{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (وفُرُوضُه؛ أي: فُرُوضُ التَّيَمُّمِ، مَسْحُ
وَجْهِه سِوَى ما تَحْتَ شَعْرٍ ولو خَفِيفاً، ودَاخِلِ فَمٍ وأَنْفٍ ويُكْرَهُ.
ومَسْحُ يَدَيْهِ إلى كُوعَيْه؛ِ لقَوْلِه ﷺ لعمار -رضي الله عنه-: «إنَّما كانَ
يَكْفِيكَ أنْ تَقُولَ بيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بيَدَيْهِ الأرْضَ ضَرْبَةً
واحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ علَى اليَمِينِ، وظَاهِرَ كَفَّيْهِ، ووَجْهَهُ»
)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه
وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعلنا
وإياكم من أهل العلم الراسخين، وأن يجعلنا من العالمين، وأن يعقبنا الهدى والعمل
والتوفيق يا رب العالمين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا
والمسلمين.
كنا في المجلس الماضي ابتدأنا ما يتعلق بباب التيمم، وانتهى بنا الكلام إلى ما ذكره
المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفصيل أحكام التيمم، وما يتعلق بفرضه، وما يتعلق بشرطه
وصفته، فقال: (وفُرُوضُه؛ أي: فُرُوضُ التَّيَمُّمِ، مَسْحُ وَجْهِه)، وهذا من
الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في حصر الفروض الذي بابه باب النظر واستقراء الأدلة،
فإنه لم يأت عن النبي ﷺ أنه قال: فروض الوضوء كذا، ولا فروض التيمم كذا، ولا أركان
الحج كذا، ولكن سبيل ذلك الاستقراء والنظر، وجمع ما جاء في الآثار من منزلة هذه
المسألة، وبيان حكمها تقريبا للطالب، وبيانا للعابد، وتنبيها للمكلف، حتى يأتي
بالعبادة على وجهها، وحتى لا يُخِلَّ بها عما أمر الله -جلَّ وعلا- به.
وذكرنا أن التعبير بالفروض هو مقصور عند فقهاء الحنابلة، ذكروه في الوضوء، وذكروه
تبعًا في التيمم، وإلا فإنهم يُعبرون فيما سوى ذلك بالأركان، والركن والفرض من حيث
النظر إلى ما طردوه في ذلك مُتقارب أو لا فرق فيه، وإن كان لبعض الفقهاء في غير
مذهب الحنابلة تفريق.
قال: (مَسْحُ وَجْهِه)، وهذا جاء في حديث عمار، كما جاء في الآية ﴿فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ [المائدة:6]، فلا شك إذًا أنَّ مسح الوجه فرض
في التيمم، جاء بذلك النص من الكتاب والسنة، وبَيَّنَ الفقهاء حقيقة هذا المسح.
قال: (مَسْحُ وَجْهِه)، متعلق المسح ما هو؟ متعلق المسح، هو المسح باليدين، وليس
المقصود بذلك تعميم التراب، وإنما أن يُصيب التراب بيديه ثم يمسح بهما وجهه، فكون
التراب عَلِقَ بيديه انتهى ما يتعلق بالتراب، بقي الآن المسح، والمسح متعلقه الوجه
ويكون باليدين.
قال: (سِوَى ما تَحْتَ شَعْرٍ ولو خَفِيفاً، ودَاخِلِ فَمٍ وأَنْفٍ ويُكْرَهُ)؛ لأنَّ
في ذلك ضرر وإيذاء، ودخول التراب وذراته إلى ذلك ربما يتضرر بها المرء، ولا يختلف
أهل العلم أنه لا يُحتاج إلى ذلك.
قال: (ومَسْحُ يَدَيْهِ إلى كُوعَيْه)، هذا هو الثاني، وأيضا لا يُختلف في أنَّ ذلك
فرض مفروض، جاء به الدليل من الكتاب والسنة، ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ﴾ [المائدة:6]، واليد عند الإطلاق -على ما ذكر فقهاء الحنابلة،
خلافا للشافعية والمالكية- إلى الكوع، كما جاء في ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة:38]، ومن المعلوم أنَّ القطع إلى الكوع،
والكوع هو ما يلي الإبهام في طرف الزَّند، والزند الذي هو المفصل الذي بين الكف
والذراع، فما يلي الإبهام هو كوع، وما يلي الخنصر هو كسوع، كما ذكر ذلك أهل العلم.
إذًا هو يمسح إلى كوعيه، كما جاء ذلك حديث عمار وفي الآية.
{قال -رحمه الله-: (وكذا التَّرْتِيبُ بينَ مَسْحِ الوَجْهِ واليَدَيْنِ،
والمُوَالاةُ بَيْنَهُمَا بأنْ لا يُؤَخِّرَ مَسْحَ اليَدَيْنِ بحيثُ يَجِفُّ
الوَجْهُ لو كانَ مَغْسُولاً، فهما فَرْضَانِ.
في التَّيَمُّمِ عن حَدَثٍ أَصْغَرَ لا عَن حَدَثٍ أَكَبَر، أو نَجَاسَةٍ ببَدَنٍ؛
لأنَّ التَّيَمُّمَ مَبْنِيٌّ على طَهَارَةِ الماءِ)}.
ذكر الحنابلة -رحمهم الله تعالى- أنَّ الترتيب فرض في التيمم، وهذا وإن لم يكن
ظاهرا فيما جاء به الحديث، إلا أنَّ الشارح بين -كما ذكر الحنابلة في كتبهم- أنه
مبنيٌ على الأصل، فكما أنَّ الأصل جاء النص بالترتيب فيه، فما كان بدلاً عنه
فالترتيب مُعتبر كأصله، ولذا قالوا: إن الترتيب معتبر في ذلك كأصله، ولا شك أنَّ
الترتيب هو أحوط وأتم لموافقة ما جاء به النص، وأبعد من الوقوع في الخلل أو التقصير
في الواجب.
قال: وكذلك (المُوَالاةُ)، والموالاة بمعنى: المتابعة، فإنه يُتابَعُ بين المسوحات
التي هي الوجه واليدين، وذلك لأنها عبادة واحدة، والأصل في العبادة أن تقع في محل
واحد، فإنه لا يتصور على سبيل المثال، أن يقف الإنسان بعرفة، ثم يرمي الجمار من
السنة الآتية، أليس كذلك؟ فإنها لا بد أن تكون مُتتابعة، وأعمال مَضموم بعضها إلى
بعض؛ لأنها عبادة واحدة، وكذلك الصلاة، وكذلك الوضوء، وكذلك التيمم سواء بسواء،
ولأنه إذا انفصل لم يظهر على ما جاء به النص، والنص جاء بهما مجموعين، فكان الإتيان
بما جاء به الدليل، واتباع ما دلت عليه السنة، هو أن يُؤتى بهما مقترنين.
قال: (والمُوَالاةُ بَيْنَهُمَا بأنْ لا يُؤَخِّرَ مَسْحَ اليَدَيْنِ بحيثُ يَجِفُّ
الوَجْهُ لو كانَ مَغْسُولاً)، ما معنى هذه العبارة؟ كَأنَّ سائلاً سأل، ما ضابط
الموالاة؟ ومتى نقول: إنَّ هذا وَالَى وهذا قد فَصَل؟
قال الشارح: إذا مسح وجهه ثم جلس مدة، لو كان هذا الوجه مغسولا لجف، فإنَّ هذا
المكث قاطع للموالاة، فاصل للعبادة، وبناء على ذلك العامل لهذا لم يُؤدِّ فرض
الموالاة، وبالتالي يجب عليه ابتداء التيمم من أوله؛ لأنه فصل، والأصل في العبادة
أن يؤتى بها على التوالي والتتابع.
وأما لو انقطع قليلا، بحيث لا يكون فاصلا يجف فيه الوجه لو غسله، فإن ذلك لا يمنع
من أن يُحكم بالموالاة حُكما ظاهرا.
إذًا عندنا إما الموالاة بالمتابعة التامة، وهي الإتيان بهما متتاليان دون فصل،
فهذا هو التمام والكمال، وهو الذي جاء به النص، ويقابله الفصل، وهو أن يبقى مدة
طويلة، لو كان هذا الوجه مغسولا لجف، فلا يصح معه التيمم، والحال الثالثة: وهو أن
يكون ثمَّ فصل، ولكن هذا الفصل لا يجف معه الوجه لو غسل.
وبناء على ذلك يُحكم بصحة التيمم، هل هذا يحدث؟ هو قليل، ولكنه لو حدث حكمنا بالصحة،
فعلى سبيل المثال: لو أنَّ واحدا مسح وجهه، ثم رَنَّ هاتفه فأجاب، فكان في أمر مهم،
في بعض ولده، أو زوجه، أو تصاريف أموره، ثُمَّ لَمَّا انتهى بعد دقائق أشكل عليه
ذلك، فلَمَّا انتهى من الصلاة جاء يسأل، قال: والله أنا توقفت عند التيمم ثم أكملته.
نقول: كم توقفت؟ فإذا ذكر مُدة -على سبيل المثال- عشرين دقيقة، خمسة عشر دقيقة، أي:
وقت يجف فيها الوجه عادة في الزمن المعتدل، فنقول: إنه انقطع، وأما إذا كان ثلاث
دقائق أو خمس دقائق أو نحوا منها، فإنه في الغالب لا يكون فيه جفاف، فيكون في ذلك
تحقيق للموالاة.
قال: (في التَّيَمُّمِ عن حَدَثٍ أَصْغَرَ لا عَن حَدَثٍ أَكَبَر)، أيضا الحنابلة
خصوا باعتبار الموالاة والترتيب عن الحدث الأصغر؛ لأنها لَمَّا كانت غير معتبرة في
الحدث الأكبر في قول الحنابلة، وجمهور أهل العلم، جعلوا التيمم تبعًا لأصله.
قال: (أو نَجَاسَةٍ ببَدَنٍ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ مَبْنِيٌّ على طَهَارَةِ الماءِ)
وكذلك لو كان نجاسة على البدن، فإنَّا قد سبق لنا أن قلنا: إن الحنابلة لهم قول
انفردوا به، وهو أن التيمم يكون على النجاسة على البدن، كما يكون على الطهارة من
الحدث، وهذا قول انفردوا به، أو من مفرداتهم.
فإذا قلنا: إنه يتيمم لنجاسة البدن، فلا يُعتبر فيها ترتيب ولا موالاة، كإزالة
النجاسة ونحوها. إذًا مناط المسألة في هذا كله على القياس على الأصل، فما اعتبر فيه
الترتيب والموالاة، اعتبر في التيمم، وما لم يعتبر في أصل الطهارة بالماء لم يعتبر
في بدلها وهو التيمم إذا كان عن حدث أكبر أو كان في نجاسة بدن.
{قال -رحمه الله-: (وتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِمَا يَتَيَمَّمُ لَهُ، كصَلاةٍ أو
طَوَافٍ أو غَيْرِهِمَا مِن حَدَثٍ أو غَيْرِه، كنَجَاسَةٍ على بَدَنِه، فيَنْوِي
استِبَاحَةَ الصَّلاةِ مِن الجَنَابَةِ والحَدَثِ إن كانا أو أَحَدُهُمَا، أو عَن
غَسْلِ بَعْضِ بَدَنِ الجَرِيحِ ونَحْوِه؛ لأنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فلم
تَرْفَعِ الحَدَثَ، فلا بُدَّ مِن التَّعْيِينِ تَقْوِيَةً لضَعْفِه)}.
كما ذكرنا سابقا أنَّ التيمم مُبيحٌ لا رافعٌ، فهو لا يحصل به رفع الحدث، وإنما
أكثر ما يُفيد أنَّ المتيمم يصح له فعل العبادة التي يُشترط لها الطهارة، مع ثبوت
الحدث عليه، وسبق أن بينا هذه، وقلنا: إنَّ الأحوال إمَّا محدث، وهذا لا يجوز له أن
يُصلي، ولا أن يمس مُصحفًا ونحو ذلك، وإمَّا أن يكون مُتطهرًا، يجوز له أن يفعل كل
ما تُشترط له الطهارة، من مسِّ مصحفٍ، وقراءة قرآن، وطوافٍ، وركعتين ونحو ذلك.
والحالة الثالثة: حال المتيمم بشرطه، أي: إذا كان يباح له التيمم، وهو أنه يُعتبر
الحدث باقيا عليه، ولكنه يجوز له فعل العبادة، فهي حال بين حال المحدث وحال المتطهر،
فهذا معنى قولهم: إنه مبيحٌ لا رافع.
إذًا على قولهم هم قيدوه بأحوال، ولأجل ذلك قالوا: إنه لا ينوي رفع الحدث؛ لأنَّ
الحدث ما يرتفع، ولو نواه لم يصح تيممه، بل يَنوي ما أراد فعله من عبادة، ولذلك قال:
(وتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِمَا يَتَيَمَّمُ لَهُ كصَلاةٍ أو طَوَافٍ)، فإذا أراد
الطواف تيمم للطواف، وإذا أراد قراءة القرآن، تيمم لها، أو مس مصحف، وإذا أرادت
المرأة الحائض التي انقطع حيضها ولا ماء أن تتيمم أن تُستباح لزوجها فكذلك.
إذًا لابد أن ينوي ما قصد لأجله فعل العبادة التي تُشترط لها الطهارة، فإذا كان نوى
أمرين جاز، بشرط أن ينويهما، يعني: كأن ينوي مثلا طهارة من حدث أكبر كجنابة، ومن
حدث أصغر.
أو تيمم لأجل ما عليه من جنابة، وما على بدنه من نجاسة، فبناء على ذلك يقول: ينوي
استباحة الصلاة من الجنابة والحدث، يعني: يقصد الحدث الأصغر، أو من نجاسة على بدنه،
أو منها جميعا إذا كانت.
ولكن لا يتأتى له نية واحد ويكفي عن الآخر، فلو نوى عن الحدث الأكبر، فإنه لا يكفيه
عن الحدث الأصغر، ولو نواه عن النجاسة على البدن، لاحتاج أن يتيمم إذا أراد أن
يُصلي، أو يطوف، أو يقرأ القرآن، ولو كان تيمم قبل دقيقة واحدة.
قال: (أو عَن غَسْلِ بَعْضِ بَدَنِ الجَرِيحِ ونَحْوِه) يعني: إذا كان به نجاسة، أو
كان لا يستطيع إيصال الماء إليها، لكونه يتضرر بذلك.
{قال -رحمه الله-: (فلو نَوَى رَفْعَ الحَدَثِ لم يَصِحَّ)}.
كما قلنا: إذًا هو ينوي ما أراد فعله مما تُشترط له الطهارة، فهو لا ينوِ رفع الحدث؛
لأنه لا يحصل به رفع الحدث على المذهب، فبناء على ذلك كانت هذه النية نية خاطئة فلم
تفده شيئًا، بخلاف ما إذا قلنا: إنه رافع للحدث كما هو الرواية الثانية، وقول ابن
تيمية وغيره.
لكن يُهمك الآن فهم ما يترتب على القول بأنه مُبيحٌ، لأنه هو الذي يُوجد فيه تفاصيل
مسائل وتدقيقات لا توجد هذه التفريعات إذا قيل إنه رافع للحدث كطهارة الماء سواء
بسواء.
{قال -رحمه الله-: (فإِنْ نَوَى أحَدَهَا؛ أي: الحَدَثَ الأَصْغَرَ أو الأَكْبَرَ
أو النَّجَاسَةَ بالبَدَنِ.
لم يُجْزِئْهُ عَن الآخَرِ؛ لأنَّهَا أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ، والحديثُ: «وَإِنَّمَا
لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»)}.
كما قلنا قبل قليل، لا بد أن ينويها جميعا إذا كانت عليه في حال واحدة، وأمَّا إذا
غاب عن ذهنه ونحوه، إنما حصل تيممه لِمَا نواه، فاحتاج أن يَنوي مرة ثانية ما بقي
عليه من نجاسة على بدن، أو من حدث أصغر، ثم بعد ذلك يفعل ما أراد من صلاة ونحوها.
وإن نوى جميعها جاز كما قلنا، يعني: ليس يحتاج إلى أن يتيمم ثلاث مرات، ما دام أنه
قد نوى كل الثلاثة بنية واحدة، أو في حال واحدة، صح تيممه وكفاه عنها جميعا، وجاز
له أن يفعل ما يفعل، وجاز له -لا نقول وارتفع حدثه- بل جاز له أن يفعل ما يفعله
المتطهر من حدث أكبر، كما جاز له أن يفعل ما يفعل المتطهر من حدث أصغر، ومن عليه
نجاسة في بدنه فأزالها، فإنه بهذه النية يجوز له أن يفعل ما قصده من العبادة، ليس
كل شيء، وإنما ما قصده من العبادة، وما دونها على ما سيأتي.
لكن هنا يجب أن تتنبه لأمر، وهو: لو كان عليه حدث أصغر، كأن يكون مثلا بال ونام
ونحوها، فإذا نوى فِعل الصلاة أو استباحة الصلاة للحدث الأصغر الذي لحق به، فليس
بالضرورة أن يستحضر أفراد الحدث الأصغر، أي: لا يحتاج إلى ذلك، كما أيضا لو كان
عليه أكثر من نوع من الحدث أكبر، كما لو كانت امرأة عليها جنابة وطهرت من حيضها،
فنوت بتيممها استباحة الصلاة لِمَا عليها من حدث أكبر، نقول: يجوز تيممها ويكفي عن
ما عليها من جنابة كما عليها من انقطاع حيض وطهارة منه.
{قال -رحمه الله-: (وإنْ نوَى جَمِيعَهَا جَازَ للخَبَرِ، وكُلُّ وَاحِدٍ يَدْخُلُ
في العُمُومِ فيَكُونُ مَنْوِيًّا، وإنْ نوَى بتَيَمُّمِه نَفْلاً لا يُصَلِّي به
فَرْضاً؛ لأنَّهُ لَيْسَ بمَنْوِيٍّ وخالفَ طَهَارَةَ المَاءِ؛ لأنَّهَا تَرْفَعُ
الحَدَثَ)}.
هذا كله مُتفرع على ما ذكرنا من أنه استباحة، فيقولون: إذا نوى شيئًا لم يستبح ما
فوقه، فمن نوى مثلا أن يُصلي سنَّة الظهر الراتبة، فتيمم لأجل ذلك، لم يجز له أن
يُصلي بها فريضة الظهر؛ لأنَّ الفريضة أعلى من النافلة، وما تيمم له إنما هو
استباحة لهذه النافلة، والنافلة لا تبلغ درجة الفريضة، فيحتاج إلى أن يتيمم للفريضة
بخلاف العكس.
فإنه إذا تيمم لصلاة الفريضة جاز أن يصلي بها نافلة، وجاز له أن يطوف بها، وجاز له
أن يمس مصحفًا، ونحو ذلك مما يشترط ما دام في الوقت، لأنه سيأتينا أنه إذا انتهى
الوقت أيضًا احتاج إلى إعادة تيمم.
{قال -رحمه الله-: (أو نوَى استِبَاحَةَ الصَّلاةِ وأَطْلَقَ فلم يُعَيِّنْ فَرْضاً
ولا نَفْلاً لم يُصَلِّ بهِ فَرْضاً ولو على الكِفَايَةِ ولا نَذْراً؛ لأنَّهُ لم
يَنْوِه)}.
كذلك لو نوى الصلاة، فإن نية الصلاة بناء على أن التيمم استباحة، وعلى أنها أيضا
فعل مُضطر، فإنها تتوجه إلى أدنى درجات الصلاة، والصلاة إنما هي صلاة النفل لا صلاة
الفرض، إنما يتوجه إلى صلاة النفل، فهذا الذي نوى أن يصلي به، نقول: ما دام ما نويت
الفرض لا يجوز لك إلا أن تُصلي بها نفلا، ولو تيمم لفرض كفاية، جاز له أن يصلي بها
فرض الكفاية، وأن يصلي بها السنة أو النفل، ولكن لا يجوز له أن يصلي بها الفرض
العيني، يعني: لو أنَّ وقت الظهر قد دخل، ثم كسفت الشمس، فتيمم رجل لصلاة الكسوف،
ثم لَمَّا انتهت صلاة الكسوف أراد المصلون أن يصلوا الظهر.
نقول: لا بد أن يعيد التيمم، وذلك على قول الحنابلة -رحمهم الله تعالى- لأنه
يُستباح به العبادة وما دونها، وأمَّا ما فوق، فيشترط لها نية خاصة.
{(وَكَذَا الطَّوَاف)}.
والطواف مثل ذلك، فإذا نوى الطواف وأطلق، فإنما يتوجه إلى طواف نفل، فإذا كان عليه
طواف مفروض، فلا بد أن ينويه، ولو كان مثلا نوى طواف نذر، فإنَّ النذر أقل من فرض
العين، أليس كذلك؟ فبناء على ذلك، له أن يطوف به طواف النذر، ولكن ليس له أن يطوف
به طواف العمرة، أو طواف الحج، والعكس بالعكس.
أمَّا إذا نوى طواف الفرض، جاز له أن يطوف بعده طواف النذر، وجاز له بعده أن يطوف
طواف النفل، وهكذا.
{قال -رحمه الله-: (وإنْ نوَاهُ؛ أي: نَوَى استِبَاحَةَ فَرْضٍ، صَلَّى كُلَّ
وَقْتِه فُرُوضاً ونَوَافِلَ، فمَن نَوَى شَيْئاً استَبَاحَهُ ومِثْلَهُ ودُونَهُ،
فأَعْلاهُ: فَرْضُ عَيْنٍ، فنَذْرٌ، ففَرْضُ كِفَايَةٍ، فصَلاةُ نَافِلَةٍ،
فطَوَافُ نَفْلٍ، فمَسُّ مُصْحَفٍ، فقِرَاءَةُ قُرْآنٍ، فلُبْثٌ بمَسْجِدٍ)}.
قال: (وإنْ نوَاهُ؛ أي: نَوَى استِبَاحَةَ فَرْضٍ، صَلَّى كُلَّ وَقْتِه فُرُوضاً
ونَوَافِلَ) يعني: شخص تيمم لصلاة الظهر، ثم دخل عليه صلاة العصر فيصلي به، لأنه
نوى فرضا. أليس كذلك؟
لا. لاحظ كلام الفقهاء، صلى كل وقته فروضا، يعني: في الوقت نفسه، يعني: كان مقيدًا
بالوقت، طيب هل هناك فروض في وقت واحد؟ نقول: ممكن، كما لو كان عليه فرضًا فائتًا،
فإذا نوى التيمم لصلاة الظهر، ثم تذكر أن عليه فائتة كصلاة فجر، أو صلاة ظهر، فهذا
وقتها، أليس كذلك؟ فليصلها إذا ذكرها. فما دام في الوقت فيصلي به.
ولأجل ذلك قال: (فُرُوضًا) أو كان مثلا فرض كفاية كما قلنا في صلاة كسوف أو نذر
ونحو ذلك.
ثم أيضا يُصلي به ما دونها من النوافل، ولذلك قال بعدها: (فمَن نَوَى شَيْئاً
استَبَاحَهُ ومِثْلَهُ ودُونَهُ). هذه هي القاعدة، وهذا كله مفرعٌ على القول بأن
التيمم مبيحٌ لا رافع.
قال: (فَأَعلَاه) الفقهاء -رحمهم الله تعالى- إذا بينوا الحكم، فإنهم يُتبعون ذلك
بكل ما يتعلق به، حتى يكون المكلف على بصيرة، إذًا لَمَّا كانت درجات، إذا استباح
بعضًا لم يستبح شيئا، احتاج المكلف إلى أن يعرف ما يدخل في كل ما نواه.
فيقول المؤلف –رحمه الله تعالى-: (فأَعْلاهُ: فَرْضُ عَيْنٍ) فمعنى ذلك: إذا تيمم
لفرض العين، كصلاة ظهر، جاز له أن يطوف في ذلك الوقت طواف الحاج، وجاز له أن يصلي
به النفل، وجاز له أن يصلي به فرض الكفاية، وجاز له أن يصلي به النذر ما دام في
الوقت.
وجاز له كذلك أن يَمَسَّ مصحفًا، وجاز له أن يقرأ قرآنًا. أليس كذلك؟ فكل ذلك داخل
فيها.
قال: (فَرْضُ عَيْنٍ، فنَذْرٌ، ففَرْضُ كِفَايَةٍ، فصَلاةٌ نَافِلَةٌ)؛ لأنها دون
الكفاية ودون النذر.
ثم قال: (فَطَوَافُ نَفْلٍ) وهنا فيه فجوة، فأين محل طواف الفرض؟ لماذا لم يذكره؟
هل هو وطواف النفل شيء واحد؟ قطعًا لا بناء على ترتيباته، ولأجل ذلك استدرك جملة من
الفقهاء فقالوا: بعد صلاة نفل طواف فرض ثم طواف نفل، كما في شرح الإقناع وغيره،
وهذا ظاهر على قاعدة الحنابلة وما طردوه.
ثم قال: (فمَسُّ مُصْحَفٍ، فقِرَاءَةُ قُرْآنٍ)، أيهما أشد؟ هل مس المصحف أشد أم
قراءة القرآن؟ الجواب: مس المصحف. لماذا؟ لأن مس المصحف لا يجوز لمن عليه حدث أكبر
ولا حدث أصغر، وأما قراءة القرآن، فتجوز لمن عليه حدث أصغر، لا من عليه جنابة، أليس
كذلك؟ واختلف فيمن عليها حيض على ما تقدم، ولكن الحنابلة يمنعون ذلك كله.
فإذًا لَمَّا كان مسُّ المصحف لا يُستباح في الحالين، كان منزلته أشد، فقدموه.
قال: (فقِرَاءَةُ قُرْآنٍ، فلُبْثٌ بمَسْجِدٍ) لا شك أنها دون ذلك كله على ما ذكرنا
أنها جاءت عن الصحابة، وأنها لتخفيف الحدث، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك على ما تقدم.
{قال -رحمه الله-: (ويَبْطُلُ التَّيَمُّمُ مُطْلَقاً بخُرُوجِ الوَقْتِ أو
دُخُولِه، ولو كانَ التَّيَمُّمُ لغَيْرِ صَلاةٍ ما لم يَكُنْ في صَلاةِ جُمُعَةٍ
أو نَوَى الجَمْعَ في وَقْتِ ثَانِيَةِ مَن يُبَاحُ لَهُ، فلا يَبْطُلُ تَيَمُّمُه
بخُرُوجِ وَقْتِ الأُولَى؛ لأنَّ الوَقْتَيْنِ صَارَا كالوَقْتِ الوَاحِدِ في
حَقِّه)}.
هنا قال: (ويَبْطُلُ التَّيَمُّمُ مُطْلَقاً بخُرُوجِ الوَقْتِ)، أمَّا بطلان
التيمم بخروج الوقت فهذا واضح، لأنهم يقولون: إنها استباحة مخصوصة، استباحة اضطرار،
أنَّ التيمم جُعِلَ للاضطرار، كون الإنسان لا يستطيع استعمال الماء أو لا يجده، وهو
محتاج إلى هذه العبادة، وهذه العبادة لا بد لها من الطهارة، فلمَّا كان لابد له من
هذه الصلاة، أو هذه العبادة، وهي لابد لها من الطهارة، وهو لا يجد ذلك، فإمَّا أن
يترك وإما أن يفعلها بغير طهارة، فقالوا: لا إنه يتيمم، وإذا تيمم جاز له أن
يفعلها، وإن لم يكن متطهرا.
هذا هو معنى كونه أُبِيحَ للاضطرار؛ لأنَّ هذه العبادة لابد لها من طهارة، وهو لا
يجد الطهارة، فما الفعل الذي يُسَوِّغُ له فعلَ العبادة مع كونه غير متطهر؟
الجواب: هو فعل التيمم، على ما ذكرناه من أنه مُبيحٌ لا رافعٌ.
قوله: (ويَبْطُلُ التَّيَمُّمُ مُطْلَقاً بخُرُوجِ الوَقْتِ) إذًا فهمت لماذا بخروج
الوقت؟ لأنهم قالوا: إنه للاضطرار، فيكون محدودا بهذه العبادة في حينها، وفي وقتها،
وفيما احتاج إليه منها.
ولكن لَمَّا قال: (مُطْلَقًا) كان فيه إشارة إلى مسألة مهمة، وهي: لو أنَّ شخصًا
تيمم لقراءة القرآن، وكان تيممه في الساعة "الثانية عشر إلا عشر دقائق" وكان أذان
الظهر في الساعة "الثانية عشر وثمان دقائق" مثلا.
فقرأ حتى الساعة "الثانية عشر وست دقائق" وهذا لا بأس به، ولكن لو جاءت الساعة
"الثانية عشر وتسع دقائق، أو عشر دقائق" وكان لا يزال يقرأ، قلنا له: قف؛ لأنَّ
التيمم الذي تيممت له انتهى وقته، ولابد من تيمم جديد، مع أن هذه العبادة ليست
مخصوصة بوقت، ولكن مع ذلك لَمَّا قال: (مُطلقًا) يعني: ما يعتبر له الوقت وما لا
يعتبر.
فكأنهم حملوها على الصلاة، يعني: أنها مقيدة بقيود، وأشبه ما يكون هذا القيد هو وقت
الصلاة المفروضة، لأنها مشكلة.
من أين أخذ ذلك الفقهاء؟
أخذوه مما جاء عن ابن عباس، أنَّ "من تيمم فدخل عليه وقت الأخرى فليتيمم"، ولذلك
ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وهو آخذٌ بالرواية الثانية عند الحنابلة، والذي يقول:
إن التيمم رافع للحدث، ومع ذلك يقول: الأحوط لمن دخل عليه وقت ثانية أن يتيمم لها.
واضح الآن؟
ولأجل ذلك حتى ولو قيل: من إنه رافع للحدث، فإن التيمم بدخول وقت الثانية قريب جدا،
أو محل اعتبار في أعلى الدرجات، حتى على القول الأخر ليس على الحنابلة، وأما
الحنابلة فشرط لا محالة.
قال بعدها: (بخُرُوجِ الوَقْتِ أو دُخُولِه، ولو كانَ التَّيَمُّمُ لغَيْرِ
صَلاةٍ)، وقوله: (بخُرُوجِ الوَقْتِ) كما لو تيمم شخص لصلاة الفجر، ثم جلس يقرأ
القرآن فطلعت الشمس، فهذا خروج وقت ليس فيه دخول، فنقول: تيمم إذا أردت أن تُصلي
الآن أو أن تُكمل قراءتك في المصحف.
(أو دُخُولِه) يعني: دخول الوقت، يعني: لو دخل عليه وقت الظهر أو نحوها؟
قال: استثنوا من ذلك حالين، ما لم يكن في صلاة الجمعة، فيقولون: إنه إذا كان في
صلاة الجمعة، فإنَّ هذا لو دخل عليه الوقت، يعني مثلا: لو كانوا في صلاة جمعة
وتأخروا فيها، فلما انتهوا من الركعة الأولى خرج الوقت.
الصلاة من حيث المتطهر أو الذي ارتفع حدثه، لا شك أنه أدرك صلاة الجمعة، ولا غضاضة
عليه ولا إشكال، وعليه أن يتمها.
ولكن لو أنَّ أحدهم كان متيممًا، وأنتم تقولون إذا خرج الوقت بطل تيممه، فهذا يُفضي
إلى أنه سيحتاج إلى تيمم جديد، وإذا ذهب ليتيمم من جديد فستفوته الجمعة، وهو لم يكن
منه تفريط؛ لأنه جاء إلى الجمعة في وقتها وحضرها، فيفضي إلى تفويت الجمعة، فاستثنى
ذلك الفقهاء.
طيب هل يسعهم الاستثناء؟
نقول: لَمَّا كانت هذه المسألة مبناها على الاحتياط، فإنَّ الحنابلة -رحمهم الله
تعالى- فعلوا الاحتياط في كل ما يُحتاط له، حتى إذا عارضت المسألة التي يُحتاط فيها
مسألة أقطع من الجهة الأخرى، فإنَّ تفويت الجمعة أشد بلا إشكال، وظاهر ما فيه من
النصوص في تعظيم تفويتها وعدم فعلها، ولأجل ذلك تركوا الاحتياط هنا لمحل ما جاء من
النص هناك.
قال: (أو نَوَى الجَمْعَ في وَقْتِ ثَانِيَةِ مَن يُبَاحُ لَهُ) يعني: لو أنَّ
شخصًا يباح له الجمع، ونوى الجمع على الإطلاق؟ لا. بل نوى جمع التأخير، فبناء على
ذلك يقولون: إذا نوى جمع تأخير، كشخص دخل عليه وقت صلاة الظهر، فنوى أن يؤخر الظهر
إلى العصر، وهو ممن يجوز له الجمع كمسافر أو مريض يجوز له الجمع، فتيمم. فنقول: هذا
التيمم لا يَبطل بخروج وقت الظهر ودخول وقت العصر؛ لأنه في حق هذا الشخص صار
الوقتان بالنسبة إليه وقت واحد.
فيخرج من هذا من كان جمعه جمع تقديم، فإذا خرج وقت الظهر، لو صلى الظهر والعصر
بتيمم جمع تقديم، فإذا خرج وقت الظهر بطل تيممه، واحتاج إلى تيمم إذا كان يريد مثلا
مس مصحف، أو يريد طوافا، أو نحوه.
وأمَّا إذا كان قد تيمم، وهو لا يجوز له الجمع، فهذا أيضًا ظاهر في أنه يبطل تيممه
بخروج الوقت.
{قال -رحمه الله-: (فلا يَبْطُلُ تَيَمُّمُه بخُرُوجِ وَقْتِ الأُولَى؛ لأنَّ
الوَقْتَيْنِ صَارَا كالوَقْتِ الوَاحِدِ في حَقِّه، ويَبْطُلُ التَّيَمُّمُ عَن
حَدَثٍ أَصْغَرَ، بمُبْطِلاتِ الوُضُوءِ، وعَن حَدَثٍ أَكْبَرَ بمُوجِبَاتِه؛ لأنَّ
البَدَلَ له حُكْمُ المُبْدَلِ، وإنْ كانَ لحَيْضٍ أو نِفَاسٍ لم يَبْطُلْ بحَدَثٍ
غَيْرِهِمَا)}.
هنا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما يتعلق بمبطلات التيمم، فما هو من نواقض
الوضوء يعد من مبطلا للتيمم بلا شك، فمن نام بطل تيممه، ومن أكل لحم الجزور بطل
تيممه، ومن خرج من سبيله نقطة بول بطل تيممه، ومن خرجت منه نجاسة كثيرة مثلا من غير
السبيل بطل تيممه، وهكذا.
إذًا كل ما تبطل به طهارة الوضوء من الحدث الأصغر، فإنه يبطل بها التيمم.
وكذلك بالنسبة للحدث الأكبر، كل ما حصل عليه من موجبات الحدث الأكبر فإنها مبطلة
للتيمم، فلو تيمم شخص ثم أجنب، دفق ماؤه بشهوة، سواء بنظر أو بماسة أو بغير ذلك،
بطل وضوؤه، وأيضا من أحدثت بحيض بطل تيممها وهكذا.
ولأجل ذلك قال المؤلف: (وعَن حَدَثٍ أَكْبَرَ بمُوجِبَاتِه)؛ لأن البدل له حكم
المبدل، ولا يختلف في ذلك، ولكن هنا مسألة مُهمة، وهي: ما تيمم له الإنسان إذا
انتقض بالآخر لا يضره، على سبيل المثال: لو أن امرأة تيممت لانقطاع دم حيضها
ليأتيها زوجها، ثم بعد ذلك أجنبت، أو أحدثت حدثا أصغر، فتتيمم للحدث الأصغر، ولا
يحتاج إلى أن تعيد التيمم من أجل الحدث الأكبر.
فيجوز لزوجها حتى ولو بعد الحدث الأصغر وقبل تيممها أن يأتيها؛ لأنها ما دام تيممت
عن الحدث الأكبر فقد استبيح كل ذلك في كل أحوالها، ما لم يأتيها حيض يمنع زوجها من
إتيانها ثم تطهر منه.
ولذلك قال: (وإنْ كانَ لحَيْضٍ أو نِفَاسٍ لم يَبْطُلْ بحَدَثٍ غَيْرِهِمَا) كما
قلنا بالمثال المتقدم، يعني: حتى تكون الصورة واضحة بدقة، الآن هي طهرت من حيضها،
ولا يوجد ماء، أو لا تستطيع استعمال الماء فتيممت، ثم قبل أن يأتيها زوجها خرج منها
ريح! فهل نقول تعيد التيمم لأجل أن يأتيها زوجها؟ الجواب: لا، قد استبيح لها الوطء،
وجاز لها ذلك، وأنه لا يذهب هذا إلا بعود دم الحيض مرة أخرى ثم طهرها منه، فتحتاج
إلى تيمم آخر.
قال -رحمه الله-: (ويبطل التيمم أيضا بوجوب الماء المقدور على استعماله بلا ضرر، إن
كانَ تَيَمَّمَ لعَدَمِه، وإلا فبزَوَالِ مُبِيحٍ مِن مَرَضٍ ونَحْوِه)}.
إذًا هذا شيء زائد على مبطلات التيمم، وهو وجود الماء، فإذا وَجَدَ الماء من كان
عادمًا له، وجب عليه استعمال الماء، وبطل تيممه الذي كان؛ لأنَّ النبي ﷺ قال في
الحديث: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ
الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ،
فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» ، فبناء على ذلك يكون التيمم قد بطل بوجود الماء وإمكان
استعماله.
الحالة الثانية: من كان واجدًا للماء، ولكن كان عاجزًا عن استعماله لعلة أو مرض،
كخوف أو برد، أو لا يوجد معه ما يتغطى به ويحفظ نفسه من شدة البرد، أو نحو ذلك،
فَوُجِدَ غطاء، أو انصرف البرد، أو نحو ذلك، فهنا نقول: بطل تيممه، ووجب عليه
استعمال الماء لا محالة، ولذلك قال: (إن كانَ تَيَمَّمَ لعَدَمِه، وإلا فبزَوَالِ
مُبِيحٍ مِن مَرَضٍ ونَحْوِه) في كما في المثال الثاني.
{قال -رحمه الله-: (ولو فِي الصَّلاةِ فيَتَطَهَّرُ ويَسْتَأْنِفُهَا، لا إن وَجَدَ
ذلك بَعْدَهَا فلا تَجِبُ إِعَادَتُهَا، وكذا الطَّوَافُ)}.
قال: (ولو فِي الصَّلاةِ فيَتَطَهَّرُ ويَسْتَأْنِفُهَا)، هذه من المسائل التي يشير
كلام المؤلف إلى شدة الخلاف فيها، لا في المذهب فحسب، بل بين الفقهاء على اختلاف
مذاهبهم، فإنَّ عادِمَ الماءِ أو غير القادر عليه، إذا قَدِرَ على الماء قبل الشروع
في الصلاة، فبإجماع أهل العلم يجب عليه الاستعمال ولا يدخل في الصلاة إلا بعد
الاستعمال، كما أنه إذا انتهى من الصلاة بتيمم ثم وجد الماء، وقد صلى بتيمم وهو
معذور، ممن يجوز له استعماله، فلا يُعيد الصلاة في قول عامة أهل العلم.
ولكن لو أنَّ شخصا شرع في الصلاة بتيمم، لكونه عادمًا للماء أو عاجزا عن استعماله،
ثم وَجَدَ الماء أو قَدِرَ عليه، وهو في الركعة الأولى، أو في التحيات في الركعة
الأخيرة، سواء بسواء، فهل يستصحب الأصل القريب، وهو أنه دخل الصلاة بوجه مشروع،
فيجوز له أن يتمها ولا ينصرف عنها؟ أو يستصحب أن الصلاة واجبة في ذمته بطهارة
كاملة، وقد قدر عليها، ولم تنزل من ذمته، ولم يتخفف منها بفعلها فيعود فيتوضأ
ونحوه؟
خلاف بين الفقهاء، ولا شك أن القول الذي يقول: إنه دخل على وجه مشروع له اعتباره
وقوته، ولكن على طريقة الحنابلة -رحمهم الله تعالى- أنَّ هذا القول أحوط وأسلم،
أنَّ هذا شخص وجد الماء، ولا تزال الصلاة متعلقة بذمته، فوجب عليه أن يؤديها بكامل
شروطها، ويقولون لأجل ذلك: عليه أن ينصرف من الصلاة ويتوضأ، أو يغتسل إن كان عليه
غسل، ثم يستأنف الصلاة من أولها، على ما ذكر -الحنابلة- في مشهور المذهب عند عندهم،
وهو الموافق لقول الحنفية.
كما قلنا: هذه مسألة فيها خلاف شديد، وكلام كثير، لا إن وجد ذلك بعدها فلا تجب
إعادتها.
(كذلك في الطواف) فإنه قبل الطواف لا شك أنه لا بد أن يستعمل الماء، وبعد الانتهاء
من الطواف لا يُعيد طوافه، ولو أمكنه، ولو كان في سعة من الوقت، ولو كان يسيرا
عليه، نقول: لا يلزمه الإعادة، ولكن لو أمكنه استعمال الماء في أثناء الطواف الذي
تيمم له، فنقول: إن المشهورة من المذهب أنه يُوقف طوافه، ويعيد طهارته، ثم يستأنف
الطواف من أوله؛ لأنه وجب عليه على وجه التمام، وأمكنه فعل ذلك، فلم يجز ببدل الماء
من الاستباحة بالتيمم وفعله في تلك الحال.
{قال -رحمه الله-: (ويُغَسَّلُ مَيِّتٌ ولو صُلِّيَ علَيْهِ وتُعَادُ)}.
هذه مسألة مُستثناة، الآن لو أن هذا الميت لا يوجد ما يُغسل به، فَيُمِّمَ ثم كفن
وجعل ما جعل عليه من حنوط وطيب وغيره وصلي عليه، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
إنه لخصوصية ذلك؛ لأنه يُطلب فيه كمال التنقية والتنظيف، حتى يقدم على ربه في أتم
أحواله، فيقولون: يُعاد تغسيله، والصلاة عليه، ثم يدفن بعد ذلك، لأنَّ تغسيل الميت
يطلب فيه تمام النظافة، وكمال النقاء الذي يُقبل به على -جل وعلا-.
{قال -رحمه الله-: (والتَّيَمُّمُ آخِرَ الوَقْتِ المُخْتَارِ لرَاجِي المَاءِ أو
العَالِمِ وُجُودَهُ ولِمَن استوَى عندَهُ الأَمْرَانِ أَوْلَى؛ لقَوْلِ عَلِيٍّ
-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في الجُنُبِ: يَتَلَوَّمُ؛ أي: يَتَأَنَّى مَا بَيْنَهُ
وبَيْنَ آخِرِ الوَقْتِ، فإنْ وَجَدَ المَاءَ، وإلاَّ تَيَمَّمَ)}.
هذه مسألة مهمة، وهي من كان عادمًا للماء وحضرته الصلاة، فهل يبادر إلى الصلاة
بالتيمم ليدرك فضيلة الوقت؟ أو أنه ينتظر لعله أن يحصل الصلاة بتمامها بالطهارة
بالماء التي هي معتبرة أصالة وشرط من شروطها؟
يقول المؤلف: لا يخلو الحال، إن كان يتحقق أن الماء لا يوجد، فلا شك أنه يصلي
إدراكا لفضيلة الصلاة في أول الوقت، فإذا كان يظن أو يتوقع أو يرجو حصول الماء، فما
الحال؟
فالمشهور من المذهب عند الحنابلة أنه إذا كان يرجو، والرجاء هنا بمعنى الظن الغالب،
أنه يظن ظنًا غالبًا. أو يتحقق من باب أولى، أو استوى الأمران، فإن الانتظار أولى،
لماذا؟ لأنهم يقولون: وإن فات عليه فضل الصلاة في أول وقتها، إلا أنه يرجو إدراك
الصلاة بشرطها الذي هو طهارة الماء، وذلك أعظم.
والحنابلة -رحمهم الله تعالى- استندوا في ذلك إلى قول الصحابي، وهو قول عَليٍّ الذي
يُعتبر قوله أيضًا مما يظن أن يُشهر ويظهر، فهو أقوى، وسنة الخلفاء الراشدين، وهم
أعظم في الاتباع والاقتداء، فلأجل ذلك قالوا: فيما سوى تحقق عدم الماء، فإن انتظار
الصلاة إلى آخر الوقت المختار. أي: ما يؤخرها إلى وقت الضرورة. وليست كل الصلوات
لها وقت اضطرار، وإنما التي لها وقت اضطرار وقتين، وقت العصر من اصفرار الشمس إلى
غروب الشمس، والعشاء من نصف الليل إلى طلوع الفجر، فهذا قوله.
على كل حال، هنا مسألة مهمة، لعلكم تذكرون لَمَّا قلنا لكم: إن البحث عن الماء ذكره
الفقهاء على الصفات التي يحتاجون إليها في هذا الوقت. ما الحد أو ما القدر الذي
تبرأ به ذمة الإنسان أن ينتقل من طهارة الماء إلى التيمم سواء كان في البرية أو كان
عادمًا للماء؟
عندنا مسألة ظاهرة، إذا تحقق عدم وجوده، ولا يمكنه تحصيله إلا بعد خروج الوقت، فلا
إشكال في أنه يتيمم ويصلي.
المسألة الثانية: إذا كان يمكن وجود الماء، ولكن ذلك يقطعه عن طريقه، وعليه كلفة
بعيدة ليس مما يمكنه البحث عنه، ولذلك قالوا: يَبحث في رحله، ما جرت عادته في أموره
الدنيوية أن يذهب إليها كاحتطاب وجمع شيء يحتاج إليه، فإذا كان هذا قدر يحول بينه
وبين حاجته التي يسير فيها، فلا شك أنه يتيمم في مثل تلك الحال.
يعني فيما مضى، القدر الذي يذهب إليه الحاطب، أو الذي يبحث عن بعض ما يأكله أو نحو
ذلك، له حد قريب. ولكن ماذا عن الحد الآن خاصة مع وجود السيارات؟ وحتى ولو كان في
طريق مثلا إلى مكة؟ أو كان في طريق إلى سفر لقضاء حاجة؟
هم قالوا: لا ينقطع انقطاعا يقطعه عادة، ولكن الأشياء التي يمكن إذا نزل المسافر
يذهب ويجيء لها إذا احتاج إلى الماء، مما يجري عادةً الذي نزل إليها، ويقضي وقتا
معتادا فيها، فإنه يذهب ويأتي بالماء إذا ظن وجوده أو عَلِمَ وجوده.
فهناك يمكن نقول إنها مسافة كيلوين أو أكثر قليلا، حيث كانوا ينزلون ويبحثون عن بعض
أشيائهم، وينتقلون إلى ذلك، هذا الوقت كيف؟ 2 كيلو تقطع في دقيقة ونصف، أسرع مما
يحضره الإنسان مما ينزل الماء من رحله فيما مضى.
هل تحفظون شيئا في ذلك؟ الحقيقة أن هذا محرج جدا، ولكن نقول: لا شك أنه إذا كانت له
حاجة يسير فيها ونزوله نزول فقط لتهدئة بعض أموره، فما كان في مثل: ربع ساعة، أو
ثلث ساعة، فقد جرت عادة الناس أنهم يذهبون ويجيئون لإدراك حاجاتهم، يذهب مثلا لينظر
في بعض من نزل من أهل البادية يطلبهم، مثلا ما يوقد به نارا، أو ما نقص عليهم في
وجبة طعام أو نحوها، فإذا كان كذلك فهذا وقت يمكن أن نقول: إنه يلزمه أن يذهب للبحث
عن الماء.
وهذه المسألة في الحقيقة بالنسبة لي، ليست محل تحرير على وجه التدقيق، ولكنها محل
نظر وتفقه.
الحالة الثالثة: وهي الحالة المشكلة، وهي فيما ضبطه الفقهاء في البحث عن الماء، وهي
أكثر ما يحصل للناس في هذا الوقت، ومثالها: أن يكون الإنسان في البرية، نازل في
محله، وهو يعلم أن الماء في هذه الناحية أو هذه الجهة، ويعرف المسافة، ويعرف الوقت
بالتحديد، فهل يلزمه أو لا يلزمه؟
لا شك -هو نازل ليست له حاجة يقصدها-، ليست له جهة ينتقل إليها، هو كالذين يسافرون
أو يتنزهون أو الذين عندهم رعي ورعيهم يذهب، وأشياؤهم مستقرة، وهو باق في محله، لا
شك أنه إذا كان يذهب ويجيء بعد خروج الوقت، فهو كما قلنا في الأولى: عليه أن يتيمم.
ولكن إذا كان يستطيع أن يذهب ويجيء قبل خروج الوقت، فهل يلزمه أو لا يلزمه؟ وقد
يكون ذلك طويلا، يعني: ممكن يذهب ساعة، أو أربعين دقيقة ويرجع مثلها.
والله هي عندي فيمن كان نازلا ولا يحتاج إلى التنقل وليست له حاجة يُقطع عنها، فإذا
كان يدرك ذلك في أقل من خروج الوقت، فهي مسألة مشكلة جدا، فإذا كان يدرك ذلك في
النصف ساعة، يعني: تقريبا إلى خمسين دقيقة، أو ما قاربها ذهابا وإيابا، فلا شك أنه
يذهب، وما أزود من ذلك إلى ما قبل خروج الوقت محتمل.
في شيء عندكم أفيدونا، ليس عندكم شيء فما تصلون إليه من شيء في هذا، فلعلنا أن نعرض
له في مجلس قادم -بإذن الله جل وعلا-.
{قال -رحمه الله-: (وصِفَتُه؛ أي: كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ أَنْ يَنْوِيَ كما
تَقَدَّمَ، ثُمَّ يُسَمِّيَ فيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، وهي هنا كوُضُوءٍ)}.
لَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله- الفروض، أعقب ذلك بالصفة، لأنَّ المكلف قد يعرف
الفروض ولكن لا يعرف طريقة فعلها وما يحصل به تكميلها، فلأجل ذلك قال: (وصِفَتُه)
والصفة هي: كيفية فعل ذلك.
قال: (أَنْ يَنْوِيَ) فإذا التيمم عبادة، والنية مشترطة لكل عبادة، وهي سابقة لأي
عمل فيها، فبناء على ذلك لا بد أن يكون ناويا عند ابتداء التيمم، ولا بد في النية
أن تكون مُقارنة للعبادة، يعني: لا فاصل في ذلك كما ذكرنا، إلا في الصيام، وقد تقدم
الكلام على ذلك.
فإذا ينوي ثم يسمي، واعتبار التسمية أيضا قياسا على الوضوء؛ لأنَّ التيمم بدل عن
طهارة الوضوء، فاعتبر فيها ما يعتبر في الأصل من اعتبار التسمية، وأنها واجب وتسقط
مع السهو والنسيان.
{قال -رحمه الله-: (ويَضْرِبَ التُّرَابَ بيَدَيْهِ مُفَرَّجَتَيِ الأَصَابِعِ
ليَصِلَ التُّرَابُ إلى ما بَيْنَهُمَا بَعْدَ نَزْعِ نَحْوِ خَاتَمٍ ضَرْبَةً
وَاحِدَةً، ولو كانَ التُّرَابُ نَاعِماً فوَضَعَ يَدَيْهِ عليه وعَلِقَ بِهِمَا
أَجْزَأَهُ)}.
قال: (ويَضْرِبَ التُّرَابَ بيَدَيْهِ)، كما قلنا: إنه يُعتبر عند الحنابلة التراب،
«وجُعِلَتْ تُرْبَتُها لنا طَهُورًا» ، وتقدم الكلام على هذه المسألة، هل يكفي مطلق
الصعيد أو يعتبر خصوص التراب؟
إذًا عندهم اعتبار التراب لا محالة، فلا بد من أن يضربها مفرجة الأصابع ليصل التراب
إلى ما بينها بعد نزع خاتم، وهي ضربة واحدة، وهذا نص ما جاء فيه حديث عمار، خلافا
للشافعية وبعض الفقهاء، الذين يقولون: لا بد من ضربتين، على ما رووه عند الدارقطني
وغيره في بعض روايات لا تخلو من ضعف وإشكال.
ولكن عند الحنابلة لو ضرب الأرض ضربتين لا بأس، ولكن الأتم والأكمل الذي جاءت به
الصفة على ما ثبت في الحديث عندهم، أنها ضربة واحدة. ولو كان التراب ناعما، يعني:
فوضع يديه، وعلق بهما أجزاءه.
إذًا ليس المقصود حصول الضرب، ولكنَّ المقصود علوق التراب، يعني: أن يعلق التراب
بباطن كفيه، وهنا يُلحظ أنَّ أكثر من يتيمم في هذا الوقت، لا يصلون إلى تحقيق هذا
القدر وهو حصول التراب في اليد! يعني: يضربون ضربة في أشياء قَلَّ أن يثور غبارها،
وإذا ثار غبارها فهي أثر غبار لا يُمسك باليد. فعند ذلك نقول: لا بد إذًا من تحقق
حصول التراب في باطن كفه، وكيف ما حصل، سواء بقوة ضربة، أو بنعومة تراب، جعل يديه
عليه، فلحق التراب به.
{قال -رحمه الله-: (يَمْسَحُ وَجْهَهُ ببَاطِنِهِمَا أي: ببَاطِنِ أَصَابِعِه،
ويَمْسَحُ كَفَّيْهِ برَاحَتَيْهِ استِحْبَاباً، فلو مَسَحَ وَجْهَهُ بيَمِينِه،
ويَمِينَهُ بيَسَارِه أو عَكَسَ صَحَّ، واستِيعَابُ الوَجْهِ والكَفَّيْنِ واجبٌ
سِوَى ما يَشُقُّ وُصُولُ التُّرَابِ إليه)}.
قال: (يَمْسَحُ وَجْهَهُ ببَاطِنِهِمَا أي: ببَاطِنِ أَصَابِعِه، ويَمْسَحُ
كَفَّيْهِ برَاحَتَيْهِ)، ما معنى ذلك؟
إذا ضرب على التراب، فيمسح وجهه بباطن أصابعه، يعني: يفعل هكذا، ولا يفعل هكذا،
فيصيب وجهه بأطراف أصابعه هكذا، ويشمل المسح لجميع وجهه، سوى ما يضر وصول التراب
إليه. حتى يبقى فيها تراب يستعمل في الكفين، فيمسح بباطن راحتيه كفيه، فيمسح
بالباطن، يعني: هذه صارت للكفين، وهذه صارت للوجه، فيمسح بباطن كفه ظاهر كفيه هكذا،
يبدأ باليمين ثم اليسار، وكيفما مسح أجزأ، بشرط أن يكون قد بقي تراب لها على هذا
الترتيب.
قال: فلو مسح وجهه بيمينه هكذا، ويمينه بيساره، يقولون: أجزأ، ولكن استشكل البعض
فقالوا: وأين مسح اليسار؟ أيا كان لا بد أن تتحقق من استيعاب الوجه والكفين، سوى ما
يشق وصول الماء إليه، كالعينين وأهدابها وأيضا منخره، وداخل فمه، وهكذا.
{قال -رحمه الله-: (ويُخَلِّلُ أَصَابِعَهُ ليَصِلَ التُّرَابُ إلى ما
بَيْنَهُمَا)}.
نعم، عليه أن يخلل الأصابع ليصل التراب إلى ما بينها.
{قال -رحمه الله-: (ولو تَيَمَّمَ بخِرْقَةٍ أو غَيْرِهَا جَازَ)}.
ما معنى تيمم بخرفة؟
جاء بخرقة فيها غبار فمسح بها، فيكون ذلك جائزًا.
{قال -رحمه الله-: (ولو نَوَى وصَمَدَ للرِّيحِ حتَّى عَمَّتْ مَحِلَّ الفَرْضِ
بالتُّرَابِ، أو أَمَرَّهُ علَيْهِ ومَسَحَهُ بهِ صَحَّ؟، لا إِنْ سَفَتْهُ
الرِّيحُ بلا تَصْمِيدٍ فمَسَحَهُ بهِ)}.
قوله: (ولو نَوَى وصَمَدَ للرِّيحِ حتَّى عَمَّتْ مَحِلَّ الفَرْضِ بالتُّرَابِ)
هذه مسألة متكلفة أو لا؟ نقول: لا. كثير من الطلاب يقولون: إن الفقهاء يتكلفون،
ونقول: ربما تكلف الفقهاء في مسائل، ولكن هذه المسائل قليلة، وربما شهرت في بعض
المذاهب، ولكن ليس كل مسألة لا ترى كثرة وقوعها يعني أنها متكلفة، لأنَّ الفقهاء لا
يذكرون المسألة لك، أو لهذا المجتمع، أو لهذا المكان، أو لهذا الزمان. بل لاختلاف
أحوال الناس في أزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم، وما يحتاج الفقيه لمعرفة الحد الأقصى
هنا والحد الأدنى هنا، حتى يعرف ما بينهما مما يدخل في حدود هذه المسألة، أصل في
الفقه والفهم، ولا يتأتى ذلك إلا بذكر المسائل، أقصى المسألة هنا وأقصاها هنا يكون
نادر الوقوع، ولكن الحدَّ لا يعرف إلا بذاك، فإذا ليست هذه من مسائل التكلف أو
التعمق أو ما يدخل في حد ما ذكره الفقهاء من أغلوطات المسائل. لا وحاشا.
إذًا (ولو نَوَى وصَمَدَ للرِّيحِ) يعني: هو يبين أي شيء يحصل به المقصود، حتى عمت
محل الفرض بالتراب، أو أمره عليه ومسحه به، ولكنهم يقولون هنا: مع اعتبار أن يمسح؛
لأن المسح مطلوب، وجاء به الأمر، ﴿وامسحوا بوجوهكم﴾.
(أو أَمَرَّهُ علَيْهِ ومَسَحَهُ بهِ) ما عنى ذلك؟ يعني: ما في ريح، ولكنه جاء إلى
تراب مرتفع مثلا، وجعل وجهه على هذا التراب ثم مسح، يعني: التراب أصاب وجهه ثم مسحه
حتى يعم، فيقولون: يحصل بذلك المقصود.
(لا إِنْ سَفَتْهُ الرِّيحُ بلا تَصْمِيدٍ فمَسَحَهُ بهِ)، يعني: إذا وصل التراب
إلى وجهه بدون أن يقصد هو ذلك، هنا وصل التراب قبل النية، والنية سابقة لابتداء
العمل، فلأجل ذلك لم يدخل في الحد الذي يحصل به التيمم الصحيح، أو العبادة التي
تبرأ بها الذمة.
في مسألة أنا ذكرتها الآن في المبطلات، أنَّ الفقهاء ذكروا، أنَّه لو تيمم شخص ثم
خلع عمامته، أو جبيرته، أو خلع خفة، فلا يَبطل التيمم بذلك؛ لأنَّ التيمم لا يدخل
في مسح هذه الأشياء، فتيممه صحيح، ولا يضره ما خلع من عمامة، أو ما أزال من جبيرة،
أو ما خلع أيضا من خف أو جوارب ونحوها.
لعلنا نكتفي بهذا.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا
محمد.