مكتبـــــة الدروس

2024-03-19 13:47:36

باب السواك وسنن الوضوء (1)

{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (بَابُ السِّوَاكِ وسُنَنِ الوُضُوءِ ومَا أُلْحِقَ بذلك مِنَ الإدِّهَانِ والإكتِحَالِ والإخْتِتَانِ والاستِحْدَادِ ونَحْوِهَا)}.

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فأسأل الله -جلّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل العلم الراسخين، وأن يبعثنا على العمل على سنة خير المرسلين، وأن يجعلنا هُداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين، على ذلك نحيا وعليه نلقى الله رب العالمين، وأحبابنا والمسلمين إن ربنا جوادٌ كريم.
هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في مقدمات الوضوء وهي مستحباته، وبدأ بالسواك وسنن الوضوء.
قال: (ومَا أُلْحِقَ بذلك مِنَ الإدِّهَانِ والإكتِحَالِ والإخْتِتَانِ والاستِحْدَادِ ونَحْوِهَا)، يعني ذِكر أحكامها بما أنها لاحقةُ لأحكام السواك، ويحصل بها تمام الطهارة، وكمال النقاء، وهي داخلةٌ في سنن الفطرة، فكان ذلك مناسبًا لذكرها مع سنن الوضوء ومقدماته التي يحصل بها تمام الطهارة وكمالها.
وقال: (بَابُ السِّوَاكِ)، وهنا إشارة إلى الأحكام في أحكام السواك، وسيأتي في ذِكر الشارح والماتن للمسائل بعد هذا الكلام، لكن ذَكر بعض الفقهاء أن أول من استاك الخليل -عليه السلام- وهذه من سُننه التي أُمرنا بإتباعها كما ذُكر ذلك في بعض الكتب.

{قال -رحمه الله-: (السِّوَاكُ والمِسْوَاكُ اسمٌ للعُودِ الذي يُسْتَاكُ بهِ، ويُطْلَقُ السِّوَاكُ على الفِعْلِ؛ أي: دَلْكِ الفَمِ بالعُودِ لإزَالَةِ نَحْوِ تَغَيُّرٍ كالتَّسَوُّكِ)}.

إذًا هذا هو بيان معنى السواك، فالسواك بكسر السين وهو اسمٌ لهذا العود الذي يحصل به فعل السنة، أو يُستاك به، وتُدلك به الأسنان واللثة واللسان، فقال: يقال له سواك ومسواك.
وأمَّا استاك فهو فعلُ هذا التنظيف لهذا الموضع المختص وهو الفم أو اللسان والأسنان واللثة، استاك يستاك استياكًا، وأما السواك فهو اسمٌ للعود، أو اسمُ للآلة التي يحصل بها الفعل، ويحصل بها إدراك هذه السنة.
فإذًا قال هو: (اسمٌ للعُودِ)، كما أن هذا الاسم يُطلق على الفعل وهو حقيقة الدلك، أو حقيقة إمراغ هذه الآلة على الأسنان واللثة، فإذا فعل ذلك فيُقال هذا سواكُ، فإشارةٌ إلى هذا الفعل الذي يفعله الإنسان في فمه ولسانه وأسنانه.
ولذلك قال: (كالتَّسَوُّكِ)، التسوك هو فعلٌ للسواك، فكما أن التسوك فعلٌ، فإنه أحيانًا قد يُطلق السواك ويُقصد به الفعل، وإن كان في أصله يطلق على اسم الآلة التي هي العود الذي يُستاك به.
{(التَّسَوُّكُ بعُودٍ لَيِّنٍ، سَوَاءٌ كانَ رَطْباً أو يَابِساً مُنَدَّى مِن أَرَاكٍ أو زَيْتُونٍ أو عُرْجُونٍ أو غَيْرِهَا، مُنَقٍّ للفَمِ غَيْرُ مُضِرٍّ احتِرَازاً عَن الرُّمَّانِ والآسِ وكُلِّ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ)}.
يقول: (التَّسَوُّكُ بعُودٍ لَيِّنٍ)، ما حقيقة هذا التسوك؟ كأنه جوابٌ لسؤال ما يحصل به السواك؟ فيقول الماتن: (التَّسَوُّكُ بعُودٍ لَيِّنٍ).
فإذًا التسوك ليس بمحصور، ولا بمحدودٍ بنوع، ولا دلت السنة على تخصيص شيءٍ بعينه يحصل به هذا المقصود، بل إنه (التَّسَوُّكُ بعُودٍ لَيِّنٍ)، يعني كل ما يحصل به هذا المقصود؛ يسمى سواكًا.
ولذلك قال هو: (بعُودٍ لَيِّنٍ سَوَاءٌ كانَ رَطْباً أو يَابِساً)، إذا كان رطبًا فهو بلا شك أبعد من أن يجرح اللثة أو يحصل به ضررٌ أو نحوه، لكنه ربما كان سببًا لحصول فُتاةٍ أو انتشارها في الفم؛ فيفوت بذلك بعض المقصود كما سيأتي الإشارة إلى هذا.
قال: (مُنَدَّى) يعني من التندية وهو الترطيب؛ لئلا يحصل به إيذاء.
قال: (مِن أَرَاكٍ أو زَيْتُونٍ أو عُرْجُونٍ)، إذًا هذا أشهر ما عُرف من أنه يُتخذ للتسوك.
هل هو محصور؟
الفقهاء ذكروا ذلك، ذكروا ثلاثة، وبعضهم لم يزد، يعني قال: (مِن أَرَاكٍ أو زَيْتُونٍ أو عُرْجُونٍ)، وقال بعضهم: (أو غَيْرِهَا)، فكل هذا مبناهُ على ما وقفوا عليه مما يحصل به هذا المقصود.
فلذلك سواءٌ كان (مِن أَرَاكٍ أو زَيْتُونٍ أو عُرْجُونٍ)، وهي على حدٍ سواء، يعني في حصول التسوك بها في ظاهر كلام المؤلف، وإن كان بعضهم يُفضل الأراك لا من شيء بخصوصه، ولكن لأنه هو الذي يحصل به المقصود على أتم وجهه، أو يحصل به المقصود الأعظم.
فإذًا قال: (مِن أَرَاكٍ أو زَيْتُونٍ أو عُرْجُونٍ أو غَيْرِهَا)، فإذا قلنا: إنه ليس بمخصوص، فمعنى ذلك: إذا وجد في بعض البلدان من الأشجار أو نحوها مما يَحصل به هذا المعنى؛ فإنه يأخذ حكم التسوك، ويكون من فعل ذلك مستاكًا مؤديًا للسنة على ما وردت به الأحاديث.
وفي هذا أيضًا إشارةٌ في قوله: (أو غَيْرِهَا) إلى ما يُصنع من فرشاة أسنان، فإنها بمعنى عود الأراك سواءً بسواء؛ لأنه يحصل بها التنظيف وفيها من الطراوة أو اللين وفي الغالب وليس من جهة الأصل، وأيضًا محفوظة الأسنان من أن يكون منها ضررٌ أو إيذاء، فإذًا هي داخلةٌ في هذا المعنى.
لو قلنا: أنهم على قول من نص على الثلاثة (أراك أو زيتون أو عرجون) بدون (أو غيرها) حتى على قولهم فإن من ذكر الثلاثة لم يقصد التعيين، وإنما قصد أنَّ هذا هو الذي وقف عليه، فليس فيه شيءٌ يدل على أنها تُخص بها، بل هذا حصرٌ من الفقهاء وتقريبٌ لِمَا وصلوا إليه من أنه يحصل به معنى السواك على ما دلت به السنة.
ولذلك قال: (مُنَقٍّ للفَمِ)؛ لأن هذا هو المقصود من السواك، إذًا هو ليس المقصود فعل هذا الإمرار أو التمايل أو الدلك أو نحوه، وإنما هذا وسيلةٌ إلى حصول المقصود وهو تنقية الفم وتنظيفه وتنقيته.
قال: (غَيْرُ مُضِرٍّ)؛ فإذًا لابد أن يكون لا ضرر فيه، ولذلك بيّن هذا قال: احترازًا أو احترازٌ، يعني كلها تصح ولها معنًا في الإعراب صحيح، هذا (احتِرَازاً عَن الرُّمَّانِ والآسِ) فإنها وإن كانت أعوادٌ ولها تنفرش بمعنى يكون فيها تنظيف لكنها مضرة.
ولذلك قال: (وكُلِّ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ)، فإنه في عرفهم أو فيما وصلوا إليه من أنها مضرةٌ، فلذلك نبهوا عليها لئلا يفعل الإنسان السنة فيضر بنفسه، فما دام أنها مضرة فإنها لا تدخل فيما أمر به؛ لأن الشارع لا يأمر بما فيه ضرر، لا يأمر بما يكون فيه الضرر.

{قال -رحمه الله-: (لا يَتَفَتَّتُ ولا يَجْرَحُ، ويُكْرَهُ بعُودٍ يَجْرَحُ أو يَضُرُّ أو يَتَفَتَّتُ)}.
قال: (لا يَتَفَتَّتُ)؛ لأنه إذا تفتت فمهما حصل به من التنظيف فإنه ينتشر في اللسان وفي الفم، وفيه من التقذير، وفيه أيضًا من الاستقذار لرؤية إنسان، وقد بدى على شفتيه شيءٌ من هذا الفتات، فلا شك أن هذا يحصل به عكس مقصود السواك.
والمقصود في هذا على وجه الغلبة، وإلا فلا ينفك أحيانًا السواك أن تنقطع منه طرف، فهذا إذا كان شيئًا عارضًا لا يكون داخلًا في حكم أنه متفتت، لا؛ لأن هذا لا ينفك من السواك، لكن إذا كان تفتته كثيرًا أو يحصل به فوات الإنقاء أو حصول التقذير والتشويه.
(ولا يَجْرَحُ)؛ لأنه إذا جرح اللثة هي جلدٌ خفيف، فيُعرض ذلك إلى أن يُدمي جلده وربما يضر بها فيعطبها.
وقال: (ويُكْرَهُ بعُودٍ يَجْرَحُ أو يَضُرُّ)، هذا هو مفهوم قوله: (لا يَتَفَتَّتُ)، ومثل ذلك إذا دخل فيه التفتت؛ لأنه لا يحصل به الإنقاء.

{قال -رحمه الله-: (لا يُصِيبُ السُّنَّةَ مَن استَاكَ بأُصْبُعِه وخِرْقَةٍ ونَحْوِهَا؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يَرِدْ به ولا يَحْصُلُ به الإِنْقَاءُ كالعُودِ)}.
هنا قال: (لا يُصِيبُ السُّنَّةَ مَن استَاكَ بأُصْبُعِه) كأن هذا إشارةٌ إلى وجود كلامٌ: هل يدخل "فدلك أسنانه أو فمه بأصبعه" أنه داخلٌ في حكم السواك أم لا؟
فالشارح أبان أن تبعًا للماتن قال: أن الشرع لم يرد بذلك ولا يحصل به إنقاءٌ.
فإذًا هو كأن المؤلف -رحمه الله- أو كأن الشارح يُبين، يقول: أن ما يحصل بالعود من التنقية والتنظيف لا يحصل بهذا الأصبع من جهة المعنى، كما أنه لا يدخل في معنى ما ورد بالشرع، فالشرع ورد بوصف آله على وجهٍ ما لا يدخل الأصبع في ذلك المعنى.
يعني الآن: لو وقف الناس بين يدي الصلاة أو بين يدي تكبيرة الإحرام، فأدخل شخصٌ أصبعه ففرك أسنانه من هنا ومن هنا، ففي ذلك محاذير كثيرة:
• من جهة أنه لا يحصل بذلك الإنقاء الذي يحصل بهذه الآلة أو بذلك العود.
• ومن جهةٍ أخرى يحصل بذلك انتقال القَذر إلى أصبعه.
• وأيضًا ربما لا يحصل بها ما يحصل بها هذه الأطراف الصغيرة المتفرعة من هذا العود أن يحصل بها من التنظيف، ولا يحصل ذلك بالأصبع، فإذًا هذا من جهة المعنى، وإن كان فيه من قال بذلك بقدر ما يحصل بها من التنظيف.
وبعضهم قال: أنها قد تُستعمل على وجهٍ مخصوص وهو في حال الوضوء، لكن مع ذلك كله نقول: أن السواك شيءٌ وأن التنقية شيءٌ آخر.
فالسواك شيءٌ خاصٌ جاء به الشرع يحصل به إنقاء اللثة واللسان والأسنان على صفةٍ مبينةٍ موضحة، فتحصيل السنة بتحصيل هذا السواك على هذا الوجه.
وأما ما أمر به الشارع من تمام النقاء أو كمال الطهارة على الإطلاق، أو حصول كمالها في الوضوء، فإن هذا لها حالٌ خاصة بأي وجهٍ حصل الإنسان به كمال الإنقاء أو تمامه، فإنه يحصل به له من الأجر بقدر ما حصل من الإنقاء والتطهير؛ لأن هذا مأمورٌ في الشرع في الإطلاق، لا أنه داخلٌ في السواك بالخصوص.
ولذا لا مُقتضى أن نقول: أنه يحصل بالأصبع، أن الإنسان إذا أراد الدخول في صلاته فحركه بأصبعه، فإنه يعتبر بذلك مستاك، وهذا بعيدٌ جدُا.
أما الخرقة: الخرقة فهي بين ذا وذاك، الخرقة يحصل بها نوع نقاء، ولا يحصل فيها ما يحصل بالأصبع من التقذير أو نحوه، لكنها ليست في السواك أو مثل السواك، فإذا قلنا السواك تنظيفٌ على هيئةٍ مخصوصة فقد يقال: أن الخرقة لا تدخل في ذلك، وإذا قيل: أن المقصود هو نوعٌ من النقاء وهذا السواك يتفاوت فيه، فالخرقة يحصل بها نوعٌ من ذلك، فهي محتملةٌ أو هي أقرب من أنه لو قيل بها لم يكن ذلك بعيدًا.
لأن لو واحد جمع منديلًا أو خرقة فأمرها على أسنانه أو دَلك بها أسنانه فيحصل بها ما يحصل بالسواك، خاصةً إذا قلنا: أن مثل هذه الأعواد قد لا تتأتى في كثيرٍ من البلدان، يعني العرجون من النخل، والزيتون واضح، والأراك شجرةُ معروفة.

{قال -رحمه الله-: (مَسْنُونٌ كُلَّ وَقْتٍ خَبَرُ قَوْلِهِ التَّسَوُّكُ؛ أي: يُسَنُّ كُلَّ وَقْتٍ لحَدِيثِ: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ للفَمِ مَرْضَاةٌ للرَّبِّ» روَاهُ الشَّافِعِيُّ وأَحْمَدُ وغَيْرُهُمَا)}.
كما قال المؤلف: التسوك (مَسْنُونٌ كُلَّ وَقْتٍ) فإذًا ما يحصل به السواك، ثم بيّن حكمهُ، واستحباب السواك ظاهرٌ في أدلةٍ كثيرة فعلية وقولية، في أحوالٍ مخصوصة وفي أحوال عامة، «رأيتُ النَّبيَّ ما لا أُحصي يستاك وَهوَ صائمٌ»، في بعض الأحوال الخاصة، «يدَخَلَ بَيْتَهُ وهو يبدأ بالسِّواكِ»، «يقوم من الليل يبدأ بالسواك»، وما جاء في الأحاديث أنها «خمسٌ من الفطرة ومنها السواك»، وهذا الحديث: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ للفَمِ مَرْضَاةٌ للرَّبِّ»، إلى غير ذلك من أحاديث كثيرة، وقد ذكر أهل العلم تواتر هذه الأحاديث.
فإذًا استحباب السواك ظاهرٌ لا خفاء فيه، معلومٌ من السنة القولية والفعلية عن النبي مؤيدٌ أيضًا بعمومات الأدلة وما جاء في مقاصد الشريعة.

{(لغَيْرِ صَائِمٍ بَعْدَ الزَّوَالِ فيُكْرَهُ، فَرْضاً كانَ الصَّوْمُ أو نَفْلاً، وقَبْلَ الزَّوَالِ يُسْتَحَبُّ له بيَابِسٍ ويُبَاحُ برَطْبٍ لحديثِ: «إِذَا صُمْتُمْ فاسْتَاكُوا بالغَدَاةِ وَلاَ تَسْتَاكُوا بِالعَشِيِّ» أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، عَن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه)}.
استثني من هذا الاستحباب المطلق الصائم بعد الزوال، فيقولون: أنها بعد الزوال يُفوت ما جاء في خَلوف فم الصائم، يُفوت الرائحة التي لها خصوصية، والتي جاء امتداحٌ لمن جرى به أو حصلت له هذه الرائحة في قول النبي : «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ».
فيقولون: أنه لو استاك بعد الزوال يُذهب هذه الرائحة، وأيضًا ما جاء في الحديث الذي ذكروه، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وقول الشافعية، وإن كان في هذا كلامٌ للحنابلة كثير، ولذلك جاء في الرواية عن أحمد -وهي اختارها كثير من المحققين عند الحنابلة -كما قال الزركشي هي: "أظهر دليلًا" أنه لا تخصيص للصائم، والاستحباب مطلقٌ في ذلك على حدٍ سواه.
وجاءوا بأدلة:
«رأيتُ النَّبيَّ ما لا أُحصي يستاك وَهوَ صائمٌ».
وأيضًا قالوا: أن حصول الفضيلة بهذه الرائحة لا يعني تحصيلها أو بقاءها، وإنما هي بيانٌ لمنزلة الصائم، وأن هذه الرائحة التي قد يستقذره بعض الناس بها أو ينفر منه بسببها، فإنها رفيعة عند الله جلّ وعلا، فإنها طيبةٌ عند الله كما جاء في الحديث.
فلأجل ذلك قالوا: من أنه لا يكون في ذلك تخصيص، وجاء هذا عن بعض الصحابة ونَقل بعضهم عن ابن عمر، قالوا: أنه كان يستاك طول النهار وهو أكثر الناسِ دقيقًا في السنة.
قالوا: ولو كان ذلك أيضًا ممنوعًا لكانت المضمضة هي التي يُمنع منها الصائم؛ لأن ما يحصل بها من زوال هذه الرائحة أكثر مما يحصل زوال الرائحة بالسواك، خاصةً وأن السواك لا يعدوا أن يكون في الفم، والرائحة في الغالب تنبع من المعدة لخلوها من ذلك.
فلأجل هذا قالوا: من أنه يمكن القول بعموم الاستحباب؛ حتى ولو كان للصائم قبل الزوال وبعده على حدٍ سواء.

{(مُتَأَكَّدٌ خَبَرٌ ثَانٍ للتَّسَوُّكِ عِنْدَ صَلاةٍ فَرْضاً كَانَت أو نَفْلاً وعند انتِبَاهٍ مِن نَوْمِ لَيْلٍ أو نَهَارٍ وعِنْدَ تَغَيُّرِ رَائِحَةِ فَمٍ بمَأْكُولٍ أو غَيْرِه، وعِنْدَ وُضُوءٍ وقِرَاءَةٍ. زَادَ الزَّرْكَشِيُّ والمُصَنِّفُ في الإِقْنَاعِ: ودُخُولِ مَسْجِدٍ ومَنْزِلٍ وإِطَالَةِ سُكُوتٍ وخُلُوِّ المِعْدَةِ مِنَ الطَّعَامِ واصفِرَارِ الأَسْنَانِ)}.
هذا إذًا انتقال من المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى الأحوال التي يتأكد فيها الاستحباب.
فقال: (مُتَأَكَّدٌ عِنْدَ صَلاةٍ)، فإنه جاء التأكيد في ذلك: «لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرْتُهم بالسواكِ عند كلِّ صلاة»، كما جاء ذلك في الصحيحين، والصلاة هنا مطلقةٌ سواءً كانت فرضًا أو نفلًا، سنةً راتبة أو ضُحًا أو وترًا، فكلها داخلةٌ في ذلك على حدٍ سواء.
قال: (وعند انتِبَاهٍ مِن نَوْمِ)، فإن هذا أيضًا جاء في خصوصه الحديث، فإن «النَّبيَّ كانَ إذا قامَ مِنَ اللَّيلِ، يشوصُ فاهُ بالسِّواكِ».
(وعِنْدَ تَغَيُّرِ رَائِحَةِ فَمٍ)؛ لأن هذه أيضًا مقيسةٌ على القيام من الليل؛ لأن القيام من الليل في الغالب أنه يكون معه رائحةٌ مستقذرة، فكان كذلك مثلها تغير رائحة الفم.
قال: (بمَأْكُولٍ أو غَيْرِه)، كما لو أكل الإنسان شيئًا، أو كان به علةٌ كبعض الناس الذين أبتلوا ببخرٍ يخرج من بواطنهم، فيتأكد في حقهم السواك منعًا لمثل هذه الروائح الكريهة.
قال: (وعِنْدَ وُضُوءٍ)، أيضًا جاء هذا عند أحمد في رواية: «لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرْتُهم بالسواكِ عند كلِّ وضوء».
(وقِرَاءَةٍ)؛ لأن القراءة أيضًا حالٌ كريمة كحال الصلاة، وجاء في ذلك أيضًا بعض الآثار: «إنَّ أفواهَكُم طُرقٌ القرآنِ فطيِّبوها بالسِّواكِ»، ولئلا يتأذى الملك الذي يتلقى القراءة ويكتبها، كما قال الفقهاء -رحمهم الله تعالى-.
قال الشارح: (زَادَ الزَّرْكَشِيُّ والمُصَنِّفُ في الإِقْنَاعِ)، يعني على هذه الأحوال التي تتأكد، (ودُخُولِ مَسْجِدٍ ومَنْزِلٍ)، طبعًا هنا المنزل هو الذي جاءت به السنة، لما سئلت عائشة: «بأي شيءٍ كان يبدأ رسول الله إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك».
لكن بدأ الشارح بالمسجد؛ لأنه لم يكن له أن يُقدم المنزل على المسجد لفضل المسجد، وإلا فالمسجد مَقيسٌ على البيت، فقالوا: لما كان يستحب للإنسان عند دخول بيته، فكذلك إذا عند المسجد من باب أولى.
وقد يؤخذ من هذا أيضًا عند الخطبة: عند خطبة الجمعة؛ لأنها لا تنفك من أن يكون قول الله وقول رسوله ، لكن ذلك ليس يعني خصوصيةً جاء بها النص؛ لكنها من جهة دخولها في عموم هذه المعاني.
قد يُفهم من ذلك أيضًا: إذا قارب الإنسان أهله؛ لأن هذا قد يُفهم من دخول البيت، فإنه لا ينفك الإنسان مثلاً من أن يُقبل زوجهُ أو أن يأنس بها أو ما هو بعد ذلك من جِماعٌ وغيره، فهذا أيضًا قد يُفهم من دخول منزل.
قال: (وإِطَالَةِ سُكُوتٍ)، أيضًا هذا يُفهم من قيام الليل وتغير رائحة الفم.
قال: (وخُلُوِّ المِعْدَةِ مِنَ الطَّعَامِ)، كذلك؛ لأنها مظنة حصول الرائحة كحال القائم من نوم ليله أو من النوم.
قال: (واصفِرَارِ الأَسْنَانِ)، من أين يؤخذ هذا؟ من المعنى؛ لأن حقيقة السواك هو للإنقاء والاصفرار مضادٌ للنقاء، فيكون الاستحبابُ في ذلك ظاهراً، وجاء في بعض الأحاديث: «لا تَدخُلوا عَلَيَّا قُلحا»، والقلح هو اصفرار الأسنان، يعني يؤيد المعنى وإن كان ذلك مفهومٌ من عموم الأحاديث.

{(ويَسْتَاكُ عَرْضاً استِحْبَاباً بالنِّسْبَةِ إلَى الأَسْنَانِ بيَدِهِ اليُسْرَى على أَسْنَانِه ولَثَّتِه ولِسَانِه)}.

قال: (ويَسْتَاكُ عَرْضاً استِحْبَاباً بالنِّسْبَةِ إلَى الأَسْنَانِ)، إذًا هذا صفة السواك، السواك سمي سواكًا؛ لأنه من السواك وهو التمايل؛ لأنه يُحركه في فمه يمينًا وشمالًا.
قال: (ويَسْتَاكُ عَرْضاً)، بالنسبة إلى الأسنان، أما بالنسبة للفم فالفم طوله هكذا يعني في جهتي الوجه هذا طوله، فإذًا إذا استاك عرضًا بالنسبة إلى الأسنان فهو طولًا بالنسبة إلى الفم، وربما جاء فيه بعض الآثار وإن كانت ليست بالقوية، لكنها ذكروا أن هذا يؤيده المعنى من حيث أنه أنفع وأبعد من الضرر على اللثة والأسنان.
قال: (بيَدِهِ اليُسْرَى)، وهذا منقولٌ عن عامة أهل العلم، وإن كان ذُكر عن المجد أنه قال: "يستاك بيمينه" فاُستغرب ذلك منه، فبعضهم حملها على أن مقصود المجد هنا ليس استعمال اليد اليمنى، وإنما هو البداءة بجهة فمه اليمنى، من جهة أنه تكريمٌ لها وابتداء للجهة المكرمة، وهذا على ما ذكرنا لكم من أن دأب أهل العلم هو الاعتذار للعلماء، أو حمل كلامهم على أتم ما يكون من الوجوه المحتملة تعظيمًا للعلم وأهله ورعايةً لرحمه؛ حتى أن يغض الإنسان من نفسه فكأنه الذي عرف وغيره جهل، أو كأنه الذي أحسن وغيره نقص، فلم يزل أهل العلم يبعدوا أنفسهم عن هذا المحل، ويلتمسوا لمن سبقهم الفضل حتى ولو من وجهٍ بعيد ما دام أن ذلك يحتمله.
وهذا كله دليلٌ:
• على الإخلاص.
• والوصول إلى الحق.
• ومعرفة فضل السابق.
• وعدم تتبع العثرات أو الفرح بالسقطات.
• أو التكثر بالعلم والمزايدة به.
قال: (على أَسْنَانِه ولَثَّتِه ولِسَانِه)، هذا محل السواك، فإن كثير من الناس يظن أن السواك إنما هو للأسنان، لا، الأسنان واللثة فربما ثبت بعض الطعام ولمدةٍ طويلة على لثته، ولا يتحرك إلا بأن يزيله بهذه الآلة أو بذلك العود.
لذلك في بعض الأحوال ربما احتاج إلى دلك أو إعادة أو إمرارٍ أكثر من مرة حتى يتحرك ذلك، وكذلك اللسان، ولذلك بعض الناس الذي لا يعتاد تنظيف لسانه ربما يتغير لونه، «النَّبيَّ كانَ يشوصُ فاهُ بالسِّواكِ، حتى يقول: أع أع»، وهذا في الغالب أنه حالة تنظيف اللسان؛ لأنها أقرب لحصول أو صدور هذا الصوت.

{قال -رحمه الله-: (ويَغْسِلُ السِّوَاكَ، ولا بَأْسَ أنْ يَسْتَاكَ بهِ اثنَانِ فَأَكْثَرُ)}.
(يَغْسِلُ السِّوَاكَ)؛ لأنها مظنة إلى أن يستقر فيه القدر، ما بقي من فضلات طعام من لحم أو غيرها، فترك ذلك ربما يكون معه نتن، أو لا يحصل به المقصود، ولذلك عائشة غسلت السواك للنبي وقضمته وطيبته، فهذا هو الأولى.

{(ولا بَأْسَ أنْ يَسْتَاكَ بهِ اثنَانِ فَأَكْثَرُ، قالَ فِي (الرِّعَايَةِ): ويَقُولُ إذا استَاكَ: اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي ومَحِّصْ ذُنُوبِي. قالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: ويَنْوِي بهِ الإِتْيَانَ بالسُّنَّةِ)}.
قال: (ولا بَأْسَ أنْ يَسْتَاكَ بهِ اثنَانِ فَأَكْثَرُ)، يعني إذا احتاج إلى ذلك فلا بأس، كأن يأخذه الإنسان من زوجه أو تأخذه الزوجة من زوجها أو يعني إذا كان ذلك أخذه فغسله، فيمكن أن يستفاد منه كما حصل أن النبي لما رأى عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك فكأنه أراد ذلك، فأخذته عائشة فغسلته فاستاك به النبي .
قال: (قالَ فِي الرِّعَايَةِ: ويَقُولُ إذا استَاكَ: اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي ومَحِّصْ ذُنُوبِ)، هذا عليه دليل هذا: الناس كثيرًا إذا تزوج قال له قال اللهم ارزقني ولدًا بمناسبة الحال، بطلب الأسباب، وإذا رأت سحابًا قال: اللهم أغثنا، وإذا دخل تجارةً، قال: اللهم ارزقنا، وهكذا.. فليس مقصود الفقهاء من ذلك تخصيص ذلك، وإنما هو حال مناسبة؛ لأنه كما حصل بذلك نقاءُ فمه ولسانه ونحوه أن يطلب ذلك ما يكون به نقاء قلبه أو تمحيص ذنوبه، ولأجل ذلك لا يختص مثلاً بهذا اللفظ.
فسواءُ قال هذا أو ما شابهه، لكنهم يستحسنون ذلك من جهة أن طهارة القلب التي ربما ليس بالسهولة أن يصل الإنسان إلى تنقيتها من كل وجه، فلا يزال طالبًا العون والتوفيق من الله جلّ وعلا، فهذا فعله فيما سَهل عليه، فيسأل الله جلّ وعلا ما صَعُب عليه أو ما تشتت؛ لأن القلب لا ينفك من تعلقاتٍ كثيرة أحوج ما يكون العبد إلى الله جلّ وعلا في أن يُنقي قلبه، ويُطهره من العلائق الأهواء، أو الشهوات، أو أمور الدنيا، أو الشبهات أو سواها.
(قالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: ويَنْوِي بهِ الإِتْيَانَ بالسُّنَّةِ)، هذا كلامٌ لطيف ومعنىً جميل، وهو أيضًا من الفقهاء -رحمهم الله تعالى- إسناد الحسنة إلى أهلها، يعني لما ذُكر ذلك عند الشافعية وكان هذا الفعل إما أن يُفعل على قصد التنظف فيفوت على الإنسان الأجر والسنة، وإما أن يُقصد به فعل السنة والتأسي بالنبي .
فلما كان ذلك تنبيهُ من بعض الشافعية أراد المؤلف أن يُنبه عليه، وأن يسنده إلى من أخذه عنه، وأن يبين ذلك، وهو من الأهمية بمكان، وهذا في كل الأعمال لا ينفك كثير من الناس من فِعل بعض الأعمال، وهي أعظم ما تكون من الخير، لكن يفوت عليه قصد مرضاة الله جلّ وعلا والتقرب إليه.
فمثلًا يُعين متزوجًا، وليس في نفسه إلا أنها عادت ربعًا، أو إذا تزوج فلان يعطونه، فيفوت عليه من إعانة المتزوج والإحسان إليه، والصلة القريب، أو الجار، أو الصديق، مثل ذلك أن يعزي قريبًا أو أن يذهب إلى صديق، فيقصد به التواصل والتآخي في الله، وأعمالٌ كثيرة أحوج ما يكون الإنسان فيها إلى أن يجدد النية.
ولذلك نبه المؤلف -رحمه الله تعالى- على ذلك في باب السواك، ويُلحق مثله كثير من الأعمال التي ينبغي للإنسان أن يُجدد فيها النية، وأن يحسن فيها القصد.

{(مُبْتَدِئاً بجَانِبِ فَمِه الأَيْمَنِ فتُسَنُّ البَدَاءَةُ بالأيمَنِ في سِوَاكٍ وطُهُورٍ، وفي شَأْنِه كُلِّه غَيْرَ ما يُسْتَقْذَرُ)}.
إذًا (مُبْتَدِئاً بجَانِبِ فَمِه الأَيْمَنِ)، وهذا كما ذكرنا أن هذا أصلٌ في السنة، كما جاء في حديث عائشة «أن النبيُّ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ، في تَنَعُّلِهِ، وطُهُورِهِ، وفي شَأْنِهِ كُلِّهِ»، فيدخل هذا في طهوره، ويدخل في عمومات الشرع البداءة بالأيمن، وفي هذا تفضيلٌ لها.
قال: (في سِوَاكٍ وطُهُورٍ)، مثل ما قلنا (وفي شَأْنِه كُلِّه غَيْرَ)، فهو لفظ الحديث (غَيْرَ ما يُسْتَقْذَرُ)، و (غَيْرَ ما يُسْتَقْذَرُ) تصح بهما فما يستقذر يبُدئ فيه بالشمال، فإذا كان الإنسان مثلًا يخلع ثوبًا فيبدأ بشماله إكرامًا لليمين في أن تبقى مَكسيةً، وإذا كان الإنسان مثلًا يزيل قذرًا فإنه يأخذه بشماله، وهكذا.. فإذًا ما محله التكريم والتشريف يُبدئ فيه باليمين، وما ضد ذلك يُبدئ فيه بالشمال.

{قال -رحمه الله-: (ويَدَّهِنُ: استِحْبَاباً، غِبًّا: يَوْماً يَدَّهِنُ ويَوْماً لا يَدَّهِنُ؛ لأنَّهُ نَهَى عَن التَّرَجُّلِ إلا غِبًّا، روَاهُ التِّرْمِذِيُّ والنَّسَائِيُّ وصَحَّحَهُ. والتَّرْجِلُ: تَسْرِيحُ الشَّعْرِ ودَهْنُه)}.
المؤلف -رحمه الله تعالى- استطرد وانتقل إلى بعض الأمور، هي ليست من متعلقات الوضوء، لكنها من مكملات الطهارة، ويذكرون الشيء عند ذِكر ما يناسبه، الإدهان وهو ترطيب الشعر وذهاب تشعثه، ومثل ذلك البدن مستحبٌ.
ولذلك قال: (ويَدَّهِن غِبًّا) في المتن، نبه الشارح أن المقصود في ذلك هو معطوفٌ على المستحبات، فيستحب الإدهان، فالإدهان مستحبٌ، والنبي كان يأخذ من دُهن أهله، أو يدهن من دهن أهله، ونهى عن الترجل إلا غبًّا، يعني يومًا يفعل ويومًا يترك فهو مسنونٌ ومطلوب؛ ولأن هذا من تمام النقاء وكمال حُسن الطلعة، وتجميل وإبهاج النفس؛ فكل ذلك مأمورٌ به شرعًا.
وهنا قال: (نَهَى عَن التَّرَجُّلِ إلا غِبًّا)، طبعًا الترجل في الشعر سواءً شعر رأسه أو لحيته ونحوها، ويدخل في ذلك أيضاً بدنه، والمقصود أن الغِب هو فِعل ذلك يوم وتركه يومًا، ولذلك يقال عند العوام، عندنا يقال: طعامهم غاب، يعني إذا أرادوا أن يذموهم يعني يقولون هؤلاء بُخلاء أو كذا، فلا يأكلون إلا الغب، يعني الذي يجلس يومًا.
المقصود في ذلك: أن الشارع أمر بالإدهان، ولما كان دائرًا بين أمرين بين زيادة الترفه وبين التشعث كان الشارع فيه وسطا، فأمر بالترجل فيما يحصل به نَبذ التشعث، وما يَلحق الإنسان من تغير جسدهِ، أو نَشاف شعره، أو حصول تقذر طلته وطلعته، وبين أن يكون مرفهًا كحال النساء ونحو ذلك، وهذه حال أيضًا مكروهةٌ لأهل المروءات، كما أنها منهيٌ عنها شرعًا، منهيٌ عن ذلك شرعًا.
وهذا في الترجل إلا غبّا سواءً كان في بدنٍ أو في شعر، هو المقصود به في الأمر المعتاد؛ لأن هذا هو غالب الناس أنه يصلح أمرهم بأن يفعل ذلك يومًا وتركه يومًا، فإن كان حال الإنسان إما لنشوفةٍ في شعره، أو لصعوبةٍ في بعض عمله الذي ربما يكون معه مثلاً تعرض للنار بما يتشعث، أو لبعض الأشياء التي ترهقه في جسده حتى ينشف جلده فيحتاج إلى زيادة، فذلك أمرٌ آخر.
ولأجل ذلك: ينقل عن ابن تيمية أنه يقول: (أن هذا راجعٌ يختلف باختلاف الناس، فكأنهم يحملون هذا في مقابل الحديث، وهذا ليس بجيد، بل يقر الحديث على أصلهِ وهو أن الترجل والإدهان غبًا؛ لأن هذا هو الحال المعتادة للناس)، وأن ما كان من حال الناس لهم حال خاصة، فإن دفع التشعث هو الأصل الذي أمر به الشارع، فيفعل الإنسان ما يُناسبه من زيادة أو ترك.
يعني أيضًا بعض الناس لا يحتاج إليه في كل يومٍ بعد يوم، إما لطبيعة بلدٍ أو لنوع جلدٍ وشعرٍ أو غيره فيعلوا ما فيه، لكن المعتاد أن حال أكثر الناس يومٌ ويوم.
إذًا كلام شيخ الإسلام يُحمل على أنه مكملٌ ومفسرٌ لما جاء به النص، لا مقابلٌ له، بعضهم يحملها يقول: إنه فعل الأصلح، كأنهم يقولون لا ما يفعل الترجل غبًا، لا، نقول الترجل غبًا هو الأصل، وأنه قد يكون حال بعض الناس أن يحتاج إلى غير ذلك؛ لاختلاف بلدٍ أو عملٍ أو حالٍ مخصوصة بذلك الشخص أو تطببٍ أو نحوه.
{(ويَكْتَحِلُ: في كُلِّ عَيْنٍ وِتْراً: ثَلاثاً بالإِثْمَدِ المُطَيِّبِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أنْ ينامَ لفِعْلِهِ عليهِ السَّلامُ، روَاهُ أَحْمَدُ وغَيْرُه عَن ابنِ عَبَّاسٍ)}.

الاكتحال وهو في العين مستحبٌ جاءت به السنة عن النبي ويحصل به جلاء العين وحسن البصر، واستحبه الفقهاء -رحمهم الله تعالى- وهو يكون بأشياء كثيرة أشهرها عندهم الإثمد وهو معدنٌ يحصل به هذا المقصود، والأشهر عند الحنابلة على أن ذلك على سبيل الاستحباب لا على سبيل التطبب أو العادة ونحوها.

{(ويُسَنُّ نَظَرٌ في مِرْآةٍ وتَطَيُّبٌ)}.
النبي نظر في المرآة؛ ولأن هذا مدعاةٌ لأن يتفقد الإنسان نفسه فيذهب ما فيه من تشعث، فإن جمال الطلعة وإحسانها، وسواءُ ذهب الإنسان إلى أهل أو دخل بيت أو خرج إلى ملاقاة أحدٍ أو إلى صلاةٍ وعبادة، فإن الإنسان يكون على أكمل أحواله، وهذا سببٌ من أسباب تكميلها، ومراعاة حال الإنسان وتتميمها، فكان مستحبًا، ويقول كما ورد: «اللَّهُمَّ كمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي»، النبي نظر في المرآة كما جاء ذلك في الأثر.

{(ويَجِبُ التَّسْمِيَةُ في الوُضُوءِ معَ الذِّكْرِ: أي: أنْ يقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ، لا يقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا لخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعاً: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» رواهُ أَحْمَدُ وغَيْرُه، وتَسْقُطُ معَ السَّهْوِ، وكذا غُسْلٌ وتَيَمُّمٌ)}.
قال: (وتَطَيُّبٌ) ما أشرنا إليها بلا شك أن التطيب أيضًا مما يستحب، والنبي يحب الطيب ويتطيب، وجاء في ذلك أحاديث كثيرة فهو مستحبٌ للرجال والنساء على حدٍ سواء، لكن المرأة تمنع من ذلك حال خروجها لما يحصل بسبب ذلك من الفتنة، وما يَجره ذلك من الشر، ويدعو من داعي الشيطان.
فالتطيبُ مستحب ومسنون، ولو بذل فيه الإنسانُ غالي ماله أو كثير ما يملكه لما كان ذلك كثيرًا لما دلت عليه الآثار.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (ويَجِبُ التَّسْمِيَةُ في الوُضُوءِ معَ الذِّكْرِ)، هذا ذكر لمقدمات الوضوء، وما يبتدئ فيه به.
قال: (ويَجِبُ التَّسْمِيَةُ في الوُضُوءِ)، التسمية في الوضوء هي قول بسم الله، قول بسم الله يعني لا يقول الرحمن الرحيم، وإنما يقتصر على ما جاء عن أهل العلم ودل عليه الأثر بأن يقول بسم الله.
وقول "بسم الله الرحمن الرحيم" إنما هي في افتتاح القراءة، وما دل عليه شيءٌ بخصوصه، ما يقولها فيما أمر بالتسمية فيه.
إذًا ما حكم التسمية؟
المشهور عند الحنابلة أنها واجبةٌ عند الذكر.
بين يدي هذا أولًا نشير إلى أن التسمية عند الوضوء مشروعةٌ في قول عامة أهل العلم لا يختلفون في ذلك، فلا يأتي آت كما الآن يقال: في أوقات متأخرة عند من لم يأخذ العلم على أصوله ولا على وجهه أنها لا يحفظ بها دليل ولا تشرع ولا غير ذلك، لم يختلف أهل العلم في أن التسمية مشروعةٌ عند الوضوء.
لكن ما محلها هل هي مستحب ومسنون أم واجبٌ وتسقط مع السهو؟
فالحنابلة على أنها واجبةٌ تسقط مع السهو، وأحمد -رحمه الله تعالى- هو الذي قال بذلك مع كونهِ هو الذي قال: "لا يثبت فيه التسمية حديث"، لكن هناك الكلام بماذا؟ من جهة الرواية وثبوت النص ونحوه، أما من جهة الحكم فالحكم لا يؤخذ من نصٍ بعينه أو من لفظٍ بخصوصه، وإنما هو يؤخذ من معاني متعددة.
ولذلك لم يختلف أهل العلم على مشروعية التسمية، بل البخاري -رحمه الله تعالى- بوبّ على التسمية في الوضوء وأورد حديث: «لو أنَّ أحَدَكم إذا أتى أهلَهُ قال: بسمِ اللهِ»، فاستدل بذلك الحديث على التسمية في الوضوء.
فعلى كل حال: إذًا عند الحنابلة على التأكيد عليها على سبيل الاحتياط والاهتمام، وكثرة ما ورد في الأثر في التأكيد عليها واعتبارًا بمجموع ذلك أنه دالٌ على الوجوب، ولما كان الأمر مترددًا قالوا من أنها تسقط مع السهو، فلو نسيّ الإنسان أو توضأ بدون أن يذكرها ناسيًا أو ذكر ذلك في أثنائها فإنه لا يمنع ذلك صحة وضوئه، ولا يحتاج إلى استئنافه على ما سيأتي بإذن الله جلّ وعلا، وجمهور أهل العلم: يعني أن هذه من المفردات على أنها مستحبةٌ وليست بواجبة.

{(وكذا غُسْلٌ وتَيَمُّمٌ)}.
أنه لما كان الوضوء أحد الطهارتين فإنهما لزم في الصغرى لزم في الكبرى من باب أولى؛ لأنها وضوءٌ وزيادة، والتيمم بدلٌ عنهما فكان حكمه حكمهما.

{قال -رحمه الله-: (ويَجِبُ الخِتَانُ: عندَ البُلُوغِ مَا لَمْ يَخَفْ علَى نَفْسِه: ذَكَراً كانَ أو خُنْثَى أو أُنْثَى، فالذَّكَرُ بأَخْذِ جِلْدَةِ الحَشَفَةِ، والأُنْثَى بأَخْذِ جِلْدَةٍ فَوْقَ مَحَلِّ الإيلاجِ تُشْبِهُ عُرْفَ الدِّيكِ، ويُسْتَحَبُّ أنْ لا تُؤْخَذَ كُلُّها، والخُنْثَى بأَخْذِهَا، وفِعْلُهُ زَمَنَ صِغَرٍ أَفْضَلُ، وكُرِهَ في سَابِعِ يَوْمٍ مِنَ الوِلادَةِ إليهِ)}.
(ويَجِبُ الخِتَانُ)، الختان هو بالنسبة للرجل أخذ الجلدة الزائدة على طرف الحشفة، في طرف الحشفة، وبالنسبة للمرأة فهو الجلدة التي في أعلى مدخل الذكر ومخرج الحيض وتحت مخرج البول، وتحت مخرج البول توجد جلدة كعرف الديك هذه هي التي يحصل فيها الختان بالنسبة للمرأة.
ويسمى الختان للرجل والخفض للمرأة، ويسمى عِذار، يعني العذار لهما جميعًا للرجل والمرأة، فيقال عَذره إذا ختنه، وفلانٌ معذور يعني مختون، فهي تُطلق على هذا المعنى كما هي تطلق على ذلك.
فإذا قيل لك: هل عَذرت فلان؟ قل عذرته عن الحضور، لا تقول عذرته وتسكت! لأن هذا يعني أنك ختنته.
فعلى كل حال: هذا هو معنى الختان بالنسبة والذكر والأنثى والخنثى منهما في آلتيه التي توجد، ولا يُعلم حاله أهو رجلٌ أم أنثى؟
الحكم عند الحنابلة أن ذلك واجب، ووجه الوجوب عندهم الأمر: «من أسلم فليختتن»، وأن ذلك لا يتأتى به كمال الطهارة إلا بحصول الختان، ويقولون: لأنه يترتب عليه كشف العورة، وكشف العورة محرم فلم تُكشف العورة إلا لأمرٍ واجب.
فعلى كل حال: هذا هو المذهب، وإن كان العمل عندنا على أنه أو الفتيا على أنه واجب في حق الرجال، وهو مستحبٌ في حق النساء، وهذا له وجه، قالوا: لأن الفرق أنه جاء في الأثر (مكرمة للنساء)؛ ولأنه من جهة الأثر أن الرجال تتوقف عليه كمال طهارته بخلاف المرأة، فإن غاية ما فيه هو اعتدال شهوتها.
فإنَّ النبي قال: «ولا تنهكي فإن ذلك غض للبصر وأحظى للزوج»، يعني تعتدل لا هي التي تبرد شهوتها فلا يكون لها منها إقبالٌ على زوجها حال ذلك، حال ما يكون بين الرجل وامرأته، ولا يكون منها تَشوفٌ إلى الحرام، وإرادة للوقوع في السوء -نسأل الله السلامة والعافية- فكان ذلك هو مستحبًا كما قلنا من جهة المعنى على ما هو أو على ما عليه العمل عندنا.
قال: (وفِعْلُهُ زَمَنَ صِغَرٍ أَفْضَلُ)؛ لأن الحقيقة يكون فيه إيذاء وتعب، وفعله في الصغر أسرع للبر، وأسهل على المرء، وهذا هو الذي عليه العمل الآن في الأوقات الكثيرة.
(وكُرِهَ في سَابِعِ)، قالوا بأن هذا عمل اليهود، فإن هذا عمل اليهود (مِنَ الوِلادَةِ إليهِ).
على كل حال: ذكروا هذا، وقالوا: إنه من الولادة إلى السابع، هذا الغالب أن الدم لا يرقى، لا يجمد، فربما حصل بسبب ذلك ضررٌ على الصغير أو موت، خاصة في الأزمنة الماضية.
فعلى كل حال: المقصود من هذا أن هذا نظرٌ منهم إلى ما قد يترتب عليه من المفسدة، وإلا فليس فيه شيءٌ بخصوصه متى ما عُمل ويؤمن معه من حصول ضررٍ على الصغير، فلا بأس بذلك، والعمل الآن على أنه يفعل في أول أيام الولادة، ربما في اليوم الأول أو الثاني أو ربما ما قارب ذلك، ومع تطور الطب وأهله صارت تلك الأمور من الأمور اليسيرة، وما يتبع ذلك أيضًا من التطبب والتداوي، ويرقأ به الجرح، ويذهب به الدم والتعب أيضًا أشياء يسيرة، فكان ذلك من تيسير الله جلّ وعلا ورحمته.

{قال -رحمه الله-: (ويُكْرَهُ القَزَعُ: وهو حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ وتَرْكُ بَعْضٍ، وكذا حَلْقُ القَفَا لغَيْرِ حِجَامَةٍ ونَحْوِهَا، ويُسَنُّ إِبْقَاءُ شَعْرِ الرَّأْسِ. قالَ أَحْمَدُ: هو سُنَّةٌ لو نَقْوَىِ عليه اتَّخَذْنَاهُ، ولَكِنَّ لَهُ كُلْفَةً ومَؤُونَةً. ويُسَرِّحُهُ ويَفْرِقُه ويَكُونُ إلى أُذُنَيْهِ ويَنْتَهِي إلى مَنْكِبَيْهِ كشَعْرِه ولا بَأْسَ بزِيَادَةٍ، وجَعْلُهُ ذُؤَابَةً)}.
قال: (ويُكْرَهُ القَزَعُ)، القزع هي صفةٌ للشعر بأن يُحلق بعضهُ ويترك بعضه، وهذه صفات من يُحلق جوانبه ويترك وسطه أو العكس، ومثل ذلك أيضًا لو حلق القفا وترك المقدمة أو العكس، كما هو حال أو ما أمر به أهل الذمة فكل ذلك قزعٌ.
والمقصود في هذا: هو الحلق حلق البعض وترك البعض، أما إذا جُعل الشعرُ بعضه أكثف من بعض، فإن هذا لا يدخل في القزع سواءُ كان ذلك لقصد كأن يكون للإنسان شعر خفيف في وسط رأسه فيتركه من التقصير حتى يغطي أماكن فراغه، أو كان ذلك أيضًا نوع تجمل، فما دام أنه لم يصل إلى أن يتمايز فيكون هذا كالمحلوق وهذا كالمتروك، فيكون فيه مُثلةُ وحالُ مستقذرةٌ التي نهى عنها النبي فيدخل في النهي وإلا فلا.
قال: (حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ وتَرْكُ بَعْضٍ، وكذا حَلْقُ القَفَا)، حلق القفا هو داخل في القزع من جهة، وأيضًا جاء بخصوصه أنها فعل المجوس، وجاء عن عمر النهي عن ذلك، إلا لحاجة كحجامة أو تطبب أو وجود مثلًا حساسية أراد التداوي منها أو نحو ذلك.
قال: (ويُسَنُّ إِبْقَاءُ شَعْرِ الرَّأْسِ)، هذه من المسائل التي جرى فيها الخلاف، هل فعلها مبنيٌ على الجبلة أو الاستحباب؟ وأن الأصل فيها أحوال النبي أنه فعلها على سبيل الاستحباب، فلأجل ذلك (قالَ أَحْمَدُ: هو سُنَّةٌ لو نَقْوَىِ عليه اتَّخَذْنَاهُ)، والأدلة كثيرة في تجمل بالشعر والمفاخرة به.
فكان ذلك أمرٌ مستحبٌ من جهة الأصل بحقه من له شعرٌ فليكرمه، أما إذا كان الإنسان يترك شعره فيحصل مع ذلك تشعث وسوء طلعة، وما يستقذر منه قريبه والبعيد منه، فإن هذا لا شك أنه غير مأمورٌ به، ولا حلقه أو قَصه أولى.
فإذًا من أحبه فأبقاه بحقه فهذه سنةٌ كما جاء عن النبي ، والنبي كان له جُمةٌ إذا بلغ منكبين ولُمة وهي التي دون ذلك إلى شحمة الأذنين، والوفرة يعني الذي يكثر في الشعر ولم يبلغ اللُمة، فذكر عنه هذا وهذا، وهذه أحوال باعتبار أن الشعر يطول فيبلغ المنكبين لا يزيد.
الزيادة جاء فيها يعني أن النبي قبح من فعل ذلك، قال: ذباب ذباب، يعني قبيح قبيح لما رأى من له شعرُ جاز منكبيه.
قال: (ولا بَأْسَ بزِيَادَةٍ)، من حيث الأصل هي لا بأس بها، لكن الغالب أنها لا يخصل من قبح، فإن تركه بحقهِ وأحسن ذلك فحسن، (ذُؤَابَةً) يعني أن يرسله، والعقيصة إذا ربطه، وكل ذلك لا غضاضة فيه.
وفي الأزمنة المتأخرة لما كان الناس ما يعهدون ذلك عندهم، ويرون بعض المشركين يفعلوا ذلك، فإذا رأوا بعض المسلمين تقززوا أو رموه بوصفٍ سوء وهذا ليس بصحيح، ما دام أنه يُربيه بحقه فذلك يعني بالاعتناء به ودهنه وترجله أو ترجيله، فهذا مما أُمر به على سبيل الاستحباب في قول الحنابلة، كما ذكرنا.

{(ويَعْفِي لِحْيَتَهُ، ويَحْرُمُ حَلْقُهَا، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، ولا يُكْرَهُ أَخْذُ ما زَادَ على القَبْضَةِ وما تَحْتَ حَلْقِه ويَحِفُّ شَارِبَهُ وهو أَوْلَى مِن قَصِّهِ)}.
قال: (ويَعْفِي لِحْيَتَهُ)، إعفاء اللحية مأمورٌ به بالإجماع، ولا يجوز للإنسان حلقها، واللحية ما نبت على الذقن والعارضين ودخل بعضهم الخدين، فهما على العارضين وعلى الذقن، والعنفقة من ذلك (ويَحْرُمُ حَلْقُهَا)، كما جاء بذلك الحديث عن النبي .
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (ولا يُكْرَهُ أَخْذُ ما زَادَ على القَبْضَةِ منها)؛ لأن هذا جاء عن ابن عمر، ومجيئه عن ابن عمر وهو راوي الحديث وهو أعرف الناس بالسنة، وفعله في الشعيرة، وما كان له أن يستبيح أمرًا محرماً في عملٍ مشروع، يعني ما كان ما يتصور أنه يفعل الحرام أن يكون حرامًا ويفعل في الشعيرة أو في الفريضة، فدل ذلك على أنه جائز، ما زاد عليه ولا يكون مكروهًا.
ما بين القُبضة والحلق: يعني أخذ ما تطاول، أخذ ما الجانبين أو ما زاد هذا الأمر فيه سعة، وكأن المؤلف -رحمه الله تعالى- في قوله: (ولا يُكْرَهُ ما زَادَ) أن الأخذ من اللحية في غير ذلك مكروه، أنه مكروه، هذا هو الذي يفهم.
لكن ما كان على سبيل أخذ ما تطاير أو جعلها متسقة أو نحو ذلك، فهو مشهورٌ عن أحمره وعمد وعن غيره من الفقهاء -رحمه الله تعالى- فلو قيل من أنه أيضًا لا يدخل فيه أو لا يكون حتى مكروهًا هو أقرب وأظهر؛ لأن هذا لا يخالف الإعفاء؛ لأن هذا لا يخالف معنى الإعفاء.
ثم قال: (وما تَحْتَ حَلْقِه) يعني هذا ظاهر، وقد يتأذى الناس منه، فأخذه مشروع ولا غضاضة فيه، ولا يدخل في اسم اللحية ولا في حكمها، لا يدخل في اسم اللحية ولا في حكمها.
ثم قال: (ويَحِفُّ شَارِبَهُ وهو أَوْلَى مِن قَصِّهِ)، القص هو التقصير والحف هو المبالغة فيه، فجاء في الحديث الأمر بالقص والأمر بالحف، ولما كان الحف أبلغ كان أو حُمل القص عليه، ولا يتركه؛ لأنه يكون يستوحش الإنسان بذلك، إذا تركه ونزل على شفتيه مع ما في ذلك من الاستقذار ونزوله على حال أكله وشرابه ونحو ذلك، فيؤمر الإنسان بحف شاربه ويحصل ذلك بالقص والتمام بالحف، كما أشار إلى ذلك المؤلف -رحمه الله تعالى-.

{(ويُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ مُخَالِفاً، ويَنْتِفُ إِبِطَهُ، ويَحْلِقُ عَانَتَهُ، وله إِزَالَتُهَا بمَا شَاءَ، والتَّنْوِيرُ فَعَلَهُ أَحْمَدُ فِي العَوْرَةِ وغَيْرِهَا ويَدْفِنُ مَا يُزِيلُه مِن شَعْرِه وظُفْرِه ونَحْوِه)}.
قال: (ويُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ مُخَالِفاً)، تقليم الأظفار أيضًا مستحب، وعندنا قص الأظفار أو تقليمها: هل بينهما فرق؟ الظاهر أن التقليم أبلغ من القص، فالقص كأنه أخذ ما زاد أو مساواتها، أيضًا فيما مضى لم تكن الآلات دقيقة فربما قد يؤذيه أن يأخذه من جوانبه، فكان المشهور عندهم القص، لكن التقليم أكمل فإنه يؤخذ من كل الجهات؛ حتى لا يبقى للظفر أصلٌ أو أثر.
فعلى كل حال: التقليم هو الذي جاءت به السنة، وهذا معناه وهذا هو الذي يحصل به تمامها، فإذا قص حصل بذلك المقصود، ومخالفًا الفقهاء ذكروا صفةً عجيبة خوابس أو خسب، خوابس يعني تبدأ باليمنى، اليمنى خوابس: خنصر ثم الوسطى ثم الإبهام، خواء الألف، ثم البنصر باء، ثم السين السبابة، فآخرها السبابة، وخسب تبدأ في اليسرى بإبهامها، ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السبابة ثم البنصر؛ هذه هي التي ذكروها.
ومن أين أخذوا ذلك؟
لا أعرف ما وجه هذا، لا أعرف ما وجه ذلك، في شيء أحد يعرف فيه شيء، أو يحضر لنا فيه شيء؟ فهذا مما نستفيده.
قال: (ويَنْتِفُ إِبِطَهُ)، الإبط وهو ما نزل من أحد الكتف، مجمع الصدر مع اليد، فما تحته ينبت فيه شعرٌ فإزالته مطلوبةٌ، لئلا منعًا لحصول ما يستقذر من رائحةٍ ونحوها وتخفيف ذلك.
والنتف بخصوصه ورد في الإبط؛ لأن ذلك يُضعف العروق ويمنع حصول أو سرعة الرجوع.
لكن قال: (ويَحْلِقُ عَانَتَهُ)، فلما لم يطلب في العانة ما طُلب فيه الإبط من النتف، قال: وأن نتف العانة يضعف الآلة، فلأجل ذلك جاء بنتف الإبط وحلق العانة، وهذا يعني من دقائق المسائل والتفريق بينها.
والعانة هو ما حول قُبل الإنسان وما نَزل في سبيليهِ، يعني حتى في دُبر، حتى يشمل ذلك ما يكون في دُبرٍ، فيزيلها سواءُ كان يسمى الاستحداد؛ لأنه يزيلونه بالحديدة أو الموسى، وقد يزيلونه بالنورة، التنوير هي حَجر له خاصية إذا جُعل على هذا الشعر زالت معه، فيفعل ذا أو ذاك فالمهم يزيلها بما شاء، والآن وجدت من طرائق كثيرة جدًا، فينظر ما هو أسهل له وهو أذهب لهذا الشعر وأقل ضررًا عليه، وأطول مدةً لذهابه، فيفعل ذلك ويكون أتم في الفعل.
قال: (ويَدْفِنُ مَا يُزِيلُه مِن شَعْرِه وظُفْرِه ونَحْوِه)، هذا سنة، واستحباب ذلك من أين؟ استحباب ذلك من جهتين: من جهة الأثر والمعنى، أما الأثر فكان ابن عمر يفعل ذلك، وجاء عن ابن عباس أيضًا أنه أمر بدفن سِن أو نحوها؛ ولأنه من جهة المعنى هو إكرام لبني آدم، لما كان هذا جزءٌ من أجزائه، والآدمي يُكرم أن يُستهان أو إيش نقول عبارة الفقهاء؟ امتهان، يُرفع أن تمتهن أجزاؤه.
فلأجل ذلك قالوا من أن هذا أنها تدفن، وهذا في معناه، كما أنه لو مات جميعه يدفن، فكذلك إذا انفصلت بعض أجزائه كان لها حكم ذلك، ولذلك حتى عند الفقهاء وسيأتينا هذا في الجنائز أنه لو وجدت يد رجلٍ أو رجله، فإنها تدفن كما يدفن جسده، فإن عرفت دفنت معه وإلا دفنت وحده وسيأتي تفصيل ذلك.
فعلى كل حال: إذًا الدفن هنا ليس كلامًا في الهواء، بل له أصلُ من جهة الأثر كما ذكرنا عن ابن عمر، وجاء عن ابن عباس، ومن جهة المعنى ما ذكرناه لكم.

{قال -رحمه الله-: (ويَفْعَلُه كُلَّ أُسْبُوعٍ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ، ولا يَتْرُكُهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ يَوْماً، وأمَّا الشَّارِبُ ففِي كُلِّ جُمُعَةٍ)}.
فِعله كل أسبوعٍ مستحب؛ لأن الجمعة مما يتجمل لها، وهذا من أعظم ما يحصل به تجمل في ظاهر الإنسان وباطنه، لا يترك فوق الأربعين لما جاء في الحديث الذي في الصحيح: «السنة أن لا يترك فوق الأربعين»، وهذا أيضًا قالوا هذا لأن عادة الناس أو العادة المستقرة في أحوال الناس المعروفة أن في الأربعين تفحش هذه الأشياء وتكثر، فما دونها يحتمل، وما زاد عن ذلك لا يحتمل.
فمن قصر عن أن يفعل ذلك كل أسبوع فلا أقل من أن لا يزيد على أربعين؛ لأن تلك حالٌ لا تحتمل، فإن هذا الشعر يتكاثر سواءُ في إبطيه أو في عانته أو أظفاره تطول بحالٍ يستقذره الناس فيها سواءً كان ذلك فيما ظهر كالإبطين والأظفار، أو كان ذلك فيما بَطن من جهة زوجه وما ملكت يمينه، وما يتبع ذلك أيضًا مما قد يخرج من رائحةٍ أو يصدر له من أثرٍ يستقذره به الناس.
وهذا في الأحوال العادة، لكن لو كان إنسان لا ينبت شعره، فنقول مثل ما قلنا سابقًا: أنه لو زاد لا بأس؛ لأن المقصود هو إزالة ما قد يحصل به التقذير، ولو أن شخصًا على خلاف العادة يفحش شعرهُ في أقل من ذلك لطُلب منه أن يتخلص من ذلك في أسرع من هذا الوقت، أو أقرب من هذه المدة المقدرة عادةً.
قال: (وأمَّا الشَّارِبُ ففِي كُلِّ جُمُعَةٍ)، لما ذكرنا من أنه يفحش بسرعة، فلأجل ذلك ويتقذر معه الشرب والأكل، ويستقذره حتى من يشاركه في طعامٍ أو شراب، فكان ذلك ينبغي ألا يزاد فيه على الجمعة، ولذلك جاء عن أحمد قال: أنه يصير وحشيًا بذلك.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين.

دروس ذات صلة