مكتبـــــة الدروس

2024-03-19 21:06:53

باب التيمم (8)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (بابُ التَّيَمُّمِ. في اللُّغَةِ: القَصْدُ، وشَرْعاً: مَسْحُ الوَجْهِ واليَدَيْنِ بصَعِيدٍ على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم الراسخين، وأن يعقبنا العمل يا رب العالمين، وأن يجعلنا مُعلِّمِينَ للعلم، مُظهرين للسنة، ورافعين للوائها، مستنيرين بنورها، على ذلك نحيا وعليه نموت، وعليه نلقى الله -جلَّ وعلا- رب العالمين.
هذا الباب الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- وهو (بابُ التَّيَمُّمِ) مناسب ذكره هنا، فإنَّ بدلُ الطاهرتين، فلمَّا أنهى المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق بطهارة الوضوء من الحدث الأصغر، وطهارة الغسل من الحدث الأكبر، نَبَّهَ على بديلهما حال العجز عن فعلهما، وقد ذكر المسح على الخفين قبل ذلك، مع أنه بدل غسل الرجلين، ولكن قال أهل العلم: لَمَّا كان مختصًا بالحدث الأصغر، كان ذكره لصيقًا بعده أنسب وأكمل.
إذًا هذا باب التيمم، والتيمم من: يمم إذا قصد، فلأجل ذلك قال: هو (القصد)، وحقيقته أنَّ المكلف يقصد الصعيد لتحصيل الطهارة، وذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- معناه في الاصطلاح، فقال: (مَسْحُ الوَجْهِ واليَدَيْنِ بصَعِيدٍ على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ) أو استعمال التراب في مسح الوجه واليدين في الحدث الأصغر والأكبر، أو نحو من ذلك، وكله دال على المراد وقريب من بعض.
إضافة -كما شهرت عن شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- لفظة التعبد لله -جل وعلا-، وهذه في الحقيقة لا تدخل في التعريف، لأنَّ التعبد هو فعل المكلف، والتعريف هو صورة المعرَّف وتوضيحه، فصورة المعرف يقع على هذا النحو، وبعد ذلك المكلف إذا أراد أن يعمل هذه العبادة فلا بد أن ينوي ويقصد التعبد لله -جلَّ وعلا- فيكون هو من فعله، ومما يتعلق به، لا من حقيقة هذه العبادة، وليس بداخل فيها، والأمر في ذلك واسع جدا.
{(وهو مِن خَصَائِصِ هذه الأُمَّةِ، لم يَجْعَلْهُ اللَّهُ طَهُوراً لغَيْرِهَا تَوْسِعَةً عليها وإِحْسَاناً إليها، فقالَ تعَالَى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾)}.
إذًا هو من خصائص هذه الأمة كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-، وجاءت في ذلك الأحاديث، كما في حديث جابر، «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي»، وقال منها: «وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا»[1]، فلا يختلف أهل العلم في أنَّ الطهارة بالصعيد هي مما اختصت به هذه الأمة، توسعة عليها ورحمة، فإن الإنسان لا يُضَيَّقَ عليه في عبادته، ولا يكلف ما لا يستطيعه، فإذا عجز عن الماء، وإذا أَبْعَدَ في الصحراء، فلم يمكنه استعمال الماء، فينتقل إلى البدل وهو الصعيد، وهو أيسر ما يكون على العبد أينما حل، وأينما نزل، حتى ولو كان في قاع بئر، أو كان في ظلمة سجن أو سواها، لا يبعد عليه فعل التيمم.
ثم هنا سبب مشروعية التيمم، وهي القصة التي تعرفونها، لَمَّا كانوا في إحدى الغزوات، فضاع عقد عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، فنزل النبي وأرسل قوما يبحثون عنه فلم يجدوه، فحلَّ بهم وقت الصلاة فصلوا بدون طهارة؛ لأنهم لا يجدوا الماء، فأنزل الله -جل وعلا-هذه الآية، فَقالَ أُسَيْدُ بنُ الحُضَيْرِ: "مَا هِي بأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يا آلَ أبِي بَكْرٍ؟"[2].
وقال المؤلف -رحمه الله تعالى-: قال الله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾، هذه الآية التي نزلت فكانت تيسيرا على الناس وتوسعة عليهم.
ومعنى الصعيد وما يتعلق به المسح، سيأتي بيانه عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى- في ثنايا هذا الباب.
{(وهو؛ أي: التَّيَمُّمُ بَدَلُ طَهَارَةِ المَاءِ، لكُلِّ ما يُفْعَلُ بها عندَ العَجْزِ عنه شَرْعاً، كصَلاةٍ وطَوَافٍ ومَسِّ مُصْحَفٍ وقِرَاءَةِ قُرْآنٍ ووَطْءِ حَائِضٍ، ويُشْتَرَطُ له شَرْطَانِ)}.
قال: (التَّيَمُّمُ بَدَلُ طَهَارَةِ المَاءِ)، أي: هو بدل هذه الطهارة، وقوله هنا: (بَدَلُ طَهَارَةِ المَاءِ) ولم يذكر أنه طهارة، فلم يقل: هو طهارة عند فقد الماء، وهذا يُشير إلى مسلك الحنابلة -رحمهم الله تعالى- في حقيقة التيمم، وهي المسألة المشهورة؟ هل التيمم مبيح أو رافع؟
وقبل أن تعلم ما ذهب إليه الحنابلة، فلا بد أن تعرف معنى هذه الكلمة، أي: ما معنى قولنا: مبيح أو قولنا رافع للحدث؟
قولنا: رافع للحدث هذا ظاهر، يعني: أنه مثل طهارة الماء، فمن كان نائمًا فقام فتوضأ؛ ارتفع حدثه، ومن ذهب إلى الخلاء فتوضأ ارتفع حدثه، وصار طاهرًا بعد أن كان محدثا.
وأمَّا إذا قلنا: هو مبيح، فمعنى ذلك أنَّ فعل التيمم عند عدم الماء لا يرفع الحدث، ولكن أكثر ما فيه أن يُجيز لمن تيمم فِعلُ ما تُشترط له الطهارة، يعني: أنه يجتمع في حقه أمران: أنَّه مُحدثٌ ويجوز له فعل الطهارة.
إذًا المحدث في الأصل هو مُتلبسٌ بالحدث ويحرم عليه فعل الطهارة، والمتطهر مُتنزهٌ عن الحدث، ويفعل ما كل ما تشترط له الطهارات، والذي تيمم هو بينهما، فحدثه باقٍ مُتلبسٌ به، ولكن يجوز له يفعل ما يفعل المتطهر، ولكنه ليس بمتطهر.
وبناء على ذلك هل التيمم مبيح أو رافع؟
الحنابلة على أنه مُبيح، واستدلوا بما جاء في بعض روايات أبي ذر، لَمَّا قال النبي : «فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَمسَّه بشرتَه»[3]، فقالوا: دل على أنه على حال يحتاج فيها إلى التطهير إذا أمكنه ذلك. إذًا أخذوا من هذا الحديث أنه باق على ما هو عليه، وإن كان القول بأنه رافع للحدث هو رواية قوية عند الحنابلة، ذهب إليها كثير من أهل التحقيق، ودلالتها ظاهرة أيضا في النص، فإن النبي قال: «وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا»[4]، وقوله: «الصَّعيدُ الطَّيِّبُ وضوءُ المسلِمِ وإن لم يجدِ الماءَ عشرَ سنين»[5]، لا شك في أن هذا قول قوي وجيه.
ثم إنَّ القول بأنه مبيح، في الحقيقة لا ينفك من إشكالات في مسائل كثيرة، سيأتي تقييد الحنابلة فيها، وبيان ما يتعلق بها.
ثم قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (لكُلِّ ما يُفْعَلُ بها عندَ العَجْزِ عنه شَرْعاً)، يعني كأنه يشير بذلك إلى قيد، وهو أنَّ العجز إمَّا مرده إلى الحس، يعني: لا يستطيع استعمال الماء لفقدانه ونحوه، أو أنه ليس بفاقد للماء، ولكنه في حكم الفاقد، لكون الماء يُضر به، أو لكونه يحتاج إليه في حاجته الملحة، كالإبقاء على نفسه وحفظها من الهلكة، أو نحو ذلك مما لا بد له منه.
{(ويُشْتَرَطُ له شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: دُخُولُ الوَقْتِ، وقد ذَكَرَهُ بقَوْلِه: إِذَا دَخَلَ وَقْتُ فَرِيضَةٍ أو مَنْذُورَةٍ بوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، أو عِيدٍ، أو وُجِدَ كُسُوفٌ أو اجتَمَعَ النَّاسُ لاستِسْقَاءٍ، أو غُسْلِ المَيِّتِ، أو يُمِّمَ لعُذْرٍ، أو ذَكَرَ فَائِتَةً وأرَادَ فِعْلَها، أو أُبِيحَت نَافِلَةٌ بأن لا يكونَ وَقْتُ نَهْيٍ عن فِعْلِهَا)}.
قبل أن نأتي إلى هذا، هو قال فيما سبق: (كصَلاةٍ وطَوَافٍ) وهذه إشارة إلى ما تعتبر له الطهارة، فيستعمل لها التيمم في تلك الأحوال كلها، إلى أن قال: (ووَطْءِ حَائِضٍ) وجاء في بعض النسخ: (ووَطْءِ حَائِضٍ طهرت)، ووطء الحائض قطعا لا يُراد وقت حيضها، سواء كان في النسخة (طهرت) أو هو على قصد إضمار ذلك.
فالحائض إذا طهرت فإنه لا يجوز لزوجها أن يقربها إلا أن تغتسل، ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ [البقرة:222]، و ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ عند أهل العلم يعني: اغتسلن بعد أن طهرن، يعني: بعد أن انقطع دمهن. فهنا إذا تعذر عليها الغسل، فإنها لا يُحال بينها وبين زوجها، بل تتيمم ويجوز لزوجها أن يأتيها كما لو تطهرت أو اغتسلت.
ثم قال: (ويُشْتَرَطُ له شَرْطَانِ) يعني: التيمم، وهذا كله متفرع على ما ذهبوا إليه، وهو أنَّ التيمم مُبيح، وليس برافع.
قال: (أَحَدُهُمَا: دُخُولُ الوَقْتِ) لأنه ما دام أنه مبيح فمتعلقه الاضطرار والحاجة، فأنيطت بوقتها الذي يحتاج إليها ولا يُزاد فيه، وبناء على ذلك قالوا: إذا دخل وقت الصلاة فمن كان لا يجد ماء فتيمم لصلاة الظهر قبل زوال الشمس نقول: لا يصح على قولنا من إنه مبيح، ولو كان فاقدًا الماء، بل إذا زالت الشمس، هو وقت تعلق وجوب الصلاة به، وبناء على ذلك يفعل ما يستبيح به الصلاة من التيمم.
ثم هذا قدر واضح لا إشكال فيه، ولكن لَمَّا كانت كثير مما تعتبر له الطهارة، ليس له وقت محدد كأوقات الصلوات، أراد الشارح -رحمه الله- أن يُبين الوقت الذي يتعلق به حكم التيمم فيها، ولذا قال: (مَنْذُورَةٍ بوَقْتٍ مُعَيَّنٍ) فبناء على ذلك متى يتيمم لفعل المنذورة؟
قالوا: إذا دخل وقتها، فإذا قال مثلاً: إذا جاء نصف الليل صليت لله ركعتين نذرًا، فهنا لا يجوز لها أن يتيمم في ثلث الليل الأول، بل لا بد من دخول النصف وهكذا.
ويفهم من ذلك أنه لو قال: نذرت لله أن أصلي ركعتين فمتى ما أراد أن يصليها تيمم لها.
قال: (أو عِيدٍ)، فوقت العيد إنما هو بطلوع الشمس وارتفاعها، فلو تيمم قبل ذلك لم يصح.
(أو وُجِدَ كُسُوفٌ)، فكذلك لو تيمم للكسوف قبل حصوله لم يصح، وإن كان في كل هذه الأمثلة السابقة تصح الطهارة بالماء فيها. وإذا قلنا: إن التيمم رافع للحدث، وتيقنا أنه عاجز عن استعمال الماء حسا أو شرعا، فيجوز له على الرواية الثانية عند الحنابلة، التي هي قول ابن تيمية، وعليها الفتيا عند مشايخنا كثيرا في هذا الزمان، ولذلك أشرنا إليها.
قال: (أو وُجِدَ كُسُوفٌ) فإذًا لا يكون إلا بعد حصول الكسوف، وبداية ذهاب ضوء الشمس أو القمر.
قال: (أو اجتَمَعَ النَّاسُ لاستِسْقَاءٍ) الاستسقاء لا وقت لها محدد، فإذا احتاج الناس إلى السقيا فَصَلّوا كان ذلك وقتا لها، فمتى يكون وقت التيمم لها؟ قال: إذا (اجتَمَعَ النَّاسُ) فإذا اجتمعوا فهذا هو وقت فعلها.
(أَوْ غُسِّلَ المَيِّتِ) الصلاة على الميت فرع عن تجهيزه، وتجهيزه لا يكون إلا بتغسيله، فإذا تم تغسيله فهو وقت صلاة على الميت، وإذا تيمم قبل غسل الميت، نقول: لا يكفي ذلك بناء على قولهم: إنه مبيح.
قال: (أو يُمِّمَ لعُذْرٍ)، يعني: إذا كان مثلا هو محترق ولا يمكن تغسيله، فهنا لو تيمم قبل تيميمه لا يصح، ولذلك ذكر الحنابلة هذه المسألة بأنه مما يُعايَ بها، فيقولون: لا يصح تيممه إلا بأن ييمم غيره، هي هذه الصورة، لو كان ميت حضره يُحتاج إلى تيميم، وهو أيضا فاقد للماء أو عاجز عنه، فإنه لا ييمم نفسه، حتى ييمم الميت؛ لأنه إذا يمم الميت فهذا وقت الصلاة عليه، فدخل وقت التيمم بالنسبة إليه.
قال: (أو ذَكَرَ فَائِتَةً وأرَادَ فِعْلَها)، فإذا تذكر فائتة كصلاة العصر من يوم الجمعة الماضي، أو صلاة الجمعة وأراد أن يقضيها ظهرا، أو نحو ذلك، فإذا أراد فعلها فهذا وقت التيمم لها.
(أو أُبِيحَت نَافِلَةٌ بأن لا يكونَ وَقْتُ نَهْيٍ عن فِعْلِهَا) فلو أن شخصا أراد أن يصلي الضحى، فليس أن يتيمم قبل ارتفاع الشمس قيد رمح، ولو أراد شخص أن يُصلي من الليل فلا يكون ذلك قبل غروب الشمس، أليس كذلك؟ فلو تيمم قبل غروب الشمس لم يكن ذلك صحيحا، أو لم يكن ذلك وقته بناء على أن التيمم مبيح، ويشترط له (دُخُولُ الوَقْتِ).
{(الشَّرْطُ الثَّانِي: تَعَذُّرُ المَاءِ وهو ما أشارَ إليه بقَوْلِه: وعَدَمُ المَاءِ حَضَراً كانَ أو سَفَراً، قَصِيراً كانَ أو طَوِيلاً، مُبَاحاً كانَ أو غَيْرُه، فمَن خَرَجَ لحَرْثٍ أو احتِطَابٍ ونَحْوِهِمَا ولا يُمْكِنُه حَمْلُ الماءِ معَهُ ولا الرُّجُوعُ للوُضُوءِ إلا بتَفْوِيتِ حَاجَتِه؛ فلَهُ التَّيَمُّمُ، ولا إعادةَ عليه)}.
هنا يقول المؤلف: (الشَّرْطُ الثَّانِي: تَعَذُّرُ المَاءِ)، وهذا منصوص الآية، ودلالتها صريحة فيه، فإن الله -جلَّ وعلا- قال: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [النساء:43]، فشرط التيمم عدم الماء، وهذا من جهة العدم الحسي ظاهر، ومن جهة الشرع يدل عليه المعنى في الآية؛ لأنه عادم للماء شرعا، وأيضا دلالة حديث عمرو بن العاص لَمَّا احتلم في يوم برد، فخاف إن اغتسل أن يُضر بنفسه فتيمم، فسأل النبي فأقره على ذلك.
فدل على أن الفقد الشرعي أو العجز عن الاستعمال حكما يساوي الفقد الحسي، أو عدم وجود الماء حقيقة.
قال: (حَضَراً كانَ أو سَفَراً)، أي أنَّ التيمم مشروع في كل حال، سواء في الحضر أو في السفر، ما الحاجة إلى مثل هذه الإشارة؟
هي كالإشارة إلى من خالف من الفقهاء، وهم الحنفية، فإنهم يقولون: إن التيمم لا يكون إلا في السفر، فإن ذلك الرجل الذي جاء والناس يصلون، فسأل النبي فقال: أصابتني جنابة ولا ماء، فقال : «إنَّما كانَ يَكْفِيكَ أنْ تَقُولَ بيَدَيْكَ هَكَذَا»[6]، وكان في الحضر، والآية وإن كان ظاهرها الدلالة على أنَّ الأمر في السفر، إلا أنَّ أهل العلم قالوا: إنها خرجت مخرج الغالب؛ لأن الغالب أنَّ فقد المال إنما يكون في السفر لا في الحضر.
قال: (قَصِيراً كانَ أو طَوِيلاً) لأَّن السفر الطويل هو الذي تتعلق به الرخص، فكأن المؤلف رحمه الله تعالى- يقول بالنسبة للتيمم: إنه سواء كان سفرًا طويلا أو قصيرًا؛ لأنه إذا جاز التيمم في البلد، فمن باب أولى إذا خرج منه ولو كان خروجًا يسيرا أربعة بُرُدٍ، ولا يبلغ الحد المحدد للسفر الطويل الذي تقصر فيه الصلاة، ويفطر فيه الصائم.
ثم قال: (مُبَاحاً كانَ أو غَيْرُه) هذه إشارة إلى مسألة وهي: هل التيمم رخصة أو عزيمة؟
ظاهر قوله لَمَّا قال: (مُبَاحاً كانَ أو غَيْرُه) دالٌّ على أنَّ التيمم عزيمة، فبناء على ذلك لكلٍ أن يتيمم، سواء كان في حال طاعة أو سواها، حتى ولو كان في حال معصية، وهذا هو ظاهر كلام الشارح في إطلاقه، وإن كان بعضهم -يعني بعض الحنابلة- يقول: إنه إذا كان العجز شرعيًا وليس حسيًا، فيكون رخصة، وبالتالي لا يُناط بمن كان في معصية، ولكن ظاهر كلام الشارح الإطلاق، وهو جريان ما جرى عليه الأكثر عند الحنابلة رحمهم الله.
ثم قال: (فمَن خَرَجَ لحَرْثٍ أو احتِطَابٍ ونَحْوِهِمَا ولا يُمْكِنُه حَمْلُ الماءِ معَهُ ولا الرُّجُوعُ للوُضُوءِ إلا بتَفْوِيتِ حَاجَتِه؛ فلَهُ التَّيَمُّمُ، ولا إعادةَ عليه)، يعني: داخل في عموم قول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:266].
وهل هذه الصورة مفروضة فيما إذا خرج قبل الوقت أو إذا خرج بعد الوقت؟
في كلام الشارح هنا لم يتبين، ولكن في كلامهم في كتب كثيرة، أنهم نصوا على أنه إذا وَجَدَ الماء قبل دخول الوقت لا يلزمه، لأنه لا يلزمه حمله، ولا ولو كان معه فترك أو نحو ذلك، لا يُلزم بذلك، لماذا؟ لأن الطهارة إنما هي مشترطة للصلاة، والصلاة لم تجب بعد، وإنما يطلب شروط الصلاة إذا دخل وقتها، وأما قبل الوقت فلا يُطلب شيء من ذلك.
فيفهم من ذلك أنَّ كلام الشارح إذا كان قد دخل الوقت، فهنا قالوا: إنه إذا لم يمكنه حمل الماء تعذر عليه، كما قلنا: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:266].
(ولا الرُّجُوعُ للوُضُوءِ)، أمَّا إذا أمكنه الرجوع، فهو قادر على استعمال الماء، فلا يتحقق فيه أنه فاقد له، وبالتالي يلزمه، وهنا القيد واضح وهو قيد مهم، قال: (إلا بتَفْوِيتِ حَاجَتِه)، لأنه ما من أحد إلا ويمكنه أن يرجع، ولكن إذا ترتب على ذلك أن ينقطع عن الحاجة التي خرج لأجلها، فهو داخل في التخفيف، متعلق به التوسعة، فيجوز له أن يتيمم؛ لقول النبي : «أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره»[7].
{قال -رحمه الله-: (أو زادَ الماءُ على ثَمَنِه؛ أي: ثَمَنِ مِثْلِه في مكَانِه بأن لم يُبْذَلْ إلاَّ بزَائِدٍ.
كَثِيراً عادةً أو بـ ثَمَنٍ يُعْجِزُه أو يَحْتَاجُه لهُ أو لِمَن نَفَقَتُه عليه، أو خافَ باستِعْمَالِه؛ أي: باستعمالِ الماءِ ضَرَراً، أو خافَ، بطَلَبِه ضَرَرَ بَدَنِه أو ضَرَرَ رَفِيقِه أو ضررَ حُرْمَتِه؛ أي: زَوْجَتِه، أو امرَأَةٍ مِن أَقَارِبِه، أو ضررَ مَالِه بعَطَشٍ أو مَرَضٍ أو هَلاكٍ ونَحْوِه كخَوْفِه باستِعْمَالِه تَأَخُّرَ البُرْءِ أو بَقَاءَ أَثَرِ شَيْنٍ في جَسَدِه "شُرِعَ التَّيَمُّمُ"؛ أي: وَجَبَ لِمَا وَجَبَ الوُضُوءُ أو الغُسْلُ له، وسُنَّ لِمَا يُسَنُّ له ذلك، وهو جوابُ قوله: "إِذَا" مِن قَوْلِه: "إذا دَخَلَ وَقْتُ فَرِيضَةٍ")
}.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (أَو زَادَ الْمَاءُ عَلَىَ ثَمَنِه) يعني: أن الأصل في الإنسان لو وَجَدَ الماءَ يُباع، فإنه يلزمه الشراء، ما دام بثمن مثله وهو قادر عليه؛ لأنَّ هذا طريق تحصيله، فكما أنَّ الإنسان يُلزم أن يخرج الماء بدلوه من البئر، فكذلك يلزم بشرائه من محله إذا كان يباع، ما دام أنه بثمن مثله، وهو قادر عليه.
ثم قال المؤلف: (أَو زَادَ الْمَاءُ عَلَىَ ثَمَنِه) إذًا إمَّا أن تكون الزيادة قليلة، أو أن الزيادة كثيرة، فهنا إذا كانت الزيادة قليلة، فالزيادة القليلة مغتفرة، وبناء على ذلك لا إشكال في أنه كما لو كانت بسعرها.
وأمَّا إذا كانت الزيادة كثيرة، والكثيرة هذه ما حدها؟ أولا: قالوا: الزيادة الكثيرة مناطها في المحل الذي هو فيه، فعلى سبيل المثال، الماء عندنا ليس مثل الماء مثلا في نيجيريا، رخصًا وغلاءً، والماء هنا أو هناك ليس مثل الماء في لندن، أو في بعض الدول التي تكون بأغلى الأثمان، فالثمن يقاس بأنه ثمن المثل في محله، ما إذا سافرت تقول: هو أغلى من عندنا في الرياض، نقول: لا. كم ثمنه هناك؟ فإذا كان بثمن مثله وأنت قادر على هذا، فيلزم الإنسان الشراء.
إذًا قالوا: في محله، ثم أن تكون الزيادة كثيرة، إمَّا أن يقال: إنَّ مناط الكثرة إلى الشخص فيما يجحف بماله أو غيره، وهذا قول، ولكن الأشهر -وهو ظاهر كلام الحنابلة- أن مردَّ ذلك إلى العرف، فإذا كانت زيادة كثيرة في عرف الناس، فيعتبر غاليا. على سبيل المثال: العَبوة التي فيها لتر تباع بريالين، لو كانت بستة ريالات فيمكن أن تكون زيادة مُعتادة؛ لأنها توجد بعض المحال تبيعها بذلك والناس يشترونها. أليس كذلك؟ لكن لو كانت بأربعين أو بخمسين ريالا فهذه زيادة كبيرة عادة. فإذا كانت هذه الزيادة كبيرة فلا يلزمه الشراء.
قالوا: هذا رجلٌ ثري جدًا، نقول: ولو كان؛ لأننا لو قلنا: إنَّ الزيادة التي تمنعه هي التي تُجحف لَمَا ألزمناه، ولكن إذا قلنا: إن الزيادة الكثيرة التي هي زيادة على عرف الناس، فلا يختلف بين أن يكون غنيا ثريًا أو يكون سواه، فمرد ذلك أن تكون الزيادة كثيرة، فلأجل ذلك قال: لا يلزمه إذا كانت كذلك.
(أو بـ ثَمَنٍ يُعْجِزُه) هي ليست زائدة وليست كثيرة، ولربما كانت أقل من السعر المعتاد، ولكنه يعجز عن ذلك، فهنا يقولون: إنه لا يلزمه الشراء في ذمته، ولا أن يكلف نفسه فيبيع بعض كسوته التي يكتسي بها، أو طعامه الذي يحتاجه، ولذلك قال: (أو يَحْتَاجُه لهُ) كما لو كان يحتاج لهذا المال لشراء علاج لا بد له منه، أو طعام أهله الذي تقوم به أمورهم ونحوه.
(أو لِمَن نَفَقَتُه عليه، أو خافَ باستِعْمَالِه؛ أي: باستعمالِ الماءِ ضَرَراً) إذًا هذا في التعذر لأجل العجز عن إيجاد الماء.
والثاني: الخوف والضرر فيه، فإذا خاف على نفسه ضررا، فإنه لا يلزمه استعمال الماء، سواء كان قد خاف الهلكة، كما لو استعمل الماء هلك، أو خاف ضررا دون ذلك، كما لو خاف مرضًا، أو نزلة برد، أو اعتلال صحته. فكل ذلك داخل فيها، فهو معذور وجائز له أن ينتقل من استعمال الماء إلى التيمم، كما قال المؤلف: (أو خافَ باستِعْمَالِه؛ أي: باستعمالِ الماءِ ضَرَراً) مثل ما قلنا: إن هذا محل اتفاق، كما جاء في حديث عمرو بن العاص.
(أو خافَ بطَلَبِه ضَرَرَ بَدَنِه) هو لا يخاف من الماء، ولكن لو أراد أن يطلبه، كما لو كان مثلا في شاهق من الجبل، والماء أسفل الجبل، ولكن لو نزل فيمكن أن يتدهده فيموت، فلا يلزمه أن يضر بنفسه، أو أن يقطع واديًا فيه هوام كثيرة، لا ينجو غالبا الناس فيها، أو عدوا أو قاطع طريق أو سواه.
(أو ضَرَرَ رَفِيقِه أو ضررَ حُرْمَتِه) قال بعض أهل العلم: إن عبارة المؤلف هنا فيها شيء من القصور، فلو قال: "أو ضرر يتعلق به أو بغيره"، يعني حتى ولو كان غير رفقته، حتى ولو كان غير أهله، بل قالوا: حتى ولو كان غير آدمي، كما في عبارة المنتهى، يعني: حتى لو خاف ضرر دابته فلا يلزمه طلب الماء في ذلك كله.
ولأجل هذا قال: (أو ضررَ حُرْمَتِه؛ أي: زَوْجَتِه، أو امرَأَةٍ مِن أَقَارِبِه)، قد يفهم من هذا -كما قلنا- أن هذا متعلق بكونه إذا ما خاف على شيء يتعلق به، ولكن الأمر في ذلك عام، حتى ولو كان لأي آدمي، كبعض رفاقه أو آخرين غير ذلك، فما دام أنه يترتب على طلب الماء مثل هذا الضرر عليه أو على آدمي معصوم، فلا يلزمه الطلب.
قال: (أو ضررَ مَالِه بعَطَشٍ أو مَرَضٍ أو هَلاكٍ ونَحْوِه)، أي: يخاف أن يسرق ماله لو ذهب، أو يخاف أن يعطش أهله إذا ذهب، لأن الماء قليل إمَّا أن يستصحبه هو، وإما أن يتركه فيهلك أو يهلكوا، أو نحو ذلك من المسائل.
قال: (كخَوْفِه باستِعْمَالِه تَأَخُّرَ البُرْءِ) هذا تنصيص على مسألة مهمة، وهي التي أشرنا إليها، وهي: لو كان الخوف من استعمال الماء خوفًا يسيرًا، يعني: ليس بالضرورة أن يخاف هلكة نفسه، أو ضرر عضو، أو مرض شديد، أو نحو ذلك، بل متى ما كان فيه (تَأَخُّرَ البُرْءِ) تعلق به الحرمة.
قال: (أو بَقَاءَ أَثَرِ شَيْنٍ في جَسَدِه)، مثلا بعض الناس لو استعمل بعض هذه المركبات، من أدهان ونحوها، فلو جاء عليها الماء، فربما تفاعلت واسود المكان أو نحوه، أو أي سبب، أو كان فيه بعض القروح ولو جعل عليها ماء لأفضت إلى شيء من ذلك. فحتى وليس ألَمًا، ولكن لا شك أن هذا مما يتأذى به الإنسان، فكان له مندوحة في ترك الوضوء واستعمال التيمم في تلك الأحوال.
ولذلك قال المؤلف -رحمه الله- في هذه المسائل كلها: (شُرِعَ التَّيَمُّمُ)، أي: جاز للمكلف أن يتيمم، فإن كان ما يحتاج أن يتيمم مما تجب له الطهارة، وجب ذلك عليه، وإن كان مما يستحب يجب، مثل: الصلاة، والطواف، على مشهور المذهب وقول الجمهور.
أو تستحب له الطهارة كما لو أراد أن يتيمم لأجل أن يذكر الله، أو يقرأ القرآن من غير مس مصحف، فإن ذلك مما تستحب له الطهارة وهكذا.
قال: (وهو جوابُ قوله: إِذَا) لأنه قال في أوله: (إذا دَخَلَ وَقْتُ فَرِيضَةٍ) كما نبه على ذلك الشارح.
{قال -رحمه الله-: (ويَلْزَمُ شِرَاءُ مَاءٍ وحَبْلٍ ودَلْوٍ بثَمَنِ مِثْلٍ أو زَائِدٍ يَسِيراً فَاضِلٍ عَن حَاجَتِه، ويَلْزَمُ استِعَارَةُ الحَبْلِ والدَّلْوِ وقَبُولُ المَاءِ قَرْضاً وهِبَةً وقَبُولُ ثَمَنِه قَرْضاً إذا كانَ له وَفَاءٌ، ويَجِبُ بَذْلُه لعَطْشَانَ ولو نَجِساً)}.
إذًا يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا: (ويَلْزَمُ شِرَاءُ مَاءٍ) هذه مَرَّت بنا سواء كان بثمن أو زائد، وكذلك مثلها ما يحتاج إليه لجلب الماء كالحبل والدلو ونحوها بأثمان أمثالها، أو زيادات يسيرة؛ لأنَّ التفاوت اليسير هو عادة الحال، ومستقر ذلك في الأسواق.
(أو زَائِدٍ يَسِيراً) بشرط أن يكون فَاضِلا (عَن حَاجَتِه) وأما لو كان محتاجا إليه فكما قلنا، لو كان بسعر ثمن المثل أو لو كان أقل من ذلك، فما دام أنه يحتاج إليه لِمَا هو أهم، كما قلنا: لشراء علاج يحتاج إليه، أو يطعم نفسه، أو أهله من هلكة ونحوها.
قال: (ويَلْزَمُ استِعَارَةُ الحَبْلِ والدَّلْوِ)، يمكن أن يستعير الحبل والدلو من جاره، أو من بعض من حضر ممن يستقون الماء حول البئر، من المارة مثله، فنقول: يلزمه ذلك، لماذا؟ يقولون: لأن الاستعارة للحبل والدلاء معهودة، ولا منة فيها ظاهرة.
قال: (وقَبُولُ المَاءِ قَرْضاً وهِبَةً)، فلو أنَّ شخصا أقرضك لترا من الماء فيلزم قبوله، أو وهبك شيئا من الماء، يعني الآن لو ونحن جالسون هنا، دخل شخص الآن بكرتون من المياه وأعطى كل واحد، فهل نجد غضاضة في أخذها؟! لكن لو دخل شخص وبدأ يفرق علينا فأعطاني ريالا وأعطاك ريالا وأعطاه، أليس قد يجد الإنسان في نفسه شيئًا، أو يلحقه شيء من التبعة في مثل ذلك؟ لذا قال الفقهاء: إنَّ قبول الماء على سبيل القرض أو على سبيل الهبة مما اعتاده الناس، وليس فيه منة ظاهرة.
وهنا لاحظ أنه قال: (وقبول) بمعنى أنه لا يلزمك الاستقراض ولا الاتهاب، يعني: أن تقول: هب لي هذا الماء، ما يلزمك. ولا أن تقول: أقرضني هذا الماء؛ لأنَّ الطلب فيه ذلة بخلاف أن يعرض عليك ذاك. واضح؟
طيب لو أنك قلت: أنا سأطلب منه، فقلت: أعطني ماءً، هو على نهر، ودخلت عليه في مزرعته، أو كان عند بابها، فقلت: أعطني من الماء، فقال: لا. قلت: أنا الآن سأتيمم لأني لا أجد ماء، هل يلزمه أو لا يلزم؟
قلنا: هذا عنده نهر جار في مزرعته، والآخر يحتاج إلى نصف لتر أو ربع لتر، هل يلزمه أن يعيره، أو يعطيه، أو يبيعه؟ لا يلزمه شيء من ذلك البتة، حتى ولو أعوزك للتيمم، لماذا؟ لأنَّ الطهارة لها بدل، وإنما يلزم في مثل هذه المسائل إذا ترتب عليه هلكة.
ولأجل ذلك نقول: إن فعل فحسن، وإن لم يفعل فلا شيء عليه.
ثم قال: (وقَبُولُ ثَمَنِه قَرْضاً إذا كانَ له وَفَاءٌ)، قال: لا ما عندي، لكن هذا المحل يبيع .. خذ هذا الثمن واشتر به، ومتى ما وجدت رد هذا القرض أو سهل عليك الرد قم برده.
فيقول الفقهاء: إن كان عنده وفاء، ولا يحمل ذمته ما لا يستطيع أو ما يشق عليه، فيأخذه وإلا فلا، لأنَّ انشغال الذمة في الشرع غير مرغوب فيه، إلا لواثق بقدرته على ذلك ولا تبعة عليه فيها، واضح؟
وهنا أيضا قال: (وقَبُولُ ثَمَنِه) فبناء على ذلك لا يلزمك أن تستقرضه، وإذا قلنا هنا: (وقَبُولُ ثَمَنِه قَرْضاً) فمن باب أولى ألا تطلب هبة، تقول: أعطني ريالاً إذا معك لأشتري به ماء لأتوضأ.
هذا لا يلزم، بل إن فعل ذلك ابتداء فلك أن تقبل، وإذا أمكنك القضاء بدون ما تبعة عليك.
قال: (ويَجِبُ بَذْلُه لعَطْشَانَ) لو نظرت إلى أن هذه المسألة تفهمك المسألة التي قلناها، كأنه يقول في معناها: إنه لا يجب البذل لمن أراد أن يتوضأ، واضح؟ وقلنا كثيرا وسنعيدها كثيرا، كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- يسأله الطلاب المسألة الغريبة فيفتيهم، فيقولون: من أين أتيت بها يا شيخ؟ فيقول: في الروض ولكنكم لا تقرأون قراءة تفحص.
هذا مما ذكره العلماء من أن المسائل فيها منطوق ومفهوم، فهذا مما يدخل فيها.
إذًا، إذا احتاجه عطشان بُذِلَ له إذا كان الإنسان يستغني عنه، وأمَّا إذا كان يخاف على نفسه، فنفسه أولى وحفظها أوجب وأسبق. أو بعض من يلزمه كاهله من معه، لكن إذا لم يكن فيبذله له.
وهنا قال: (ولو نَجِساً)؛ لأنه يترتب عليها حفظه من الهلكة، وذلك تباح به الضرورات، وتحل به المحرمات، كما جاء في الآية: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة:173].
{قال -رحمه الله-: (ومَن وَجَدَ مَاءً يَكْفِي بَعْضَ طُهْرِه مِن حَدَثٍ أَكْبَرَ أو أَصْغَرَ، تَيَمَّمَ بَعْدَ استِعْمَالِه، ولا يَتَيَمَّمُ قَبْلَه، ولو كان على بَدَنِه نَجَاسَةٌ وهو مُحْدِثٌ غَسَلَ النجاسة وتَيَمَّمَ للحَدَثِ بعدَ غَسْلِهَا، وكذا لو كانَتِ النَّجَاسَةُ في ثَوْبِه)}.
قوله: (ومَن وَجَدَ مَاءً يَكْفِي بَعْضَ طُهْرِه) هذه حال متوسطة بين الحالين، فلا هو واجد للماء فيتوضأ أو يتطهر، ولا هو عادم له، فبناء على ذلك من كان معه بعض ماء، فهل يلزمه الاستعمال؟ أو يقال: إنه عبث؟ لأنه لا تحصل به كمال الطهارة، فكما لو كان فاقدًا له!
فالحنابلة -رحمهم الله تعالى- قالوا: لا يجوز له التيمم حتى يستعمله، لماذا؟ لأن الله -جلَّ وعلا- قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، ولأنه لا يَصدق عليه أنه عادم للماء حتى يستعمله، فإذا استعمله صَدَقَ عليه، وهذا من جهة النظر موافق لظاهر النص، وهو أحوط في المعنى، وإن كان القول الآخر له وجه وله اعتبار، ولكن هذا ما أخذه الحنابلة -رحمهم الله تعالى-، قال : «فإذا وجد الماءَ فليتق الله وليمسَّه بشرتَه»[8]، فيقولون: هذا واجد للماء ولو في بعض بدنه، ولا شك أن تحصيل الطهارة في بعض البدن يخفف الحدث، فيحصل به شيء من الطهارة، وإن لم يحصل به تمامها.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (تَيَمَّمَ بَعْدَ استِعْمَالِه)، لماذا قيد ذلك بعد استعماله؟ حتى يتحقق أن التيمم واقع بعد الفقد حقيقة.
قال: (وَلَوْ كَانَ عَلَى بَدَنِه نَجَاسَةٌ وَهُوَ مُحْدِثٌ غَسَلَ النَّجَاسَة وتَيَمَّمَ للحَدَثِ بعدَ غَسْلِهَا، وكذلك لو كانَتِ النَّجَاسَةُ في ثَوْبِه) عندنا شخص في ثوبه نجاسة، وفي بدنه نجاسة، وهو محدث، وعنده ماء قليل يكفي لبعض ذلك. فهل يستعملها للوضوء؟ أو يستعملها في إزالة النجاسة التي على بدنه؟ أو يستعملها في النجاسة التي على ثوبه؟
يقول الحنابلة: إنه يبدأ بالنجاسة التي على ثوبه فيغسلها، ثم النجاسة التي على بدنه، ثم يتوضأ إن بقي شيء أو تيمم. لماذا؟ يقول الحنابلة: إن الطهارة من الحدث تكون بالماء، ولكن إذا عُدِمَ الماء فلها بدل وهو التيمم، ولكن النجاسة التي على الثوب لا شيء يطهرها إلا إزالتها بالماء.
طيب لقائل أن يقول: لماذا قدمت الطهارة على الثوب من إزالة النجاسة التي على البدن؟
لأن الحنابلة عندهم قول وسيأتينا الإشارة إليه، وهو أنَّ النجاسة التي على البدن يُتيمم لها كما يُتيمم للحدث، لأنهم يقولون: كما أن الحدث يتلبس به البدن، فالنجاسة التي على البدن كالحدث الذي على البدن.
وهذا اجتهاد منهم، وهو خلاف لقول جماهير أهل العلم، وستأتي الإشارة إليه.
ولذلك لَمَّا حصلت هنا مُشاحة ذهبوا إلى الأصل، فالأصل وهذا في قول الجميع، الحنابلة وغيرهم، أنه لا تُزال نجاسته إلا بالماء، البدن لو ترددت بين أن يتطهر من الحدث أو يزيل النجاسة على البدن؟ قالوا: يزيل النجاسة التي على البدن أولا ثم يتيمم للحدث، مع أن الحدث أهم. أليس كذلك؟ ولكن حتى وإن قالوا: إنه يتيمم للطهارة التي على البدن، فهم إنما قالوها على سبيل القياس، وعليَّ سبيل الاحتياط، فليست هي مقطوع بها.
ولأجل ذلك قالوا: إنها إذا وجدت فبلا شك في أن الطهارة من الحدث سيكون التيمم بدلا عنها. فإذًا نزيل النجاسة التي على بدنه بالماء، ثم يتيمم من الحدث.
{قال -رحمه الله-: (ومَن جُرِحَ وتَضَرَّرَ بغَسْلِ الجُرْحِ ومَسْحِه بالمَاءِ، تَيَمَّمَ لهُ، ولِمَا يَتَضَرَّرُ بغَسْلِه ممَّا قَرُبَ مِنْهُ. وغَسَلَ البَاقِيَ، فإنْ لم يَتَضَرَّرْ بمَسْحِه وَجَبَ وأَجْزَأَ، وإذا كانَ جُرْحُه ببَعْضِ أَعْضَاءِ وُضُوئِه لَزِمَهُ إذا تَوَضَّأَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ، فيَتَيَمَّمُ له عِنْدَ غَسْلِه لو كان صَحِيحاً، ومُرَاعَاةُ المُوَالاةِ فيُعِيدُ غَسْلَ الصَّحِيحِ عندَ كُلِّ تَيَمُّمٍ، بخِلافِ غُسْلِ الجَنَابَةِ فلا تَرْتِيبَ فيه ولا مُوَالاةَ)}.
قال: (ومَن جُرِحَ وتَضَرَّرَ بغَسْلِ الجُرْحِ ومَسْحِه بالمَاءِ، تَيَمَّمَ لهُ) طبعا لو نظرت في المتن، (ومَن جُرِحَ تَيَمَّمَ لهُ)، وهذه العبارة فيها شيء من الإجمال، أو فيها شيء من الإشكال، ولذلك صرفها الشارح أو حملها على التوضيح، أو ما يرتفع به الإشكال، فليس كل من جرح تيمم، بل الأصل أن أحوال الذي به جرح ثلاثة:
الحال الأولى: أن يستطيع غسل الجرح، فهنا واجب عليه غسله، وتتم بذلك طهارته.
الحال الثانية: أن يمكنه المسح ولا يمكنه الغسل، فهنا قالوا: إنه يمسحه ويكفيه ذلك ولا يتيمم. لماذا؟ قالوا: إن المسح هو بعض الغسل، ولأنه لَمَّا جاز مسح الجبيرة، فمن باب أولى مس الجرح؛ لأن مسح الجرح أيضا تكون بمباشرة الجسد. فإذا هي أولى.
الحال الثالثة: أن لا يمكن غسل ولا مسح. فهنا يتيمم له، ولكن يجب أن تتنبه إلى مسألة، وهي أنَّ مسح الجرح مقيد بقيد عند الحنابلة، وهو ألا يكون نجسًا، فإذا كان به نجاسة فيقولون: إنه لا يمسح، كما لو كان قد تجمع عليه الدم، أو فيه مثلا أثر بول لم يستطع إزالته، أو غائط لم يَقدر على تحريكه؛ لأنه يضر به.
فهنا قالوا: إذا وجد عليه نجاسة فلا يستقيم المسح، بل ينتقل إلى التيمم له.
وهنا قال: (تَيَمَّمَ لهُ ولِمَا يَتَضَرَّرُ بغَسْلِه ممَّا قَرُبَ مِنْهُ) يعني: هذه قاعدة كما قلنا في المسح على الجبيرة، أنها يمسح القدر الذي يحتاج إلى شده، وما قرب منه الذي لا تمسك الجبيرة إلا به، فكذلك هنا، يعني: لا يمكن أن يَترك فقط محل الجرح؛ لأنه لو ترك هذا المحل فقد أصاب ما أحاط به، ويمكن أن يصل إليه الماء، فإذا كان يتضرر بذلك فربما لحقه الضرر، فما قرب منه أيضا يأخذ حكمه إذا احتاج إلى أن يخليه من أن يصيبه الماء خوفا من حصول الضرر على الجرح ووصوله إليه.
ثم قال: (وغَسَلَ البَاقِيَ فإن لم يَتَضَرَّرْ بمَسْحِه وَجَبَ وأَجْزَأَ) كما قلنا.
قال: (وإذا كانَ جُرْحُه ببَعْضِ أَعْضَاءِ وُضُوئِه لَزِمَهُ إذا تَوَضَّأَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ) هذه مسألة مشهورة عند الحنابلة، يعني أنه إذا كان الشخص يتوضأ بالماء وهو واجد له، ولكنه عجز عن استعمال الماء في بعض أعضاء وضوئه لوجود جرح به، والجرح في ذراعه اليسرى مثلاً.
فيقولون: يبدأ باليمنى، ثم يغسل ما استطاع من اليسرى، ثم يتيمم لِمَا لم يصبه الماء مما لا يستطيع غسله ولا مسحه، ثم بعد ذلك يكمل وضوءه، ليتأتى الترتيب في مثل هذا. هذا هو مشهور المذهب، وجعلهم التيمم قائم مقام الغسل في هذا الموضع، فلأجل ذلك جعلوه كالشيء الواحد فلزم فيه الترتيب بهذا الاعتبار.
وإن كانت الرواية الثانية عند الحنابلة، وهي التي عليها الفتيا، أنَّ التيمم يختلف عن الوضوء، فلا ترتيب بينهما، ولأجل ذلك قالوا: إنه لا يكون إلا بعد الوضوء، فله أن يؤخره إلى بعد ذلك، خاصة أنه ربما كان فيه تلويث؛ لأنه إذا كان يغسل بالماء، فإذا أراد أن يتيمم فإن الماء يتطين فلا ينثر غبار، ولا يحصل تيمم، يعني أيضا قووا هذا من هذه الجهة.
على كل حال، هذا وجه المذهب باعتبار أنهم جعلوه كالشيء الواحد، فأدخلوا فيه حكم الترتيب والموالاة، ولذلك قال: (فيُعِيدُ غَسْلَ الصَّحِيحِ عندَ كُلِّ تَيَمُّمٍ) ما معنى هذه الكلمة؟
هذه مسألة مشكلة، ولكنها كلها راجعة إلى ما ذكرنا من قول: إنه مبيح؛ لأن الآن الصورة ما هي؟ أنت توضأت وتيممت لهذا الجرح، ولَمَّا دخل وقت الصلاة الثانية، فأنت مُلزم باعتبار أنه دخل وقت الثانية أن تتيمم، والتيمم لا يكون إلا بعد غسل الصحيح، فإذًا يلزمك أن تعيد الوضوء أيضا، فتبدأ بالوضوء حتى إذا وصلت إلى هذا الموضع فتتيمم ثم تكمل الوضوء. هذا إذا كان فيه من الحدث الأصغر.
ثم قال: (بخِلافِ غُسْلِ الجَنَابَةِ فلا تَرْتِيبَ فيه ولا مُوَالاةَ)؛ لأنه لا ترتيب ولا موالاة في الأصل، فكذلك هنا من باب أولى. فلو أَخَّرَ ذلك كذلك.
ولكن أيضا مراعاة الموالاة، وهذه لا بد أن تتضح صورتها، وهي إذا كانت أثناء الوضوء فهي واضحة؛ لأن الترتيب مع الموالاة ستتداخل وتكون كالشيء الواحد.
 ولكن لو كان الجرح في رجله، ثم هو توضأ وغسل ما استطاع من رجله ثم بقي التيمم، فذهب حتى إذا قارب دخول المسجد، قال: "ما تيممت"، فضرب في الأرض وتيمم.
يقولون: هنا فاتت الموالاة، وبناء على ذلك يقولون: لا يصح منه ذلك، ولا بد أن يكون فيه موالاة، فيحتاج إلى أن يعيد الوضوء من أوله، ثم يُلحق به التيمم؛ لأن التيمم دخل في الطهارة، أو كان جزءا منها، فاعتبر ما اعتبر في أصلها من ترتيب وموالاة.
{قال -رحمه الله-: (ويَجِبُ على مَن عَدِمَ الماءَ إذا دخَلَ وَقْتُ الصَّلاةِ، طَلَبُ المَاءِ في رَحْلِه، بأن يُفَتِّشَ في رَحْلِه ما يُمْكِنُ أن يكونَ فيه، وفي قُرْبِه بأن يَنْظُرَ وَرَاءَهُ وأَمَامَهُ وعَن يَمِينِه وعَن شِمَالِه، فإِنْ رأَى ما يَشُكُّ معَه في الماءِ قَصَدَهُ فاستَبْرَأَهُ، ويَطْلُبُه مِن رَفِيقِه، فإنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ طَلَبِه لم يَصِحَّ مَا لم يَتَحَقَّقْ عَدَمَهُ)}.
يقول المؤلف- رحمه الله تعالى-: (ويَجِبُ على مَن عَدِمَ الماءَ إذا دخَلَ وَقْتُ الصَّلاةِ، طَلَبُ المَاءِ في رَحْلِه) ما لم يتحقق عدمه، فهذه ثلاث مسائل:
الحال الأولى: إذا ابتدأنا من الأخير هي كالابتداء من الأول، فإذا تحقق عدم وجود الماء ما احتاج إلى البحث والطلب. واضح؟ فجاز له التيمم ابتداء. ما دام متحققا عدم وجود الماء.
الحال الثانية: أن يظن وجود الماء، كأن توجد بعض أماراته أو علاماته، كأن يجد خضرة، أو يرى طيورا، والطيور في الغالب تحوم حول المكان الذي يوجد فيه طعامها وشرابها.
إذًا الحالة الثانية إذا ظنَّ وجود الماء وجب، كما قال: (ويَجِبُ على مَن عَدِمَ الماءَ إذا دخَلَ وَقْتُ الصَّلاةِ طَلَبُ المَاءِ) فالمؤلف لَمَّا قال: ما لم يتحقق، دلَّ على أنَّ ما سوى عدم التحقق يدخل فيه الظن، وهذا ظاهر لا إشكال فيه، ويدخل فيه الشك، يعني: حتى ولو كان عنده شك أنه قد يجد الماء ولو بوجه بعيد، فما دام أنه لم يصل إلى درجة التحقق في عدم الماء، فعند ذلك يلزمه البحث، سواء كان ظانًا وجود الماء فيتأكد الوجوب، أو كان شاكًّا ولو كان توقع حصول الماء بعيد جدًا، فما دام أنه لم يتيقن، فيفهم من كلام الشارح هنا أن البحث عن الماء لازم له في هذا، ولذلك قال: (طَلَبُ الْمَاء) أين يطلبه؟
في الأسباب التي حوله. قال: (في رحله) فأحيانا يكون الماء خاصة فيمن ينتقلون المسافات الطويلة، تقع بعض أدوات الماء في ثنايا أشيائه فينساها، فلا بد من التفتيش.
قال: (بأن يُفَتِّشَ في رَحْلِه ما يُمْكِنُ أن يكونَ فيه)، وكذلك (وفي قُرْبِه) ينظر ويتأمل، يذهب هنا وهناك ويتحرك، قال: (بأن يَنْظُرَ وَرَاءَهُ وأَمَامَهُ وعَن يَمِينِه وعَن شِمَالِه) فينظر في ذلك فإن (رأَى ما يَشُكُّ معَه في الماءِ قَصَدَهُ فاستَبْرَأَهُ) أي: إذا توقع شيئًا هنا ذهب واستبرأه، فكل ذلك يتحققه.
ما القدر الذي يحصل به ذلك؟ لهم تردد في هذا كثير، وكلامهم متفاوت، وهي من المسائل المشكل، فأحيانا يقولون: ميل، أو نصف فرسخ، وأحيانا يقولون: ما لم يقطعه عن حاجته.
إذًا فيه يعني ما يحتمل الإشكال، ولهذه المسألة بقية، ولكن لعلنا أن نرجئها إلى نهاية الباب، ونذكر ما يرد عليها من إشكالات خاصة فيما يقارن ذلك في الواقع.
{قال -رحمه الله-: (ويَلْزَمُه أَيْضاً طَلَبُه بَدَلالَةِ ثِقَةٍ إذا كانَ قَرِيباً عُرْفاً ولم يَخَفْ فَوْتَ وَقْتٍ -ولو المُخْتَارُ- أو رِفْقَةٍ أو على نَفْسِه أو مالِه)}.
قال قبل ذلك: (فإنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ طَلَبِه لم يَصِحَّ مَا لم يَتَحَقَّقْ عَدَمَهُ) هذه مسألة مهمة، أنَّ من تيمم وهو لم يتحقق من عدم وجود الماء، فإنه لم تصح عبادته، حتى ولو بحث بعد ذلك فلم يجد، فيلزمه أن يُعيد الصلاة؛ لأنه صلى الصلاة بتيمم قبل أن يُباح له التيمم، فيلزمه أن يعيد تيممه بعد ذلك ثم يصلي.
ثم قال: (ويَلْزَمُه أَيْضاً طَلَبُه بَدَلالَةِ ثِقَةٍ)، لو قال أحد بأن هنا بئر يسلكها الناس في هذه الناحية أو نحو ذلك، قال: إذا كان قريبا عرفا، ما حد ذلك؟ كما قلنا من قبل، حدث تفاوت فقال بعضهم: إنه ما جرت عادة المسافرين، فيما إذا نزلوا في أن يطلبوه مثلا لاحتطاب واحتشاش ليوقدوا به نيرانهم، فالقدر الذي يذهبون فيه ويترددون لأجل ذلك، هو القدر الذي يلزم الإنسان أن يتردد فيه في طلب ما تكتمل به عبادته، كأنهم يقولون: إنه ما احتاج الإنسان إليه في دنياه فسعى له وانقطع في سفره لأجل ذلك، يجب أن يكون مثله كذلك فيما تصح به عبادته، فيطلبها في القدر الذي يَطلب فيه الأمور الذي تصلح به أمور دنياه.
وهذا بشرط، قال: (ولم يَخَفْ فَوْتَ وَقْتٍ ولو المُخْتَارُ)، أما إذا خاف خروج الوقت، وحتى لو كان الوقت المفتاح هو دخول وقت الاضطرار، فهنا يتيمم ويصلي على حسب حاله؛ لأنه يصدق عليه أنه فاقد للماء، ويتعلق به حكم التيمم، وتصح معه الصلاة، ولا يلزمه أن يبحث فيفوت عليه الوقت، ولا يحصل له الماء، ويفوت ما يجوز له فعله، وهو التيمم عند عدم الماء تحصيلا لوقتها.
{قال -رحمه الله-: (أو رِفْقَةٍ أو على نَفْسِه أو مالِه، ولا يَتَيَمَّمُ لخَوْفِ فَوْتِ جَنَازَةٍ ولا وَقْتِ فَرْضٍ إلا إذا وصلَ مُسَافِرٌ إلى الماءِ وقد ضاقَ الوَقْتُ، أو عَلِمَ أنَّ النَّوْبَةَ لا تَصِلُ إليه إلا بَعْدَهُ، أو عَلِمَهُ قَرِيباً وخَافَ فَوْتَ الوَقْتِ إِنْ قصَدَهُ)}.
هنا قال: (أو رِفْقَةٍ أو على نَفْسِه أو مالِه) كذلك من خاف فوت الرفقة، يعني: لو كانوا مثلا في حافلة ونزلوا، وكان الماء موجودًا ولكنه كان بعيدًا قليلا، فسيركبون ويذهبون لا ينتظرون، فهنا نقول: إنه لا يلزمه ذلك، بل يتيمم ويتقي الله ما استطاع.
(أو على نَفْسِه) كما لو كان فيه سباع قريبة، يمكن أن تهجم عليه ولو كان الماء قريبًا.
(أو مالِه) كذلك إذا خاف على ماله، فمثله كما لو خاف على نفسه يسعه أن يتيمم.
(ولا يَتَيَمَّمُ لخَوْفِ فَوْتِ جَنَازَةٍ) هذه من المسائل التي يكثر ذكرها، وهي التي ذكرناها لكم في أول الباب، أنه يشير إلى قول مخالف، فلمَّا كان جملة من الفقهاء كما هو أيضا رواية عن أحمد، وقال بها ابن تيمية ونحوه، أنه إذا خاف فوت الجنازة يتيمم لها، ومثل ذلك العيد، وبعضهم ربما قال أكثر من ذلك، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أنه لا يُتيمم لمثل هذا، وأن فرض الكفاية حصل بالغير، وهو لا يتعلق به أنه فاقد للماء، فبناء على ذلك لم يجز له التيمم في مثل تلك الحال، وإن كان القول بالتيمم مشتهر عند جمع من الفقهاء.
قال: (ولا يَتَيَمَّمُ لخَوْفِ فَوْتِ جَنَازَةٍ ولا وَقْتِ فَرْضٍ)، أما خوف فوات الفرض فلا، لأنه لا يخلو من أحد حالين:
إمَّا أن لا يكون مقصرا فالوقت متسع، «مَن نَسيَ صَلاةً أو نامَ عنها، فإنَّ كَفَّارتَها أنْ يُصَلِّيَها إذا ذكَرَها»[9]، فليس عليه غضاضة، واحد لم يكن مفرطًا، لم يسهر سهر عبث، نام في منتصف الليل لكونه جاء من سفر، أو لأنه شُغِلَ بمريض، فلم يقم لصلاة الفجر حتى قاربت الشمس أن تخرج، ما بقي إلا ثلاث دقائق، فإن ذهب يتوضأ خرج الوقت، فنقول: إنه لا يحتاج إلى أن يتيمم، بل هو يتوضأ ويصلي والوقت متسع له، ومعذور هو في ذلك.
وإن كان مقصرا فلا يناسب تقصيره أن يُخَفَّفَ عنه، فبناء على ذلك الطهارة لازمة له، والماء يجده فلا يجوز له أن يتيمم، ولأن التأخير والتفريط منه، فيلحقه في ذلك الإثم والوزر.
قال: (إلا إذا وصلَ مُسَافِرٌ إلى الماءِ وقد ضاقَ الوَقْتُ، أو عَلِمَ أنَّ النَّوْبَةَ لا تَصِلُ إليه إلا بَعْدَهُ) يعني: هم في مجموعة مسافرين، فصفوا على البئر كل يأخذ دلو مائه، ولكن يعرف أنه لو انتظر ما بقي إلا عشر دقائق، وهؤلاء كثر كاثرة، لا يصل إليه الماء إلا بعد خروج الوقت.
فعند ذلك يقولون: إن المسافر في الأصل إنه عادم للماء، وأن حكمه أنه يصلي بالتيمم، فبناء على ذلك يكون كما لو كان عادمًا للماء حقيقة، باعتبار أنه لا يصل الماء إلا بعد الوقت.
أو مثل ذلك إذا (عَلِمَهُ قَرِيباً وخَافَ فَوْتَ الوَقْتِ إِنْ قصَدَهُ) مثل المسألة التي قلناها قبل قليل، فإنه لا يقصد ذلك الماء، فهو فاقد للماء، وهو مسافر، فيتعلق به حكم الصلاة على حسب حاله، فيتيمم ويصلي.
{قال -رحمه الله-: (ومَن باعَ الماءَ أو وهَبَهُ بعدَ دُخُولِ الوَقْتِ ولم يَتْرُكْ ماءً يَتَطَهَّرُ به، حُرِّمَ ولم يَصِحَّ العَقْدُ، ثُمَّ إِنْ تَيَمَّمَ وصَلَّى لم يُعِدْ إِنْ عَجَزَ عَن رَدِّه)}.
(ومَن باعَ الماءَ أو وهَبَهُ بعدَ دُخُولِ الوَقْتِ) هذا مفرط، وكان الأولى به أن يحفظ الماء لنفسه ولعبادته، فكأنه أخل بما وجب، فلأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنَّ فعله هذا حرام، فيلحقه بذلك إثم، ومن جهة العقد صحة وإجراءً لا يصح، فهذا المال الذي بيده من هذا المال، هو ليس له، وهذا الماء الذي بيد ذلك الرجل ليس حقه، لأنه لم يجز له بيعه، لتعلقه بطهارته، وبحق ربه جل وعلا، فبناء على ذلك قالوا: لم يصح العقد، والأصل أنه يعيد الماء، ويُرجع لصاحب المال ماله.
قال: (ثُمَّ إِنْ تَيَمَّمَ) لكن ما حصل، (إِنْ تَيَمَّمَ وصَلَّى لم يُعِدْ إِنْ عَجَزَ)، وأمَّا إذا أمكنه فيلزمه، إن أمكنه إرجاع الماء فإن هذا الماء مما تعلقت به عبادته ولزمه، وهو الذي فرط وفعل المحرم فيلزمه الرد. فإذا أمكنه ذلك فعل، ووجب عليه ذلك، فإن لم يمكنه ذلك وصلى لم يعد، لأنه فعل ما عليه، ولحقه الإثم فيما قَصَّرَ فيه.
{قال -رحمه الله-: (فإنْ كانَ قَادِراً على الماءِ لكنْ نَسِيَ قُدْرَتَهُ عليه، أو جَهِلَهُ بمَوْضِعٍ يُمْكِنُه استِعْمَالُه، وتَيَمَّمَ وصَلَّى أَعَادَ؛ لأنَّ النِّسْيَانَ لا يُخْرِجُه عَن كَونِه وَاجِدًا.
وأمَّا مَن ضَلَّ عَن رَحْلِه وبهِ المَاءُ وقد طَلَبَهُ، أو ضَلَّ عَن مَوْضِعِ بِئْرٍ كانَ يَعْرِفُهَا وتَيَمَّمَ وصَلَّى فلا إعادَةَ عليه؛ لأنَّهُ حَالَ تَيَمُّمِه لم يَكُن وَاجِداً للماءِ)
}.
لماذا نقول: إنه لا يعيد هذا الذي باع الماء؟ لأنه حقيقة لَمَّا تيمم كان فاقدًا للماء، ولكن فقده بتقصيره فأثم لأجل ذلك، ووجب عليه استرجاعه واستنقاذ مائه قدر استطاعته، ولكن لَمَّا تعذر ذلك من كل وجه، صدق عليه أنه عَادِمٌ للماء فصح تيممه ولم يُعد صلاته.
قال المؤلف -رحمه الله- بعد ذلك: (فإنْ كانَ قَادِراً على الماءِ لكنْ نَسِيَ قُدْرَتَهُ عليه، أو جَهِلَهُ بمَوْضِعٍ يُمْكِنُه استِعْمَالُه، وتَيَمَّمَ وصَلَّى أَعَادَ) يقولون: إنه مهما كان معذورًا في ذلك، فالنسيان لا ينجو منه أحد، والجهل يأتي أيضا على الإنسان في بعض أحواله، لكنه صلى على بتيمم حال وجود الماء، فكان تيممه كما لو لم يكن جائزا له فِعْلُه، فبناء على ذلك قالوا: إنه يُعيد.
طبعا ما ذُكرت هذه المسألة إلا لحصول الإشكال فيها، وقول من قال: من أنَّ النسيان من الأعذار التي جاء بها الشرع والجهل، فيمكن أن يكون معذورا في ذلك. ولكن ظاهر كلام الحنابلة هنا جلي من أنه تيمم والماء موجود، فبناء على ذلك لزمه الإعادة.
قال: (لأنَّ النِّسْيَانَ لا يُخْرِجُه عَن كَونِه وَاجِدًا)، يعني: واجدا للماء.
ثم قال: (وأمَّا مَن ضَلَّ عَن رَحْلِه وبهِ المَاءُ وقد طَلَبَهُ) يعني: خرج لقضاء حاجته ثم أظلمت الدنيا، أو ثار غبار فلم يجد، أو ظل عن موضع البئر، كان يعرف أنه هنا، فلما ثار الغبار أو حصل شيء من ظلمة الليل ما وجدها، أو تغيرت عليه بعض معالم الطريق، وتيمم وصلى فلا إعادة عليه، حتى ولو أنه بعد ذلك وجدها قريبة منه على بعد عشرين مترا؛ لأنه فعل ما عليه. قال: (لأنَّهُ حَالَ تَيَمُّمِه لم يَكُن وَاجِداً للماءِ).
{قال -رحمه الله-: (وإن نوى بتيممه أحداثا متنوعة، توجب وضوءا أو غسلا أجزأه عن الجميع، وكذا لو نوى أحدها)}.
قوله: (لو نوى بتيممه أحداثا) شخص نام وخرج منه ريح وبال وقاء ونحو ذلك، فهذه أحداث، فإذا تيمم لها جاز تيمم واحد، (وكذا لو نوى أحدها) قام من النوم وقال: أنا محدث ما دام أني قمت من النوم، مع أنه ذهب إلى الخلاء وبال وتغوط ونحو ذلك، نقول: النوع الواحد كالأنواع، وبناء على ذلك يصح تيممه، كما قلنا في الوضوء، لأنه ينوي تحصيل ما يعتبر له من فعل طهارة ونحوها، فإذًا هذا قوله (أو نوى أحدها)، والهاء هنا راجعة إلى أنواع الأحداث الصغرى، يعني: بول، نوم، غائط، ريح. فإذا نوى واحدًا منها كما لو نوى جميعها فيحصل له التيمم.
{قال -رحمه الله-: (أو نوى بتيممه الحدثين، ولا يكفي أحدهما عن الآخر)}.
(أو نوى بتيممه الحدثين) أي: الأكبر والأصغر، فإذا نواهما جميعا حصل له المقصود، ولكن قال: (ولا يكفي أحدهما عن الآخر)، أي: لا يكفي نية الحدث الأصغر عن الحدث الأكبر، لو كان الشخص قد ذهب مثلا إلى الغائط وعليه جنابة، فتيمم بنية الجنابة، فلا يكفيه ذلك عن الحدث الأصغر.
ولو نوى بتيممه الحدث الأصغر لم يكفيه عن الجنابة، وإن كان الفعل واحدًا، فلا تختلف الطهارة بالتيمم بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر، ولكنها لَمَّا كانت أحداثا متنوعة -أكبر وأصغر- لكل حُكمه فبناء على ذلك لا بد من نيتهما جميعا، ولذلك ابتدأ المسألة بهما، فإذا نوى بتيممه الحدثين صح، وأما إذا نوى أحدهما فلا يكفيه إلا عمَّا نواه، فيحتاج إلى أن يتيمم للآخر. طبعا هذا أحد القولين، خلافا للقول الآخر، كقول الشافعية وغيرهم.
{قال -رحمه الله-: (أو نوى بتيممه نجاسة على بدنه تضره إزالتها أو عدم ما يزيلها به، أو خاف بردا، ولو حضرا مع عدم ما يسخن به الماء بعد تخفيفها ما أمكن وجوبا، أجزأه التيمم لها، لعموم «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» أو حبس في مصر فلم يصل الماء)}.
كما قلنا: إن الحنابلة -رحمهم الله تعالى- يذهبون إلى أن التيمم كما يكون لرفع الحدثين الأصغر والأكبر، فإنه يكون أيضا بدلا عن إزالة النجاسة التي على البدن خاصة، ولذلك قال: (أو نوى بتيممه نجاسة على بدنه تضره إزالتها أو عدم ما يزيلها به)، إذًا لو أن شخصًا في ذراعه مثلا عذرة قد تيبست واشتدت، فأراد أن يُزيلها فلم يستطع، فلو أزالها ربما انقشع معه بعض جلده أو لحمه، إمَّا لضعف في جسده، أو لمرض، أو لقوة تصلبها، أو لغير ذلك.
فهنا يرون أنه يجوز التيمم عن النجاسة التي على البدن لِمَا ذكرنا من المعنى أنَّ النجاسة التي على البدن كالحدث الذي تلبس به البدن، فقاسوا هذا على هذا، فأجازوا التيمم له، ولكن على سبيل القياس، ولذلك جعلوه أنقص درجة كما في المسألة التي ذكرناها، إذا تردد الأمر بين استعمال الماء هنا وهنا، فيجعلونه لهذه، لأنها أقل عندهم ثبوتًا.
قال: (أو عدم ما يزيلها به) يعني: لم يجد ماء يزيلها، فعندهم أنه يتيمم لها.
قال: (أو خاف بردا ولو حضرا مع عدم ما يسخن به الماء بعد تخفيفها ما أمكن وجوبا)، يعني: إذا خاف البرد فإنه يتيمم، وإذا كان في السفر فهذا ظاهر، حتى ولو كان في الحضر إذا لم يوجد ما يُسخن به الماء، ويحفظ به نفسه.
ومن المعلوم أنه في البلاد الباردة لا شك أن ذلك يكون مستحيلا، استعمال الماء إذا لم يكن ساخنا، أو محل يمكنه أن يتقي البرد ونحوه، فبناء على ذلك لا شك أنه يتيمم، ولكن هنا قالوا: (بعد تخفيفها ما أمكن)، يعني: إذا كان يمكنه أن يغسل أعضاء وضوئه، ثم يتيمم للباقي فعل، وإذا كان يستطيع أن يغسل الجزء الأدنى من بدنه، ولا يستطيع أن يغسل صدره ونحو ذلك لكون الضرر فيه أبلغ، وتأثره بالبرد أسرع، وهكذا.
إذًا يفعل ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، فإذا هو مباح له التيمم، ولكن بعد أن يفعل كل ما يمكنه فعله من الطهارة بالماء.
{قال -رحمه الله-: (أو حُبس في مصر فلم يصل للماء، أو حبس عنه الماء فتيمم أجزأه)}.
 ومثل ذلك إذا حبس فلم يصل إلى الماء، أو مَنَعُوا منه الماء فيتيمم، ويكون صحيحا، وهو عادم للماء في كل حال، (فتيمم أجزأه).
{قال -رحمه الله-: (أو عدم الماء والتراب، كمن حبس بمحل لا ماء به ولا تراب، وكذا من به قروح لا يستطيع معها لمس البشرة بماء ولا تراب، صلى الفرض فقط على حسب حاله، ولم يعد لأنه أتى بماء أمر به فخرج عن عهدته.
ولا يزيد على ما يجزئ في الصلاة، فلا يقرأ زائدا على الفاتحة، ولا يسبح غير مرة، ولا يزيد في طمأنينة ركوع أو سجود وجلوس بين السجدتين، ولا على ما يجزئ في التشهدين، وتبطل صلاته بحدث ونحوه فيها، ولا يؤم متطهرا بأحدهما)
}.
قبل أن نأتي إلى هذه المسألة، يجب على كل واحد منا أن يعلم فضل الله عليه، فما يُسِّرَ للإنسان من الطهارة والوصول إليها، هذا فضل الله، فإنَّ من الناس من لا يستطيع فعل الطهارة بنفسه، حتى يأتيه من يوضئه، ومن الناس من به من الأوجاع والقروح ونحوها، من لا يستطيع أن يصيب جسده بالماء، فما تظنه أمرًا معتادًا، هو نعمة عظيمة من الله -جل وعلا-، ومن بَلَّغَه الله -سبحانه وتعالى- الإسراع إلى الطهارة، والمبادرة إلى الصلاة، فذلك أمر عظيم، ومنة كبيرة، فكم من الناس الذين يكونون بإزاء المساجد، وربما كانوا طيلة حياتهم أقرب ما يكونون إليها، وأعرف ما يكونون بها، ومع ذلك حُجبوا عن الوصول إليها، وذلك قول النبي : «اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ»[10]، فيجب على الإنسان أن يحمد الله -جلَّ وعلا- أن سَهَّلَ له العبادة وأعانه عليها، فكم من قادر على العبادة غير معانٍ، محبوس عنها بما أظلم به قلبه، وبما سَوَّلَ له شيطانه، وبما تلاعبت به أهواؤه، من الوقوع في المعاصي والسيئات، نسأل الله السلامة والعافية.
قال: (أو عَدِمَ الماء والتراب) إذًا هذه هي الحال الثالثة. الحالة الأولى: أن يتطهر الإنسان بالماء، والحالة الثانية: أن لا يجد الماء أو لا يقدر عليه، فيستعمل التيمم، والحالة الثالثة: أن لا يكون قادرًا على واحد منهما، إمَّا لفقدٍ أو عجز، فيقول المؤلف: (أو عَدِمَ الماء والتراب) هذا الفقد الحسي، لم يجد شيئًا كمكتوف، أو في مكان مصمت ليس فيه ماء ولا تراب.
قال: (ومن به قروح لا يستطيع معها لمس البشرة بماء ولا تراب، صَلَّى الفرض على حسب حاله ولم يُعد) يعني: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، فهذا الذي صلى بدون تيمم ولا طهارة من الحدث، يصلي حسب حاله ولا إعادة عليه، وكأنه يشير إلى قول من يقول: عليه الإعادة، فالحنابلة يقولون: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ وهذا اتقى الله ما استطاع، وَفَعَلَ ما يجب عليه، فلم تكن عليه إعادة بعد ذلك، ولأجل هذا قالوا: إنه خرج عن عهدته.
ثم قال: (ولا يزيد على ما يجزئ في الصلاة، فلا يقرأ زائدا على الفاتحة، ولا يسبح غير مرة) بعض الناس إذا وقف على مثل التفصيلات يقول: هذا تكلف من الفقهاء، خلاص هو صلى حسب حاله يصلي صلاة معتادة، نقول: لا، هذا داخل في قول الله -جلَّ وعلا-: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32]. ما وجه ذلك؟
وجه ذلك أن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- لَمَّا عُظِّمتْ هذه الصلاة، ألا يدخلها الإنسان إلا على حال كمال وتمام، إمَّا بالطهارة الأصلية، أو الطهارة البدنية، فإذا حُبِسَ عن ذلك وَبُدٌّ له من الصلاة، فإنه يفعل الأقصر فيها، لأنها فيها شيء من الامتهان، أن يكون الإنسان في حال صلاة، وهو متلبس بالحدث، لم يرفعه ولم يفعل ما يباح له الصلاة به.
فلما كانت هذه حاله، فَعَلَ ما تبرأ به ذمته من ذهاب الصلاة عن عهدته، واقتصر على القدر الواجب تعظيما لهذه الصلاة، لئلا يبقى فيها على حال، هو فيها ليس بمتطهر ولا فاعل ما يبيح له الصلاة. فلأجل ذلك قالوا: يقتصر على القدر الواجب فحسب، ولا يزيد على ذلك.
ثم قالوا: (وتبطل صلاته بحدث ونحوه فيها) يعني: هذا الذي صلى بدون ماء ولا تيمم، لو خرجت منه ريح أثناء الصلاة، أو قطرة بول، أو دم كثير، فإنه يَنتفض وضوؤه.
قال: (ولا يؤم مُتطهرا بأحدهما) يعني: لو كان متطهرا بوضوء، أو متطهرا بتيمم، فحاله أتم، وحال هذا أنه حال مصل باضطرار، يعني: على حال لا تُبيح له الصلاة إلا لَمَّا اضطرَّ إلى ذلك، فلا يصح أن يكون فيها إماما لمن هو أكمل منه حالا، أو فاعلا لأحد الطاهرتين، الماء أو بدلها وهو التيمم.
{قال -رحمه الله-: (ويجب التيمم بتراب، فلا يجوز التيمم برمل وجص ونحيت الحجارة ونحوها)}.
قوله: (ويجب التيمم بتراب) هذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة اعتبار التراب في طهارة التيمم، وأصل ذلك ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ [المائدة:6]، وقالوا: "منه" هذه من التبعيضية، فدال على أنَّ أبعاض هذا التراب يصيب المحال التي يُتيمم فيها، وجاء عند مسلم في صحيحه أنَّ النبي قال: «وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا»[11]، فقالوا: معتبر في ذلك التراب، وهذا راجع إلى مسألة، لأن المسألة فيها خلاف شديد جدا، أنه لَمَّا ذُكِرَ «وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا»، وفي الآخر: «وجُعِلَتْ لي الأرْضُ الصعيد الطيب» يعني على الإطلاق، هل ذِكرُ بعض أفراد العام تخصيص للعام؟ أو أنَّه ذكر أنواعه، فتبقى سائرها مثل ما نُصَّ عليه منها في جواز التطهر بها، فالحنابلة ذهبوا إلى التقييد؛ لأنه أحوط، وأيضا ما جاء عن السلف أنهم كانوا يحتالون -كما جاء في الأثر- على التراب احتيالا، فبناء على ذلك قالوا: لا يجوز التيمم برمل وجص؛ لأنها ليست ترابا، ولا يثور منها غبار ونحوه.
(ونحيت الحجارة) لأنها ليست ترابا أصليًا، بل هو شيء متحول فليس ترابًا أصيلا.
{قال -رحمه الله-: (طهور فلا يجوز بتراب تيمم به، لزوال طهوريته باستعماله، وإن تيمم جماعة من مكان واحد جاز، كما لو توضؤوا من حوض واحد يغترفون منه)}.
القول الآخر أنه جائز بالرمل، ولذلك قال: (فلا يجوز برمل)؛ لأنَّ الرمل جعله بعضهم إذا لم يوجد التراب، وبعضهم قال: كل ما تصاعد على وجه الأرض لعموم الصعيد الطيب هو وضوء المسلم، وهذا على طريقة شيخ الإسلام وجمع من الفقهاء.
هنا قال: (طهور) فلا بد أن يكون طهورًا؛ لأنه إذا كان غير طهور، فلا شك أنه لا يحصل به المقصود بلا إشكال، ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾، فاشترط أن يكون طيبًا.
قال: (فلا يجوز بتراب تُيمم به لزوال طهوريته باستعماله) يعني: لو كان التراب مستعملا، ما هو التراب المستعمل؟ يعني: لو أنَّ شخصًا، ضرب الأرض، فهذا التراب الذي تطاير حال ضربه وجهه ومسحه يديه، لو جُمِعَ فأعاد أن يتيمم منه، هذا هو التراب، وطبعا هذا نادر جدا أن يجمع، لكنهم يذكرون الحد حتى تتبين الحكم في كل مسألة، ولذلك بَيَّنَ الصورة الأخرى المعتادة التي لا إشكال فيها، وكأنه يقول: إنها ليست بداخلة في المقصود، ليس هذا هو مقصودنا.
قال: (وإن تيمم جماعة من مكان واحد جاز)، كالذين يغتسلون من إناء واحد، قال: (كما لو توضؤوا من حوض واحد يغترفون منه)؛ لأن هذه ليست مسألة الماء المستعمل، فكذلك ليست هذه مسألة التيمم من التراب المستعمل.
{قال -رحمه الله-: (ويعتبر أيضا أن يكون مباحا، فلا يصح بتراب مغصوب)}.
كذلك لا يصح أن يكون بتراب مغصوب لِمَا ذَكرنا في الماء؛ لأن النهي يقتضي الفساد، فيدل ذلك على أنه لا يحصل بذلك التطهير.
{قال -رحمه الله-: (وأن يكون (غير محترق) فلايصح بما دق من خزف ونحوه)}.
لأنه عندهم أنه إذا احترق فإنه قد تحول عن حقيقته الأصلية، فبناء على ذلك لم يصح، كالماء الذي خالطه طاهر، أو انتقل إلى شيء آخر.
{قال -رحمه الله-: (وأن يكون له غبار لقوله تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ فلو تيمم على لبد أو ثوب أو بساط أو حصير أو حائط أو صخرة أو حيوان، أو برذعته أو شجر أو خشب أو عدل شعير ونحوه مما عليه غبار صح)}.
يعني أنه ليس بلازم، ما دام أنَّ الشيء يصل إليه الغبار، يعني لو كان مثلا على بعير، وضرب على البعير فظهر غبار شديد، يقولون: يحصل به المقصود. ولو ضرب الأرض أو ضرب الجدار، وهو جدار قد تتابعت عليه الريح فلصق به غبار كذلك.
ولأجل ذلك ذكر أمثلة كثيرة في هذا، كلها إذا تأتى منها ثوران الغبار، حصل بذلك المقصود.
{قال -رحمه الله-: (وإن اختلط التراب بذي غبار غيره كالنورة فكماء خالطه طاهر)}.
النورة التي يستعملونها لإزالة الشعر ونحوه، يعني: يَبردونها حتى يكون تراب له قوة في إزالة الشعر، فيقولون: كما لو خالطه طاهر، ماء مع لبن، أو ماء مع حبر، أو ماء مع زيت أو نحوه، فبناء على ذلك لا يحصل بذلك التيمم، بخلاف ما لو كان التراب مع رمل. هذا يقولون: كما لو كان خالطه بغير ممازج؛ لأن الرمل لا يمازج، فالرمل حصيات صغيرة، فهذا لا يضر، لأنه لا يكون فيه ممازجة فلا يمنع علوق التراب بيديه، فيحصل به التطهير بذلك.
لعلنا أن نقف عند هذا الحد، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
-----------------------------------------
[1] أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).
[2] أخرجه البخاري (334)، ومسلم (367).
[3] رواه الترمذي.
[4] أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).
[5] رواه الترمذي، وصححه الألباني.
[6] رواه البخاري (347)، ومسلم (368).
[7] رواه أحمد
[8] رواه الترمذي
[9] أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684).
[10] رواه أبو داود، وصححه الألباني.
[11] رواه مسلم (522).

دروس ذات صلة