الروض المربع
باب نَواقِضُ الوُضوءِ
الدرس الخامس
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (باب نَواقِضُ الوُضوءِ أي: مُفْسِدَاتُه وهي
ثَمَانِيَةٌ:
أَحَدُها: الخَارِجُ مِن سَبِيلٍ، وأشارَ إليهِ بقَوْلِه: يَنْقُضُ الوُضُوءَ مَا
خَرَجَ مِن سَبِيلٍ؛ أي: مَخْرَجِ بولٍ أو غائطٍ ولو نادِراً أو طَاهِراً، كوَلَدٍ
بلا دَمٍ، أو مُقَطَّراً في إِحْلِيلِه أو مُحْتَشًى وابتَلَّ، لا الدَّائِمُ
كالسَّلَسِ والاستِحَاضَةِ؛ فلا يَنْقُضُ للضَّرُورَةِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين،
وأوليائه المتقين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أحكام الوضوء وأتمها، وما يُلحق بها من المسح
على الخفاف والجوارب والجبائر والعمائم ونحوها، شرع في الأحداث أو فيما ينقض
الطهارة، ويُخل بها أو يُفسدها، فإنَّ معرفة الوضوء وما يكمله لا تتم إلا بمعرفة ما
يَنقضه ويفسده، وقال النبي ﷺ في الحديث الذي في الصحيح: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ
صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» ، ولذا كان لا بد من البيان،
ولا بد من العلم بالأحوال التي يَحتاج فيها المرء إلى تجديد وضوئه، وإعادة طهارته.
والنواقض جمع ناقض، وربما قال بعضهم: ناقضة، وما ينقض الوضوء يعني: من حَل الشيء
إذا أُبرم وتم، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ
أَنكَاثًا﴾ [النحل:92]، فكل ما نقض بعد انعقاده أو تمامه فهو فساد له، فكانت هذه
مفسدات للوضوء.
قال: (أَحَدُهَا) أي: أولها وأعظمها وأشهرها، (الخَارِجُ مِن سَبِيلٍ)، وهو مفسد من
مفسدات الوضوء بإجماع أهل العلم، لا يُختلف في ذلك، وهو كما يقول الشارح -رحمه الله
تعالى-: (يَنْقُضُ الوُضُوءَ مَا خَرَجَ مِن سَبِيلٍ؛ أي: مَخْرَجِ بولٍ أو غائطٍ)
السبيل ما هو؟ لِمَ لم يقل السبيلان؟ قالوا: إذا قيل السبيلين فهو مخرج الغائط
والبول، ولكن التعبير بالسبيل أتم وأكمل، من جهة أن المرأة في قبلها مخرجان، مخرج
للبول ومخرج للدم، الذي هو مسلك الذكر أو الرحم.
هل هو داخل في اسم السبيل؟ أو لا؟ ظاهر كلامهم هنا: نعم، لكن في بعض تفاصيل كلام
الحنابلة -رحمهم الله تعالى- تدل على أنهم ربما لم يجعلوه كذلك، فلَمَّا ذكروا أن
الخارج من المستحاضة من دم كثير ينقض الوضوء، فكأنهم لم يجعلوه في حكم السبيل؛
لأنهم قيدوه بالكثير، ولكن الذي يظهر أنه يدخل في اسم السبيل، وأنه به ألصق.
ويترتب على ذلك الرطوبة التي تجدها المرأة في فرجها، وهي بمثابة العرق، أو القذر
الذي هو كالمخاط تجده بعض النساء، ويتفاوتن في ذلك، فمنهن من يكثر فيها ومنهن من
يقل في مخرج دم الحيض أو مسلك الذكر.
وعند جمهور أهل العلم أن هذه الرطوبة من حيث حكمها أنها ليست نجسة، وإنما هي قذر
كالمخاط، ولكن من جهة إيجابها للوضوء فهي موجبة له على الإطلاق، فإذا خرج منها شيئا
قليلا أو كثيرًا أوجب الوضوء، وهذا يدل على أن السبيل عندهم يدخل فيه حكم مخرج
البول ومخرج دم الحيض على حد سواء؛ لأن ما سوى السبيل لا يحصل به نقض إلا إذا كان
كثيرًا، ولم يقيدوه هنا، فدل على الدخول فيه.
وعلي كل حال، فخروج البول أو الغائط مفسد من مفسدات الوضوء بلا شك بالإجماع، كما في
حديث صفوان «وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَومٍ» .
قال: (ولو نادِراً)، يعني: ولو كان هذا الخارج منها على سبيل الندرة، مثل ما يكون
من دود مثلا، أو ما يكون من دم، أو ما يكون من أشياء أخرى ربما متحجرة، أو أشياء
وصلت إليه بغير ما طريق، كحجر أو نحوه.
فعلى كل حال، إذا خرج شيء من السبيل وجب الوضوء، سواء كان نجسًا أو كان (طَاهِراً).
قال: (أو طَاهِراً، كوَلَدٍ بلا دَمٍ) يعني لو خرج من المرأة ولد بلا دم، كأن تكون
قد ولدت ولادة عارية من الدم، فإن ذلك وإن لم تتعلق بها أحكام النفاس من جهة أنه لم
يخرج هذا الدم منها، إلا أن ذلك يعد ناقضا لوضوئها كذلك. هل توجد هذه؟ أو هل وجدت؟
الحقيقة أن الفقهاء ذكروا ذلك ذكرا، ولكن لم يظهر شيء يدل على أن ذلك قد وجد، وإن
كنت أنا -وربما ذكرت لكم ذلك في أحد الدروس، أن فيما سبق اتصل بي متصل، وسأل نحوا
من ذلك، أنَّ امرأة ولدت ولا دم معها، ثم لَم أتفطن أو أتذكر هذه المسألة إلا بعد
حين، فبحثت عن ذلك المتصل رجاء التيقن منه، وتقييد ذلك على بوقوعه؛ لأنَّ هذا من
تكميل كلام أهل العلم وتتميمه، ففي الغالب أنهم لا يذكرون شيئا من الهواء، ولا
انقداحات نفوسهم، ولكن ربما يكون ذلك نادرا، أو ربما يكون ذلك قليلا، فهم يذكرون
أبعد ما يكون في المسألة للدلالة على ما دُونَهَا كما ذكرنا كثيرا.
فعلى كل حال إذا وجدت ولادة بلا دم، فهي ناقضة للوضوء موجبة الطهارة الصغرى.
قال: (أو مُقَطَّراً في إِحْلِيلِه) الإحليل هو مخرج البول من الذكر، ومن المعلوم
أنه لا مسلك من المثانة إلى داخل الجوف، فكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: الذي
يخرج الغالب أنه بول، لكن متى يتصور غير ذلك؟ لو قطر في إحليله ليتداوى بشيء، فجعل
في داخل مخرج بوله من ذكره ثم بعد ذلك خرج هذا المقطر، فهو ليس ببول، وربما كان
شيئًا طاهرًا، ومع ذلك يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه ناقض للوضوء، كما لو كان
"كريم، دهن" أو نحو ذلك.
قال: (أو مُحْتَشًى وابتَلَّ) لو احتشى الإنسان، يعني: أدخلها إلى داخل سبيله من
قُبُلٍ أَو دُبُرٍ، فإذا (ابتل) فلا شك أنه إذا ابتل فيُحكم في ذلك كونه ناقضا من
(نَواقِض الوُضوءِ)، فيجب عليه أن يعيد وضوءه. هل يفهم من ذلك أنه لو احتشى ثم خرج
ذلك بدون بلل فلا يجب عليه وضوء؟ هذا ظاهر ما يفهم من كلام الشارح هنا.
هم يقولون: هذا من جهة الوقوع نادر، يعني أن يحتشي ثم يخرج ناشفًا، يعني: بدون أن
يكون ثم بلل، ولكن إن كان تصور ذلك في القبل، إذا خرج دون بلل، فيفهم منه أنه لا
وضوء عليه، ولكن يشكل على هذا أنه إذا احتشى فمعنى ذلك أن هذا الحشو سيدخل إلى
داخله، ثم يجذب فيخرج، فكأنه خارج هذا الحشو، أليس كذلك؟
ولذا في تفريعات مسائل مشابهة قالوا: إنه يكون ناقضا للوضوء، وهذا هو الذي قرره في
كشاف القناع وغيره، فإنه يكون حتى ولو لم يبتل فإنه يحكم به وجوب الوضوء عليه في
تلك الحال.
قال (لا الدَّائِمُ كالسَّلَسِ والاستِحَاضَةِ؛ فلا يَنْقُضُ للضَّرُورَةِ)، هذا
استدراك من المؤلف لِمَا تقدم أن كل خارج من السبيل ناقض للوضوء، قالوا: إلا سلس
البول والمستحاضة، فإنهما وإن خرج من به سلس بول ونحوه، فإنه لا يحكم بانتقاض
طهارته للاضطرار إلى ذلك، ولِمَا جاء في بعض الأدلة من استثنائه، «ثم تَوَضَّئِي
لِكُلِّ صَلَاةٍ» ، فأذن لها ما قبل دخول الوقت حتى ولو خرج الخارج من أن تصلي ما
حضرها من صلاة فريضة، وما تبع ذلك من نوافل في تلك الحال.
{قال -رحمه الله-: (والثَّانِي: خَارِجٌ مِن بَقِيَّةِ البَدَنِ سِوَى السَّبِيلِ
إنْ كانَ بَوْلاً أو غَائِطاً قَلِيلاً كانَ أو كَثِيراً أو كانَ كَثِيراً نَجِساً
غَيْرَهُما؛ أي: غَيْرَ البَوْلِ والغَائطِ كقَيْءٍ ولو بحَالِه؛ لِمَا رَوَى
التِّرْمِذِيُّ: أنَّهُ ﷺ قاءَ فتَوَضَّأَ، والكَثِيرُ ما فَحُشَ في نَفْسِ كُلِّ
أَحَدٍ بحَسَبِه)}.
قال: (والثَّانِي: خَارِجٌ مِن بَقِيَّةِ البَدَنِ)، الخارج من بقية البدن على
مفهوم كلام المؤلف هنا ثلاثة أشياء، منها:
من لا يوجب الوضوء إجماعًا، وذلك مثل: المخاط، العرق، وما في معنى هذه الأشياء،
فإنها بالإجماع لا توجب وضوءا.
ثم الخارج من بول أو غائط، يقولون: إن هذه نجاسة مغلظة، فيحكم بأنها ناقضة للوضوء
كما لو خرجت من السبيل، وبناء على ذلك قالوا: يجب عليه الوضوء حتى ولو كان هذا
البول قليلا، أو ذلك الغائط شيئا يسيرا أو حقيرا، فهذا الثاني، وإلحاقه بالبول
والغائط الخارج من السبيل ظاهر.
الثالث ما كان نجسًا وليس بغائط ولا بول، وهذا مثل: الدم، مثل: القيء، مثل: القيح
والصديد، وفقهاء الحنابلة -رحمهم الله تعالى- يرون أن ذلك ينقض الوضوء إذا كثر، إذا
فحش، إذا عظم، فما كان منه قليلا يُعفى فيه ويخفف، ولكنه إذا كثر؛ فإنه يحكم
بانتقاض طهارته، ووجوب الوضوء عليه مرة أخرى، وأصل ذلك، أولا: ما جاء في حديث
ثوبان، «أَنَّهُ قَاءَ فَأَفْطَرَ فَتَوَضَّأَ»، قالوا: وما جاء عن الصحابة، فجاء
عن ابن عباس، وجاء عن غير واحد من أصحاب النبي ﷺ كابن عمر، وعلي، وغيره كثير،
وقالوا أيضا: من جهة المعنى هو يمكن أن يلحق بالبول والغائط، ولكن لما كانت نجاسته
مخففة لا يُحكم في ذلك إلا بالكثير.
وعلى كل حال هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة خلافا للجمهور أو خلافا لمالك
والشافعي وغيرهما أيضا، وربما كان ذلك قولا لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وكان
شيخنا الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- مع كونه يميل غالبا إلى الظاهر في مسائل إلا
أنه كان يقول: يحتاط إلى ذلك.
ولما كان أصل مذهب الحنابلة المصير إلى قول الصحابي، وقد تكاثر بذلك النقل عن
الصحابة، وهو في معنى المنصوص، وربما دل على ذلك بعض الأدلة، وإن كان فيها ما فيها
من كلام لأهل الحديث، فاجتمع ذلك وعلى سبيل الاحتياط لهذه العبادة، فقالوا: إنها
ناقضة للطهارة موجبة للوضوء.
ثم أراد أن يبين -لما أناط الحكم بالكثير أراد أن يبين الكثير-، فقال: (والكَثِيرُ
ما فَحُشَ في نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ بحَسَبِه) بمعنى أنه إذا اختلف شخصان، فرأى
أحدهما أنه كثير ورأى الآخر خلاف ذلك، كان على كل واحد منهما يعمل حَسْبِ نفسه،
فهذا هو ظاهر كلامه، وهو خلاف ما طردوه من مرد مثل هذه المسائل إلى العرف، وهو ما
عرف عند اعتدال النظر والاعتبار بحال العموم أو العرف.
فعلى كل حال، هذا هو مشروع المذهب، وإن كان القول الذي هو قول ابن عقيل وجماعة من
الحنابلة أيضا رَدُّ هذا على ما عُرِفَ عنهم من اطراد المسألة وهو عُرف ذلك، ولعله
لما كان ذلك ينتاب كل أحد بحسبه، أو ينتاب كل أحد في خاصة نفسه، ويكثر ذلك فيصعب
على الإنسان أن يحكم بحكم غيره، وقد يُعرضه ذلك إلى حرج كثير، كأن يكون أحيانا في
الصلاة ثم يخرج منه شيء من الدم، فلو كان الاعتبار بقول غيره، فربما احتاج الى قطع
صلاته ونظر آخرين وهكذا، فهذه أشياء كثيرة، وتنتاب في أحوال متعددة، فلعل هذا هو
الذي جعلهم أن يُنيطوا الحكم في كل واحد حسب نفسه وما ينتهي إليه.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وإذا استَدَّ المَخْرَجُ وانفَتَحَ غَيْرُه لم يَثْبُتْ
له أَحْكَامُ المُعْتَادِ)}.
(وإذا استَدَّ المَخْرَجُ) يقصد الفقهاء بذلك مخرج البول والغائط المعتاد،
(وانفَتَحَ غَيْرُه) لعلة، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا ربما يوجد في أحوال،
ومع تطور الطب أيضا قد يُحتاج إلى شيء من ذلك، فيقول المؤلف -رحمه الله-: إنه لم
يثبت له أحكام المعتاد، بمعنى أن هذا المخرج العارض أو الطارئ أو الذي احتيج إلى
فتقه لإخراج فضلات الإنسان أو نجاساته، لو مسه الإنسان لا يعتبر مس فرجه، والحكم في
الخارج من السبيلين، أي كان الخارج، سواء كان قليلا أو كثيرا، طاهرا أو نجسا، فإنه
يفسد الطهارة، وأمَّا الخارج من غير البدن فلا يخرج إلا بالكثير، فلو انسد ما نقول:
إنه يحكم بأن النجاسة تحصل بخروج خارج ولو قليل.
إذا هو لا يأخذ أحكام المخرج المعتاد، بل يبقى على حكمه، أنه يفرق بين نجاسة الغائط
والبول، ونجاسة ما سواه، وأن نجاسة ما سواه منوطة بالكثرة التي توجب الوضوء، وأن
خروج الطاهر لا يتعلق به حكم، ولا يوجب وضوءا بخلاف الخارج من السبيل، وكذلك مسه
ولمسه لا ينقض الوضوء بخلاف المخرج المعتاد.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (والثَّالِثُ: زَوَالُ العَقْلِ؛ أي: تَغْطِيَتُه، قالَ
أَبُو الخَطَّابِ وغَيْرُه: ولو تَلَجَّمَ ولم يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلْحَاقاً
بالغَالِبِ إلا يَسِيرَ نَوْمٍ مِن قَاعِدٍ قَائِمٍ غَيْرِ مُحْتَبٍ أو مُتَّكِئٍ
أو مُسْتَنِدٍ، وعُلِمَ مِن كَلامِه أنَّ الجُنُونَ والإغماءَ والسُّكْرَ يَنْقُضُ
كَثِيرُهَا ويَسِيرُها، ذكرَهُ في "المُبْدِعِ" إِجْمَاعاً، ويَنْقُضُ أَيْضَاً
النَّوْمُ مِن مُضْطَجِعٍ ورَاكعٍ وسَاجدٍ مُطْلَقاً، كمُحْتَبٍ ومُتَّكِئٍ
ومُسْتَنِدٍ، والكَثِيرُ مِن قَائِمٍ وقَاعِدٍ لحديثِ: «العَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ
فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ» رواهُ أَحْمَدُ وغَيْرُه. والسَّهُ: حَلْقَةُ
الدُّبُرِ)}.
هذا هو الناقض الثالث من (نَواقِض الوُضوءِ)، ولا يختلف العلماء أن النوم قد نص
عليه الدليل، وجاء به الحديث، فإن النبي ﷺ قال: «وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ
وَنَومٍ» ، كما في حديث صفوان بن عسال، فعلم من ذلك أن النوم ناقض للوضوء، وهو كذلك
في إجماع أهل العلم، وإذا حُكِمَ بأن النوم ناقض للوضوء، فما كان مثل النوم وأبلغ
منه، فإنه ناقض للوضوء من باب أولى، ولأجل ذلك عبر الفقهاء بـ (زَوَال العَقْلِ)،
لأنَّ (زَوَال العَقْلِ) أخفه بالنوم، وأبلغه بالجنون، والإغماء، والسكر، ولكن
الجنون أبلغ منها جميعًا، وبناء على ذلك قالوا: إنه ناقض للوضوء.
إذا تقرر أن (زَوَالَ العَقْلِ) ناقض للوضوء، فذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- في ذلك
تفريعات الأحكام في كل واحد منها، متى يكون ناقضا ومتى لا يكون؟
فيقول الشارح -رحمه الله-: إن ما كان أبلغ من النوم من: الإغماء، والسُكر، والجنون،
فهو في كل الأحوال ناقض للوضوء، ولا تفريق فيه ولا تخصيص، وأمَّا النوم ففيه شيء من
التفصيل، فقالوا: جاء في النصوص ما يدل على أنَّ الصحابة خفقت رؤوسهم ثم قاموا
وصلوا ولم يتوضؤوا ، وجاء في حديث ابن عباس أيضا، لَمَّا كان يُصلي مع النبي ﷺ،
فلمَّا كان الأمر كذلك، فَصَّلَ الحنابلة في حكم نقض الوضوء بالنوم، وهل هو ناقض
للوضوء أو لا، وقالوا: النوم من حيث الأصل ليس ناقضًا بنفسه، وإنما النوم مظنة خروج
الحدث، ولَمَّا كانت هذه المظنة غير منضبطة، أُنيط الحكم بسببها، مثل: المشقة في
السفر، فإن المشقة هي سبب القَصر والفطر ونحوه، ولكن لَمَّا لم تكن المشقة منضبطة،
ومتى تكون كذلك ومتى لا تكون؛ أُنيط الحكم بمطلق السفر إذا بلغ المسافة المحددة،
كما سيأتي بإذن الله جل وعلا.
وبناء على ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (إلا يَسِيرَ نَوْمٍ مِن قَاعِدٍ أو
قَائِمٍ) إذًا النوم ناقض للوضوء إلا اليسير منه في أحوال مخصوصة؛ لأنه جاء الإطلاق
بأن النوم ناقض للوضوء، ثم جاء العفو بأن يصلي مصلٍ مع كون رأسه قد خفت، فجمع
الحنابلة بين ذلك فقالوا: إن تلك الصورة المستثناة التي جاءت في الحديث الذي في
الصحيح، ونوم يسير وكانوا قاعدين، وفي الغالب أنهم متمكنين من أنفسهم، فكل ما كانت
هذه صورته، وهو نوم يسير من قاعد أو قائم، وهو الذي قد استجمع فرجه وانعقد، يعني:
لم ينفرج، فبناء على ذلك يؤمن من انطلاقه أو خروج خارج منه، فبناء على ذلك لا يكون
ناقضًا للوضوء.
ثم قيدوا ذلك فقالوا: (غَيْرِ مُحْتَبٍ)، المحتبي هو من جلس على إليتيه، ونصب فخذيه
وساقيه، فقالوا: لأنه في هذه الحالة يكون فيه انفتاح في حلقة دبره، وبناء على ذلك
قالوا: إن هذه ليست مما يستمسك الإنسان نفسه، فحكموا بأنها داخلة في الناقض،
واعتبروا أنها حال ينتقض بها الوضوء، أي: من نام على هذه الحال ينتقض وضوءه.
قال: (أو مُتَّكِئٍ) أي: المتكئ على أريكة أو نحوها، فكذلك قالوا: إنه إذا اتكأ
ارتفع فخذه الأخرى، فحصل انفراج في حلقة دبره، فأمكن خروج الخارج بسهولة، ولأجل ذلك
أيضا قالوا: هذا مستثنى من المستثنى، كيف؟ لأن النوم ناقض للوضوء، ويستثنى من ذلك
النوم اليسير ممن استحكم نفسه، بأن يكون قاعدًا مستجمعًا لفرجه، أو قائما.
ويستثنى من ذلك: المحتبي والمتكئ والمُسْتَنِدٍ، أي: إذا استند الإنسان أيضًا، فإذا
استند فإنَّ أعضاءه ترتخي، ويرتفع فخذه أيضًا "أليتيه" فربما انفرجت حلقة دبره،
فخرج منه الخارج، وهذا من الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، وجمع بين ما جاء من الأدلة
في التخفيف من ذلك.
وهنا قال المؤلف -رحمه الله-: (إلا يَسِيرَ نَوْمٍ) فدلَّ على أنه لو كان كثيرًا من
قاعدٍ أو قائم فإنه يُلحق بالأصل في كونه ناقضًا من (نَواقِض الوُضوءِ).
إذًا النوم ناقض للوضوء لمن نام مضطجعا على الإطلاق، أو نام نومًا كثيرا على
الإطلاق، أو نام نوما يسيرا ولكنه كان متكئا أو محتبيًا أو مستندًا، ففي هذه
الأحوال كلها يكون النوم ناقضًا للوضوء.
ولم تبق إلا حالة واحدة، وهي أن يكون النوم نوما يسيرا من (مِن قَاعِدٍ أو قَائِمٍ
غَيْرِ مُحْتَبٍ أو مُتَّكِئٍ أو مُسْتَنِدٍ) فيكون في هذه الحالة بخصوصها.
وتبقى حالة وهي أكثر الحالات إشكالا، وهي أن يكون الإنسان قاعدًا ومستجمعًا لنفسه
ولكن تغيب عينه، ثم بعد ذلك يحصل عنده شك، هل نام نومًا كثيرًا، فيحكم على نفسه
بإعادة الوضوء؟ أو كان نومه يسيرًا فيبقى على طهارته؟
قالوا: إذا شك الإنسان وهو نائم نوما يسيرًا (مِن قَاعِدٍ أو قَائِمٍ غَيْرِ
مُحْتَبٍ أو مُتَّكِئٍ أو مُسْتَنِدٍ) إذا شك في القليل والكثرة، فالأصل بقاء
طهارته، فما شك فيه من حصول سبب للحدث لا يُلتفت إليه، وبناء على ذلك يُصلي بطهوره
ولا يحتاج إلى تجديده.
فهذا تفصيل الكلام في هذه المسألة، وهنا ذكره الشارح على نحو ما ذكرنا.
إذًا النوم ناقض للوضوء، واستثني من هذا حال واحدة لا يحكم فيها بانتقاض الإنسان
لطهارته، وهي أن ينام يسير نوم (مِن قَاعِدٍ أو قَائِمٍ غَيْرِ مُحْتَبٍ أو
مُتَّكِئٍ أو مُسْتَنِدٍ) هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وشيخ الإسلام وبعضهم
ربما وسع في الجالس، لكن ليس هذا محل ذكر ما قرره ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
بعد ذلك قال: (وعُلِمَ مِن كَلامِه) كما ذكرنا في أول الدرس (أنَّ الجُنُونَ
والإغماءَ والسُّكْرَ يَنْقُضُ كَثِيرُهَا ويَسِيرُها)؛ لأنها أبلغ من النوم،
(ذكرَهُ في "المُبْدِعِ" إِجْمَاعاً).
قال: (ويَنْقُضُ أَيْضَاً النَّوْمُ مِن مُضْطَجِعٍ ورَاكعٍ وسَاجدٍ مُطْلَقاً) إذا
كان راكعًا أو ساجدًا أو مضطجعًا فلا يُنظر هل كان النوم يسيرًا أو كثيرًا، لأن هذا
في الغالب لا يستحكم نفسه، فيحكم بحصول النوم، والنوم ناقض للوضوء باعتبار أنه سبب
لوقوعه، وغالب فيه، خاصة لمن لم يستجمع ويستمسك نفسه، ولذلك يقولون: مثل المحتبي
والمتكئ والمستند.
قال: (والكَثِيرُ مِن قَائِمٍ وقَاعِدٍ) يعني: حتى ولو كان كثيرا، ولكن الكلام في
كيفية الحكم على النوم بالكثير؟ إما أن تعرف من نفسك أنك نمت كثيرًا أو يخبرك من
بجوارك، فيقول لك: نمت نصف ساعة أو أكثر أو نحو ذلك.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- الحديث في هذا، وفيه قول النبي ﷺ: («العَيْنُ
وِكَاءُ السَّهِ») ووكاء يعني: رباط، والسه يعني: حلقة الدبر، فما دامت العين
مفتوحة، فإن السه التي هي حلقة الدبر ممسوكة، ووكاؤها يعني: رباطها، فإذا نامت
العين يستطلق هذا الوكاء، فيحصل عند الفرج في الدبر انفرجا، وفي الغالب يخرج ما
يكون من ريح ونحوه.
{قال -رحمه الله-: (والرَّابِعُ: مَسُّ ذَكَرِ آدَمِيٍّ تَعَمَّدَهُ أَوْ لا
مُتَّصِلٍ ولو أَشَلَّ أو أَقْلَفَ أو مِن مَيِّتٍ، لا الأُنْثَيَيْنِ ولا بَائِنٍ
أو مَحِلِّهِ)}.
قال: (الرَّابِعُ: مَسُّ ذَكَرِ آدَمِيٍّ) هذا هو الناقض الرابع عند الحنابلة
-رحمهم الله تعالى-، وأصل ذلك ما جاء في الحديث أنَّ النبي ﷺ قال: «مَنْ مَسَّ
ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» ، فقالوا: إن مس الذكر ناقض للوضوء، وقالوا: وكما أن هذا
الحديث قد جاء صريحًا في ذلك، فإن هذا قد جاء عن أكثر من عشرة من أصحاب رسول الله
ﷺ، وهو مُؤيدٌ لِمَا دلَّ عليه النص، وما جاء به الدليل. فقالوا: هو ناقض للوضوء،
ولهذا قالوا: (مَسُّ ذَكَرِ آدَمِيٍّ)، فيخرج من ذلك ما لو مس ذكر حيوان، فإنه لا
يعتبر ناقضا للوضوء، لأنَّ ﷺ قال: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» فإن قيل:
الحكم إذًا منوط بذكره! قالوا: إذا كان مسه لذكره مع حاجته إليه ناقضة للوضوء، فمن
باب أولى أن مس ذكر غير ناقض للوضوء.
قالوا: (تَعَمَّدَهُ أَوْ لا)؛ لأنه يصدق عليه أنه ماس، وهذا يدل على أنه وجد من
الإنسان شهوة أو لا؟ ولم يُقيد المؤلف -رحمه الله تعالى- الحكم بصغير أو كبير،
فبناء على ذلك لو أن امرأة غسلت فرج صبيها فمست ذكره، فان فإن وضوءها ينتقض، ويجب
عليها إعادة الوضوء على ما قرره مشهور المذهب عند الحنابلة -رحمهم الله-.
ثم قالوا: لا يختلف الحكم بين أن يكون ذكر رجل صحيح (ولو أَشَلَّ)، فإنه لا يخرج عن
كونه ذكرا، وباق له حكمه.
(أو أَقْلَفَ)، القلفة هي الجلدة التي تكون أعلى الذكر قبل الختان، فيقول المؤلف:
ما دام أنَّ القلفة متصلة غير مقطوعة، فهي في حكم الذكر.
(أو مِن مَيِّتٍ) فسواء كان حيًّا وهذا ظاهر، أو (أو مِن مَيِّتٍ)؛ لأنه داخلٌ في
عموم اللفظ، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (لا الأُنْثَيَيْنِ) وبناء على ذلك
أنه لو مَسَّ خُصيتيه فلا يكون ناقضا للوضوء، وسيأتي الكلام لو مس حلقة دبره، وإن
كان الحقيقة أنَّ المؤلف ذكرها في مس الأنثى بشهوة، ولذا نتركها إلى محل ذكرها.
إذًا من مَسَّ أنثييه أو خصيتيه فإنه لا يكون ماسًّا لذكره، ولا يعتبر ذلك ناقضا
لوضوئه، وهذا إذًا مشهور المذهب عند الحنابلة.
قال: (ولا بَائِنٍ) أي: لو كان مقطوع الذكر، يعني لو أنَّ ذَكَرًا مقطوعًا في
الأرض، فيقولون: قد انتهت أحكامه، وصار قطعة لحم لا يتعلق بها حكم.
قال: (أو مَحِلِّهِ) يعني: لو أنَّ شخصًا قطع ذكره، ولم يبق إلا محله، فهنا يقولون:
لا يتعلق به حكم، وبناء على ذلك: من مَسَّ هذا المحل فإنه لا ينتفض وضوءه، ولا يجب
عليه إعادته، ولا يكون بهذا المس محدثا.
{قال -رحمه الله-: (ومَسُّ قُبُلٍ مِن امرَأَةٍ، وهو فَرْجُها الذي بينَ
إِسْكَتَيْهَا؛ لقَوْلِه ﷺ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» رواهُ مَالِكٌ
والشَّافِعِيُّ وغَيْرُهُمَا، وصَحَّحَهُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ، وفي لَفْظٍ:
«مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» صَحَّحَهُ أَحْمَدُ.
ولا يَنْقُضُ مَسُّ شُفْرَيْهَا وهما حَافَّتَا فَرْجِهَا)}.
قال: (ومَسُّ قُبُلٍ مِن امرَأَةٍ، وهو فَرْجُها الذي بينَ إِسْكَتَيْهَا) إذًا
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: يلحق بمسِّ الذكر في نقض الوضوء مَسُّ المرأةِ
قُبُلَهَا، أو قُبُل غيرها، أو مسَّ المكلف قُبل امرأة، فمن مسَّ قُبُلا انتقض
وضوءه، لماذا؟ قالوا: لأنه أولا في حكم الذكر، ويحصل بِمَسِّه ما يحصل بِمَسِّ
الذكر، ثم أيضًا أنه جاء في بعض ألفاظ الحديث أنَّ النبي ﷺ عَبَّرَ بالفرج، فقال:
(«مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ»)، فدخل في ذلك قُبُل المرأة كالرجل سواء
بسواء.
إذًا الآن هو قَرَّر أنَّ المسَّ ناقضٌ للوضوء، طيب ما الذي يتعلق به حكم المس؟
قال: (فَرْجُها الذي بينَ إِسْكَتَيْهَا)، يعني: شفريها، فما يحيط بالفرج من جلدة
محيطة به، لو مسها لا يكون ذلك ناقضًا للوضوء، ولكن إذا مسَّ داخل الفرج فهنا يتعلق
به حكم النقض، ووجب عليه إعادة الوضوء، ولذلك قال: (ولا يَنْقُضُ مَسُّ شُفْرَيْهَا
وهما حَافَّتَا فَرْجِهَا)، أي: هما المحيطان به.
{قال: (ويَنْقُضُ المَسُّ بيَدٍ بلا حَائِلٍ ولو كانَت زَائِدَةً، سَوَاءٌ كانَ
بظَهْرِ كَفِّهِ، أو بَطْنِه، أو حَرْفِه مِن رُؤُوسِ الأَصَابِعِ إلى الكُوعِ،
لعُمُومِ حديثِ: «مَن أَفْضَى بِيَدِه إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ فَقَدْ
وَجَبَ عَلَيْهِ الوُضُوءُ» رواهُ أَحْمَدُ. لَكِنْ لا يَنْقُضُ مَسُّهُ
بالظُّفْرِ)}.
هذا بيان ما يتعلق به حكم المس، ولما قال المؤلف: مس القبل أو مس الذكر ناقض
للوضوء، كأنه يجيب على، متى يكون المس ناقضا؟
أول شيء (المَسُّ بيَدٍ بلا حَائِلٍ) أن يكون المس بلا حائل، والحائل هو أن يباشر
بيده فرجه أو ذكره، فلا يكون ثم حائل من خرقة أو غيرها، فإذا وجد ما يحول بين
المماسة والمباشرة، فإنه لا يعتبر ماسا، ولا يتعلق به حكم النقض، ولذلك قال:
(ويَنْقُضُ المَسُّ بيَدٍ بلا حَائِلٍ) يعني: أن يكون مباشرا، بأن تُلامس جلدة
أصابعه، أو يده، أو باطن كفه، أو ظاهرها ذكره، سواء في أصله، أو في رأسه، أو في
أجزائه، سواء كان ذلك من فوق، أو من تحت، أو من جانبيه؛ لأنها كلها داخلة في اسم
الذكر.
ومثل ذلك لو مَسَّ فرج امرأة، وهو ما بين شُفريها، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
(ولو كانَت زَائِدَةً) يعني: لو كانت فيه أصبع زائدة، فَمَسَّ بهذه الأصبع، فالأصبع
الزائدة في حكم اليد، وبناء على ذلك يكون في حكم المس، فينتفض بذلك وضوءه.
قال: (سَوَاءٌ كانَ بظَهْرِ كَفِّهِ، أو بَطْنِه) طبعا المس يتعلق ببطن الكف في نقض
الوضوء إجماعًا، ثم الحنابلة -رحمهم الله تعالى- يقولون: ظاهرها في حكم باطنها إلى
الكوع، التي هي محل القطع في السرقة، فبأي جزء من هذه الأجزاء، حتى ولو بحافتيها،
أو بعرضها، أو بجانبيها على هذا النحو أو هذا، فإنه يُعتبر أنه كما لو مس، أو هنا
بحافة يده، فيدخل به حكم المسح.
وأما الظفر فلا؛ ولو كان الظفرة طويلة فوصل بظفره لم تباشره أصابع يديه وجلدته، ولو
أحس أن ظفره قد وصلت إلى ذَكَرِه أو إلى ذكر ما أو نحوه، فبناء على ذلك نقول: الظفر
في المنفصل لا في حكم المتصل، على القاعدة التي طردها الفقهاء في مسائل كثيرة ستأتي
الإشارة إليها في ثنايا الفروع التي تتعلق بمثل هذه الأحكام في محلها -بإذن الله جل
وعلا-.
{(ويَنْقُضُ لَمْسُهُمَا؛ أي: لَمْسُ الذَّكَرِ والقُبُلِ معاً مِن خُنْثَى
مُشْكِلٍ لشَهْوَةٍ أو لا؛ إذْ أَحَدُهُمَا أَصْلِيٌّ قَطْعاً.
ويَنْقُضُ أَيْضاً لَمْسُ ذَكَرٍ ذَكَرَهُ؛ أي: ذَكَرَ الخُنْثَى المُشْكِلِ
لشَهْوَةٍ؛ لأنَّهُ إِنْ كانَ ذَكَراً فقَد مَسَّ ذَكَرَه، وإنْ كانَ امرأةً فقَد
لَمَسَها لشَهْوَةٍ، فإنْ لم يَمَسُّه لشَهْوَةٍ أو مَسَّ قُبُلَهُ لم يَنْقُضْ، أو
أُنْثَى قُبُلَهُ؛ أي: ويَنْقُضُ لَمْسُ أُنْثَى قُبُلَ الخُنْثَى المُشْكِلِ
لشَهْوَةٍ فِيهِمَا؛ أي: في هذه والتي قَبْلَهَا؛ لأنَّهُ إِنْ كانَ أُنْثَى فقَد
مَسَّتْ فَرْجَهَا، وإن كانَ ذَكَراً فقَدْ لَمَسَتْهُ لشَهْوَةٍ، فإنْ كانَ
اللَّمْسُ لغَيْرِهَا أو مَسَّتْ ذَكَرَهُ لم يَنْتَقِضْ وُضُوؤُهَا)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ويَنْقُضُ لَمْسُهُمَا؛ أي: لَمْسُ الذَّكَرِ
والقُبُلِ معاً مِن خُنْثَى مُشْكِلٍ لشَهْوَةٍ أو لا)، هذه مسائل ربما يكون فيها
نُدرة، ولكن مع ذلك لا تنفك الحاجة إليها لإمكان وقوعها من جهة.
ثم من جهة ثانية وهي الأهم، أنَّ فيها تمرينًا للذهن على ذكر ما يتعلق به حكم المس،
لأنه مس فيه خفاء، فأول شيء الكلام إنما هو في الخنثى المشكل، والخنثى المشكل يخرج
ذلك الخنثى غير المشكل، يعني: من له آلتان وعرف أهو ذكر أم أنثى، فلو افترضنا أن
رجلا له آلة أنثى، ولكنه يُعرف أنه رجل من شعر وجهه أو خروج بوله ومنيه من ذكره
ونحو ذلك، فَمَسَّ هذا المدخل الذي يُشبه قُبُل الأنثى نقول: هذا لا حكم له، ووضوؤه
صحيح وهو لم ينتقض.
إذًا محل الكلام (مِن خُنْثَى مُشْكِلٍ) يعني: له آلتان، ولم يعلم أهو ذكر أم أنثى؟
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- إذا مس ذكره، أي: ذكر الخنثى المشكل (لشَهْوَةٍ)
فقد انتقض وضوءه لماذا؟ لأنه إذا مسَّ ذكر الخنثى، وهذا الخنثى قد يكون أنثى قد
يكون ذكرًا، فإذا كان ذكرًا، فقد مس ذكر الرجل، وذكر الرجل ناقض للوضوء، أليس كذلك؟
وإذا كانت أنثى فقد مسَّ ذكرها، والذكر ليس قبلا فيها، وإنما هو عضو زائد، ولكنه
إذا كان بشهوة فقد مسها بشهوة، ومس امرأة بشهوة ينقض الوضوء عند الحنابلة، كما
سيأتي بعد قليل، فلأجل ذلك: قال: (لأنَّهُ إِنْ كانَ ذَكَراً فقَد مَسَّ ذَكَرَه،
وإنْ كانَ امرأةً فقَد لَمَسَها لشَهْوَةٍ.
أمَّا إذا كان المس لغير شهوة، فبناء على ذلك لا ينتقض. لماذا؟ لأننا لم نتيقن أنه
مس ذكرا لشهوة، فهو قد يكون ذكرا، وقد لا يكون ذكرا. وبناء على ذلك لا يُحكم به.
(أو مَسَّ قُبُلَهُ)، لَمَّا مَسَّ قبل الخنثى وهو لم يكن بشهوة، فقد يكون هذا
القبل لرجل فلا يؤثر، قد يكون لرجل، فيكون كما لو أنه مس طرف يده، وبناء على ذلك لا
ينتقض.
قال: (أو أُنْثَى قُبُلَهُ، ويَنْقُضُ لَمْسُ أُنْثَى قُبُلَ الخُنْثَى المُشْكِلِ
لشَهْوَةٍ فِيهِمَا) يعني: لو أنَّ امرأة مست قبل خنثى لشهوة، والمرأة لَمَّا مست
قبل هذا الخنثى لا يخلو إما أن تكون هذه هذا الخنثى امرأة فقد مست قبلها، ومسُّ
قُبُل المرأة ينقض الوضوء.
وإن كان هذا الخنثى المشكل ذكرا، فقد مسته لشهوة، وبناء ذلك لم ينتقض، وأما إذا
كانت هذه المرأة مست الخنثى بغير شهوة فلا نحكم بالنقض؛ لأنَّه من الممكن أن تكون
الآلة التي مستها ليست هي الآلة الأصلية التي يتعلق بها.
(فإنْ كانَ اللَّمْسُ لغَيْرِهَا) أي: لغير شهوة مثلا كما قلنا: لم ينتفض الوضوء،
أو مس الذكر أو لم ينتفض وضوءها لأنها يمكن أن يكون أن تكون أنثى.
{قال -رحمه الله-: (والخَامِسُ: مَسُّه؛ أي: الذَّكَرِ امرَأَةً بشَهْوَةٍ؛
لأنَّهَا التي تَدْعُو إلى الحَدَثِ، والباءُ للمُصَاحَبَةِ، والمَرْأَةُ شَامِلَةٌ
للأجنَبِيَّةِ، وذَاتِ المَحْرَمِ والمَيِّتَةِ والكَبِيرَةِ والصَّغِيرَةِ
المُمَيِّزَةِ، وسَوَاءٌ كانَ المَسُّ باليَدِ أو غَيْرِهَا ولو بزَائِدٍ لزَائِدٍ
أو أَشَلَّ)}.
قال: (والخَامِسُ: مَسُّه؛ أي: الذَّكَرِ امرَأَةً بشَهْوَةٍ)، إذا مسَّ الرجل
المرأة بشهوة، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أن ذلك ناقض للوضوء، لماذا؟ لأنَّ
الله -جل وعلا- قال: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [النساء:43]، وهذا يحتمل أن
تكون الملامسة هنا بمعنى: الجماع، وتحتمل أن تكون مطلق الملامسة، فالحنابلة حملوا
ذلك على الأحوط، وهو عموم الملامسة، ولكنهم قيدوا ذلك بشهوة، فمن أين أخذتم
التقييد؟ قالوا: لأنه جاء في الأدلة ما يدل على أنَّ النبي ﷺ مثلا قَبَّلَ زوجته ثم
خرج يصلي ، وجمعا بين هذه النصوص "الآية، والحديث" قلنا: إن المس الذي يُنقض الوضوء
هو المس بشهوة؛ ولأنَّ المس بشهوة هو الذي يمكن منه خروج الخارج، ولَمَّا كان ذلك
أمرًا محتملاً غالبًا؛ جُعِلَ المناط لحصول الشهوة، لأنَّ الغالب أنه يكون معه خروج
مذي ونحوه، وبناء على ذلك قالوا: إن المس يحكم فيه انتقاض ووجوب الوضوء، كما قال
المؤلف -رحمه الله-، (ومَسُّه؛ أي: الذَّكَرِ امرَأَةً بشَهْوَةٍ)، ثم قال:
(والباءُ للمُصَاحَبَةِ)، يعني: أن تصحب ذلك اللمس شهوة حال المماسة، لأنها هي التي
تدعو للحدث كما قلنا.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنَّ الحكم في ذلك، يعني: في المس بشهوة، مطلق،
سواء مس امرأة أجنبية أو ذات محرم، كما لو كانت أخته، أو خالته، أو عمته، أو بنت
أخيه، أو بنت أخته، فما دام أنه صارت منه مماسة بشهوة فهو ناقض للوضوء، حتى ولو كان
الإنسان عادة أنه لا تتحرك شهوته، ولكن الشهوة انبعاث داخلي، لا يتحكم الإنسان
فيها، فربما انبعثت شهوته من حيث لا يشعر، فمتى ما حصل ذلك؛ حصل انتقاض للوضوء،
وإلا فإذا كان الشخص يستدعي الشهوة مع محارمه، فوضوؤه منتقض، وعليه في ذلك إثم، وهو
أعظم ما يكون من الإثم لكونه يتعلق بمحارمه، والنصوص في مثل ذلك عظيمة، قال:
"أفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قالَ: «الحَمْوُ المَوْتُ» .
إذًا ينبغي الانتباه لهذا، ولكن إذا حصل فهو ناقض للوضوء، حتى ولو كان بغير قصد
منه.
قال: (وذَاتِ المَحْرَمِ والمَيِّتَةِ والكَبِيرَةِ والصَّغِيرَةِ المُمَيِّزَةِ)،
يخرج من ذلك الصغيرة، فالصغيرة يقول: لا حكم لها، ولذلك حمل النبي ﷺ أُمامة وصلى
بها، ولم يكن في ذلك شيء.
قال: (وسَوَاءٌ كانَ المَسُّ باليَدِ أو غَيْرِهَا)، إذًا لابد أن تعلم أولا أنَّ
المماسة هي مباشرة الجلد للجلد، أو العضو للعضو بدون حائل، وأمَّا مس الذكر فهو
إنما متعلق بالكف، باطن اليد وظاهرها وحوافها.
أما في مس المرأة لو كانت بذراعه، أو بعَضُضِة، أو وقع خده على خدها، أو وقعت ساقه
على ساقها، كيفما كان، ومتى ما حصلت مماسة، فالماسة الذي مَسَّ -عندنا ماسٌ
وممسوس-فالماس انتقض وضوؤه لعموم ما ذكرنا في المشهور من المذهب عند الحنابلة، وذلك
خلافا لشيخ الإسلام وغيره.
الشافعية يرون أنَّ المس مطلق حتى ولو كان بغير شهوة، ولذلك يجد الشافعيون حرجًا في
الطواف، خاصة مع الزحام، فإنه لا ينفك في أحوال كثيرة من أنه ربما وقع شيء من
الممارسة.
فعلى كل حال الحنابلة قيدوا ذلك بالشهوة لِمَا ذكرنا من الجمع بين الأدلة، وما جاء
في النصوص، ولذلك قال: (ولو بزَائِدٍ لزَائِدٍ أو أَشَلَّ) يعني: لو كانت بأصبع
زائدة، أو كان ذلك أشل، كما لو كانت يده لا حركة بها، أو ساق أو نحو ذلك، فإنه لا
يمنع ذلك أن ينتفض الوضوء، ما دام أنه قد حصلت مماسة، وهذه المماسة بدون حائل
وصاحبها شهوة، أي: حال مماسة هذا العضو لذاك.
ويفهم من هذا أنه لو مسَّ بدون شهوة، ولكن فَكَّر في ذلك وتحركت شهوته، أنه لم
يتعلق بذلك حكم؛ لأنَّ الحكم متعلق بأن يحصلا جميعا في أَنٍ واحد، أي أن يكون هناك
مس يصاحبه شهوة.
{قال -رحمه الله-: (أو تَمَسُّهُ بها؛ أي: يَنْقُضُ مَسُّهَا للرَّجُلِ بشَهْوَةٍ
كعَكْسِه السَّابِقِ)}.
قال: (أو تَمَسُّهُ بها)، فلو أنَّ امرأةً مست رجلا -كما ذكرنا- بدون حائل وبشهوة
فينتقض وضوؤها، ومتعلق الحكم هو بالماسِّ دون الممسوس، وبناء على ذلك: لو أنَّ
شخصًا مسته امرأته بدون أن يشعر، حتى وقعت يدها على يده، فتحركت شهوته، فالممسوس لا
يَنتفض وضوؤه، ولو حصل من ذلك تحرك للشهوة.
إذا متعلق الحكم هو الماس، وأن يكون بلا حائل، وأن يصحب ذلك شهوة.
{قال -رحمه الله-: (ويَنْقُضُ مَسُّ حَلْقَةِ دُبُرٍ؛ لأنَّهُ فَرْجٌ)}.
لقد ذكر المؤلف هذه المسألة في هذا الموضع، مع أنها في الذي قبله، فقال: (ويَنْقُضُ
مَسُّ حَلْقَةِ دُبُرٍ) هل حلقة الدبر داخله في عموم الفرج، فيتعلق بها حكم النقض؟
هذا ظاهر كلامه، وإلا فهي لا متعلق لها هنا، فهي ليست مقيدة بشهوة، ولا متعلقة بحكم
مس حلقة دبر امرأة، أو حلقة رجل، فإذًا هذه في الناقض الرابع، وليست في الخامس،
فعلى كل حال أطلق مشهور المذهب عند الحنابلة أنَّ حلقة الدبر داخلة في اسم الفرج،
وبذا تكون من نواقض الوضوء، وإن كان قول جمع من أهل التحقيق -كما في التنقيح، وعند
صاحب الفروع وغيره- أنها لا تدخل في ذلك، ولا تلحق بحكم مس الذكر، ومس قبل المرأة.
{قال -رحمه الله-: (ويَنْقُضُ مَسُّ حَلْقَةِ دُبُرٍ؛ لأنَّهُ فَرْجٌ سَوَاءٌ كانَ
مِنْهُ أو مِن غَيْرِه لا مَسُّ شَعْرٍ وظُفْرٍ وسِنٍّ مِنْهُ أو مِنْهَا ولا
المَسُّ بها)}.
قال: (سَوَاءٌ كانَ مِنْهُ أو مِنها) لَمَّا قال: (منه أو منها) كأنه أراد أن يربط
هذه المسألة بهذا الناقض، أو بعبارة أخرى هي على طريقة الفقهاء -رحمهم الله- في حمل
كلام الماتن على أكثر ما يناسبه في موضعه، يعني: دون أن يستدرك ويقول: الواجب أنَّ
هذا كان كذا أو كذا، فأراد أن يبين أن هذا ممكن أن يدخل في هذا الناقض من جهة أنه
ربما يمس حلقة دبر امرأته، أو أن تمس امرأة حلقة دبر رجل، فكأنه يريد أن يدخلها من
هذه الجهة.
ولكن يشكل عليه أن الكلام في هذا إنما هو في مطلق المس، والخامس: إنما هو مس مع
الشهوة.
قال: (لا مَسُّ شَعْرٍ وظُفْرٍ وسِنٍّ مِنْهُ أو مِنْهَا) يعني: مس هذه الأشياء
-كما قلنا-: لَمَّا ذكروا أن حكمها حكم المنفصل، فلو مس رجل شعر امرأة ثم أحس مع
ذلك بشهوة لم ينتفض وضوؤه، لأنَّ شعرها في حكم المنفصل لا في حكم المتصل.
أو سنا مثل ذلك، أو ضفرا كذلك، وهي لو مست من الرجل شعره أو ظفره أو سنه، فلا ينتقض
وضوؤها ولو وجدت شهوة؛ لأنَّ هذه في أحكام المنفصل، وكما قلنا: إن الفقهاء طردوا
الحكم في هذه الأشياء لَمَّا وصفوها بالانفصال.
{قال -رحمه الله-: (ولا مَسُّ رَجُلٍ أَمْرَدَ ولو بشَهْوَةٍ، ولا المَسُّ معَ
حَائِلٍ؛ لأنَّهُ لم يَمَسَّ البَشْرَةِ)}
قال: (ولا مَسُّ رَجُلٍ أَمْرَدَ ولو بشَهْوَةٍ)، الأمرد هو الشاب الذي أخضر شاربه
ولم ينبت، ففي هذه الحالة يستشرف الشيطان لضعاف النفوس الميل إلى المردان كالميل
إلى النساء، فلأجل ذلك ذَكَرَ الفقهاء مسائل كثيرة فب ذلك، منها: هل يلحق بالمرأة
لكثرة التعلق وكثرة فساد القلوب بمثل هذه الأحوال؟
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: مهما قلنا: إن الشهوة عند ضعاف النفوس تتحرك، وأنه
يحصل به من الفتنة ما يحصل بالنساء في أحوال كثيرة، لكنه لا يدخل في اسم المرأة،
وبناء على ذلك لا يتعلق الحكم بمسه، حتى ولو كان بشهوة، ولذا لا يكون فيه نقض
للوضوء.
{قال -رحمه الله-: (ولا المَسُّ معَ حَائِلٍ؛ لأنَّهُ لم يَمَسَّ البَشْرَةِ)}.
كما ذكرنا أنَّ قَيْدَ المس الذي يوجب الوضوء هو أن يكون مسًّا مباشرا لا حائل فيه
من ثياب أو خرقة أو غيرها، فإذا وجد شيء من ذلك وحتى ولو وجدت شهوة، فإن الوضوء لا
ينتقض إلا أن يخرج خارج، فيكون الحدث بخروج الخارج لا بحصول المس؛ لأنَّ المس مع
حائل لا يكون له حكم النقض، ولا يتعلق به الحدث.
{قال -رحمه الله-: (ولا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ مَلْمُوسٍ بَدَنُه ولو وَجَدَ مِنْهُ
شَهْوَةً، ذَكَراً كانَ أو أُنْثَى)}.
كما قلنا: إن تعلق الحكم بالماس لا بالممسوس، وبناء على ذلك لو وجد من الممسوس الذي
مُسَّت بشرته مباشرة بدون حائل شيء من الشهوة، فلا نقض لوضوئه؛ لأنَّ الحكم بالماس.
إذًا قيدوه أن يكون ماسًّا، وأن يكون بلا حائل، وأن يكون مع شهوة، وأن يكون من ذكر
لأنثى، أو من أنثى لذكر، ولا يكون من ذكر لذكر، ولا من أنثى لأنثى، ولو وجدت شهوة
أو نحوها.
{قال -رحمه الله-: (وكذا لا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ مَلْمُوسٍ فَرْجُه)}.
لو مَسَّ ذكر غيره، فهذا الممسوس ذكره، أو هذه المرأة الممسوس فرجها، لا ينتقض
وضوؤها.
{قال -رحمه الله-: (ويَنْقُضُ غُسْلُ مَيِّتٍ مُسْلِماً كانَ أو كَافِراً، ذَكَراً
كانَ أو أُنْثَى، صَغِيراً أو كَبِيراً، رُوِيَ عَن ابنِ عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ
أنَّهُمَا كَانَا يَأْمُرَانِ غَاسِلَ المَيِّتِ بالوُضُوءِ، والغَاسِلُ هو مَن
يُقَلِّبُه ويُبَاشِرُه ولو مَرَّةً، لا مَن يَصُبُّ عليه المَاءَ، ولا مَن
يُيَمِّمُه، وهذا هو السَّادِسُ)}.
هذا هو السادس من (نَواقِض الوُضوءِ) عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- وهو تغسيل
الميت، فمن غَسَّل ميتا عندهم فإنه ينتفض وضوؤه، وأصل ذلك عندهم مجيئه عن الصحابة،
وقالوا: في الغالب مغسل الميت لا ينفك من أن يمس ذكر الميت، وبناء على ذلك: لَمَّا
كان هذا حاله غالبًا جعلت مثل النوم في كونه ناقضا للوضوء؛ لأنه سبب لحصول الخارج،
فكذلك تغسيل الميت سبب لمس ذكره، فكان كذلك، قالوا: وأصل ذلك عند الحنابلة ما جاء
عن الصحابة، مثل ما جاء عن ابن عباس، وجاء عن ابن عمر، فاعتبر الحنابلة بذلك على
سبيل الاحتياط، وهذا وإن رأيتموه بعيدا، لكن من ولي تغسيل الموتى يعرف أن ذلك لا
ينفك كثير من المغسلين من أن يحصل مَسٌ بيده لذكر الميت، وبناء على ذلك له معنى،
وإن كان في هذه المسألة خلاف قوي، وقول عند الحنابلة آخر نصره جمع من محققي المذهب،
وهو قول أكثر أهل العلم، ولو على سبيل الاحتياط.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله-: إن من يتعلق به الحكم هو الغاسل، ولكن من هو الغاسل؟
قال: (والغَاسِلُ هو مَن يُقَلِّبُه ويُبَاشِرُه ولو مَرَّةً) أي من يباشر جلده
بالتنظيف والحك ونحو ذلك ولو مرة، يعني: ولو كان شيئًا قليلا، وليس بلازم أنه من
أول تغسيل الميت إلى آخره، ما دام أنه شارك في تقليب ومباشرة، فهو غاسل للميت،
فيتعلق به حكم نقض الوضوء ولزومه.
قال: (لا مَن يَصُبُّ عليه المَاءَ، ولا مَن يُيَمِّمُه) أي أنَّ من يصب الماء دون
أن يمس الميت لا يدخل في ذلك، أو (مَن يُيَمِّمُه) فهذا أيضًا لا يعتبر غسلا، وإن
كان يقوم مقامه، ولكنه ليس غسل على الحقيقة، وبناء على ذلك قالوا: إنه لا يتعلق به
حكم الوضوء.
{قال -رحمه الله-: (والسَّابِعُ: أَكْلُ اللَّحْمِ خَاصَّةً مِن الجَزُورِ؛ أي:
الإبِلِ فَلا يَنْقُضُ بَقِيَّةُ أَجْزَائِهَا كالكَبِدِ، وشُرْبُ لَبَنِهَا
ومَرَقِ لَحْمِهَا سَوَاءٌ كانَ نَيِّئاً أو مَطْبُوخاً، قالَ أَحْمَدُ: فيه
حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، حَدِيثُ البَرَاءِ وجَابِرِ بنِ سَمُرَةَ)}.
من مشهور المذهب عند الحنابلة أنَّ أكل لحم الجذور أو الإبل يعد ناقضًا من نواقض
الوضوء، وهو من المفردات خلافا لجماهير أهل العلم، وأصل ذلك أنَّ فيه حديثان
صحيحان، "أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» أَنَتَوَضَّأُ
مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئت»" ، فلما علق الوضوء في الغنم بالمشيئة،
دل على أن الوضوء من لحم الجزر على سبيل اللزوم، وليس إلى اختيار الإنسان ولا نظره،
وبناء على ذلك قالوا: إنه ناقض من (نَواقِضِ الوُضوءِ).
ثم هل العلة معلومة أو تعبدية؟
المشهور عند الحنابلة أنها تعبدية، ومنهم من اجتهد سواء قالوا: إن فيه قوة، ويلحق
الإنسان شيئا من طبعها أو نحوها تبرد بالوضوء، أو ما يكون من احتفافها بالشياطين،
والوضوء يبعد الإنسان عن تلك الحال.
لكن على كل حال هم يقولون: إن العلة تعبدية، وقالوا: إنه ناقض للوضوء لخصوص الحديث
به، وأما حديث «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَرْكَ
الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» ، فيقولون: هذا عام، والعام لا يُنسخ به
الخاص، فهذا له مورد وذاك له مورد، فلأجل ذلك لم يذهب الحنابلة -رحمهم الله تعالى-
إلى ما ذهب إليه الجمهور.
والإمام النووي -رحمه الله- كأنه قَوَّى مذهب الحنابلة في ذلك لصريح الحديث وخصوصه
فيه.
ثم لما قال الحنابلة: إن لحم الجزور ناقض للوضوء، فماذا يدخل في ذلك؟ هل اسم اللحم
يدخل فيه كل أجزائه، أو هو للحم خاصة، فيخرج من ذلك ما يكون من مصران، وما يكون من
شحم، وما يكون من كبد، وما يكون من طحال أو نحوه.
الحنابلة لما جعلوا العلة قالوا: والحديث جاء باللحم فقصروه عليه، فإن قال قائل:
لَمَّا ذكر الله -جل وعلا- في كتابه لحم الخنزير في قوبه: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً
أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [الأنعام:145] أدخل الحنابلة والفقهاء بالإجماع كل
أجزاء الخنزير في ذلك، بينما قالوا الوضوء من لحم الجزور جاء على سبيل الاستثناء،
وبناء على ذلك قيدوه ولم يعموه، وإن كان بعض الحنابلة كالشيخ ابن سعدي -رحمه الله
تعالى- وجرى على ذلك بعض أهل الإفتاء على التعميم في ذلك.
ولكن على كل حال هو مثل ما ذكرنا أن هذا جاء على سبيل الاستثناء، فقصروه على ما دل
عليه خصوص اللفظ دون ما سواه.
{قال -رحمه الله-: (والثَّامِنُ المُشَارُ إليه بقَوْلِه: "كُلُّ مَا أَوْجَبَ
غُسْلاً" كإِسْلامٍ، وانتِقَالِ مَنِيٍّ ونَحْوِهِمَا، أَوْجَبَ الوُضُوءَ إلاَّ
المَوْتَ، فيُوجِبُ الغُسْلَ دُونَ الوُضُوءِ)}.
قال: (والثَّامِنُ المُشَارُ إليه بقَوْلِه: "كُلُّ مَا أَوْجَبَ غُسْلاً")، هذا
عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- أن الحدث الأصغر داخل في الأكبر، أو أن الحدث
الأكبر حدث أصغر وزيادة، وبناء على ذلك أراد أن ينبه المؤلف -رحمه الله تعالى- أن
ما يكون من موجبات الغسل هو من موجبات الوضوء وزيادة، ولذلك قال: (كُلُّ مَا
أَوْجَبَ غُسْلاً كإِسْلامٍ) فعندهم أن الإسلام موجب للغسل، وبناء على ذلك يجب به
الوضوء.
قال: (وانتِقَالِ مَنِيٍّ) هذا سيأتي -بإذن الله جل وعلا- الكلام عليه.
قال: (إلاَّ المَوْتَ) فعندهم إن الموت موجب للغسل، وإن لم يكن موجبا للوضوء، وعلى
كل حال هذا يحتمل، فإذا حصل التغسيل، فالغسل المجزئ يحصل به ما يحصل بالطهارة
الصغرى وزيادة الكبرى، وبناء على ذلك قد لا يحتاج إلى مثل هذا الاستثناء.
{قال -رحمه الله-: (ولا نَقْضَ بغَيْرِ مَا مَرَّ كالقَذْفِ، والكَذِبِ،
والغِيْبَةِ، ونَحْوِها، والقَهْقَهَةِ ولو في الصَّلاةِ، وأَكْلِ مَا مَسَّتِ
النَّارُ غَيْرَ لَحْمِ الإِبِلِ، ولا يُسَنُّ الوُضُوءُ مِنْهُمَا)}.
هل الكذب والغيبة والنميمة وأكل ما مسته النار يعد من نواقض الوضوء؟
1:12:26 – 1:15:05
قوله: (ولا نَقْضَ بغَيْرِ مَا مَرَّ) كأن المؤلف -رحمه الله تعالى- أراد أن يبين
أن ما قد يقوله بعضهم من أن الوضوء يجب لفعل ذنب، أو لقهقهة في الصلاة، فلا، ولأجل
ذلك قال: (كالقَذْفِ، والكَذِبِ، والغِيْبَةِ، ونَحْوِها)، فهذه وإن كانت آثامًا
ومحرمات، ولكن لا مدخل لها في الأحداث، فلا نوجب على من فعل من ذلك شيئا لم يوجبه
الله عليه، ولكن ذكر بعض أهل العلم أنَّ مثل الوضوء في تلك الأحوال مما ينبغي أن
يطلب من المغتاب أو نحو ذلك، لماذا؟ لأنه لَمَّا كان الوضوء يحصل منه خروج ذنوب
المكلف مع ذلك العضو مع قطر الماء، أو مع آخر قطر الماء كما عند مسلم في صحيحه،
فإنه يُرجى له وقد فعل هذا الذنب أن يطلب ما يكون به غسل ذنوبه وذهاب آثامه، ولكننا
لا نقول: إن هذا واجبًا ولا أنه لازم للمكلف.
(والقَهْقَهَةِ ولو في الصَّلاةِ) كأنه يشير إلى قول الحنفية، والذي اعتمدوا فيه
على حديث لا يصح عن النبي ﷺ، فكان كالتنبيه إلى أنه ليس في ذلك شيء يمكن أن يعتمد
عليه.
ثم قال: (وأَكْلِ مَا مَسَّتِ النَّارُ) فلو أكل الإنسان ما مست النار من طبيخ أو
نحوه ذلك مما يعتاده الناس، فلا يحتاج إلى أن يتوضأ، ولا يُؤمر بذلك لِمَا ذكرنا من
حديث جابر، «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَرْكَ الْوُضُوءِ
مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ».
قال: (غَيْرَ لَحْمِ الإِبِلِ) وهذا لِمَا ذكرنا أنه جاء فيه دليل بخصوصه، ولذلك لم
يختلف الحكم بين كونه نيئا أو مطبوخا على ما نصوا عليه قبل قليل.
قال: (ولا يُسَنُّ الوُضُوءُ مِنْهُمَا) يعني مما مست النار، والقهقهة في الصلاة،
وبناء على ذلك كأنه يفهم منه أن الوضوء مما حصل من الذنوب والآثام مستحب لما يتأتى
من مغفرة الذنوب، والتعرض لأسباب الرحمة، وذهاب الإثم والمعصية.
{قال -رحمه الله-: (ومَن تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وشَكَّ؛ أي: تَرَدَّدَ في الحَدَثِ
أو بالعَكْسِ بأن تَيَقَّنَ الحدَثَ وشَكَّ في الطَّهَارَةِ بَنَى على اليَقِينِ،
سَوَاءٌ كانَ فِي الصَّلاةِ أو خَارِجِهَا، تَسَاوَى عنده الأمْرَانِ أو غَلَبَ على
ظَنِّهِ أَحَدُهُمَا؛ لقَوْلِه ﷺ: «لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أَو
يَجِدَ رِيحاً» مُتَّفَقٌ عليه)}.
هذا من فقهاء الحنابلة -رحمهم الله تعالى- بيان لمسألة مهمة، وهي أن مناط الأحكام
في رفع الحدث ووجوب الطهارة حصولها حقيقة، والحكم في حصولها حقيقة بيقين، وبناء على
ذلك ما يحصل عند الإنسان من شكوك في حصول الناقض لا يلتفت إليه؛ لأن النبي ﷺ ذكر في
الحديث «لا يَنْصَرِفْ حتَّى يَسْمع صَوْتًا أوْ يَجِدَ رِيحًا» . فقالوا: إن
المقصود ليس هو سماع الصوت أو حصول الريح فعلا، ولكن المقصود من ذلك حصول اليقين
بخروج هذا الخارج، فمن تيقن وجبت عليه الطهارة، ومن شك فالأصل بقاء طهارته ولا
يلتفت إلى الشكوك والأوهام، ولا يفتح باب الشياطين إلى الوساوس والخواطر والأفكار،
التي تفسد عليه عقله، وتفسد عليه دينه، وتذهب عليه طمأنينته وعبادته.
ثم المؤلف -رحمه الله تعالى- يقول: سواء كان في الصلاة أو خارجها، يعني: مطلق الحكم
إنما هو باليقين وإطراح الشك، كأنه يشير بذلك إلى ما يشتهر عن قول المالكية، لأن
بعض المالكية يقولون: إذا كان الشك خارج الصلاة فتطهر حتى يكون ذلك أوثق لك، وأن
النبي ﷺ إنما قال في الصلاة: «لا يَنْصَرِفْ حتَّى يَسْمع صَوْتًا أوْ يَجِدَ
رِيحًا»، فخارجها على خلاف ذلك. قالوا: لا. ما حكم به في الصلاة حُكم به في خارجها
على حد سواء، وهو أنَّ الحكم مناطه اليقين، ولأن فتح باب الأوهام مفسد للقلوب، كما
هو مفسد للدين، ومفسد للعقل، مورث للإنسان الطيش والسفه، ولذلك ما أن فتحوا أبواب
الوسوسة وصلوا إلى حد الجنون أو قاربوه، وهذا معلوم لمن -نسأل الله السلامة- عرف
أحوال أولئك.
{قال -رحمه الله- (فإِنْ تَيَقَّنَهُمَا)؛ أي: تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ والحَدَثَ
(وجَهِلَ السَّابِقَ) مِنْهُمَا (فهو بضِدِّ حَالِه قَبْلَهُمَا) إِنْ عَلِمَهُمَا،
فإنْ كانَ قَبْلَهُمَا مُتَطَهِّراً فهو الآنَ مُحْدِثٌ، وإن كانَ مُحْدِثاً فهو
الآنَ مُتَطَهِّرٌ؛ لأنَّهُ قد تَيَقَّنَ زَوَالَ تلك الحَالَةِ إلى ضِدِّهَا
وشَكَّ في بَقَاءِ ضِدِّهَا وهو الأَصْلُ، وإنْ لم يَعْلَمْ حَالَهُ قَبْلَهُمَا
تَطَهَّرَ)}.
هذه مسألة مهمة وهي تحصل كثيرًا، يعني لو أن شخصًا توضأ لصلاة الفجر، وهو الآن يعلم
أنه الفجر توضأ له، ثم بعد ذلك نام، وتوضأ، ولكن يقول: لا أذكر هل أنا توضأت لأصلي
ركعتي الضحى قبل أن أنام، أو لما نمت وقمت حصل مني الوضوء؟ فهو لا يدري، ولكن عنده
طهارة سابقة متيقنة، وعنده حدث بعد ذلك، وعنده طهارة بعد ذلك. والآن الساعة العاشرة
ما يدري هل هو متطهر أو لا؟ نقول: أنت تيقنت بالطهارة، وتيقنت بحصول الحدث، لكن
حصول يقين بارتفاع هذا الحدث لا يوجد، فمعنى ذلك أنك الآن محدث، فأنت بضد حال صلاة
الفجر؛ لأنك تيقنت بعد الفجر أنه حصل منك حدث، وأما يقين ارتفاع ذلك الحدث فهو
مشكوك فيه.
وكذلك العكس، شخص يعرف أنه قد ذهب إلى الخلاء وقضى حاجته، ثم تذكر أنه نام، وأنه
توضأ، ولكنه لا يدري هل النوم حصل أولا ثم تطهر، أو أنه تطهر بعدما ذهب للغائط ثم
نام؟
إذًا عندنا حال متيقنة وهي الحدث، وعندنا حالان متضادان، وبناء على ذلك نحن نحكم
بضد حاله الأولى، يعني: الأولى هو متيقن للحدث، وبعده تيقن حصول طهارة، وشك في
فسادها، فيقولون: يكون في هذه الحال متطهرا، وإن كان في مثل هذه الحال بعضهم قال:
إنه لو تطهر لم يكن ذلك بعيدا؛ لأنَّ حصول انسحاب اليقين بثبوت الطهارة هنا مشكوك
فيه، لأنه عندنا يقينان وشك، وقد يقابل أحد اليقينين أحدهما فيبطل ذلك اليقين.
وعلى كل حال فيه نوع تردد، ولكن هذا مفهوم كلامهم ووجهه -رحمهم الله تعالى-.
قال: (وإنْ لم يَعْلَمْ حَالَهُ قَبْلَهُمَا تَطَهَّرَ)، يعني: هو يعرف أن عنده
حدثا وعنده طهارة، أيهما الأول؟ ما يدري! ولا يعرف حاله قبلهما، فيقول: يجب عليك أن
تتطهر في هذه الحال بكل حال.
{قال -رحمه الله-: (وإذا سَمِعَ اثْنَانِ صَوْتاً، أو شَمَّا رِيحاً مِن
أَحَدِهِمَا لا بعَيْنِه فلا وُضُوءَ عَلَيْهِمَا، ولا يَأْتَمَّ أَحَدُهُمَا
بصَاحِبِه، ولا يُصَافِفْهُ في الصَّلاةِ وَحْدَه، وإنْ كانَ أَحَدُهُمَا إِمَاماً
أعَادَا صَلاتَهُمَا)}.
يعني: لو أنَّ شخصين في موضع، وخرج رائحة أو سمعوا صوتا، وكل واحد منهما في نفسه
متيقن أنه لم يخرج منه شيء، فلهما حال باعتبار انفرادهما، ولهما حال باعتبار
مجموعهما، فالحنابلة يقولون باعتبار انفرادهما كلاهما على يقين، فلا يمكن أن
نأمرهما بالوضوء أو الطهارة بعد الحدث. ولكن باعتبار المجموع يقولون: لو صليا مع
بعض، فكل واحد منهما يحكم بأن الآخر يتيقن أنه محدث؛ لأنه إذا علم يقين حصول حدث،
ويعلم أن الحدث لم يكن منه، لم يبق إلا الثالثة وهي أن الآخر محدث، أليس كذلك؟
فلأجل ذلك قالوا: يكون باعتبار مجموعهما حالا ثالثة، وليس لكل واحد منهما أن يصلي
مع الآخر، ولا أن يأتم به، ولا أن يصافه لو لم يوجد إلا هو، يعني: لو صلى كلاهما في
الصف الثاني سويًا فقط، فكأنه صلى منفردا؛ لأنه يتيقن أن الثاني محدث، وهذا هو
مشهور المذهب عند الحنابلة، خلافا لشيخ الإسلام، والذي يقول: يعتبران حتى باعتبار
المجموع كالحال الواحد، ولكن على كل حال هذا هو قول الحنابلة، وهو نظر له وجهه، أن
حالهما منفردة، واضحة، وأن حالهما مجموعة أيضا لها وجه متين، وبناء على ذلك لا يأتم
أحدهما بصاحبه، ولا يصاففه في صلاة ونحوها.
{قال -رحمه الله-: (ويَحْرُمُ على المُحْدِثِ مَسُّ المُصْحَفِ أو بَعْضِه حتَّى
جِلْدِه وحَوَاشِيهِ بيَدٍ أو غَيْرِهَا بلا حَائِلٍ، لا حَمْلُه بعِلاقَةٍ أو في
كِيسٍ أو كُمٍّ مِن غَيْرِ مَسٍّ، ولا تَصَفُّحُه بكُمِّه أو عُودٍ، ولا صَغِيرٌ
لَوْحاً فيه قُرْآنٌ مِن الخَالِي مِن الكِتَابَةِ، ولا مَسُّ تَفْسِيرٍ
ونَحْوِه)}.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- في الأحكام المتعلقة بالمحدث، ما الذي يترتب على
الحدث؟ فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: أول الأحكام أن المحدث لا يمس المصحف،
والمصحف الذي هو كلام الله -جل وعلا- له من الحرمة، وله من التعظيم ما يجله أهل
الإسلام، فلا يمسونه كافرًا، ولا يمكنون الكافر منه، أليس كذلك؟ فكذلك أيضا من كان
محدثًا فإنها حال نقص، وبناء على ذلك لا يجوز للمحدث أن يمس المصحف، وهذا هو قول
الأئمة الأربعة، ولأنه جاء في الحديث: «لا يَمَسُّ القُرآنَ إلَّا طاهِرٌ» ، ولأن
هذا آت في عمومات الأدلة من تعظيم شعائر الله -جل وعلا-، ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32].
إذا تقرر أن مس المصحف للمحدث ممنوع ومحرم، متى نقول: إنَّ مس المصحف للمحدث ممنوع
ومحرم؟ ومتى نقول: إنه مس المصحف أو أنه لم يمسه؟
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى: يدخل في ذلك لو مس المكتوب قطعا، وكذلك لو مس
الحواشي، وهي أطراف الصفحة التي لا كتابة عليها، وكذلك جلده الذي يحفظ به ويحمى،
فإذا مسه فكما لو مس المصحف أو المكتوبة حقيقة لأنه جزء منه متصل به فكان حكمه
كحكمه، فبناء على ذلك لا يجوز.
وكذلك (حَوَاشِيهِ) فلو كان في حواشيه شيء مكتوب من تفسير أو تعليق أو سواه.
قال: (بيَدٍ أو غَيْرِهَا) فسواء مسه بأصابعه، أو مسه بذراعه، أو أيضا لو افترضنا
مثلا أنه قرب منه المصحف حتى جعل على خده أو جبهته أو نحو ذلك، فكل ذلك يعتبر مماسة
محرمة ما دام محدثا.
قال: (لا حَمْلُه بعِلاقَةٍ) وبعضهم قرأ "عُلاقة"، والظاهر أنها بالكسر أتم، فإذا
كان محمولا ومعلقا، فهذا ليس متصلا، وبناء على ذلك لا يدخل في الإثم ولا الممنوع.
(أو في كِيسٍ) مثل ذلك، (أو كُمٍّ) كانت أكمامهم واسعة، فربما جعله في بعض كمه
فحمله بكمه دون ما مماسة. فبناء على ذلك يقولون: ليس فيه مس، وبناء على ذلك لو حمله
على هذا النحو وهو محدث فلا يدخل في حكم المحرم.
قال (ولا تَصَفُّحُه بكُمِّه) فلو أنه جعل المصحف على حامل كهذا ثم تصفحه بكمه، أو
بقفاز أو نحو ذلك، (أو عُودٍ) يحركه به أو بمسطرة أو نحو ذلك، فلا بأس؛ لأنه لا
يعتبر في مثل هذه الحال ماسًا له.
قال (ولا صَغِيرٌ لَوْحاً فيه قُرْآنٌ مِن الخَالِي مِن الكِتَابَةِ) هذا تفصيل من
الفقهاء عظيم، يقولون: للصغير لو كانوا يحفظون في الألواح، فيكتب الآية ثم يرددها
الصغير حتى يحفظها، فيقولون: إن الصغير يمكن من اللوح، ولكن المقرئ لهم يؤدبهم على
ألا تقع أيديهم على المكتوب، لأنَّ المكتوب جزء من المصحف، فهو داخل في التعظيم
والتحريم من المس حتى ولو كان صغيرا، ولكن هذا فيه شيء من المشقة بالغة، ولو كلف
بذلك الصغار، لربما شق عليهم أو نفرهم، ولذلك جرى العمل على شيء من التساهل في هذا.
ولكن لا شك أنه ينبغي أن يتقى هذا الأمر قدر الاستطاعة.
وعلى سبيل المثال لا يعطى الصغير مصحفا تاما؛ لأنَّ حرمته أعظم، بل يعطى أوراقا
فيها السورة، أو يكتب ذلك في اللوح أخف، يعني: يتقى قدر الاستطاعة، فما أمكن توقيه
لزم، ولذلك تجدون بعضهم يجعل مثلا جزء المجادلة ونحوها، والمقصود من ذلك تسهيلا لهم
في الحمل، وأيضا تعظيما للمصحف من عدم المس.
وهنا تأتي مسألة الجوالات، هل غير المتطهر يمس أو تحصل منه مماسة أو لا؟
على تفريع الحنابلة هنا أنه لا يمس المكتوب، هل يدخل ذلك إذا حرك في الجوال أو في
الشاشة بأصبعه وهو على غير طهارة؟
الحقيقة يمكن أن يكون ذا مثل ذا، ولكن إذا علمنا أنَّ الشاشة هي مرآة للمكتوب،
وليست هي المكتوب نفسه، والدليل على ذلك أن هذه الشاشة في الآن الذي يكون عليها
المصحف في بعض الأحوال لو جاء اتصال أو جاءت رسالة، لعلت على المكتوب من المصحف،
أليس كذلك؟ مما يدل على أن هذه الشاشة غير المكتوب، أو ليست هي نفس المكتوب، وإنما
عاكسة له، فقد يخفف في ذلك بناء على هذا، مع أن اتقاء ذلك أتم، فإذا قدر الإنسان
على ذلك.
قال: (ولا مَسُّ تَفْسِيرٍ ونَحْوِه) إذا كان القرآن فيه تفسير، فإنه لا إشكال،
ولكن محل الكلام هنا في صورة واحدة لا ثانية لها، وإن كان يدار بعض الكلام عند
المتأخرين غير ذلك، صورة ذلك أن يكون المكتوب من القرآن مع التفسير مجموعًا، وأما
إذا كان المصحف منفردا، والتفسير في حواشيه، فالمس للمصحف مس له بكل حال، سواء كان
التفسير أكثر أو كان أقل، الحكم واحد. وهذا على كلامهم ظاهر، وإن كان بعضهم يقول:
هذا كتاب تفسير إذا كان في الحواشي أكثر ونحوه، نقول: هذا الحكم إنما هو في التفسير
إذا كان مندمجا التفسير مع الآيات، وأما إذا كانت الآيات مفصولة في وسط الصفحة وفي
أثناء حواشيها تفسيرا، حتى ولو كثرت، فهذا مصحف والمس له مس للمصحف، وبناء على ذلك
يمنع منه.
{قال -رحمه الله-: (ويَحْرُمُ أَيْضاً مَسُّ مُصْحَفٍ بَعُضْوٍ مُتَنَجِّسٍ)}.
لو كان الشخص على طهارة، ولكن في أصبعه شيء من الدم، فهو غير محدث يجوز له أن يمس
المصحف، ولكن لا يمس المصحف بأصبعه التي فيها نجاسة، فإما أن يغسلها وإما أن يمسه
بيده الأخرى، فلا يباشره بعضو فيه نجاسة.
{قال: (وسَفَرٌ به لدَارِ حَرْبٍ)}.
لأنه تعريض له أن يستولى عليه من الكفار، والكفار يمتهنون المصحف ولا يعظمونه،
وكذلك لو جعله وسادة بأن يجعل رأسه عليه، فإن هذا ليس تعظيما للمصحف، ولا إبقاء
لمنزلته، فيكون ممنوعا منه بكل حال.
{(وتَوَسُّدُ كُتُبٍ فِيها قُرْآنٌ ما لم يَخَفْ سَرِقَةً)}.
وكذلك لو كانت بعض الكتب، ككتاب فقه أو لغة أو نحوها فيه بعض القرآن، فيه شواهد،
فإنه لا يتوسدها تعظيما لما فيها من هذه الآيات، وما فيها من اسم الله -جل وعلا-
إلا أن يخاف السرقة، فجعلوا هذه الكتب أخف من توسد المصحف، إذا خاف عليها السرقة
ولا يمكنه الحفظ إلا بذلك، وأما إذا أمكنها الحفظ بغيرها فلا يدخل في كلامهم، إذا
كلامهم هنا أن تكون الكتب كتب علم فيها قرآنا وليست مصحفا، وألا يمكن حفظها إلا
بذاك، فيكون توسدها هو باب لحفظها، وعدم امتهان لها، فخففوا بتوسدها على هذه الحال،
وإن كان فيها شيء من القرآن.
{قال -رحمه الله- (ويَحْرُمُ أَيْضاً كَتْبُ القُرْآنِ بحيثُ يُهَانُ)}.
ما كتب من القرآن على وجه الإهانة فلا، كأن يكون بأشياء قذرة أو نجسة، فيعظم القرآن
أن يكون كذلك، أو أن يجعل في مواطن له زمر أو نحوها فلا، لأن ما يكتب من القرآن
معظم، فلا يكون في محل يهان، ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ
فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32].
{قال -رحمه الله-: (وكُرِهَ مَدُّ رِجْلٍ إليه واستِدْبَارُه وتَخَطِّيهِ
وتَحْلِيَتُه بذَهَبٍ أو فِضَّةٍ)}.
قوله: (وكُرِهَ مَدُّ رِجْلٍ إليه) كما ترون الآن عند بعضهم، هذا أمر عظيم، ﴿وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت:35]، من يرعى تعظيم شعائر الله في كل
أموره قليلها وكثيرها فإنه يوفق لخير عظيم، ومن حصل عنده نوع تهوين، أو عدم مبالاة،
ما نقول استهتار، لأنَّ الاستهتار عظيم، فإنه يوشك أن يستذله الشيطان، وما عظم الله
-جل وعلا- عبدٌ في شعائره وفي كتابه، إلا نال الخير والتوفيق، ومن لا فلا، ومن كان
خلاف ذلك فالغالب أنه يرتكس أو يقع في البلية، وفي قصص بعض السلف وما كانوا فيه من
حال سوء، وما وقع في نفوس من تعظيم -جل وعلا- في قصة ما لك بن دينار والقعنبي
وغيرها أشياء كثيرة تدل على أن المعظم لله -جل وعلا- ولشعائره ولكتابه، يلحقه في
ذلك من التوفيق والإعانة والخير الكثير ما لا يحسب له حسابه، فهذا من الأمور
المهمة، ومثل -وهو أكثر يعني من استقبالها برجله- الاستدبار، ولكن إذا وجد حائل فلا
بأس، يعني على سبيل المثال، الآن في مصحف هناك، وهذا يحصل في كثير من المساجد،
للأسف الشديد، فخلف المسندة هذه توجد مصاحف، فلو كانت المسندة مرتفعة، بحيث لا يكون
الشخص مستدبرا لها لا في حال جلوس ولا في ركوع فلا بأس، وأما إذا كان في بعض
الأحوال يكون مباشرا لاستدبارها فلا شك أن ذلك داخلا في عدم التعظيم، وأعظم ما يكون
إذا كان في حال الركوع أو في حال السجود يوازي بمعقدته ذلك المصحف، فينبغي التنبه
لهذا، وكثير من المساجد يجعلون هذه الأدراج على سبيل تقريبها للمصلين لتناول
المصاحف، ولكنهم لا يلحظون ما يكون فيها أحيانا من تعريضها لعدم التعظيم أو
للإهانة، باستدبارها، أو استدبارها أعظم ما يكون في حال سجود أو ركوع بمقعدة
ونحوها.
{قال: (وتَخَطِّيهِ)}.
وتخطيه مثل ذلك، فإن الناس يستعيبون فيما بينهم أن يتخطى الرجل، بل حتى قدمه، يعني:
أن يطمرها أو يقفزها ويرون ذلك عيبًا، بل ذكر ابن تيمية وغيره قال: إذا كان من عادة
الناس أن يقوم بعضهم لبعض، فإنه ينبغي للإنسان أن يقوم للمصحف، وهذا لا يكاد يُرى،
وترون أحيانا في مواطن الدراسة، في القاعات الدراسية ونحوها، من ترك بعض المصاحف
على سبيل الإهمال واللامبالاة، أو عدم المبالاة، ما يعلم معه عدم تعظيم هذه المصاحف
والقيام بحقها، وينبغي للإنسان أن يلحظ ذلك، وأن يعظمها، وأن يمنع مما يجري من
الإهمال لها، والله المستعان.
{قال: (وتَحْلِيَتُه بذَهَبٍ أو فِضَّةٍ)}.
هذا مما يكره، لأن هذا ليس فيه تعظيم، ولأن تحليته بالذهب والفضة فيه إنفاق للذهب
مع كونها ثمنا للأشياء في غير ما يطلب أن تنفق فيه، فكره، بل ربما نقل عن بعضهم
تحريم ذلك.
ولكن نزل الحكم من الحرمة إلى الكراهة؛ لأنَّ استعمال الذهب والفضة في هذا، وإن كان
استعمالا في غير موضعه، فيكون تفويتا لماليتها، ولكن لما كان ذلك بإيزاء تعظيم
المصاحف وإرادة ذلك، نزل الحكم من التحريم إلى الكراهة، وإن كان بعضهم يرى المنع من
ذلك على سبيل التحريم.
{قال: (وتَحْرُمُ تَحْلِيَةُ كُتُبِ العِلْمِ)}.
أما كتب العلم الأخرى فتحليتها بالذهب والفضة محرم للأصل، والأصل أن الذهب والفضة
ثمن للأشياء، ففي هذا تضييع لثمنيتها، وتفويت ما يراد منها، فلأجل ذلك كان باقيا
على حرمته، والمنع منه.
{قال -رحمه الله- (ويَحْرُمُ على المُحْدِثِ أَيْضاً الصَّلاةُ ولو نَفْلاً حتَّى
صَلاةُ جَنَازَةٍ وسُجُودُ تِلاوَةٍ وشُكْرٍ)}.
(ويَحْرُمُ على المُحْدِثِ أَيْضاً الصَّلاةُ) وهذا لا إشكال ظاهر، «لا يقبلُ
اللَّهُ صلاةَ أحدِكُم إذا أحدَثَ حتَّى يتَوضَّأ» ، قالوا: ولو نفلا؛ لأنَّ النفل
لها أحكام الفرض، والصلاة مطلوب لها الوضوء في كل حال.
قال: (حتَّى صَلاةُ جَنَازَةٍ) إشارة إلى قول بعضهم، إنه إذا خاف من الجنازة أن
تفوت فيمكن أن يتيم أو يصلي عليها لأن أكثر ما فيها الدعاء للميت، أو هذا هو
المقصود الأعظم فيها، فعند الحنابلة أن صلاة الجنازة صلاة؛ لأنها داخلة في حد
الصلاة بكونها مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
(وسُجُودُ تِلاوَةٍ وشُكْرٍ)، كذلك سجود التلاوة والشكر عند الحنابلة أنها صلاة،
وبناء على ذلك لم يفعلها المحدث.
وأما على قول ابن تيمية أنه لا يراها داخلة في اسم الصلاة ولا في حكمها، فهي سجود
يشبه سجود صلاته لكنه خارج عنه، فبناء على ذلك لا يمنع من كون فعلها في حال الحدث،
وإن كان على قول ابن تيمية كقول غيره، أنه لا شك أن الأتم والأكمل أن يكون حاله حال
الساجد للشكر، وسجود التلاوة أن يكون على طهر ومتطهرا.
ثم يقول: (ولا يَكْفُرُ مَن صَلَّى مُحْدِثاً) خلافا للحنفية، يعني أن من صلى
محدثًا، أو بعد الصلاة حال حدثه، ويعتبر فيه نوع استهزاء، أو عدم قيام بما يجب،
فيعزر ويؤدب على ذلك، ولكنه لا يصل إلى حد الكفر، فكأنه تنبيه على قول من خالف في
ذلك من الحنفية الذين شددوا في ذلك -رحمهم الله تعالى-.
{قال -رحمه الله-: (ويَحْرُمُ على المُحْدِثِ أَيْضاً الطَّوَافُ لقَوْلِه ﷺ:
«الطَّوَافُ بالبَيْتِ صَلاةٌ، إلاَّ أنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فيه الكلامُ» رواهُ
الشَّافِعِيُّ في مُسْنَدِه)}.
الطواف تطلب فيه الطهارة ولا شك؛ لأنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ﴾ [الحج:26]، فأول ما بدأ، بدأ بالطائفين ثم قال: ﴿وَالْقَائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾، فإذا كان يطلب تطهير البقعة، فمن باب أولى أن يكون
مطلوبًا طهارة الطائف.
وأيضا أَثَرُ ابن عباس "الطَّوافُ حَولَ البيتِ مِثلُ الصَّلاةِ، إلَّا أنَّكم
تتكلَّمونَ فيه، فمن تكلَّمَ فيه فلا يتكَلَّمنَّ إلَّا بخيرٍ" ، ثم الدليل الآخر
أنَّ الحائض مُنعت من الطواف، وخفف عنها مع وجوبه، والحائض في الآية نفسها لو
احتاجت لعبور المسجد لعبرت، فلو كان شيء يمكن أن يفعل لكان أن يخفف عنها فتطوف لو
كانت العلة من عدم منعها منه هو دخول المسجد، لكان دخولها للأمر الواجب أولى
بالتخفيف من دخولها للعبور الذي هو مباح، فدل ذلك ولا شك على أن الطهارة معتبرة
للطواف، خلافا لمن خالف في ذلك واختار غيره.
وبناء على لا بد أن يكون الطائف على طهارة، كما هو قول الحنابلة، وجمهور أهل العلم.
نكتفي بهذا، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.