدخال الماء في الفم وتحريكه، وكمال ذلك بأن يبلغ جميع فمهِ.
(ويَسْتَنْشِقُ)، والاستنشاق وإدخال الماء إلى داخل أنفهِ، وكماله إلى أقصى، ويحصل بأن يدخل إلى أدنى أو بأن يصل إلى أدنى.
قال: (ثَلاثاً ثَلاثاً بيَمِينِه)، يعني يتمضمض ثلاثًا، ويستنشق ثلاثًا، ويكون ذلك بيمينه أن النبي توضأ فمتمضمض واستنشق بها يعني باليمين؛ لأن الاستنشاق باليمين هو أخذ الماء منها، فليس فيه تدنيس كالانتثار، ولذلك سيقول أنه باليسار.
قال: (ومِن غَرْفَةٍ أَفْضَلُ)، يعني الصورة التي ذكروها يحصل بها الإجزاء أن يتمضمض ثلاثًا ثم يستنشق ثلاثًا، لكن كونها من غرفة فيتمضمض ويستنشق ويفصل بينهما أو لا يفصل بينهما! فهذا هو التمام.
وإن كان بثلاث غرفات أيضًا صح وحصل له الكمال، يعني بأن يأخذ ماء ثم يتمضمض به ويستنشق، ثم يأخذ أخرى فيتمضمض به ويستنشق، فهذا صورة الكمال.
ولذلك قال: (ومِن غَرْفَةٍ أَفْضَلُ)، ويكون ذلك بعدم الفصل بينهما، كما جاء بالنص وجاء بغرفة، وجاء بثلاث غرفات.
(ويَسْتَنْثِرُ بيَسَارِه)، إذا انتهى من الاستنشاق في المضمضة فإما أن يمج الماء، ولو أدخله إلى جوفه صح وضوؤه، وكذلك إذا استنثر فإنه يستنثر بيساره، ولما كان الاستنثار هو إخراج القذر الذي داخل أنفه، فإنه يكون بيساره، فيمسك أنفهُ بيساره حتى يستنثر ويستجمع الهواء الذي بداخله، فيكون دافعًا لما فيه من القذر مخرجًا لما فيه من الوسخ، والنبي تمضمض واستنثر بيسارهِ، كما في الحديث.
{قال -رحمه الله-: (ويَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلاثاً وَحْدَه مِن مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ المُعْتَادِ غَالباً إلى ما انحَدَرَ مِن اللَّحْيَيْنِ والذَّقْنِ طُولاً معَ ما استَرْسَلَ مِن اللِّحْيَةِ، ومِن الأُذُنِ إلى الأذُنِ عَرْضًا؛ لأنَّ ذلك تَحْصُلُ به المُوَاجَهَةُ)}.

قال: (ويَغْسِلَ) طبعًا ويغسلَ بالنصب؛ لأنه معطوف وأن ينوي وأن يغسل (وَجْهَهُ)، والوجه اسمٌ لما تحصل به المواجهة مثل ما قلنا، ولأجل ذلك قالوا أنه يدخل فيه كل الوجه وهو من منابت الشعر المعتاد.
يعني ما اعتاد الناس أن ينبت بهم شعره، فمن كان أفرع وهو الذي ينبت له شعرٌ على جبهته، هذا لا يعتبر به، بل هذا الشعر الذي على جبهته لابد أن يغسل؛ لأنه داخلٌ في حكم الوجه، والأجلح الذي نبى شعره عن بعض رأسه أو عن مقدمة رأسه، فإذا كان شعره يبتدئ من هنا، فليس معنى ذلك أن يوصل الماء إلى هذا القدر، بل النظر إلى الحال المعتادة وهو الذي يكون به تدويرة الرأسِ، فهذا في الغالب أنه منتهى الوجه ومبتدئ الرأس.
فبناءً على ذلك، قال: (إلى ما انحَدَرَ مِن اللَّحْيَيْنِ)، واللحي هو العظم الذي في جانب الوجه، في أسفل الفك، يمينٌ ويسار ويجتمعان في عظم الذقن الذي هو تحت الفم، فيجتمع اللحيان.
فيقول: أنهما داخلان في الوجه (معَ ما استَرْسَلَ مِن اللِّحْيَةِ)، فإذا كانت اللحية طويلة فإنها تغسل؛ لأنها تابعةُ لاسم الوجه وداخلةٌ في حكمه متصلةُ به.
طبعًا اللحية مثل ما مر بنا أنها إن كانت كثيفةً غسل ظاهرها، فما كان في أطراف شعرهِ التي في خديه بينهما بياض فيغسلهم ويغسل ما بينهم إلى أن يصل إلى الجلد، باعتبار أن الجلد ظاهرٌ فتعلق به حكم الغسل.
لكن ما كان من اللحية كثيفًا فلا يجب الغسل لكن يستحب، وذكرنا صفته بأن يجعل الماء من تحت لحيته ثم يعركها بأصابعه حتى يدخل الماء إلى داخلها، لكن ذلك على سبيل الاستحباب والتمام.
قال: (ومِن الأُذُنِ إلى الأذُنِ عَرْضًا)؛ الأذن هي منتهى الوجه ومبتدأ الرأس فتدخل في الوجه، فلأجل ذلك لابد أن يغسلها إلى الأذنين، ولذلك قالوا: أن البياضَ الذي بين اللحية وبين الأذن -وهذا كثيرُ نسيانه عند الناس- فإنه داخلٌ في حكم الوجه واجبٌ غسله مع غسل وجهه.

{قال -رحمه الله-: (والأُذُنَانِ لَيْسَا مِن الوَجْهِ بل البَيَاضُ الذي بينَ العِذَارِ والأُذُنِ مِنْهُ)}.
الأذنان ليست من الوجه، بل هي من الرأس في الصحيح على ما جاء في الحديث رؤيا مرفوعة إلى النبي ورؤية موقوفًا على الصحابة، وسيأتي بيانه فيه ما يتعلق بأحكام مسح الرأس.
قال: (بل البَيَاضُ الذي بينَ العِذَارِ والأُذُنِ)، العذار ما هو؟ العذار هو العظم الذي ينبت عليه الشعر يسامت صماخ الأذن ووسطها، فهذا هو العذار العظم الناتئ، فهذا القدر يجب غسله.
فقال: (بل البَيَاضُ الذي بينَ العِذَارِ والأُذُنِ)، فهذا البياض إذًا بين العذار الذي هو هذا العظم وبين الأذن يجب غسلهُ، فيجب على الإنسان أن يستوعبه بالغَسل.

{قال -رحمه الله-: (ويَغْسِلُ ما فيهِ؛ أي: في الوَجْهِ مِن شَعْرٍ خَفِيفٍ يَصِفُ البَشَرَةَ كعِذَارٍ وعَارِضٍ وأَهْدَابِ عَيْنٍ وشَارِبٍ وعَنْفَقَةٍ؛ لأنَّهَا مِن الوَجْهِ لا صُدْغٍ، وتَحْذِيفٍ: وهو الشَّعْرُ بَعْدَ انتِهَاءِ العِذَارِ، والنَّزَعَةِ ولا النَّزَعَتَانِ وهما ما انحدر عَنْهُ الشَّعْرُ مِن الرَّأْسِ مُتَصَاعِداً مِن جَانِبَيْه فهي مِن الرَّأْسِ)}.
رحم الله الفقهاء على دقتهم، وتوضيح الأحكام، وتبيينها، وما يدخل في المسألة، وما لا يدخل فيها، وما يتعلق به حكمٌ، وما لا يتعلق به حكم، بكل ما تعنيه الكلمة من التفصيل والتدقيق الذي تحصل به براءة الذمة وإتباع السنة وكمال الاستنان، فرحمهم الله تعالى رحمةً واسعة.
قال: (ويَغْسِلُ ما فيهِ؛ أي: في الوَجْهِ مِن شَعْرٍ خَفِيفٍ)، فما كان من شعرٍ خفيف على أهداب عينيه أو حاجبيه، أو عنفقته وهي ما فوق الذقن وتحت الشفة السفلى، وشاربه وسبالاه وهما في جانب الشارب، وما على الخدين من شعرٍ خفيف ونحو ذلك، فإنه ما دام أنها لا تستر فمعنى ذلك أنه يجب غسل ما تحتها؛ لأن ما تحتها داخلٌ في حكم الوجه غير مستور، فتعلق به لزوم الغسلِ ووجوب وصول الماء إليه.
ثم قال: (وعَارِضٍ)، طبعًا العارض هو ما ينبت من الشعر على اللحي وما فوقه قليل، وعلى الخدين، وأيضًا ما تحت العذار وهو هذا العظم فما عليه من شعر ونحوه في الغالب أنه يكون خفيفًا، فيجب غسله ووصول الماء إلى باطنه.
قال: (وأَهْدَابِ عَيْنٍ وشَارِبٍ وعَنْفَقَةٍ؛ لأنَّهَا مِن الوَجْهِ)، قال: (لا صُدْغٍ)، الصدغ ما هو؟ قالوا: هو ما حاذى رأس الأذن، يعني فوق العذار، ما حاذى رأس الأذن وفوق العذار، وبعبارةٍ أخرى هي أسهل وأوضح، يقول: ما يتحرك من العظمين عند عند الكلام، إذا تكلمت أو حركت فكيك يتحرك عظمانِ في جانبي الوجه فهذا هو الصدغ.
فقال: (لا صُدْغٍ، وتَحْذِيفٍ)، ذكرنا لكم معنى التحذيف، وهو أن العرب أشرافهم يُحبون الوجوه المتسعة الكبيرة، وربما فعل ذلك النساء أيضًا فيُزيلوا ما يكون من الشعر، من النزعة إلى العذار، هكذا، من النزعة سنأتي إلى النزعة من هنا إلى العذار، فهذا إذا أزالوا هذا الشعر الذي هو في مقدمة الجبين اتسع الوجه، كان الوجه كبيرًا، وهذا يدل على شيءٍ من العظمة الذي كانوا يتفاخر الناس به.
فيقول المؤلف: لو أن شخصًا كان قد أزال هذا الشعر، فإنه لا يدخل في حكم الوجه الذي يجب الغسل، وكونه باقيًا أيضًا فقد يكون خفيفًا، لكنه لم يدخل في حكم الوجه، فبناءً على ذلك لا يغسله من غسل وجهه.
ولذلك قال: (وهو الشَّعْرُ بَعْدَ انتِهَاءِ العِذَارِ، والنَّزَعَة)، النزعة من نزوع الشعر وهو ذهابه، وذلك أن في غالب الناس يكون في مقدم رأسه نزعةٌ للشعر، يعني ينزع عنه الشعر ويزول، ولذلك يقال نزعتان.
فهاتان النزعتان إذا حصلتا للإنسان وزال ما عليهما من الشعر، فإنه لا يدخلان في اسم الوجه، فبناءً على ذلك لا يجب غسلهما في وجههِ.
ولذلك قال: (ولا النَّزَعَتَانِ وهما ما انحسر عَنْهُ الشَّعْرُ مِن الرَّأْسِ مُتَصَاعِداً مِن جَانِبَيْه فهما مِن الرَّأْسِ) كما ذكرنا.

{قال -رحمه الله-: (ولا يَغْسِلُ دَاخِلَ عَيْنَيْهِ ولو مِن نَجَاسَةٍ ولو أَمِنَ الضَّرَرَ)}.
لأنَّ هذا لم يرد به النص؛ ولأنه ربما حصل بذلك أو غلب بذلك الضرر، ولهذا قال: (ولو أَمِنَ الضَّرَرَ)؛ لأنه غالبًا أنه لا يَسلم الإنسان من الضرر، وقد روي أن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يتكلف غسل عينيه حتى أصابه العمى -رضي الله عنه وأرضاه- وكان له طريقةٌ معروفة في زيادة تأسيه وطلبه للاقتداء بالنبي .
فربما كان في ذلك شيءٌ -يعني باجتهاده- وإرادة أن يصيب السنة بتمامها -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فلأجل ذلك لا يُغسل داخل العينين بحالٍ من الحوال، ولذلك قال: (ولو مِن نَجَاسَةٍ) يعني لو أحس الإنسان مثلًا أنه طار إلى داخل عينه النقطة بول -رذاذ بول- فلا يلزمه أن يغسل ذلك، ولا يُطلب؛ لأن ذلك في الغالب أنه يحصل به ضررٌ، لا يَسلم الإنسان من ضرره.

{قال –رحمه الله-: (ويَغْسِلُ الشَّعْرَ الظَّاهِرَ مِن الكَثِيفِ معَ ما اسْتَرْسَلَ مِنْه) ويُخَلِّلُ بَاطِنَهُ، وتَقَدَّمَ)}.
(ويَغْسِلُ الشَّعْرَ الظَّاهِرَ)، كما قلنا: الشعر الظاهر يُغسل حتى ولو قال (معَ ما اسْتَرْسَلَ مِنْه)، يعني ولو نزل عن الوجه فإنه داخلٌ في حكمه ملحقٌ به؛ لأنه تابع له.
(ويُخَلِّلُ بَاطِنَهُ)، على ما ذكرنا قبل قليل، وقد جرى أيضًا في ذِكر المستحبات طريقة التخليل وتمامها.

{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ معَ المِرْفَقَيْنِ وأَظْفَارِه ثَلاثاً، ولا يَضُرُّ وَسَخٌ يَسِيرٌ تَحْتَ ظُفْرٍ ونَحْوِه، ويَغْسِلُ ما نَبَتَ بمَحَلِّ الفَرْضِ مِن أُصْبُعٍ أو يَدٍ زَائِدَةٍ)}.
(ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ)، إذًا هذا بعد أن أنهى غسل الوجه ذكر الفرض الثاني وهو غسل اليدين، وهنا إشارةٌ إلى أن البداءة بالمضمضة والاستنشاق على سبيل الاستحباب؛ لأنه تقدم بنا في المستحبات البداءة بالمضمضة والاستنشاق، لكن لو أن شخصًا غسل وجهه ثم مضمض واستنشق لصح ذلك؛ لأنه عضوٌ واحد، والترتيب في العضو الواحد مستحبٌ وليس بواجب.
(ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ معَ المِرْفَقَيْنِ)، وهذا بإجماع أهل العلم، فيدخل المرفقان فيما يُغسل في اليد، والبداءة من أطراف الأصابع فيدخل في ذلك الكفان، ويخلل ما بين أصابعه كما ذكرنا أنه قد ينبُ عنها الماء في أثناء غسلهما أو في محل غسلهما ويصل إلى المرفقين فيدخلهما في الغسل؛ لأن النبي غسل يديهِ حتى أشرع في العضد.
قال: (وأَظْفَارِه)، فيتفقد أظفاره، لكن مع ذلك إذا كانت الأظفار طويلة خاصة لمن تكون ملاصقةً للحمه، فقد لا يكون في ذلك فرجةٌ فربما وُجد ما بين لحمه وظفره شيءُ من الوسخ لا يصيبه الماء، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: من أن ذلك مخففٌ على الإنسان؛ لأن فيه كلفةٌ شديدة، وقد جاءت الشريعة بالعفو، وعمت به البلوى، وعظم به المشقة.
(ويَغْسِلُ ما نَبَتَ بمَحَلِّ الفَرْضِ)، فإذا نبت أصبعٌ زائدة سادسة فيغسلها؛ لأنها في حكم اليد داخلةٌ في اسمها، وكذلك لو تدلى منه جلدٌ أو نحو ذلك وهكذا.
{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَمْسَحُ كُلَّ رَأْسِهُ بالمَاءِ معَ الأُذُنَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً فيُمِرُّ يَدَيْهِ مِن مُقَدَّمِ رَأْسِه إلى قفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إلى المَوْضِعِ الذي بدأَ مِنْهُ ثُمَّ يُدْخِلُ سَبَّابَتَيْهِ في صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ ويَمْسَحُ بإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا، ويُجْزَى كَيْفَ مَسَحَ)}.
قال: (ثُمَّ يَمْسَحُ كُلَّ رَأْسِهُ)، الآن قال يمسح، وقد ذكرنا الفرق بين بين الغَسل والمسح، فقلنا: إن الغَسل هو إمرار الماءِ على العضو المغسول، وأمَّا المسح فهو إمرار اليدين المبلولتين على العضو الذي يُراد مسحه.
فهنا قال: (ثُمَّ يَمْسَحُ كُلَّ رَأْسِهُ)، وهو إشارةٌ إلى قول بعض الفقهاء أنه لو اكتفى ببعضه لصح، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: أنه لا يتأتى للمتوضئ الوضوء؛ حتى يُعم رأسه جميعًا، أو جميع رأسه بالمسح بالماء، فلهذا قال: (معَ الأُذُنَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَة)، فهنا يمسح رأسه كاملًا، لابد أن يأتي على الرأس كله، وهنا أن الرجل والمرأة في ذلك سواء، وأن متعلق الحُكم هو الرأس، وقالوا هنا: من أنه ما استرسل من شعر المرأة لا يدخل في حكم المسح، لا يدخل في حكم المسح.
وهنا قد يقال: ما الفرق بين دخول اللحية فيما استرسل منها وعدم دخول الشعر بالنسبة لما استرسل منه؟
يمكن أن يقال: اللحية تدخل في اسم الوجه باعتبار حصول المواجهة، لكن ما استرسل من الشعر لا يدخل في حكم الرأس، فإن الرأس هو ما ترأسه وهو صار أعلى الشيء، فلا يدخل فيه، وهي محل تأمل.
فعلى كل حال: قالوا من أن المرأة والرجل على حدٍ سواء، وإن كان قد جاء أيضًا عن بعض الحنابلة أن المرأة أخف فلو مسحت بعض رأسها، لكن ظاهر النصوص وظاهر كلامهم أن المسح ذكروه على الإطلاق، والأصل دخول المرأة والرجل على حدٍ سواء.
ثم قال: (معَ الأُذُنَيْنِ) وهو إشارةً أيضًا إلى أن الأذنين مسحهما واجبٌ، وهذا هو المشهور والمتقرر عند الحنابلة باعتبار أنه هو المذهب، وجاء ذلك أيضًا عن بعض الصحابة بأن الأذنين من الرأس فوجب مسحهما.
ثم ذكر الصفة، فقال: (فيُمِرُّ يَدَيْهِ مِن مُقَدَّمِ رَأْسِه إلى قفَاهُ)، يقولون: بأن يضع إبهاميه على صدغيه، ويضع سبابتيه أو يلتقيان على وسط رأسه، فيبدأ بهما هكذا، (ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إلى المَوْضِعِ الذي بدأَ مِنْهُ)، لما جاء ذلك في حديث عبد الله بن زيد.
(ثُمَّ يُدْخِلُ سَبَّابَتَيْهِ في صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ)، صماخ الأذنين (ويَمْسَحُ بإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا)، يعني ما فوقهما باعتبار أنهما من الرأس، ولابد من تعميم جميع الرأس بالمسح، وفي هذا إشارةُ إلى ماذا؟ أن الغضاريف التي داخل الأذن لا يلزم وصول الماء إليها في المسح، ولا تدخل في الوضوء، فإذا تركهما لم يكن ذلك أو لم يكن ذلك داخلاً في حكم الوضوء.
قال: (ويُجْزَى كَيْفَ مَسَحَ)، الآن لعلك أن تلحظ أنه ذكر القدر المجزئ فيما يحتاج إليه، هناك ما أحتاج إلى أن يذكر الأشياء المجزئة؛ لأنها واضحة.
فهنا قال: (كَيْفَ مَسَحَ)، يعني لو أن شخصًا خاف على شعره من أن ينتفش، فأمر يديه هكذا بأن جعلها على شعره، أو بدأ بالقفاء إلى الأمام لكون شعره قد سُرح على نحوٍ لا ينتفش بهذه الطريقة، المهم أنه كيفما فعل حصل بذلك المسح الذي أمر به الشرع، فيكون ذلك صحيحًا وكافيًا.

{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ ثَلاثاً معَ الكَعْبَيْنِ؛ أي: العَظْمَيْنِ النَّاتِئَيْنِ في أَسْفَلِ السَّاقِ مِن جَانِبَي القَدَمِ)}.
(ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ)، فالغسل للرجلين واجبٌ، فلا تكون ممسوحةً كما ذكر بعضهم أو تخفف بعضهم على أصلٍ ليس بصحيح، بل الرِجلان مما يجب غسلهما، ولذلك قال النبي : «ويلٌ للأعقابِ وبطونِ الأقدامِ من النارِ»، لما رأى بعض أصحابه وهم كانوا في سفر وفي غزوة وفي تعب، يعني كان لهم ما يُسعفهم بأن يتخففوا أو يترخصوا، ومع ذلك لم يخفف النبي في ذلك، مما يدل على أنه لا يتأتى الوضوء بأي حالٍ من الأحوال إلا بغسل الرجلين وتعميمها جميعًا بالغسل في كل حالٍ وآن.
قال: (معَ الكَعْبَيْنِ)، والكعبان هما العظمان الناتئان في أسفل الساق (مِن جَانِبَي القَدَمِ)، كما يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-.
ويخلل أصابع رجليه على ما مر بنا بأصبعه اليسرى بادئًا بخنصر رجله اليمنى إلى أن يصل إلى إبهامها، ثم يبدأ بإبهام اليسرى، يعني بإبهام الرجل اليسرى المغسولة، فبخنصره يده اليسرى ينظر ما بين أصابع رجليه حتى يصل إلى خنصرها.
{قال -رحمه الله-: (ويَغْسِلُ الأَقْطَعُ بَقِيَّةَ المَفْرُوضِ لحَدِيثِ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» مُتَّفَقٌ عليهِ، فإِن قُطِعَ مِن المِفْصَلِ؛ أي: مِن مِفْصَلِ المِرْفَق غَسَلَ رَأْسَ العَضُدِ مِنْهُ، وكذا الأَقْطَعُ مِن مِفْصَلِ كَعْبٍ يَغْسِلُ طَرَفَ سَاقٍ)}.
هذا بيان لما يتأتى به الواجب، فإذا كان الإنسان قد قطعت بعض قدمه، فإن ذلك لا ينفي وجوب غسل ما بقي ما دام أنها داخلةٌ في اسم القدم.
فقال: (ويَغْسِلُ الأَقْطَعُ بَقِيَّةَ المَفْرُوضِ)، فإذا قُطعت القدم من مشطها فيغسل ما بقي منها، ولو قطعت حتى لم يبقى إلا طرف القدم أو أسفل العقب فيغسله وهكذا؛ حتى إذا كان قد قُطع، قال: (فإِن قُطِعَ مِن المِفْصَلِ؛ أي: مِن مِفْصَلِ المِرْفَق غَسَلَ رَأْسَ) يعني الرأس العضد منه باعتبار أنه أسفل القدمين.
قال: (وكذا الأَقْطَعُ مِن مِفْصَلِ كَعْبٍ يَغْسِلُ طَرَفَ سَاقٍ)، باعتبار أن جزءً منه من القدم، أما إذا كان مقطوع ساقه أو كذا فانتهى أو ذهب عليه حكم غسل رجليه.

{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يَرْفَعُ نَظَرَهُ إلى السَّمَاءِ بَعْدَ فَرَاغِه ويَقُولُ مَا وَرَدَ ومِنْهُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُه)}.
طبعًا المسألة هذه في الأقطع، قال: المرفق المقصود به اليد، فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- أخر الحكم فيها لبيانها مع ما يقاربها، فلو كان مقطوع اليد من منتصف الذراع غسل ما بقي منها إلى مرفقها، وهكذا، وإذا قطعت من المرفق: غسل رأس المرفق؛ لأنه أصل الذراع، ونحو ذلك، وهكذا.
قال: (ثُمَّ يَرْفَعُ نَظَرَهُ إلى السَّمَاءِ بَعْدَ فَرَاغِه ويَقُولُ مَا وَرَدَ)، قول: (مَا وَرَدَ) هذا جاء في الصحيحين (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُه)، ما من متوضأ يتوضأ فيقول ذلك إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية.
وجاء في زيادةٍ "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين"، واستحبها بعض أهل العلم، وإن كانت رواية الصحيحين هي التي اقتصر عليها الشارح، وهو الاقتصار عليهما (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله).
وأما رفع نظره إلى السماء فقد جاء ذلك عند أهل السنن، وهو حديثٌ لا يعني في إسناده مقال، لكن باعتبار أنه عند أبي داود، والأصل أن ما رواه أبو داود فهو حسنٌ يصح به الاستدلال وهو أيضًا داخلٌ في تعظيم الله جلّ وعلا، فقالوا: إنه يرفع بصره ويقول ذلك.

{قال -رحمه الله-: (وتُبَاحُ مَعُونَتُه؛ أي: مَعُونَةُ المُتَوَضِّئِ، وسُنَّ كَوْنُه عَن يَسَارِه كإِنَاءٍ ضَيِّقِ الرَّأْسِ وإلا فعَن يَمِينِه)}.
قال: (وتُبَاحُ مَعُونَتُه)؛ وكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يُفهم من ذلك حكمين: هل الأولى الإعانة أو تركها؟
فالظاهر أن الأولى أن يتولى ذلك الإنسان بنفسه؛ لأن ذلك أفضل له؛ ولأنه يباشر أحكام أو فعل الوضوء بنفسه، فيكون له فعل الوضوء ومباشرة صب الماء، ونحو ذلك، فله أجران: أجر الوضوء، وفعل ما تُغسل به الأعضاء، فيجتمع له الأجر في ذلك كله؛ ولأنه أيضًا أعون له على أن يتحقق من الإسباغ، وكمال الطهارة، والإتيان بها على وجهها.
لكن مع ذلك تباح المعونة، كما فعل النبي في أحاديث كثيرة، فقد يستعين الإنسان لمكانته كما كان النبي ولحاجته كما لو كان مريضًا، أو كان معه شيءٌ، في يده علةٌ أو لعارضٍ، فوضأ النبي صفوان بن عسال، وكعب بن ربيعة، والمغيرة بن شعبه، وغير ما حديث في إعانته، فدل أن ذلك مباحُ وليس فيه شيء.
قال: (وسُنَّ كَوْنُه عَن يَسَارِه كإِنَاءٍ ضَيِّقِ الرَّأْسِ وإلا فعَن يَمِينِه)، يعني أن المعين يكون عن يسار الإنسان؛ لأن هذا هو أكمل في تحصيل الطهارة، والإحسان إلى المتوضأ، فيقولون أن هذا هو الأولى.
ربما استدرك بعضهم على الشارح، فقالوا: لو قال يستحب في ذلك باعتبار أن هذا إنما هو نظرٌ واستحسان بما هو الأكمل، وإلا ليس في ذلك شيءٌ من النصوص يكون عليه المعول والمعتمد.
قال: (كإِنَاءٍ ضَيِّقِ وإلا فعَن يَمِينِه)، يقولون إذا كان الإناء ضيقًا فيجعله عن يساره؛ لأنه إذا صب على يمينه لا يكون ذلك أكمل في طهارته، أما إذا كان الإناء متسعًا فيكون عن يمينه، والحقيقة يعني لم يتضح ما وجه حصول المصلحة في ذلك، لكن ذكروه على هذه الصورة، ويمكن التأمل فيما يتأتى به المصلحة؛ لأن الفقهاء في الغالب أنهم يدققون في أدق الأمور وربما تكون بعض المصالح خفية لعابر النظر، أو لمن لم يعتاد مثل ذلك.
أكثر الناس الآن لا يحتاجون إلى أن يكون معه إناء وأن يصب على نفسه، فيعرف ما في ذلك من المنفعة والمصلحة ونحوها، وإنما تصب هذه الصنابير التي مدت في الجدران وسهل بها الوضوء، فما ذكروه له معنى قد يكون غائبًا ويحتاج إلى مزيد تبيينٍ إلى العلة في ذلك والفائدة.
{قال -رحمه الله-: (ويُبَاحُ له تَنْشِيفُ أَعْضَائِه مِن مَاءِ الوُضُوءِ)}.
(ويُبَاحُ له تَنْشِيفُ أَعْضَاء الوُضُوءِ)، أيضًا هذا جاء عن بعض الصحابة، وربما روي عن النبي أنه كبّ على وجهه جبّةً فمسح بها، وإن كان فيها مقال، لكن الأحسن هو ترك التنشيف؛ لأن النبي في الصحيحين «أُتي بمنديل» في حديث ميمونة «فردّه»، فقالوا من أن هذا هو الأولى، وكأن ذلك من جهة المعنى أنه أثر العبادة والطاعة، فبقاء ذلك ولا يزال تقطر أو تذهب ذنوبه مع قطر الماء؛ حتى آخر قطرٍ من الماء.
فكان ذلك أيضًا يكون أتم في حصول الأجر له، وتكفير الذنب، لكنه لو نشف فمباحٌ؛ لأن هذا جاء عن عثمان، وعن الحسن، وعن أنس، وعن غير واحدٍ من التابعين، وأيضًا ربما روي في ذلك بعض الآثار، وروي مرفوعًا إلى النبي كما قلنا، لكن الأكثر أو الأصح ما جاء في الصحيحين: «أنه أُتي بمنديلٍ فردّه».

{قال -رحمه الله-: (ومَن وَضَّأَه غَيْرُه ونَوَاهُ هو صَحَّ إِنْ لم يَكُن المُوَضِّئُ مُكْرَهاً بغَيْرِ حَقٍّ، وكذا الغُسْلُ والتَّيَمُّمُ)}.
(ومَن وَضَّأَه غَيْرُه ونَوَاهُ هو صَحَّ)، يعني لو أن إنسان جاء إلى مقعد فوضّأه، غسل وجهه، وناول الماء إلى أنفه حتى أدخله إلى أنفه، فإذا كان هذا المُوَضِّئُ قد نوى فحصل المقصود؛ لأن مباشرة أعمال الوضوء ليست بلازم، المهم النية ووصول الماء إلى الأعضاء على الوجه الذي مر بهذه الصفة، وبالترتيب وبالموالاة وبالتمام والكمال، فأدّى ذلك لنفسه فكما قلنا، وأدّاه له غيره فإن ذلك يحصل به المقصود، بشرط أن النية تكون منه؛ لأن النية لا نيابة فيها.
قال: (وكذا الغُسْلُ والتَّيَمُّمُ)، يعني كذا الغسل والتيمّم لو حصل أن شخصًا غسّل آخر، أو يمّمه ضرب يديه الأرض ثم مسح على وجهه ومسح على كفيه، فكذلك ما دام أن المُيمّم أو المغسّل قد نوى، فيصح ذلك كذلك.
لكن هنا قال: (إِنْ لم يَكُن المُوَضِّئُ مُكْرَهاً بغَيْرِ حَقٍّ)، فلو كان الإنسان قد أُمر بهذا بغير حق، فيقولون: من أنه لا يصح الوضوء، وهذا ذكره المؤلف هنا على هذا النحو، قد يكون فيه نظر ولا لا؟
وعلى قاعدة الحنابلة: أن التوضئة ليست داخلة في الوضوء في حقيقته ولا متعلقة به، يعني ليست هي الماء وليست هي حقيقته، فبناءً على ذلك يقولون: ذكرنا في الآنية لو كانت الآنية مغصوبة فإن ذلك لا يمنع صحة الوضوء، فيمكن أن يكون فعل الموضّئ كالآنية، باعتبار أنه غير داخلٍ في حقيقة الوضوء، فبناءً على ذلك على قاعدتهم هناك وما قرروه يمكن أن يقال هنا أن الوضوء صحيحٌ، وهو آثمٌ بالإكراه.
متى يكون الإكراه بحق؟
يقولون لو كان عبدًا أمر عبده الذي تلزمه خدمته، أو ولده، أو كان قد استأجره لذلك، فيكون مما يجب عليه ذلك.
لعلنا نكتفي بهذا، أسأل الله جلّ وعلا لنا ولكم التوفيق والسداد والإعانة على الخير والرشاد، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين.

دروس ذات صلة