{الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلي
آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (وإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ نجَاسَةٍ في بَدَنٍ أو
ثَوْبٍ أو بُقْعَةٍ ضَيِّقَةٍ وأَرَادَ الصَّلاةَ؛ غَسَلَ وُجُوباً حتَّى يَجْزِمَ
بزَوَالِه؛ أي: زَوَالِ النَّجَسِ؛ لأنَّهُ مُتَيَقَّنٌ فلا يَزُولُ إلا بيَقِينِ
الطَّهَارَةِ، فإنْ لمْ يَعْلَمْ جِهَتَهَا مِن الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ، وإنْ
عَلِمَهَا في أَحَدِ كُمَّيْهِ ولا يَعْرِفُه غَسَلَهُمَا، ويُصَلِّي في فَضَاءٍ
وَاسِعٍ حيثُ شَاءَ بلا تَحَرٍّ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسَلَّمَ وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله
وأصحابه وَسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين، أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا-
أن يرزقنا الفقه في دينه، والاستنان في سُنَّةِ نبيه، وأن يجعلنا على الحق والهدى
والصواب، وأن يعصمنا من الخطأ والخلل والضلال، وأن يغفر ولوالدينا وأزواجنا
وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
لا يزال الحديث موصولا فيما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في (باب إزالة النجاسة)،
قال: (وإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ نجَاسَةٍ) هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى-، لَمَّا
قرر تطهير النجاسات من جهة النجاسة على الأرض، أو نجاسة الكلب والخنزير، أو نجاسة
سواهما، أراد أن يُبين الحال فيما لم يعلم محل النجاسة فيه كيف يطهر، ولذلك قال: (وإِنْ
خَفِيَ مَوْضِعُ نجَاسَةٍ في بَدَنٍ أو ثَوْبٍ أو بُقْعَةٍ ضَيِّقَةٍ)، فموارد الشك
في محل النجاسة مع العلم بوجودها.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه لا بد من الغسل حتى (يُجْزَمَ بزَوَالِه) أي:
يجزم بزوال النجاسة، أو بعبارة أخرى، أنه لَمَّا تيقنا حصول النجاسة في هذا الثوب،
أو في هذا البدن، أو في هذه البقعة الضيقة، وإن لم نعلم محلها على وجه التدقيق، فإنَّ
ذلك لا يعني العفو عنها، أو التخفيف فيها، فلا بد من تيقن إزالتها، وتيقن الإزالة
بتحريها، أي: بتحري كل موضع يمكن أن تكون فيه ولو من وجه بعيد.
فعلى سبيل المثال: إذا كانت النجاسة في ثوبٍ، ولم يُعلم في أي الثوب كانت النجاسة،
فإنه لا بد أن يغسل الثوب كله، ولذلك قال: (فإنْ لمْ يَعْلَمْ جِهَتَهَا مِن
الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ) هذا الفرع والذي يليه من الشارح، هو بيان كيفية تحقيق
اليقين بزوال النجاسة.
فعلى سبيل المثال: لو أنَّ شخصًا في ظلمة مثلا، وسقطت أو نزلت منه قطرة بول، فوقعت
في بعض ثوبه، فلمَّا أَشعل النور، أو أتى إلى مكانٍ فيه إنارةٌ، لم يعلم أي ثوبه
الذي أصابته النجاسة، فلا يَدري أهي في أعلاه أم في أسفله، أم في أحد كُميه أم في
جانبيه؟! فإنه لا يتيقن إزالتها إلا بغسل الثوب كله، فوجب غسل الثوب كله، حتى يتيقن
زوال النجاسة.
ولذلك قال: (وإنْ عَلِمَهَا في أَحَدِ كُمَّيْهِ ولا يَعْرِفُه غَسَلَهُمَا)، إذًا،
إذا كان يتحقق اليقين بموضع أو بموضعين أو أكثر، فإنه يغسل ما يتحقق به ذلك اليقين.
فإذا عَلِمَ أنه في أعلى ثوبه غسل أعلاه، وإذا عَلِمَ أنه في أدنى ثوبه غسل أدناه،
وإذا علم أنه في يده اليمنى ولا يدري في أي موضع منها، غسلها من مفصل الكتف إلى
أطراف الأصابع وهكذا، فهذا هو مقصود المؤلف -رحمه الله تعالى- في لزوم التحقق من
زوال النجاسة بيقين.
ثم قال: (ويُصَلِّي في فَضَاءٍ وَاسِعٍ حيثُ شَاءَ بلا تَحَرٍّ) أمَّا إذا كان في
فضاء واسع، يُعلمُ أنَّ هذه البرية بال فيها شخص، أو يمر منها الناس فيبولون، لا
يمكن أن يتحرى الشخص في ذلك، ولو طُلِبَ التحري في مثل ذلك لَلَحِقَ بالناس حرجٌ
شديد، فكان ذلك مما رُفعت به الكُلفة، وخُفِّفَ فيه الأمر، وكان للإنسان أن يصلي في
أي مكان بلا تحرٍ، وهكذا.
{(ويَطْهُرُ بَوْلُ وقَيْءُ غُلامٍ لم يَأْكُلِ الطَّعَامَ لشَهْوَةٍ بنَضْحِهِ؛ أي:
غَمْرِه بالمَاءِ، ولا يَحْتَاجُ لمَرْسٍ وعَصْرٍ، فإنْ أَكَلَ الطَّعَامَ، غُسِلَ
كغَائِطِه وكبَوْلِ الأُنْثَى والخُنْثَى، فيُغْسَلُ كسَائِرِ النَّجَاسَاتِ.
قالَ الشَّافِعِيُّ: لم يَتَبَيَّنْ لِي فَرْقٌ مِنَ السُّنَّةِ بَيْنَهُمَا.
وذَكَرَ بَعْضُهُم أنَّ الغُلامَ أَصْلُه مِن المَاءِ والتُّرَابِ، والجَارِيَةَ
أَصْلُهَا مِنَ اللَّحْمِ والدَّمِ.
وقدْ أَفَادَهُ ابنُ مَاجَهْ في سُنَنِه وهو غَرِيبٌ، قالَهُ في "المُبْدِعِ"،
ولُعَابُهُمَا طَاهِر)}.
هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في بعض النجاسات المخففة، أو ما لها تطهير
خاص، فيه نوع تيسيرٍ أو تخفيفٍ أو عفوٍ.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ويَطْهُرُ بَوْلُ وقَيْءُ غُلامٍ لم يَأْكُلِ
الطَّعَامَ لشَهْوَةٍ بنَضْحِهِ)، وهذا جاءت به السنة في حديث أم قيس بنت محصن،
لَمَّا جاءت بصبيها للنبي ﷺ فبال، فأمر بذنوب من ماء فَصُبَّ عليه، يعني:
بالمكاثرة، فلذلك قال المؤلف -رحمه الله-: (ولا يَحْتَاجُ لمَرْسٍ وعَصْرٍ). لكن من
هو الغلام الذي يتعلق به هذا الحكم؟
المؤلف -رحمه الله تعالى- قال أولا: (غُلامٍ) والغلام يُطلق على الذكر دون الأنثى،
فكان ذلك مخصوصًا به، لا يُشاركه أحد سواه.
ثم قال: (لم يَأْكُلِ الطَّعَامَ)، والمراد بعدم أكل الطعام، قال الشارح: (لشهوة)،
لا يُعرف أي غلام منذ أن يولد سواء جارية أو غلام، إذا وضعت في فمه شيئًا تحسسه
ففرح به، أو جذبه إلى جوفه. فإذًا ما الذي يُتعلق به الحكم؟ ومن المعلوم قطعًا أنَّ
الغلام والجارية والصغير يشرب اللبن، فإذًا ليس المقصود به اللبن، فالطعام غير
اللبن، وغير ما يُعطى على لسانه، أو ما يُحنَّك به، أو يُداوى به من عسلٍ ونحوه،
فإنَّ ذلك لا حُكم له، ولكن إذا كان هذا الغلام يأكل الطعام (لشَهْوَةٍ)، ما معنى
لشهوة؟
يعني يقولون: يَتَشوف إليه، فإذا رآه حرَّك يده مثلا، أو حرك رأسه، يعني: كأنه
يطلبه أو يدعوه، فهذا هو الوصف الذي فهمه الحنابلة من قول النبي ﷺ: «الذي لم يأكل
الطعام»، وبناء على ذلك، فإذا كان يَشرب اللبن لا غير، ولا يَعرف الطعام إلا إذا
وضع في فمه، فهذا نعتبره ممن يُعفى عن نجاسته، ويَكفي فيها المكاثرة.
طيب إذا كان يُعطى حليبًا من دابة حيوانٍ أو سواه، فَنَصَّ الحنابلة على أن ذلك لا
يمنع، لأنهم قالوا: في غير اللبن، ولَمَّا قال: (لم يَأْكُلِ الطَّعَامَ)، كأنه غير
اللبن، وهو المفهوم من الحديث، وإن كان شيخنا الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- يرى
أنه إذا كان يشرب اللبن المصنوع أو هذه التي استخلصت من الحيوانات ونحوها، فإنه
يُغسل منه، ولكن الظاهر أنه لم يأكل الطعام يعني: لشهوة، وهذا لا يدخل في ذلك.
ويُفهم منه أيضًا أنه لو بلغ الحدَّ الذي يشرئب إلى الطعام، لكنه لا يُعطاه؛ فإنه
يكون ممن انتقل حُكمه من المكاثرة إلى الغسل التام كسائر النجاسة.
إذًا الحدُّ هو الحد الذي جَرَتْ عادة الصغار أنهم يشرئبون إلى الطعام، ويتشوفون
إليه، وتتحرك نفوسهم إلى طلبه، ولذلك قال: (لشهوة) هو معناها.
(بنضحه) وعلمنا كيفية التطهير في هذه الحالة، قالوا: بالمكاثرة، بحيث يُصَبُّ على
هذا البول ماءً كثيرًا يتقاطر منه الماء، وإن لم يزد على ذلك، (ولا يَحْتَاجُ
لمَرْسٍ وعَصْرٍ) ولا غيره.
قال: (فإنْ أَكَلَ الطَّعَامَ، غُسِلَ كغَائِطِه وكبَوْلِ الأُنْثَى) المسألة التي
تتعلق بذلك أيضا مما ذكره المؤلف هنا، أن قيئه كبوله، مع أن الحديث لم ينص إلا على
البول، ولكن يقولون: بإجماع أهل العلم أنَّ نجاسةَ القيء أخفُّ من نجاسة البول،
فإذا خُفِّفَ في نجاسة بوله، فمن باب أولى يُخفف في نجاسة قيئه. هذا هو ما يتعلق
بذلك.
قال: (وكبَوْلِ الأُنْثَى والخُنْثَى) يعني: أن الأنثى بخلاف ذلك، فالأنثى لا يختلف
حكمها سواء كانت بلغت مبلغ أكل الطعام، أو كانت دون ذلك، فإنَّ من أصابه بولها فإنه
يغسل كسائر النجاسات، ولَمَّا كانت الخنثى مترددةٌ بينهما، ويُحتمل أن تكون أُنثى،
فإنَّ الأصل عند الحنابلة المبني على الاحتياط وإمكان كونها أنثى، فإنهم قالوا:
إنها تنجر في حكمها إلى حكم الأنثى على سبيل الاحتياط، وعلى تغليب الحظر، ولأجل ذلك
قالوا: إنها تُغسل في مثل هذه الحال، وإن كان يمكن أن يكون الخنثى ذكرًا.
لَمَّا ذكر الفقهاء ذلك، يعني: ربما نظروا في العلة التي خُصَّ بها الغلام عن
الجارية أو عن الأنثى، ولهم في ذلك أقاويل كثيرة، كما قال الشارح، ونقل عن الإمام
الشافعي، قال: لم يتبين لي فرقٌ من السنة بينهما، ولكن ظاهر السنة التفريق،
فَذُكِرَ في ذلك أشياء كثيرة، منها ما نقله هنا أنَّ الغلام من الماء والتراب،
والجارية من اللحم والدم؛ لأنها خلقت من آدم، هذا فيما قيل، وأشهر ما قاله أهل
التحقيق، وهو ما نقله ابن القيم وابن دقيق العيد -رحمهما الله- قالا: إن النفوس
تتعلق بالغلام أكثر من الجارية، فَيَكثُرُ حملهم، فَيَكْثُرُ إصابة نجاستهم، فكانت
محلا للحاجة إلى تخفيفها.
أو قيل -وأيضًا هذا قول نقله ابن القيم رحمه الله تعالى-: إنَّ بول الغلام ينتشر،
فيصيب أشياء كثيرة، فيعسر تطهيره، فكان محلا للتخفيف، بخلاف الجارية فإن بولها يكون
في موضعٍ محدودٍ فلا يكون فيه كلفة في تطهيرها.
وقد ذكر ابن القيم أيضًا ثالث هذه الأشياء، وإن كان هذا دون الاثنين السابقين- قال:
إنَّ دم الجارية فيه رطوبة ونتن، ودم الغلام فيه حرارة، والحرارة تُزيل النتن،
فقالوا: إنه خُفِّفَ في إزالة النجاسة لأجل ذلك في الغلام دون الجارية.
على كل حال، هذا هو ما ذُكِرَ في الحكمة أو في المعنى الذي لأجله فُرقَ بين الغلام
والجارية في ذلك، مع أنه يُعلم أنَّ محل الحكم هو البول، ويلحق به القيء، فبناء على
ذلك ما كان من غائطه، فإن حُكمه كحكم سائر النجاسات، وكنجاسة الجارية في أنه يجب
فيه الغسل على ما مر بنا من طرائق التطهير وإكمال التغسيل، سواء قيل باشتراط السبع،
أو بحصول النقاء من النجاسة على ما تقدم.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ولُعَابُهُمَا طَاهِر) بالاتفاق ولا خلاف في
ذلك، فما أصاب المرء من لعاب هذا الطفل، ولو كان مُختلطًا ببعض قيئه، أو لو كان قد
مسَّ بعض نجاسة بلسانه، فإنَّ ذلك لا يُؤثر، وإنَّ لعابهما طاهر، وسيأتي بعض إشارة
إلى شيء من هذا.
{(ويُعْفَي فِي غَيْرِ مَائِعٍ وفِي غَيْرِ مَطْعُومٍ عَن يَسِيرِ دَمٍ نَجِسٍ ولو
حَيْضاً أو نِفَاساً أو استِحَاضَةً، وعَن يَسِيرِ قَيْحٍ وصَدِيدٍ مِن حَيَوَانٍ
طَاهِرٍ لا نَجِسٍ، ولا إن كان مِن سَبِيلِ قُبُلٍ أو دُبُرٍ)}.
قال المؤلف- رحمه الله-: (ويُعْفَي فِي غَيْرِ مَائِعٍ وفِي غَيْرِ مَطْعُومٍ عَن
يَسِيرِ دَمٍ نَجِسٍ)، إذًا الدم من النجاسات المخففة، ولكن إذا كان في غير مائعٍ،
وأمَّا إذا كان في مائعٍ من المائعات، ما معنى المائع؟ يعني: السوائل دون الماء،
مثل: الدهن، زيت، لبن، عصير، هذه مائعات فلا يُعفى عند الحنابلة فيها عن النجاسات
ولو قَلَّتْ.
قال: (وفِي غَيْرِ مَطْعُومٍ) المطعوم واضح.
(عَن يَسِيرِ دَمٍ) إذًا الدم اليسير إذا أصاب غير مطعوم وغير مائع، فما كان من شيء
يسير؛ فإنه يُعفى عنه، وهي نجاسة مخففة، فلو بقيت على الإنسان لأمكنه الصلاة، ولصحة
منه، ولأمكنه الطواف، ولم يكن عليه في ذلك غضاضة ولا حرج.
وهذا فيه آثار، ولا يختلف أهل العلم، أو لا يكادون يختلفون في ذلك، يعني: في
التخفيف من يسير الدم، وجاء عن ابن عمر أنه بَثَرَ يعني: نَفْرَةً في وجهه، فأصابت
أصابعه، فأكمل صلاته ولم يكن ليغسل تلك النجاسة، أو لِيُطلب منه التخلص منها.
قال: (ولو حَيْضاً أو نِفَاساً أو استِحَاضَةً) يعني: حتى ولو كان هذا الدم اليسير
من أثر دم حيض أو نفاس، مع أنَّ دم الحيض والنفاس هو من النجاسات التي فيها تغليظ،
ولها أحكام مخصوصة من جهة ما يتعلق بالحائض وغيرها، ومثل ذلك لو كانت استحاضة،
وسيتبين الفرق بينهما.
لكن في الحقيقة أنه يُشكل على ذلك على ما سيأتي أنَّ النجاسات التي تخرج من
السبيلين يعظمونها ولا يخففون فيها، كما سيأتي في القيح والصديد.
وهنا قالوا: حتى ولو كان دم حيض أو نفاس فإنه معفو عنه، مع أنه خارج من مخرج الولد
ومدخل الذكر، فهل مدخل الذكر ومخرج البول خارج عن حكم السبيلين أو هو منهما؟
الظاهر من كلامهم أنهم جعلوه في حكم السبيلين، فالأحكام المتعلقة بالسبيلين مُتعلقة
بمخرج البول ومخرج الحيض، ولكنهم هنا فرقوا، وستأتي الآن مسألة أخرى متعلقة بذلك،
وهذه من المسائل التي عندي فيها إشكال فيما ذكروه.
ثم قال: (وعَن يَسِيرِ قَيْحٍ وصَدِيدٍ)، ما هو القيح والصديد؟ القيح هو ماء أصفر
يكون على الجروح ونحوها، يُسمى الْمِدَّة، والصديد هو ماء الجرح إذا اختلط بدمه،
فإنه يَكون منه خليط فيه لون صفرة، أو أحيانا يتموج بين الكُدرة ونحوها، فهذه من
النجاسات المخففة، فإنها نجاسة مخففة من الدم، فإذا كان الدم اليسير مخففا فيه، فمن
باب أولى أن يُخفف فيما تولد عنهما، أو ما كان منهما ومن غيرهما.
قالوا: (مِن حَيَوَانٍ طَاهِرٍ لا نَجِسٍ)، يعني: إذا كان هذا يسير القيح أو
الصديد أو الدم اليسير من حيوانٍ طاهرٍ، يعني: لا يُشترط أن يكون مما أصابك من
نفسك، بل حتى إذا عالجت بعض ولدك، وطار منه نقطة دم فأصابت ثوبك، أو قيحٍ أو صديدٍ
فهو معفو عنه، أو كنت تعالج بعض دوابك، فكان فيها قيحٌ أو صديدٌ من الحيوانات
الطاهرة، فلا بأس، كبهيمة الأنعام، أو كنعامة أو كفرس أو نحوها.
فهذا كله مخفف، وأما لو كانت من كلب، أي: قيح كلب، أو صديده، أو دمه من باب أولى،
فكل ذلك لا يخفف فيها حتى ولو كانت يسيرة.
ثم قال: (ولا إن كان مِن سَبِيلِ قُبُلٍ أو دُبُرٍ)، هذا هو محل الإشكال، أمَّا
إذا كان القيح أو الصديد من قُبُلٍ أو دُبُرٍ، يعني: من أحد السبيلين، فلا يخفف فيه
ولو كان يسيرا، لما ذكرنا سابقا، من أنهم لا يخففون في النجاسة الخارجة من
السبيلين.
ولكن هذا يَرِدْ عليه الإشكال السابق في كلامهم أو في تخفيفهم في الحيض أو النفاس،
فهل ذلك من جهة كثرة ما تبتلى به النساء من أثر دم الحيض والنفاس والاستحاضة، قد
يكون.
طبعًا اليوم الناس يجدون هذه المصنوعات التي تسمى الحفاضات، والتي تمسك في فرج
المرأة فتمنع غالبًا خروج الدم وانتقاله، فلا يكون على النساء في ذلك حرج ولا مشقة،
وذلك بخلاف ما كان في الأزمنة المتقدمة، فإنهم لا يجدون شيئًا من ذلك، فالمرأة خاصة
إذا اشتدت عادتها، فإنها تصيب ثيابها، وربما أصابت بعض أماكن جلوسها أو نومها،
فاحتيج في مثل ذلك إلى شيء من العفو، فهل هذا هو السبب؟ قد يكون ذلك، وهو محل نظر
وتأمل.
{(واليَسِيرُ مَا لا يَفْحُشُ في نفس كُلِّ أَحَدٍ بحَسَبِه)}.
قال الشارح -رحمه الله تعالى-: (واليَسِيرُ مَا لا يَفْحُشُ في نفس كُلِّ أَحَدٍ
بحَسَبِه)، لماذا لم يُرجع الشارح، المسألة إلى العُرف، كعادتهم التي اطردت في مثل
هذه المسائل، وهل بينهما فرق؟
الحقيقة أنَّ إحالة الأمر إلى نفس كل أحد بحسبه تختلف عن العرف والعادة؛ لأنَّ
العرف والعادة مناطها إلى عموم الناس، وهم يعتادون أشياء محددة تكون قليلة، وأشياء
كثيرة لا يختلفون في ذلك، ولكن بعض آحاد الناس الذين إمَّا فيهم إهمال زائد، قد
يَعتبرون الكثير قليلا، والناس الذين فيهم شيء من الدقة والتكلف والتعمق قد يعتقدون
القليل كثيرا.
إذًا ثَمَّ فرقٌ بين اعتبار كل أحد بحسبه، وبين العرف والعادة، ولكن لعل الحنابلة
-رحمهم الله تعالى- في هذه المسألة، التي أحالوها إلى كل إنسان بحسبه على سبيل
التخفيف؛ لأنَّ هذا مما يبتلى به الناس كثيرا، وأيضا مما يختص به الإنسان، فقد يصعب
عليه أن يستشير غيره هل هذه نجاسة كثيرة أو قليلة؟ هل هذا دم كثير أو قليل؟ هل هذا
قيحٌ كثير أو قليل؟
فلمَّا كان الابتلاء بذلك كثيرًا، أو هو مما يختص الناس في أنفسهم ويستحي منه، ربما
كان ذلك في إناطة القلة والكثرة إلى الشخص في نفسه، وحتى ولو اختلف عن الغير في
تقديره، فعلى كل حال المناط عندهم كل إنسان بحسبه.
وعلى سبيل المثال: لو أنك رأيت دما على ثوبك، فقلت: هذا قليل، ثم توضأت وصليت، فنظر
من بجانبك وقال: كيف تُصلي في هذا الثوب؟ فقلت: هذا دمٌ قليل، فقال: لا، هذا دم
كثير.
فإذا قلنا: إن المرد كل أحد بحسبه، فإنَّ هذا الدم ما دام أنه قليل في نظرك، فإنه
تصح به صلاتك، ولو أصاب هذا الذي بجوارك فصلى به وهو يراه كثيرا؛ لبطلت صلاته؛ لأنه
(في كُلِّ أَحَدٍ بحَسَبِه).
{(ويُضَمُّ مُتَفَرِّقٌ بثَوْبٍ لا أَكْثَرَ)}.
يعني: لو أنَّ شخصًا فيه دم أصابه، فأصاب عمامته، وأصاب قميصه، وأصاب بعض سراويله،
هنا نُقَطْ وهنا نُقَطْ، وهنا نُقَطْ، يُضم بعضها إلى بعض. أليس كذلك؟ لا، هو ما
قال كل شخص بحسبه، كل شخص بما لبسه، لم ينيطها بذلك، بل قال: كل (مُتَفَرِّقٌ
بثَوْبٍ) والثوب ما هو؟ اسم لكل ما يلبس، فهذا ثوبٌ، وهذا ثوبٌ، والسراويل ثوبٌ،
والتُّبَّانُ ثوب، وهي السراويل القصيرة، والعباءة ثوب، وغيرها، فكل ثوب حكمه
بنفسه، فلو كان في هذا قليل، وفي هذا القميص قليل، لو جُمِعَ في ثوبٍ واحدٍ لكان
كثيرًا، فإنه حال الاجتماع يمنع الصلاة، ولكن حال كونه في ثوب، وهذا في ثوب؛ فإنه
لا يمنع صحة الصلاة، ما دام في ثوبين. هذا هو الذي يُفهم من كلام الشارح -رحمه الله
تعالى-.
{(ودَمُ السَّمَكِ، ومَا لا نَفْسَ له سَائِلَةٌ، كالبَقِّ والقَمْلِ، ودَمُ
الشَّهِيدِ عليه، وما يَبْقَى في اللَّحْمِ وعُرُوقِه، ولو ظَهَرَت حُمْرَتُه
طَاهِرٌ)}.
إذًا هذا إشارة إلى بعض ما لا يدخل في الحكم، بل هو طاهر في أصله، فلو أصاب
الإنسانَ كثيرٌ من هذا أو قليلٌ، فإنه لا يضره، فدم السمك، لَمَّا كانت السمكة
ميتتها طاهرة، ولا يحتاج فيها إلى ذكاة، فلولا أن دمها طاهر لطلبت تذكيتها، وبناء
على ذلك قالوا: إنَّ دمها طاهر، فلو أصاب الإنسان دم السمك ولو كثيرًا فإنه لا يمنع
صحة صلاته.
قال: (ومَا لا نَفْسَ له سَائِلَةٌ)، ما معنى: (ومَا لا نَفْسَ له سَائِلَةٌ)؟
النفس هنا يعني: الدم، يعني: ما له دم سائل، فالحشرات ونحوها لا دم لها سائل، فلو
صليت في غابة مثلا، أو في حديقة في بعض الأحوال، فسجدت ثم قمت تجد مثلا على محل
ركبتك التي أصابت الأرض، ربما تجد نقط دم، هذه النقط من أثر حشرات كانت في المحل
فأصبتها فماتت.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: هذا الدم ما دام أنه ليس يسيل، فهو طاهر، وبناء
على ذلك إذا أصاب الإنسان شيء منه فلا يضره، وهذا يحصل كثيرًا في الغابات، وأماكن
تكاثر هذه الهوام والحشرات.
ولذلك قال: (البق) وهي حشرة صغيرة جدًا، و (القَمل) معروف، وهو يجتمع مع وسخ
الإنسان ويتكون من ذلك، فيتكاثر في شعره، وفيما خفي من جسده.
قال: (ودَمُ الشَّهِيدِ عليه)، دليل ذلك أنَّ النبي ﷺ أَمَرَ أن يكفنوا في أثوابهم،
فدل ذلك على أنها مستثناة من النجاسة وأنها باقية عن الطهارة، ولذلك جاء أنهم
يُبعثون على ثيابهم، اللون لون دم، والريح ريح مسك.
(وما يَبْقَى في اللَّحْمِ وعُرُوقِه) كذلك كثيرًا في اللحم إذا طُبِخَ طلع أثر
حمرة مع الماء، ولو قلنا: إنَّ ذلك نجس ولا بد من التخلص منه؛ لأفضى ذلك إلى عُسْرٍ
شديدٍ، ولَمَا أمكن من أكل لحم من اللحم؛ لأنه لا ينفك عن أن يوجد فيه، ولذلك لا
يختلف كلام أهل العلم على أنَّ مثل ذلك طاهر، ولا يكون له حُكم النجاسة، ويكون
متعلق النجاسة في الدم المسفوح، أو ما يخرج من الدابة في إصابة ونحوها.
قال: (ويُعْفَى عَن أَثَرِ استِجْمَارٍ بمَحِلِّهِ بَعْدَ الإِنْقَاءِ واستِيفَاءِ
العَدَدِ)}.
إذًا لو لاحظت هو يتكلم عَمَّا يُعفى عنه، ولكن ذكر دم السمك والبق والقمل، هو
كالقيد للمسألة المتقدمة، التي يُعفى عن يسير الدم، فأراد أن يُبين أن الدماء التي
من حيوانات طاهرة، وهي دماء نجسة.
فعندنا إذًا دمٌ نجس من حيوان نجس، فهذا لا تخفيف فيه البتة.
وعندنا دم طاهر من حيوان طاهر، وهو دم السمك، وما لا نفس له سائلة، أي: ما لا دم له
سائل، كالبق والقمل، فإنه لا غضاضة فيه، وهو طاهر قليله وكثيره، يعني: لو أصاب
الإنسان من ذلك حشرات كثيرة.
والثالث: ما كان حيوانا طاهرا، ودمه نجس، مثل: الآدمي، مثل: بهيمة الأنعام، ومثل:
الفرس، ومثل: الأنعام، ومثل: الحمام وغير ذلك، فهنا الدم القليل منه معفو عنه،
والكثير يجب إزالته، وذكرنا الفيصل في معرفة القليل والكثير في ذلك.
قال: (ويُعْفَى عَن أَثَرِ استِجْمَارٍ بمَحِلِّهِ بَعْدَ الإِنْقَاءِ واستِيفَاءِ
العَدَدِ) من المعلوم أن طهارة السبيل إمَّا أن تكون بالماء، وهي قاطعة للنجاسة،
ولذلك قال الفقهاء -كما مَرَّ بنا- عَودُ خشونة المحل كما كان، فلا يكون ثَمَّ
نجاسة، ولكن إذا كان التطهير بالاستجمار، كالحجارة وما في معناها، كالمناديل أو
نحوها، أو كخشب ونحو ذلك مما تزال به النجاسات ويمكن إزالتها به، بقيدها وشرطها
فيما تقدم في باب الاستنجاء، فإنه لا محالة أن يبقى أثرٌ ولو قليل.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إن هذا المتبقي في محله معفوٌ عنه، وبناء على ذلك
لو صلَّى الإنسان ثم دخل بيته بعد أن كان قد استجمر في البرية ونحوها، فغسل في
الماء، فوجد أثر نجاسة، أو أحسَّ بها، فنقول: هذه نجاسة معفو عنها، وطهارتك تامة،
ونقاؤك من النجاسة حاصل، ووجود تلك النجاسة أثناء الصلاة معفو عنه.
لكن هنا قال: (بمحله)، فيفهم من ذلك أنها لو تحركت من محلها، فأصابت السراويل، أو
تحركت مع العرق إلى صفحتي الآليتين، فإنها تكون نجسة وتجب إزالتها، وهذا هو مشهور
المذهب عند الحنابلة -رحمهم الله- خلافا للشافعي وجمعٍ من الفقهاء.
وربما قال به بعض الحنابلة؛ لأنَّ هذه من المسائل التي يكثر فيها الإشكال، وربما
أوردت الوسوسة، ولكن مشهور المذهب أنَّ هذه النجاسة معفو عنها في محلها.
أمَّا إذا انتقلت وتحركت فأصابت السراويل، أصابت الآليتين، جلس وليس عليه ثوب،
فأصابت فُرُشًا في بيته، فإنها لا شك أنها نجاسة تجب إزالتها، ولا يُخفف فيها
خلافًا لقول بعض الفقهاء.
{(ولا يَنْجُسُ الآدَمِيُّ بالمَوْتِ لحديثِ: «المُؤْمِنُ لاَ يَنْجُسُ» مُتَّفَقٌ
عليه، وما لا نَفْسَ؛ أي: دَمَ لَهُ سَائِلَةٌ)}.
(ولا يَنْجُسُ الآدَمِيُّ بالمَوْتِ)، وقول المؤلف: (الآدمي) يُشير في ذلك إلى أنَّ
الحكمَ عامٌ، للمسلم والكافر على حدٍّ سواء، وهذا أخذه الفقهاء من قول الله -جل
وعلا-: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء:70]، وجاء عن ابن عباس:
«الْمُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا»[1]، وقالوا: هذا حُكمٌ يتعلق
بالآدمي في كل أحواله، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وإن كان بعضهم يخصه بالمسلم.
لأجل ذلك عَبَّرَ المؤلف بـ (الآدمي)، ليشير إلى أن مشهورا المذهب يتعلق بالجميع،
ولا يختص بحال المؤمن أو المسلم.
{قال -رحمه الله-: (ومَا لا نَفْسَ سائلة؛ أي: دَمَ لَهُ سَائِلَةٌ، كالبَقِّ،
والعَقْرَبِ، وهو مُتَوَلِّدٌ مِن طَاهِرٍ، لا يَنْجُسُ بالمَوْتِ بَرِّيًّا كانَ
أو بَحْرِيًّا؛ فلا يَنْجُسُ المَاءُ اليَسِيرُ بمَوْتِهِمَا فيه)}.
قوله: (ومَا لا نَفْسَ سائلة) الكلام الآن ليس في نجاستها لو أصابتك، بل هذا الكلام
في هذه الحشرات التي لا نفس لها سائلة، مثل: ماذا؟ مثل: البق، والعقرب من أكبرها،
يعني: من أكبر التي لا دم لها سائل، مثل: النمل، مثل: الصراصير -غير صراصير الكنف-،
بل الصراصير التي هي صراصير المزارع ونحوها، ففي هذه الحال يقول المؤلف -رحمه الله
تعالى-: إنها لو ماتت في ماء؛ لأنه يكثر هذا الشيء، فإن الموت يُنجسها من حيث
الأصل، ولكن ما دام أنها لا نفس لها سائلة، فإنها لا تنجس بالموت.
وبناء على ذلك، ما يكون من سطل ماء، أو طَشتٍ ونحوه، الذي هو أكبر أو أفسح من السطل
وفيه ماء، لو جئت إليه في الصباح، فوجدت فيه بعض بعوض، أو عقرب ميتة، أو بق، أو
أشياء مماثلة لذلك، فنقول: هذه وإن ماتت فيه، فما دام أنه لا نفس لها سائلة، فإنه
لا يُحكم بنجاستها في الموت، فبناء على ذلك الماء طاهر، ويجوز الاغتسال منه
والوضوء، ويجوز إزالة النجاسة به، ونحو ذلك.
قال: (وهو متولد من طاهر)، لماذا؟ للإشارة إلى ما يكون متولدا من نجس، كالصراصير
التي تتولد من النجاسات في الكنف ونحوها، فإنَّ هذه لا يُعفى عنها؛ لأنها متولدة من
النجاسة، فأصلها نجاسة، وبناء على ذلك لو وقعت في ماء قليل، فإنها تنجسه ولو لم ولو
لم تغيره، على ما سبق في مشهور مذهب الحنابلة.
قال: (بريا كان أو بحريا) فلا ينجس الماء اليسير بموتهما فيه، وأمَّا إذا كان
كثيرًا، فإنها لو كانت نجسة، ما دام أنها لم تغيره، فإن الماء طاهر، فلا يُحتاج إلى
الكلام على هذه المسألة في الماء الكثير.
ولكن لو أنَّ عندنا ماء كثير سقط فيه نمل كثير جدا، فمات النمل وغيرت هذا الماء،
فما حُكُم هذا الماء؟ هل هو تغير بنجس أو تغير بطاهر؟ لو لاحظت فإن المؤلف قال: لا
يَنجُس بالموت، فبناء على هذا نقول: هذا الماء الكثير تغير بطاهر لا بنجس، وبناء
على ذلك هو انتقل من كونه طهورًا إلى كونه طاهرا، فيجوز استعماله في العادات، لا في
رفع الحدث وإزالة النجاسات.
{(وبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُه ومَنِيُّهُ ورَوْثُه طَاهِرٌ؛ لأنَّهُ ﷺ أَمَرَ
العُرَنِيِّينَ أنْ يَلْحَقُوا بإِبِلِ الصَّدَقَةِ فيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا
وأَلْبَانِهَا، والنَّجِسُ لا يُبَاحُ شُرْبُه، ولو أُبِيحَ للضَّرُورَةِ
لأَمَرَهُم بغَسْلِ أَثَرِه إذا أَرَادُوا الصَّلاةَ)}.
قال المؤلف: (وبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُه)، فما يكون من بهيمة الأنعام، إبل، بقر،
غنم، جاموس، حمام، دجاج، بط، وَز، فرس، ضبع، كل ما كان مأكول اللحم، فيقول المؤلف
-رحمه الله-: روثه ومنيه وبوله طاهر، وأصل ذلك عند الحنابلة أحاديث، فهو ليس دليلا
واحدا، فالنبي ﷺ لَمَّا سُئِلَ عن الصلاة في مرابض الغنم، قال: صلوا في مرابض
الغنم، وأذن في ذلك، ومن المعلوم أن مرابضها لن تخلو قطعًا من وجود فضلاتها، فدلَّ
ذلك على أنها غير نجسة، وإذا كانت فضلاتها من بول أو غائط غير نجس، فمن باب أولى
ألا ينجس منيها.
ومثل ذلك أيضا ما جاء في قصة العُرَنِيِّينَ، فإنَّ النبي ﷺ أذن لهم في شرب أبوال
الإبل، فلو كانت نجسة لأمرهم بتطهيرها، مع أنه جاء في الحديث «إنَّ اللَّهَ لم
يجعَلْ شفاءَكُم فيما حرَّمَ عليكُم»[2]، فلو كانت نجسة لكانت محرمة، وإذا كانت
محرمة لم يجز التشافي بها، وطالب التداوي بها، فَعُلِمَ من هذا وجه مذهب الحنابلة
-رحمهم الله تعالى- في القول بطهارة هذه الأشياء، وإن كان ذلك خلاف قول جمهور أهل
العلم، ولكن مثل ما قال ابن تيمية: إنه لم يكن يُعرف فيمن تقدم أنهم يقولون: إن هذه
الأشياء نجسة.
ثم بَيَّنَ شارح وجه الدلالة لَمَّا قال: (ولو أُبِيحَ للضَّرُورَةِ لأَمَرَهُم
بغَسْلِ أَثَرِه إذا أَرَادُوا الصَّلاةَ).
{(ومَنِيُّ الآدَمِيِّ طَاهِرٌ؛ لقَوْلِ عَائِشَةَ: «كُنْتُ أَفْرُكُ المَنِيَّ مِن
ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ يَذْهَبُ فيُصَلِّي بِهِ» مُتَّفَقٌ عليه، فعلى هذا
يُسْتَحَبُّ فَرْكُ يَابِسِه وغَسْلُ رَطْبِهِ)}.
لو كنت في الحرم تصلي فبزقت حمامة، نزلت فضلتها، كما يحصل للناس كثيرا، فبناء على
ذلك نقول: إنَّ هذا طاهر، فإذا أصابت ثيابك، أو كانت في محل صلاتك، فإن ذلك لا يمنع
صحة الصلاة.
وأمَّا لو كان ذلك كان من أثرِ عُقَابٍ، أو حَدَأةٍ، أو رخم، فهل يكون طاهرا؟ لا
قطعا؛ لأنَّ هذه من سباع الطير -على ما سيأتينا- والإذن أيضا في الهرة وما دونها في
الخلقة في غير فضلتها، فلبنها وبولها وعذرتها بلا شك نجسة، فحتى لو قيل: إن هذه
فَضْلَة عِقابٍ وهو أصغر، مع أنه ليس بأصغر، ولكن لو مثل: الغربان، وهذا سيأتي
الكلام عليه، لو كان غرابًا صغيرًا، أصغر من الخلقة حتى ولو كان، فإن فضلته نجسة؛
لأن فضلت الهر والقط ونحوه نجسة، فلا بد أن تتبين.
وإذا شككت هل هي فَضْلَة حمام أم غيره، فماذا نفعل؟
الأصل هو الطهارة؛ لأنه هو الأصل وهو اليقين، كما أنَّ هذا هو الغالب؛ لأنَّ أكثر
ما يوجد هناك هو الحمام لا غير، فيُحكم بالطهارة، ولكن لو كثرت -كما يكون في بعض
الأوقات- فتحوط الإنسان لنفسه، لكان ذلك أولى وأتم.
ولكن من حيث الحكم الأصلي، فإنه يُحكم بالطهارة، وهذا هو الأصل المستقر لا غير.
قال: (ومَنِيُّ الآدَمِيِّ طَاهِرٌ) هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وهو قول
جمهور العلماء خلافا للإمام مالك، وابن القيم -رحمه الله تعالى- عَقَدَ مناظرة في
"بدائع الفوائد" بين مالكيٍ وغيره، لمن يقول بطهارة المني ممن يقول بنجاسته، وأورد
في ذلك أدلة، وهو صاحب قلم سيال، يجد الطالب في ذلك من براهين، ومن أنواع الملكة
الفقهية، ومن التنوع في الاستدلال، والدقة فيه، والوصول إلى خفاء المسائل وغيرها،
ما ينتفع منه الطالب كثيرا، ولكن الحنابلة في ذلك أو في أشهر ما استدلوا به أمران:
أولاً: أنَّ هذا أصل بني آدم، ولا يمكن أن يكون أصله نجسًا.
والثاني: ما جاء في حديث عائشة الذي ذكره الشارحون، قالت: «كُنْتُ أَفْرُكُ
المَنِيَّ مِن ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ يَذْهَبُ فيُصَلِّي بِهِ»[3]، ومن
المعلوم أنَّ الفرك قطعا لا يذهب بجميعه، والحنابلة أيضا لا يرون إزالة النجاسة إلا
بالماء، فلو كان نجسا لم يكن ذلك ليزيله، فبناء على ذلك حُكِمَ بطهارة المني،
والقول بصحة الصلاة لمن كان مُتلبسًا بشيء من ذلك، أو أصابه شيء منه.
إذا قيل بطهارة المني، أو طهارة أبوال الإبل، لا يعني أنها ليست مما يُستقذر، بل هي
مستقذرة، وينبغي للإنسان أن يتخلى عنها، ولأجل ذلك حتى في كلام كثير من الفقهاء
ونحوهم أنه لا يُحتاج إلى أن يتعاطى الإنسان مثل هذه الأبوال إلا في أحوال خاصة،
وبقدر محدود؛ لأنها أشياء مستقذرة تستعمل عند الحاجة إليها.
فما يكون من بُصاقٍ، أو عَرَقٍ، أو لعابٍ، أو سواه، فإنها أشياء تُستقذر، وتختلف
درجاتها في الاستقذار، كلها يتخلص الإنسان منها ويستكره وجودها، ولكن ذلك لا يعني
عدم طهارتها.
{قال -رحمه الله-: (ورُطُوبَةُ فَرْجِ المَرْأَةِ، وهو مَسْلَكُ الذَّكَرِ طَاهِرٌ،
كالعَرَقِ، والرِّيقِ، والمُخَاطِ، والبَلْغَمِ، ولو أَزْرَقَ، ومَا سَالَ مِن
الفَمِ وَقْتَ النَّوْمِ)}.
قال: (ورُطُوبَةُ فَرْجِ المَرْأَةِ)، الرطوبة توجد في المرأة في فرجها، في مخرج
الحيض لا في مخرج البول، وهذه الرطوبة هل هي طاهرة أو نجسة؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة أنها طاهرة، والكلام هنا ليس في وجود هذه الرطوبة،
ولكن لو خرجت فأصابت سراويلها أو ثيابها؛ لأنَّ من النساء من تكون رطوبتها كثيفة،
فإذا عَرِقَتْ أو إذا مشت أو إذا جُهدت بعمل أو غيره، ربما سالت هذه الرطوبة فأصابت
بعض ثيابها، وأمَّا في محلها فلا يُحتاج إلى الحكم، فيقول المؤلف -رحمه الله
تعالى-: إن هذه الرطوبة طاهرة.
من أين أخذوا ذلك؟ قالوا: لا محالة أنَّ مني المرأة طاهر، وهو لا محالة يختلط بشيء
من هذه الرطوبة، فلو أنَّ الرطوبة نجسة لأمر بتطهير المني إذا أصاب الإنسان، وبناء
على ذلك قالوا: هذا هو حكمها.
إذًا، قالوا: هذه الرطوبة حكمها حكم ما يكون من لُعاب، وما يكون من بلغم، وما يكون
من عرق، فإنها مُستقذرة ولكنها طاهرة، هذا من جهة النجاسة ووجوب الغسل من عدمه.
لكن لو خرجت من المرأة، فوجدت المرأة مثلا وقد مشت مشيًا كثيرًا، فوجدت في سراويلها
بللا، فنظرت فإذا هو من ممتد من مسلك الذكر، أو مخرج الحيض، فرأت أن الرطوبة قد
امتدت، أو هي تعرف ذلك من حالها؛ لأنه يعرف الفرق بين البول وبينها.
فالخروج من حيث هو خروج عند الحنابلة، أنه موجب للوضوء؛ لأننا قلنا: الخارج من
السبيلين من طاهرٍ أو نجسٍ، وهذا مما يستشكل من المسألة، وفي بعض الأحوال أخرجوا
مخرج الحيض من حكم السبيل، وإن كانت قاعدتهم الأكثر والاضطراد على أنها داخلة في
حكمه، وفي اسمه مشمولة به، تطرد فيه الأحكام، ولكن مثل ما قلنا: في بعض الأحوال قد
يُفهم منه أنه ليس بداخل، فإذا قيل: إنها في حكم السبيلين، فالحكم ظاهر، وهو الذي
نصَّ عليه الحنابلة يجب معه الوضوء.
ولكن ما أصاب السراويل من تلك الرطوبة، لا يجب غسله، ولا يلزم المرأة إزالتها،
باعتبار أنها طاهرة وليست بنجسة.
{قال -رحمه الله-: (وسُؤْرُ الهِرَّةِ وما دُونَهَا في الخِلْقَةِ طَاهِرٌ غَيْرُ
مَكْرُوهٍ غَيْرَ دَجَاجَةٍ مُخَلاَّةٍ)}.
من المسائل المتعلقة بذلك، هي مسألة متعلقة بيسير الدم، أحيانًا إذا حُلِبَتْ
البهيمة، ربما يوجد في الحليب أثر حمرة، وله تسمية نسيتها الآن، يسمونها أظنها
"إمغار" أو كذا، هذا على كلام الحنابلة غير مائع أو مطعوم، فإنهم يحكمون بالنجاسة
ولو كانت قليلة؛ ولأن هذا أيضا غير مُعتاد وإنما هو داءٌ يُصيب الدواب، فيكون فيها
ذلك.
ولكن نُقِلَ عن بعض الحنابلة أنهم يخففون فيها، أظن ابن عطوة، وأحد أئمة الدعوة،
قالوا بالتخفيف فيها، لأنه يحصل ذلك، وعلى قول شيخ الإسلام من التخفيف وعدم التفريق
بين الماء وغيره، والتخفيف في المطعومات والمائعات إذا أصابتها نجاسة مخففة، فالحكم
واضح أيضا بأنه مندرج في قوله: بالتخفيف.
وكذلك أيضا لو كان في البلغم دم، وهي التي ذكرتنا بهذه المسألة، فهل يُعفى عنها أو
لا يعفى؟ هي نجاسة مخففة، نجاسة الدم إذا كان خالصا، فإذا اختلط بغيره كان من باب
أولى التخفيف فيه، كالقيح والصديد.
{قال -رحمه الله-: (وسُؤْرُ الهِرَّةِ وما دُونَهَا في الخِلْقَةِ طَاهِرٌ غَيْرُ
مَكْرُوهٍ غَيْرَ دَجَاجَةٍ مُخَلاَّةٍ، والسُّؤْرُ -بضَمِّ السِّينِ مَهْمُوزٌ-
بَقِيَّةُ طَعَامِ الحيَوَانِ وشَرَابِه.
والهِرُّ: القِطُّ، وإن أَكَلَ هر أو طِفْلٌ ونَحْوُهُمَا نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَ
ولو قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ مِن مَائِعٍ لم يُؤَثِّرْ لعُمُومِ البَلْوَى، لا عَن
نَجَاسَةٍ بيَدِهَا أو رِجْلِهَا)}.
يقول المؤلف: (وسُؤْرُ الهِرَّةِ وما دُونَهَا في الخِلْقَةِ طَاهِرٌ)، السؤر من
الأسار، وهو في الأصل ما يبقى من الشراب، ثم استعير إلى ما يبقى من الطعام؛ ولأجل
ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: هو (بَقِيَّةُ طَعَامِ الحيَوَانِ وشَرَابِه)،
فعلى كل حال هذا هو المراد عند الفقهاء، بغض النظر عن أصل الكلمة، هل هي متعلقة بما
يبقى من شراب، أو ما يبقى من طعام، أو هي بهما جميعا.
فعلى كل حال، يقول المؤلف -رحمه الله-: إن هذا طاهر لا غضاضة فيه، وهذا ظاهرٌ في
قول النبي ﷺ لَمَّا دخلت الهرة وقال: «إنَّها ليست بنجَسٍ إنَّها منَ الطَّوَّافينَ
عليكم»[4].
قال: (غَيْرُ مَكْرُوهٍ) فبناء على ذلك لو شربت من إناء أو نحوه، أو أصابت إناء لبن
أو نحوه، فلا يُمنع من استعماله بعدها، والانتفاع به.
قال: (غَيْرَ دَجَاجَةٍ مُخَلاَّةٍ) إذا خليت الدجاجة ولم تحفظ، فإنها لا تتورع عن
النجاسات، فيقولون: إنها بهذه الحال تكون مكروهة؛ لأنه قال: (غَيْرُ مَكْرُوهٍ
غَيْرَ دَجَاجَةٍ مُخَلاَّةٍ) فأما الدجاجة المخلاة لو أصابت بسؤرها إناء فيكره
أخذه، ولكنه لا يمنع منها، كأنَّ الكراهة عندهم على سبيل الاحتياط، وإن كانت داخلة
في أصل التخفيف وعدم المؤاخذة.
ثم قال: (وإن أَكَلَ هر أو طِفْلٌ ونَحْوُهُمَا نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَ)، يعني: أن
تراه رفع نجاسة إلى فمه، لا يُستطاع التحكم فيهم في كثير من الأحوال، ثم بعد ذلك
شرب من إناء ماء، فيقول المؤلف -رحمه الله-: (ولو قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ مِن مَائِعٍ)
يعني: حتى ولو كان من المائع الذي يشددون فيه، يعني: شرب من لبن، شرب من عصير، فهنا
يقولون: إن هذا أيضا مما يُعفى عنه.
فإذا كان قد أخذ وقتًا ثم شرب، فهذا لا إشكال فيه، وكذلك لو صُبَّ أيضا ماء في فمه،
أو تعاطى شيئا آخر، أو مُدَّ إليه خبز أو غيره، فهذا لا إشكال فيه، ولكن الكلام
الآن في أوضح المسائل من هذه، وهو أن يكون تعاطى النجاسة، فلا يزال أثرها في فمه،
ثم امتد إلى الإناء فأصابه، فلا شك أنه إذا شرب، أنه ربما تسلل شيء من النجاسة إلى
هذا الإناء، فيقول المؤلف -رحمه الله-: إن ذلك مما يُعفى عنه لعموم البلوى بذلك.
{قال -رحمه الله-: (ولو وَقَعَ ما يَنْضَم دُبُرُه في مَائِعٍ ثُمَّ خَرَجَ حَيًّا
لم يُؤَثِّرْ)}.
قال: (لا عَن نَجَاسَةٍ بيَدِهَا أو رِجْلِهَا) أما النجاسات التي بيده، لو كانت
هذه القطة أو الهرة مرَّت على نجاسة فأصابت يدها، ثم أصابت إناء بيدها، فهذه نجاسة
لا يُعفى عنها بوجه من الوجوه، فكما لو أصابتك النجاسة بغير هذا الوجه، فإنه يجب
غسلها وإزالتها.
ثم قال: (ولو وَقَعَ ما يَنْضَم دُبُرُه في مَائِعٍ ثُمَّ خَرَجَ حَيًّا لم
يُؤَثِّرْ)، يعني: فأرة وقعت في ماء ثم خرجت، أو الضفدع، فيقولون: ما دام أنه طاهر
في الحياة، وينضم دبره، يعني: لم تخرج منه نجاسة، فالحكم بطهارة ذلك الماء وما
أصابه.
وكذلك لو كان مائعًا غير الماء، حتى لو وقعت في لبن، أو وقعت في خل، طبعا إذا وقعت
في الخل ففي الغالب أنها لا تنجو؛ لأنَّ الخلَّ فيه حرارة شديدة فتهلك، ولكن لو
وقعت في عصير، لو وقعت في غير ذلك، فما دام أنها لم تمت فخرجت، فمعنى ذلك أنها هذه
مما تنضم دبرها، فنأمن أن تكون وصلت إليه نجاسة، وهي طاهرة في الحياة؛ لأنها من
الهرة فأصغر في الخلقة، فيُحكم بالطهارة في تلك الحال.
{(وسِبَاعُ البَهَائِمِ وسِبَاعُ الطَّيْرِ التي هي أَكْبَرُ مِن الهِرِّ خِلْقَةً،
والحِمَارُ الأَهْلِيُّ والبَغْلُ مِنْهُ؛ أي: مِن الحِمَارِ الأَهْلِيِّ لا
الوَحْشِيِّ نَجِسَةٌ.
وكذا جميعُ أجزَائِهَا وفَضَلاتِهَا؛ لأنَّهُ -عليه السَّلامُ- لَمَّا سُئِلَ عَن
المَاءِ ومَا يَنُوبُه مِنَ السِّبَاعِ والدَّوَابِّ، فقالَ: «إِذَا كَانَ المَاءُ
قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» فمَفْهُومُه أنَّهُ يَنْجَسُ إذَا لَمْ
يَبْلُغْهُمَا، وقالَ في الحُمُرِ يَوْمَ خَيْبَرَ: «إِنَّهَا رِجْسٌ» مُتَّفَقٌ
عليه، والرِّجْسُ: النَّجَسُ)}.
قال: (وسِبَاعُ البَهَائِمِ) سباع البهائم معلومة، مثل: فهد، أسد، ذئب، نمر، إلى
أشياء كثيرة هذه هي أشهرها، وهذه نجسة، فلو أصابت بسؤرها، أو فضلاتها، أو بولها،
فإنها نجسة، وكذلك عرقها، وما يصيب الانسان منها، فإنَّ أي شيء أصاب الإنسان يجب أن
يزيل تلك النجاسة بحسب ما مر في طرائق إزالة النجاسات.
طيب الضبع، لا. الضبع مأكول، وبناء على ذلك منيه وبوله وفضلته طاهرة.
وأمَّا الثعلب ففي الحقيقة استثنى بعضهم الثعلب، ولكن لا أدري ما وجهه، فإذا قلنا:
إنَّ الثعلب يؤكل فهذا لا إشكال، وهو محل الخلاف، وإن كان الخلاف مشهور المذهب عند
الحنابلة، ولكن إذا قلنا: إنه غير مأكول، فهل يمكن أن يخرج من كونه نجسا أو لا؟
لا يظهر ذلك إلا أن يقال: إنه مثل الهرة في الخلقة في بعض الأحوال، هذا ممكن أن
يقال، ولكن تحتاج إلى تحرير، وأنا ما راجعتها في الحقيقة.
قال: (وسِبَاعُ الطَّيْرِ التي هي أَكْبَرُ مِن الهِرِّ خِلْقَةً) أيضا سباع الطير،
كالصقر، والنسر، والحدأة، والعقاب، والرخم، وغيرها، كل ذلك أيضا نجس، فإذا أصاب
فضلته، أو بعض أجزائه، أو ريقه، فإنه يُنجس ما وقع عليه من مائع وغيره، إلا أن يكون
أصغر من الهر خلقة، فيكون في حكم الهرة، لأنَّ الحنابلة لَمَّا قال النبي ﷺ:
«إنَّها منَ الطَّوَّافينَ عليكم» نظروا في العلة فقالوا: هم صغار الخلقة، فكل ما
كان مثل الهرة فدون، جعلوه في حكم الطاهرات في حال الحياة، فلو أصاب الإنسان سؤره،
أو شيء من أجزائه، فلا إشكال في طهارته، إلا فضلته وبوله، فهو نجس.
وبناء على ذلك ما كان أصغر من سباع الطيور، من الهرة، فهو أيضا طاهر في حال الحياة،
وهم مثلوا بـ "النمس"، "ابن عرس"، يعني: جعلوها مثل الهرة في طهارتها.
الغراب نقلوا فيه كلاما كثيرا، يعني: هل هو أكبر من الهرة أو لا؟ وبعض أئمة الدعوة
قال: إن الغراب الذي عندنا الآن صغير، فهو مثل الهرة، فإذا وُجِدَ منه كبير، كما
ذُكِرَ عن بعضهم أنهم حكموا بـ أنه كسائر سباع الطير، كأنهم يتكلمون على ذلك الذي
هو أكبر من الهرة خلقة.
ثم قال: (والحِمَارُ الأَهْلِيُّ والبَغْلُ مِنْهُ)، البغل من الحمار الأهلي، ما
معنى البغل؟
الحمار الأهلي واضح، وهي: الحمر التي يستعملها الناس للتحميل ونحوها.
(والبَغْلُ مِنْهُ) يعني: المتكون أو المتخلق بين حمار وفرس، فهذا بغلٌ، يعني: من
الحمار، فبناء على ذلك هم يحكمون بنجاسته، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وإن
كان القول الثاني عند الحنابلة، والذي قال به كثير من أهل التحقيق من الحنابلة
المتقدمين والمتأخرين، كابن قدامة، وابن تيمية، وانتصر له ابن القيم انتصارا كبيرا،
وعليه فتوى أئمة الدعوة، أنَّ هذه مخلوقات طاهرة في حال الحياة؛ لأنَّ الصحابة
كانوا يستعملونها كثيرًا، فلا ينفكون من أن يصيبهم عرقها ولعابها، ولم يُذكر عن
النبي ﷺ ولو في حديث واحد، أنه أمر بالتحرز منها، أو التخلص من نجاستها.
ولكن الحنابلة قالوا: هو باعتبار الأصل، وباعتبار ما جاء في الحديث «إِنَّهَا
رِجْسٌ»، فحملوه على العموم، ولكن من قال بالطهارة، قال: إنَّ هذا متعلق بلحومها
وأكلها، لا ما يُصيب الإنسان منها.
والحقيقة يمكن أن يقال: إنَّ القول الثاني أقرب؛ لأنه لا ينفك خاصة من يبتلون
بمعالجتها وبالحاجة إليها من هذا القول، لأنه يَركبه في كل يوم أكثر من عشر مرات،
فلو أنَّه كلما ركب عليها، فالغالب أنه لن ينفك من أثرها، إمَّا من عرق، أو بعض
شعرها، أو لعابها، أو نحو ذلك، وإذا قلنا بالنجاسة، فمعنى ذلك أنه لا بد أن يتخلص
من ذلك ويتطهر، والفتوى على خلاف ذلك، يعني على الخلاف بالقول بالنجاسة.
ولأجل ذلك كان قول الجمهور، وهو الرواية الثانية عند الحنابلة، وقول كثير من أهل
التحقيق، وقول أئمة الدعوة، وعليه فتوى مشايخنا، القول بطهارتها، وعدم نجاسة ما
أصاب الإنسان منها من: عرق، أو شعر، أو لُعاب، بخلاف البول أو الروث فلا شك في
نجاسته.
أسأل الله لنا ولكم الخير والتوفيق والسداد، وصَلَّى الله وسَلَّمَ وبارك على نبينا
محمد.
---------------------------------------
[1] ذكره البخاري معلقًا في صحيحه عن ابن عباس.
[2] أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث (5614).
[3] متفق عليه.
[4] رواه أبو داود.