{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين،
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإيَّاه-: (بابُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الحُكْمِيَّةِ أي:
تَطْهِيرِ مَوَارِدِهَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
هذا الباب الذي عقده المؤلف -رحمه الله تعالى- في: (إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ) مع أنَّ
ما يتعلق بكمال الطهارة لا يزال فيه حاجة إلى التمام، وهو (باب الحيض)، فهو من
مُوجبات الغُسل، ولكنه لَمَّا كان مُختصًا بالأنثى دون من سواها، نَاسَبَ أن يُقدم
إزالة النجاسة باعتبار تعلقها بعموم الجنسين، الذكر والأنثى.
والنجاسة هنا: من نَجُسَ الشيء إذا قَذر، والقذر ما يُستقذر إمَّا طبعًا وحسًا أو
ما يُستقبح عُرفًا، أو ما يُستقبح شرعا، فطبع النفوس جُبلت على استقباح أشياء لا
يُختلفُ فيها، وفي أعراف الناس يتفاوتون في استقباح بعض الأمور دون ما سواها، وليس
هذا هو محل الكلام، بل هو ما استُقْبِحَ واستُقذر شرعًا، فهذا هو الذي يُحكم
بنجاسته، فَيَمْنَعُ من جنس الصلاة، وما تعتبر له الطهارة، مِثل: الطواف، وما يُنزه
عنه المسجد، وما يتجنبه المرء المسلم.
ولذلك كان تجنب النجاسات والبعد عن التلطخ بها لازم وواجب، واستدلوا بما جاء في
الحديث أنَّ النبي ﷺ لَمَّا ذكر الرجلين، وقال: «إنَّهما ليُعذَّبانِ وما يُعذَّبانِ
في كبيرٍ»، ثم قال: «وأمَّا الآخَرُ فكان لا يستنزِهُ مِن بولِه» ، فدلَّ ذلك على
لزوم التخلص من النجاسات، ووجوب مُباعدتها والانفكاك عنها.
والنجاسة إمَّا أن تكون حسية أو معنوية، من وجه آخر، فالنجاسة المعنوية ما يلحق
بالإنسان من اعتقاد فاسد، وإشراك بالله، وما داخل النفوس من أهواءٍ، وحسدٍ، وضغائن
وسواها، فكل ذلك من النجاسة المعنوية.
والحسية ما تعلق بالشرعية على ما ذكرنا، والنجاسة الشرعية قسمان:
إمَّا أن تكون عينية، وهي: الأعيان التي حَكَمَ الشارع بأنها نجسة، فلا مجال في
تطهيرها، كالخنزير والكلب وكالعذرة والبول، وما جاء الحكم بأنه نجس.
وأمَّا النجاسة الحُكمية فهي الأعيان الطاهرة التي طرأ عليها شيءٌ من النجاسات،
كإناء طاهرٍ وَلَغَ فيه كلبٌ، أو وُجِدَ فيه بول آدمي، أو ماتت فيه فأرة، أو نحو
ذلك.
والنجاسة موردها الحيوان، وهل تكون من غيره؟
الجواب: نعم تكون، وإن كان بعضهم قد ذكر أنَّ النجاسة إنما تكون من الحيوان، ولكنها
ربما كانت من غيره أيضًا، ولذلك أجمع أهل العلم على نجاسة الخمر، أليس كذلك؟ مع
أنها من غير الحيوان.
ثم الكلام على الحشيشة، وهل نجسة؟ فالمشهور من مذهب الحنابلة أنها نجسة قياسًا على
الخمر وهكذا، ولكن في الأصل أو في المستقر أنَّ أصل النجاسات من الحيوان، إن آدميًا
أو من البهائم أو سواها.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بابُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ) والإزالة يعني:
رفعها، ومنعها، وإزالتها.
قال: (النَّجَاسَةِ الحُكْمِيَّةِ أي: تطهير مواردها)، وكما قلنا: إن مورد الكلام
في هذا الباب، إنما هو في النجاسة الحكمية؛ لأنها هي التي يمكن تطهيرها، ولكن لا
يُتصور أن يُؤتى بِعَذِرَة ومَهما جُعِلَ لها من المعقمات أو المطهرات فإنها تبقى
نجسة، ما دام يبقى جزء من أجزائها. ولأجل ذلك كان محل الكلام إنما هو في
(النَّجَاسَةِ الحُكْمِيَّةِ) التي يمكن تطهيرها.
{قال -رحمه الله-: (يُجْزِئُ في غَسْلِ النَّجَاسَاتِ كُلِّهَا، ولو مِن كَلْبٍ أو
مِن خِنْزِيرٍ، إذَا كَانَت على الأرضِ، وما اتَّصَلَ بها مِن الحِيطانِ
والأَحْوَاضِ والصُّخُورِ، غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ تَذْهَبُ بعَيْنِ النَّجَاسَةِ،
ويَذْهَبُ لَوْنُهَا ورِيحُهَا، فإنْ لم يَذْهَبَا لم تَطْهُرْ ما لم يَعْجَزْ)}.
هذا أول الكلام على النجاسات، وبدأ بما هو ظاهر حُكمه، مستقر علمه، وهو النجاسة على
الأرض وما في حكمها، كالجدران، والأحواض، ونحوها، فإذا أَصَابَ شيءٌ مَن ذلك نجاسة
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: الطريق إلى إزالة نجاستها وتطهيرها المكاثرة
بالماء، وأصل ذلك ما جاء في حديث الأعرابي لَمَّا قال النبي ﷺ: «أَرِيقُوا عَلَى
بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أو ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ» ، فدلَّ ذلك على أنَّ النجاسة
تكون على الأرض وما في حكمها، تطهر بمكاثرة الماء عليها.
والسجل هو الدلو فيه ماء، والذنوب إذا امتلأ، والدلو إذا كان فارغًا من الماء،
وبعضهم عكس -نقل هذا وليس بمستقر، ويحتاج إلى تأكدٍ- أنَّ الذنوب هو الذي فيه ماء،
والسجل هو الممتلئ ماءً. فعلى كل حال هذه فائدة عارضة.
والمهم أنَّ النجاسة إذا كانت على الأرض وما في حكمها، فتطهيرها بمكاثرة الماء،
بشرط -وهو ما ذكره المؤلف- (غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة)، فإذا بقيت أعيان
النجاسة فإنَّ النجاسة باقية، والطهارة مُنتفية.
وإذا وجدت أعيان النجاسة قطعنا بوجود النجاسة، وإذا لم توجد النجاسة ولكن وجد
طعمها، فإنَّ الطعم قاطع أيضًا على وجود النجاسة، ولو لم نر نجاسة أو أعيانا منها
ولو صغيرة.
فإذا لم توجد العينُ ولم يوجد الطعم فينظر هنا، فإذا بقي لون أو ريح -الريح أشد
واللون أخف- فإنه دالٌ على بقاءِ النجاسة، ولذلك لا بد من إزالتها حتى يذهب الريح
واللون، ولكن قال أهل العلم: إذا عَجَزَ عن إزالة الرائحة أو اللون، فإنه يُعفى
عنه؛ لأنَّ الصحابية لَمَّا سألت النبي ﷺ عن دم الحيض أمرها بغسله، قالت: فإنه يبق
أثره، قال: «يَكْفيكِ الماءُ، ولا يضرُّكِ أثرُهُ» ، فأخذ من هذا أهل العلم، أنَّه
إذا تعذر إزالة الريح واللون، فإنه يُعفى عنه، وتحصل الطهارة ويحكم بها.
وهذا بخلاف الطعم أو العين، فإنه بالاتفاق أنَّ النجاسة باقية، والحكم بالطهارة
منتفٍ.
قال: (فإنْ لم يَذْهَبَا لم تَطْهُرْ ما لم يَعْجَزْ) الأصل هو ذهاب النجاسة
وأوصافها، والنجاسة يعني: عينها، وأوصافها الثلاثة، وأبلغها الطعم ثم الريح، ثم
اللون، فأخفها اللون.
وبناء على ذلك إذا زالت عين النجاسة، ثم زال طعمها، وزالت جميع أوصافها؛ حَكَمنا
بالطهارة قطعًا.
وإذا بقي العين أو الطعم حَكمنا ببقاء النَّجاسة قطعًا، وإذا ذهب الطعم والعين وبقي
اللون والريح، فإن لم نعجز فالنجاسة باقية، ثم إذا عجزنا بحيث أنه لا يَخلُ من بقاء
أثرٍ، أو بقاء بعض رائحة، فإنه عند العجز يُعفى عن ذلك ويحكم بالطهارة.
{(وكذا إذا غُمِرَت بمَاءِ المَطَرِ والسُّيُولِ لعَدَمِ اعتِبَارِ النِّيَّةِ
لإزَالَتِهَا)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (سواء كانت إزالة النجاسة بالصبِّ)، يعني: مع
القصد، أو كان ذلك بالزوال، بالموافقة وحصول ذلك بدون قصد، فلو جاءت مياهُ الأمطار،
أو انفجرت ساقية فدخلت على هذه الغرفة، فغمرت أرضها، وكان فيها بول فأزالته،
فَيُحْكَم بالطهارة لماذا؟ لأن إزالة النجاسة لا يُشترط فيه النية والقصد، لكون
بابها ليس باب العبادة، وإنما بابها باب التروك والتخلي أو الخلاص منها، فيحصل ذلك
بزوالها كيفما كان.
{قال -رحمه الله-: (وإنَّمَا اكتُفِيَ بالمَرَّةِ دَفْعاً للحَرَجِ والمَشَقَّةِ؛
لقَوْلِه ﷺ: «أَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أو ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ»
مُتَّفَقٌ علَيْهِ)}.
أين المشقة في هذا؟ قال أهل العلم: إن الأرض هي ما ترد إليه الأشياء وتستقر فيها
الأمور، فليست مثل الأشياء المنقولة من ثوبٍ أو إناءٍ أو غيره، فيسهل التخلص قطعًا
من النجاسة، وأمَّا الأرض فهي مورد الأشياء كلها، فلأجل ذلك اقتُصِرَ على مُكاثرة
الماء فيها، ودفعت المشقة الحاصلة بكون الأرض محل ورود الأشياء واستقرارها.
{(فإِنْ كانَت النَّجَاسَةُ ذَاتَ أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ كالرِّمَمِ والدَّمِ
الجَافِّ والرَّوْثِ، واختَلَطَت بأَجْزَاءِ الأَرْضِ، لم تَطْهُرْ بالغَسْلِ، بل
بإِزَالَةِ أَجْزَاءِ المَكَانِ، بحَيْثُ يَتَيَقَّنُ زَوَالَ أَجْزَاءِ
النَّجَاسَةِ)}.
كما ذكرنا قبل قليل، أنه إذا وجدت أعيان النجاسة، فالنجاسة باقية بكل حال، ومهما
صُبَّ عليها من الماء فإنها لا تطهر، ما دامت هذه الأعيان باقية.
ولأجل ذلك لا بد من اجتثاث أعيانها، إمَّا بأن تلقط، وإمَّا أن تُحمل مع ما حاذاها
حتى نتيقن بأنه لا تبقى عين من أعيانها، وإلا فإذا بقي عين النجاسة فالنجاسة باقية.
ولذلك قال: (بحَيْثُ يَتَيَقَّنُ زَوَالَ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ)، فمتى ما بقيت
عين ولو صغيرة جدًا فالنجاسة باقية.
{(ويُجْزِئُ في نَجَاسَةٍ على غَيْرِهَا؛ أي: غَيْرِ أَرْضٍ سَبْعُ غَسْلاتٍ
إِحْدَاهَا؛ أي: إِحْدَى الغَسْلاتِ، والأُولَى أَوْلَى بتُرَابٍ طَهُورٍ، في
نَجَاسَةِ كَلْبٍ وخِنْزِيرٍ وما تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أو مِن أَحَدِهِمَا لحَدِيثِ:
«إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً أُولاَهُنَّ
بالتُّرَابِ» رواهُ مُسْلِمٌ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعاً.
ويُعْتَبَرُ مَا يُوصِلُ التُّرَابَ إلى المَحَلِّ ويَسْتَوْعِبُه به إلا فيما
يَضُرُّ فيَكْفِي مُسَمَّاهُ)}.
هذا انتقال من المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى حُكمٍ خاص في نجاسة من النجاسات وكيفية
تطهيرها، وهي نجاسة الكلب وما يُلحق به، فنجاسة الكلب عند أهل العلم نجاسة مُغلظة،
وذلك اعتبارا بما جاء في الأحاديث التي في الصحيحين، أنَّ النبي ﷺ أمر بغسلها سبع
غسلات إحداها بالتراب، فدل ذلك على أنَّ هذه النجاسة نجاسة مُغلظة، أو نجاسة
مخصوصة، لا يحصل تطهيرها إلا بهذه الأشياء.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ويُجْزِئُ في نَجَاسَةٍ على غَيْرِهَا؛ أي:
غَيْرِ أَرْضٍ)، يعني: لو كانت نجاسة هذه الأشياء على الأرض، فإن حكمها حكم نجاسة
الأرض، وهو بالمكاثرة بالماء، فإنه في الحديث الذي في الصحيح، أنَّ الكلاب كانت
تُقبل وتدبر في مسجد رسول الله ﷺ، وجاء في بعض الروايات -عند الترمذي- وتبول، ولم
يُذكر أنها كانت تُغسل سبعًا، ولا يُؤمر فيها بما أُمِرَ في هذه الخصوص بالتسبيع
والتتريب.
فَعُلِمَ أنَّ نجاسة الكلب إنما يطلب فيها التسبيع والتتريب إذا كانت على غير
الأرض، وهذا استثناء من الشارح وتوضيح لمحل الحكم.
قال: إذا كانت على غير الأرض (سَبْعُ غَسْلاتٍ إِحْدَاهَا؛ أي: إِحْدَى الغَسْلاتِ،
والأُولَى أَوْلَى بتُرَابٍ طَهُورٍ في نَجَاسَةِ كَلْبٍ). ووجه ذلك: لَمَّا قال:
(في نجاسة كلب) يعني: في أي نجاسة من نجاسة الكلب، سواء كان ذلك بولوغه، الذي هو ما
يخرج عند شربه للماء وتحريكه لفمه من لعاب ونحوه، أو كان ذلك من بول، أو كان ذلك من
عذرة، أو كان ذلك من عرق، أو كان ذلك من شيء من أجزائه، كشعر وسواه. فكل ذلك داخلٌ
في حكم التسبيع والتتريب.
والحنابلة قالوا في ذلك: إنَّ النبي ﷺ قال: «إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ» ولعاب الكلب
أخفُّ من بوله ومن عَذِرَتِه، ولأنه أُذِنَ بالصيد به، فَعُلِم بذلك أنَّ هذا
اللعاب هو أخفُّ ما فيه من نجاسة، فإذا كانت هذه النجاسة مع كونها مخففة أو معفوٌ
عنها في بعض الأحوال، كحال الصيد، عُلِمَ أن ما سواها من أجزائه أشد، وداخلٌ في
الحكم من باب أولى، فلذلك قالوا: "سبعًا إحداها بالتراب".
(والأولى أولى) يعني: أن يكون التتريب في الأولى؛ لأنه جاء في الحديث «أولاهن
بالتراب»، وما جاء في رواية: «إحداهن» فيقولون: إنها مجملة محمولة على المفصلة،
وهي: الأولى، وأنَّ «أخراهن» فيها ما فيها من علة، أو قالوا: إنها أقل؛ لأنها في
مسلم، والأخرى في الصحيحين، وهذا من جهة النظر الحديثي.
أمَّا من جهة النظر الفقهي فقالوا: إنَّ التتريب في الأول أولى؛ لأنه يكون بعد ذلك
تعاقب الماء عليه، فيكون أذهب للنجاسة، وأنقى للمحل، ولكنهم لم يُلزموا به خلافًا
لبعض أهل الحديث والفقهاء، الذين ألزموا بأن تكون الأولى هي التي يكون فيها
التتريب.
ثم بعد ذلك ألحق الحنابلة الخنزير بالكلب، وقالوا: إنه شرٌّ منه، وأشد منه نجاسة،
وجاءت الأدلة في أنه مُستقذرٌ على وجهٍ آكد من الكلب. وكأنهم يجيبون على سؤال،
فَلِمَ نُصَّ على الكلب ولم يُنَص على الخنزير؟!
قالوا: إنه جرت العادة في أنَّ الناس يختلطون بالكلاب ويحتاجون إليها في حراسة وفي
سواها، ويأنسون بها، فدلَّ ذلك من باب أولى على أنَّ نجاسة الخنزير كنجاسة الكلب في
التسبيع والتتريب من حيث إنه أشدُّ نجاسة، وأبلغ فيما جاء في النص في استقذاره
والبعد عنه.
وإن كانت الرواية الثانية عند الحنابلة، وقال بها كثير من أهل التحقيق، وعليها
الفتيا السائدة في زماننا: أنَّ الحكم مُتعلقٌ بالكلب، وربما خصَّ أيضا بالولوغ.
فعلى كل حال، وجه إلحاق الحنابلة للخنزير بالكلب هذا.
ثم قال: (وما تولد منهما)، يعني: أولادهما، وقد يُفهم من ذلك أيضًا ما يكون من كلبٍ
مع غيره، كما كان ابن كلب وذئب، فيدخل في ذلك على طريقتهم في التحوط والتغليب.
إذًا هذا فيمن تولد من أحدهما، وقالوا أيضا: إنه ما تولد من جُرح فيه، كذلك لو خرج
الدود من جُرحٍ في الكلب، فحكمه حكم الكلب في أنه يَحتاج إلى تسبيع وتتريب.
ثم قال: (ويُعْتَبَرُ مَاءٌ يُوصِلُ التُّرَابَ إلى المَحَلِّ)، وفي بعضها:
(ويُعْتَبَرُ مَا يُوصِلُ التُّرَابَ إلى المَحَلِّ) وبينهما فرق، فالمشهور من
المذهب عند الحنابلة أنه لا بد مع التتريب من ماء، فلا يكون مائع آخر، يعني: ما
يوضع مثلا بعض المعقمات مع التراب ثم يغسل للغسلات السبع، بل لابد أن يكون مع
التراب ماء، لا مائع ولا ذر، يعني: بأن يُذر التراب فقط، ثم بعد ذلك يُشرع في
الغسلات، بل لا بد أن يُجعل معه ماء، فَيُعَمَّ به المحل، إلا ما لا يمكن كنحو عينٍ
أو نحوه بما يحصل به مضرة.
ولأجل ذلك قالوا: إنه يعتبر ماء يوصل التراب إلى المحل، وكأنه يشير بذلك إلى عدم
حصوله بمائع، ولا بما دون ذلك، إشارة إلى بعض أقوال في المذهب، نحى إليها صاحب
الفروع أو بعض الحنابلة -رحمهم الله تعالى- في الاكتفاء بالمائع أو الاكتفاء بذر
التراب.
ثم قال: (ويَسْتَوْعِبُه به إلا فيما يَضُرُّ) كما لو كان على عين، أو محلٍ لا
يُمكن تعميم التراب عليه.
(فيَكْفِي مُسَمَّاهُ) يعني: أن يمر عليه، أو أن تحصل الإصابة ولو من وجه بعيد.
{(ويَجْزِي عَن التُّرَابِ أُشْنَانٌ ونَحْوُه، كالصَّابُونِ والنُّخَالَةِ)}.
قال: (ويَجْزِي عَن التُّرَابِ أُشْنَانٌ ونَحْوُه)، هذا هو مشهور المذهب عند
الحنابلة، وكأنهم نظروا إلى أن الأشنان وما في حكمه، أبلغ في التطهير من التراب،
هذا من حيث النظر الفقهي، خلافًا لما آل إليه الأمر، في بعض ما وصل إليه العلم
بخصوص التراب، واعتبار أنه في لعاب الكلب ونجاسته ما لا يُزيله إلا التراب، وما لا
يرفعه إلا التتريب ونحوه، فهذا شيء آخر، ولكن نظر الفقهاء من حيث الأصل قالوا: إنَّ
ما سوى التتريب من الأُشنان وغيره أولى به من حيث حصول الإنقاء والتطهير. ولأجل ذلك
كان إشارة إلى أنه يحصل به من باب أولى.
والأشنان ما هو؟
الأشنان قالوا: إنها كلمة غير عربية، وهو نوع يسمونه: "حرض" أو كذا، نوع من النبات
تستخرج منه بعض المواد التي يحصل بها التغسيل، وهي تسمى الآن في العلم الحديث:
الصودا أو كذا، يحصل بها الإنقاء والتغسيل، كان يعرفها الفقهاء قديما، وإن لم
يعرفوا اسم هذه المادة أو يتقيدوا بذلك.
(ونَحْوُه) أي: ونحو الأشنان، فسر ذلك الشرح بالصابون، والصابون أيضا كلمة فارسية،
هي عندهم "سابون"، ويحصل به التطهير على ما هو معلوم.
قال: (والنخالة) والنخالة هو قشر بعض المطعومات من قمح وسواه، أيضًا لها قوة على
إزالة النجاسات ونحوها.
{(ويَحْرُمُ استِعْمَالُ مَطْعُومٍ في إِزَالَتِهَا)}.
(ويَحْرُمُ استِعْمَالُ مَطْعُومٍ في إِزَالَتِهَا) أي: في إزالة النجاسة، وذلك
لأنَّ المطعومات، وهذه مسألة فيها كلام كثير، ولكن من حيث الأصل أنَّ المطعومات
لها: أول شيء منفعة، فإزالة النجاسة بها إذهاب لمنفعتها، وأنها أيضًا مُكرمة ففيها
إهانة لها وابتذال.
ولأجل ذلك قالوا: إنه لا يجوز، ولهذا نهى النبي ﷺ عن الروثة والعظم، قال: «فإنها
زاد إخوانكم من الجن» ، والروث طعام دوابهم، فإذا حُفِظَ ذلك في دواب الجن وفي طعام
الجن، فمن باب أولى أن يُحفظ في طعام الإنس وما يحتاجون إليه، فلا يُقدَّر عليهم
طعامهم، ولا تُذهب منفعته، وتفوت فائدته.
لكن هنا لا بد أن تعلم أنَّ المسألة على أحوال، أو يُقصد بها أشياء:
أولا: الماء مع كونه مطعوما فإنه لا شك أنه يحصل به الإزالة، وهو جاءت به النصوص،
والإجماع منعقد عليه، ومثل ذلك أيضا: ما يكون معه من مِلحٍ، فإنَّ الحديث فيه أنَّ
النبي ﷺ أمر بإضافة مِلحٍ، ومن المعلوم أيضا أن الملح له خاصية في قوة إزالة
الأقذار وما يشتد منها.
ثُمَّ ما سِوى ذلك من مثلا مطعومات ونحوها، فإنها مُنزهةٌ عن أن تُزال بها
النجاسات، فإن احتيج إلى نحو قشر الرمان، أو بقاء بقايا ليمون، أو قشر البطيخ أيضا
نص عليه الفقهاء، فيقولون: إنه ولا بأس بذلك في غير ما نجاسة، يعني: تنزيهًا له
وتكريمًا في غير ما نجاسة، يعني: الاستحمام به، أو تنظيف الجسد به ونحو ذلك. فإن
اضطر أو احتيج إلى ذلك فقالوا: يجوز، يعني: إشارة إلى الماء، ولكن من حيث الأصل
فإنَّ ذلك محرمٌ، وهذا هو مشهور المذهب، خلافا للقول الآخر بأنه مكروه، وهو قولٌ
لبعض الفقهاء كالمالكية.
{(ويُجْزِئُ في نَجَاسَةِ غَيْرِهِمَا؛ أي: غَيْرِ الكَلْبِ والخِنْزِيرِ أو ما
تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أو مِن أَحَدِهِمَا سَبْعُ غَسْلاتٍ بمَاءٍ طَهُورٍ، ولو
غَيْرِ مُبَاحٍ، إن أَنْقَت وإلاَّ فحَتَّى تُنْقِيَ معَ حَتٍّ وقَرْصٍ لحَاجَةٍ
وعُسْرٍ معَ إِمْكَانِ كُلِّ مَرَّةٍ خَارِجَ المَاءِ، فإِنْ لم يَكُنْ عَصْرُه
فبدَقِّهِ وتَقْلِيبِه أو تَثْقِيلِه كُلَّ غَسْلَةٍ حتَّى يَذْهَبَ أَكْثَرُ ما
فيه مِن المَاءِ، ولا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أو رِيحٍ أو هما عَجْزاً، بِلا
تُرَابٍ لقَوْلِ ابنِ عُمَرَ: أُمِرْنَا بغَسْلِ الأَنْجَاسِ سَبْعاً، فيَنْصَرِفُ
إلى أَمْرِه ﷺ، قالَهُ في المُبْدِعِ وغَيْرِه)}.
هذا شروعٌ من المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحكم الثالث، وهو: النجاسات على غير
الأرض، من غير نجاسة كلب وما أٌلحق به.
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: فإذا كانت النجاسات على ثيابٍ أو على بدنٍ أو على
إناءٍ أو ما في حكم ذلك وما ماثله، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنَّ إزالة
النجاسة تحصل بأمرين، بالتسبيع والنقاء، فلو حصل نقاءٌ بدون ما تسبيع فلا يحصل بذلك
تطهير، ولو أكمل سبع غسلات لكن لم يحصل بذلك إنقاء للنجاسة وذهاب لها، فبقي شيء من
عينها، أو طعمها، أو بعض أوصافها، فلم يحصل التطهير.
لقائل أن يقول: قبل أن نأتي إلى تفصيلات أخرى، من أين أتوا بهذا التسبيع؟ هل مما
جاء في حديث ابن عمر؟ لا. هم ما أخذوا من حديث ابن عمر فقط، حديث ابن عمر الذي ذكره
الشارح إنما هو على سبيل التبع، فأخذوا ذلك مما جاء في الأحاديث التي في الصحيح
ومنها التي قبل، حديث نجاسة الكلب سبع إحداها بالتراب، فكأن فقهاء الحنابلة -رحمهم
الله تعالى- فهموا من ذلك أنَّ نجاسة الكلب مخصوصة بالتتريب، وأنَّ ما سواها من
النجاسات في غير الأرض مطلوب فيها التسبيع.
ثم أيدوا ذلك بما جاء في أثر ابن عمر، وإن كان الكلام فيه معلومًا من حيث عدم
ثبوته، وكلام أهل العلم في رده، والمبالغة في تضعيفه أو وضعه.
فكأنَّ الحنابلة فهموا أنَّ التسبيع معتبر لكل نجاسة في غير الأرض، وهذا يُفهم من
حديث الصحيحين، وأن الكلب وجه التخصيص فيه إنما هو في التتريب، فاعتبروا غسل
الأنجاس سبعًا، واعتبار ذلك الشرط للحكم بالطهارة مع حصول النقاء، وهذا هو مشهور
المذهب عند الحنابلة -رحمهم الله-، وإن كانت الفتوى كما هو قول ابن تيمية، وقول
كثير من أهل التحقيق، وأكثر أهل العلم على أنَّ على التسبيع غير مُشترط، وإنما
المعتبر فيها حصول النقاء بزوال عين النجاسة وأوصافها.
وهنا قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: (بماء طهور)؛ لأنه إذا كان الماء نجسًا، فإنه
إذا كان نجسًا في نفسه، فأنى له أن يحصل له دفع النجاسة عن غيره؟ هذا ظاهر لا إشكال
فيه.
قال: (ولو غير مباح) يعني: حتى ولو كان هذا الماء مغصوبا أو مسروقا، أو نحو ماء شرب
موقوف على الشرب أو نحوه، فلو أزيلت به النجاسة، فإنه يحكم بزوالها، وطهارة العين
التي أزيلت بها مع حصول الإثم.
لماذا أيها الحنابلة قلتم بحصول الطهارة هنا، مع أنكم تقولون: لو توضأ بماء مغصوب
لم يصح وضوءه؟ لأنَّ ذاك من باب العبادة، فلا تصح إلا بماء مُباح، وأمَّا هنا فبابه
باب التروك، فلذلك قالوا: إنه يحصل التطهير، ولو كان الماء مغصوبًا، أو مسروقًا، أو
غير مُباحٍ بوجهٍ من الوجوه.
قال: (إن أنقت) هذا إشارة إلى الشرط الثاني، وهو لا إشكال فيه عند جميع أهل العلم،
أنه لا بد من حصول النقاء بالغسل، سواء قيل بالتسبيع أو قيل بسواه، فمن قال بعدم
التسبيع فيقول: لابد من حصول الإنقاء بزوال عين النجاسة وأوصافها، ومن قال بالتسبيع
فيشترط: حصول السبع، وحصول الإنقاء، فلا يحصل طهارة ولو إذا أنقى بدون السبع حتى
يتم سبعًا، ولا يحصل طهارة إذا غسل النجاسة سبعًا ولم يحصل لها طهارة، بل لا بد أن
يُكملها.
ثم بين الشارح -رحمه الله تعالى- كيف يحصل النقاء؟ ثم قال: (إن أَنْقَت، وإلاَّ
فحَتَّى تُنْقِيَ معَ حَتٍّ وقَرْصٍ لحَاجَةٍ)، الحتُّ ما هو؟ قالوا: هو الحتُّ
بنحو عود ونحوه، والقرص قالوا: هو الدلك والدعك بأطراف الأصابع، والعصر: بأن تُجمع
أطراف المغسول وتعصر، يعني تُلوى حتى يتخلص منها الماء وينفصل.
قال: (كل مرة خارج الماء) ما معنى خارج الماء؟
يعني لو افترضنا أنَّ هذه الطاقية نجسة، وجعلتها في إناء صغير تغسلها، إذا عصرت
وأنت في داخل الماء لا يحصل بذلك تطهير، فحقيقة الغَسل لابد إذا أدخلتها داخل الماء
تخرجها من الماء فتعصرها حتى تنفصل النجاسة. فلا بد مع كون المعصور أن يكون خارج
الماء، فما يحصل -وهذا كثير من عصر المغسول داخل الإناء أو داخل الماء- لا يحصل به
تطهير إذا كانت عن نجاسة، يحصل به النقاء من قذر، ولكن إذ افترض أنَّ في الماء نجس،
فإنه لا يحصل به التطهير.
وهذا في الحقيقة مشكل جدا، كيف؟ غسالات الملابس يحصل فيها عصر لكنه عصر مع وجود
الماء أو مع بقاء الماء، ولذلك شُهِرَ فيما مضى -لكن الآن انتهى- عند الأمهات أنه
كن يُسبعن الملابس. ما معنى يسبعن؟ يعني: يغسلنها سبعا، فإذا انتهت من غسلها
بالصابون تخرجها ثم تغسلها بالماء، وبهذا يحصل بلا شك التطهير.
فعلى هذا إذا كان في الثوب نجاسة فلابد من عصره قبل أن يدخل في هذه الغسالات، أو أن
يغسل بعد أن يخرج، وأمَّا حصول التغسيل والتحريك مع وجود الماء، وهي في آنٍ واحد،
فعلى كلامهم أنَّ ذلك لا يحصل به التطهير، إلا إذا قلنا إنَّ الغسالة -لأنها أنواع
كثيرة- تُفرغ الماء ثم تعود لصب ماء جديد فتغسله مرة ثانية.
فإذا كان على هذه الحال، فإن المقصود قد حصل، والعصر قد وقع، وما دام أنه لا يُشترط
التسبيع فيحصل بذلك التطهير، وأمَّا إذا اشترطنا التسبيع فلابد إمَّا أن تكون هذه
الغسالة تغسل سبع مرات وإلا فلا.
قال: (فإِنْ لم يَكُنْ عَصْرُه فبدَقِّهِ وتَقْلِيبِه) يعني: إذا كان ثقيلا مثل:
الزل، فلابد من تقليبه، يعني: بأن يرفع واحد وثاني يضربه حتى يتقاطر منه الماء،
وتنفصل منه النجاسة.
فإذا كان أثقل من ذلك، فيقولون: تثقيله بالماء؛ لأنه إذا صُبَّ عليه ماء، فاستشرب
هذا الماء، ثم صُبَّ عليه ماء آخر، انفصل الماء الأول، فيقولون: إن هذا تثقيل له،
فيحصل كل غسلة بالتثقيل الذي يُعرف أنه انفصل الماء الذي قبل.
ثم قال: (ولا يضر بقاء لون أو ريح أو هما عجزًا) هذا كما قلنا في المسألة الأولى،
إذا كانت على الأرض، فإذًا لا بد من زوال عين النجاسة وطعمها إجماعًا في كل حال،
ولا بد من زوال بقية أوصافها، وهو الريح والأثر -اللون- ولكن إذا عُجِزَ عنهما أو
أحدهما لا يمنع من حصول الطهارة بعد العجز، فيحكم بطهارة ذلك الثوب، أو ذلك الزل أو
ما سواه.
ثم قال: (بلا تراب) فلا يُحتاج إلى التتريب، يعني المقصود هنا: (بلا تراب) يعني:
على سبيل الوجوب واللزوم، وإلا فكل ما كان منه زيادة في تحصيل النقاء، فَحَصَّلَه
المكلف، كان ذلك أوفى بتحصيل المقصود، والوصول إلى المراد، وتمام أو كمال الطهارة،
فيكون مأجورًا على ذلك مًثابًا.
ولكن لا يُشترط في هذا الغسل تتريب من حيث الأصل، وإن كان المكلف كلما طلب ما يحصل
به تمام النقاء وكماله، فإن ذلك مما هو تحقيق للمطلوب الشرعي، وطلب لحصول الأجر
والثواب.
{(وما تَنَجَّسَ بغَسْلِه يُغْسَلُ عَدَدَ مَا بَقِيَ بَعْدَهَا معَ تُرَابٍ في
نَحْوِ نَجَاسَةِ كَلْبٍ إن لم يَكُن استُعْمِلَ)}.
(وما تَنَجَّسَ بغَسْلِه) الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فيهم دقة بالغة، وإتيان على
المسائل كلهاـ وهذه المسألة لا ينفك منها أحد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
(وما تَنَجَّسَ بغَسْلِه) يعني: في بعض الأحوال إذا جاء الإنسان يغسل هذا المكان،
فأول ما يبدأ في الغسل تنتشر النجاسة، أليس كذلك؟ فهذا الموضع الذي انتقلت إليه
النجاسة، ربما انتقلت إليه في الغسلة الأولى، وربما انتقلت إليه في الغسلة الثالثة،
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: لا يُشترط أن يبتدئ لِمَا انتقل إليه سبعًا أخرى
بل يكمل.
وإذا كانت في نجاسة كلب أو خنزير، فإن كان ما تَرَّبَ فيلزمه إذا أراد أن يُتَرِّبَ
أن يشملها بالتتريب، وإذا كان قد ترَّب وانتقال هذه النجاسة بعد التتريب فيكفي فيها
ما بقي من غسلات أن تُشمل بها.
فإذا كان انتشار النجاسة مثلا في الغسلة الخامسة، فيكفي السادسة والسابعة إذا حصل
الإنقاء، وإذا كان انتشار النجاسة في الثانية، فما يكون بعد ذلك من غسلات يحصل به
التطهير إذا حصل الإنقاء.
وكذلك إذا كانت غير نجاسة كلب وخنزير، إذا اشترطنا التسبيع، فما بقي من الغسلات مع
حصول النقاء، وهذا قيد معتبر في كل شيء.
فإذا لم نشترط التسبيع فبقدر ما يحصل به الإنقاء وزوال النجاسة.
{(ولا يَطْهُرُ مُتَنَجِّسٌ، ولو أَرْضاً بشَمْسٍ ولا رِيحٍ ولا دَلْكٍ، ولو
أَسْفَلَ خُفٍّ أو حِذَاءٍ أو ذَيْلِ امرَأَةٍ، ولا صَقِيلٍ بمَسْحٍ)}.
هذا انتقال من المؤلف -رحمه الله تعالى- إلى مسألة أخرى، وهو أن إزالة النجاسة في
المشهور من المذهب عند الحنابلة، لا يكون إلا بالماء، ولا يحصل بشيء سواه، مهما
بلغت درجة الإنقاء والتعقيم، لا فيما عرف فيما مضى ولا فيما جَدَّ فيما حدث، فإنَّ
النجاسة حُكمٌ شرعي، والتطهير كذلك، وجاء الشرع بأن التطهير لا يتأتى إلا بالماء
على ما فهمه الحنابلة وسبروه من الأدلة، فقال: «يَكْفيكِ الماءُ، ولا يضرُّكِ
أثرُهُ»، وقوله: «أَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أو ذَنُوباً مِنْ
مَاءٍ».
فقالوا: إن النصوص دلت على أنَّ الماء هو الذي يُزيلُ النجاسات، فحكمنا بذلك، لا
تزول النجاسة بشيء سواه.
وكأنَّ الحنابلة والشارح -رحمهم الله تعالى- استحضروا ما جاء في بعض النصوص، أو ما
استدل به الحنفية، ومن ذهب مذهبهم من الحنابلة، كابن تيمية وغيره، فيما يتعلق بأسفل
الخف، فإنَّ النبي ﷺ أَمَرَ بأن يفركهما فإن ذلك لهما طهور، كما جاء في الحديث.
وفي ذيل المرأة لَمَّا ذكرت أنها تلقي ذيلها وتمر بالقذر، فقال النبي ﷺ: «يطهره ما
بعده»، فكيف أيها الحنابلة تقولون: إنه لا يحصل تطهير النجاسات إلا بالماء، مع أن
النبي ﷺ حَكَمَ أنَّ هذه طاهرةٌ بما تصيبه من تراب، أو بما يحصل من فرك ونحوه على
الأرض، وما ظهر على صعيدها؟
فكأنهم يقولون: إنَّ الحكم في ذلك إنما هو على سبيل الرخصة، فكأنهم يقولون: إنَّ
النجاسة باقية، ولكنه أُذِنَ له في الصلاة، كما قالوا بأنَّ التيمم مبيحٌ لا رافعٌ،
فيقولون: إنَّ قول النبي ﷺ: فإن ذلك لهما طهور، يعني: بمثابة الطهور، أو بمثابة
التطهير، أو في حكم التطهير.
هذا مأخذهم، ومعنى ذلك أنَّ باب إزالة النجاسة فيه تضييق كثير، خاصة مما جَدَّ الآن
من أدوات أو سوائل تُستخدم أصالة لإزالة البقع، من نجاسة أو سواها، ويكتفي بذلك
كثيرٌ من الناس ويعتمدون عليها، فعلى قول الحنابلة أنَّ ذلك ليس بماء، فلا يحصل به
التطهير، حتى ولو رأينا في الواقع أنَّ النقاء به أكمل.
وَمِثْلُ ذلك أيضا أنَّ التطهير بما يُسمى البخار، أو التطهير بالآت الغسل الجاف،
الذي يوجد في المغاسل، وفي الغالب أنه تغسل به ما غلي من الثياب، مثل: الأصواف
والحرير ونحوهما، فإن ذلك يعني أبقى لحسنها وبقاء حسن صنعتها وكمالها.
فإذا كان فيها نجاسة فلا يحصل بجعلها في هذه الآلات تطهير لها، فلا بد لمن أصابته
نجاسة أن يغسلها بالماء، حتى ينقي ويحصل التسبيع على قول الحنابلة، أو الإنقاء على
القول الآخر، ثم بعد ذلك يضعها فيما يضعها من مُعقمات، أو من غسيل جاف أو سواه.
أمَّا إذا قيل -كما هو القول الثاني عند الحنابلة، وقال به جمع من المعاصرين-: إنَّ
التطهير يحصل بما أزال النجاسة كيفما كان، وقد انتصر له ابن تيمية -رحمه الله
تعالى- فإنَّ هذه لا شك أنه يحصل بها النقاء في الواقع قطعا، فيحصل بها التطهير على
قولهم من باب أولى أو تكون محل حكٍم بالطهارة قطعا على قولهم.
ولكن مثل ما ذكرنا أنَّ الحنابلة في باب الطهارة باعتبار أنها شرط للصلاة ينحون
منحى الاحتياط كثيرًا، ولأجل ذلك قالوا: إن هذا هو الذي جاءت به النصوص أصالة في
إزالة النجاسة فنكتفي به، وما سوى ذلك إنما هو جاء على سبيل العُذر أو الحصر
والقصر، فنجعله كالرخصة ولكن لا ننقل الحكم بأن نقول: إنَّ كل شيء يحصل به التطهير.
ولذلك قال: (ولو أَسْفَلَ خُفٍّ أو حِذَاءٍ)؛ لأن منهم من يقول مثلا: هذه مُستثناة
لأنه جاء بها النص، أو تكون طاهرة، أو أنها كما يقولون: في حكم الطاهرة، وإن كانت
النجاسة باقية والحكم بأن هذا الحذاء، أو هذا الذيل نجس، وكذلك ثقيل مثل: زجاجة لو
مسحت، نرى أنَّ الزجاجة لا يبقى فيها شيء من أثر النجاسة بأي حال من الأحوال، أو
سيف، أو سكين، أو نحوها، فيقولون: ما دام أنه لم يصبه الماء، فإنه لا يكون في ذلك
زوال للنجاسة.
{(ولا يَطْهُرُ مُتَنَجِّسٌ بـاستِحَالَةٍ فرَمَادُ النَّجَاسَةِ ودُخَانُهَا
وغُبَارُهَا وبُخَارُهَا وَدُودُ جُرْحٍ وصَرَاصِرُ كُنُفٍ وكَلْبٌ وَقَعَ في
مَلاَّحَةٍ فصَارَ مِلْحاً، ونَحْوُ ذلك نَجِسٌ)}.
هذا مُرتبٌ على قولهم: إنَّ التطهير يحصل بالماء، وبناء على هذا (ولا يَطْهُرُ
مُتَنَجِّسٌ بـاستِحَالَةٍ) ما معنى باستحالة؟ الاستحالة معناها: التحول، يعني: أن
العين النجسة التي تحولت إلى حال أخرى، فهذه الروثة التي هي نجسة من أثر حمار، صارت
رمادًا، فالآن لا تسمى روثة، فهل تحولها يُحكم معه بطهارتها أو لا؟
على قول الحنابلة إنه لا يزيل النجاسة إلا الماء، فتحول هذه لا يُغير من أعيانها
شيئًا، فهي باقية على نجاستها، وأما من قال: إنَّ النجاسة تحصل بغير الماء،
فيقولون: التحول من حال إلى حال تختلف معه الحقيقة، ويختلف معه الاسم، فهذه روثة
وهذا رماد، والرماد مختلف عن الروثة، فبناء على ذلك لو حكمنا بهذه بطهارة هذا لا
يعني الحكم بطهارة هذا، وهذا النجس انتهت حقيقته، وذهب اسمه، فهذا شيء آخر سواه، لا
يمكننا إلا أن نَحكم بطهارته، هذا معنى قولنا: (تحول)، وهذا بغض النظر عن ما هو
الأرجح، ونحن درجنا في هذا أن لا نحتاج إلى الانتقال إلى الترجيح وغيره؛ لأنه ليس
من مهمتنا، بل مهمتنا في هذا تأسيس الطالب بفهم معنى مُراد الفقهاء، من حَمَلَه على
هذا، والمسائل التي يشتهر فيها الخلاف، كيف حملت عند من قال بغير ذلك.
ولهذا قال: (فرَمَادُ النَّجَاسَةِ) كما قلنا: (ودُخَانُهَا وغُبَارُهَا
وبُخَارُهَا)، وكل ذلك متحول عن أعيانها، ولكن ما دام أننا نقول: إن النجاسة لا
تطهر إلا بالماء، فعند الحنابلة أن هذه كلها نجسة، فإذا انتقل روث أو دخان إلى ثوب
إنسان، معنى ذلك أنَّ هذا الثوب قد تنجس؛ لأنه أصابته أعيان النجاسة، ومثل ذلك
(دُودُ جُرْحٍ)، ودود الجراح متحولة من الدم.
(وصَرَاصِرُ كُنُفٍ) الكنيف تجتمع فيه العذرة، ولا مدخل له من أي مكان كان، ثم بعد
ذلك تجد بعد أيام وجود (صَرَاصِر)، فهي إنما وجدت من أثر العذرة، وتكونت منها،
فيقول الفقهاء: إن هذه متحولة عن النجاسة، فهي نجسة ولا يحكم بطهارتها.
(وكَلْبٌ وَقَعَ في مَلاَّحَةٍ فصَارَ مِلْحاً) المملحة أي شيء وقع فيها يصير
مِلحًا، فعلى سبيل المثال: إذا وضعت سيارة تصير مِلحًا، وإذا وضعت كيس أسمنت يصير
ملحًا، وإذا وضعت كلبًا يكون ملحًا ولا يختلف، فهو يصير مثل الملح الذي تُدخله إلى
بيتك، فيقول الفقهاء -رحمهم الله- إذا رأينا كلبا وقع فنقول: هو نجس حتى ولو تحول
-عند الحنابلة-؛ لأَّن التحول لا يغير العين، ولا يُطهرها، فهذه أعيان نجسة فتبقى
على نجاستها.
{قال -رحمه الله-: (غَيْرُ الخَمْرَةِ إذا انقَلَبَت بنَفْسِهَا خَلاًّ، أو بنَقْلٍ
لا لقَصْدِ تَخْلِيلٍ، ودَنُّهَا مِثْلُهَا؛ لأنَّ نجَاسَتَهَا لشِدَّتِهَا
المُسْكِرَةِ، وقد زَالَت كالمَاءِ الكَثِيرِ إذا زالَ تَغَيُّرُه بنَفْسِه،
والعَلَقَةُ إذا صَارَت حَيَواناً طَاهِراً.
فإِنْ خُلِّلَت أو نُقِلَت لقَصْدِ التَّخْلِيلِ لم تَطْهُرْ، والخَلُّ المُبَاحُ:
أنْ يُصَبَّ على العِنَبِ أو العَصِيرِ خَلٌّ قَبْلَ غَلَيَانِه حتَّى لا يَغْلِيَ،
ويُمْنَعُ غَيْرُ خَلاَّلٍ مِن إِمْسَاكِ الخَمْرَةِ لتَتَخَلَّلَ)}.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (غَيْرُ الخَمْرَةِ) أو (غَيْرَ الخَمْرَةِ إذا
انقَلَبَت بنَفْسِهَا خَلاًّ) يصح الوجهان، فهنا استثناء من الأعيان النجسة إذا
تحولت إلى حال أخرى، فهل يحكم بطهارتها؟ فيقول الماتن -رحمه الله- ويبين ذلك
الشارح: إنَّ الخمر بقيدها أو بشرطها إذا تحولت إلى خًلٍّ، فإنه ينتقل الحكم من
نجاسة الخمر إلى الحكم بطهارة الخل، وهذا مُقيد بقيده، وهو أن يكون انقلابها
بنفسها، لا بفعل الآدمي؛ لأنَّ النبي ﷺ سئل عن الخمر تُتخذ خلا؟ قال: «لا»، يعني:
إذا كان اتخاذ، يعني: بقصد، فَفَهِمَ من هذا الفقهاء أنه إذا كان ذلك بغير ما قصدٍ،
أو بغير ما فعل آدمي، فمن مفهوم المخالفة من ذلك: الحكم بالطهارة فيها.
ولأجل ذلك قال الحنابلة -رحمهم الله-: إنها إذا تحولت بنفسها فإنه يُحكم بطهارتها،
وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، استنادًا على ما جاء في الحديث.
يقولون: كذلك لو كان -لأنَّ التحول هذا أحيانا يكون بالتحريك أو نحوه-، فيقولون: لا
يخلو إذا حُرِّكت بغير قصدِ التخليل فلا يضر، فإذا انقلبت حكمنا أيضًا بالطهارة،
وإمكان الانتفاع بها، ولذلك قال: (أو بنَقْلٍ لا لقَصْدِ تَخْلِيلٍ)، كما لو أزيحت
من الشمس، أو أُدخلت إلى مكان آخر، أو مثلا يأتي عليه ضيوف فأراد أن ينقلها إلى
مكان داخل البيت، فهذا النقل لا لقصد التخليل، فإذا أثر فيها وتخللت، فيقولون:
يُحكم بالطهارة في تلك الأحوال، فكما لو كانت تخللت بنفسها.
قال: (ودَنُّهَا مِثْلُهَا) يعني: الحكم بالطهارة والنجاسة، فإذا حكمنا بطهارة
الخمر، أو بطهارة الخل الذي تخلل بنفسه، فدنه وهو إناؤه ووعاؤه، يحكم بالطهارة،
وإذا حكمنا بنجاسة هذا الخل وبقائه غير طاهر، فكذلك وعاؤه وإناء مثله.
قال: (لأنَّ نجَاسَتَهَا لشِدَّتِهَا المُسْكِرَةِ) وقد زالت بنفسها. طيب إذا
أزيلت؟ يقولون: لأن المسلم ممنوع من أن يتخذ الخمر خلا.
قال: (كالمَاءِ الكَثِيرِ إذا زالَ تَغَيُّرُه بنَفْسِه) يعني: أنه يحكم بالطهارة
في الماء، وكذلك إذا تحولت الخمرة إلى خل.
قال: (والعَلَقَةُ إذا صَارَت حَيَواناً طَاهِراً) هذه المسالة في الحقيقة فيها شيء
من الإشكال، بل فيها إشكال كثير، وفيها يمكن إجابة، أنا والله عندي فيها إشكال،
فالعلقة إذا صارت حيوانًا طاهرا، يعني: سواء كانت علقة آدمي، أو علقة حيوان طاهر في
الحياة، مثل: الهرة، أو أيضًا بهيمة الأنعام أو سواها، ما وجه الإشكال؟
عندهم العلقة هي دم متجمع، أليس كذلك؟ ثم يتكون حتى يكتمل الخلق، وتنفخ الروح،
فعندهم أنَّ العلقة نجسة، وعندهم إذا صارت حيوانا طاهرا فهي طاهرة.
وهذا مشكل من جهة أن المني يحكمون بطهارته، يقولون: لئلا يكون أصل الآدمي نجسًا،
أليس كذلك؟ والمني يتحول إلى نطفة ثم علقة ثم مضغة.
فهذا ما استدلوا به على المالكية من أنه كيف يكون أصل ابن آدم نجس وأنه طاهر؟ طيب
هم حكموا بذلك في هذا الحال بالنجاسة! ولكن يمكن أن يقال: إن الحكم بنجاستها إذا
خرجت وانفصلت عن محل تخلقها، فإذا كان الأمر كذلك، فهذا قد يكون معنى صحيحًا من حيث
إنها انفصلت عن محلها، وهي دم خارجٌ من المرأة، فبناء على ذلك يمكن أن يُحكم بأنها
نجسة في هذا، ولكنها إذا تحولت إلى خلق آدمي، فإنهم يحكمون بالانتقال من النجاسة
إلى الطهارة، ويكون هذا مما استثني عندهم، خلافا للأصل الذي أصلوه، أنَّ المتحول
والاستحالة لا يحكم معها بالطهارة، وهذا يمكن أن يكون صحيحا.
قال: (فإِنْ خُلِّلَت أو نُقِلَت لقَصْدِ التَّخْلِيلِ لم تَطْهُرْ) كما قلنا: إنَّ
هذا في الخمر الذي تتخذ خلاً.
قال: (والخَلُّ المُبَاحُ) طبعًا الخل والخمر بينهما قُربٌ كثير، فأصلها عصير،
وإمَّا أن ينتقل فيكون خلا، وإمَّا أن ينتقل فيكون خمرا، ثم يكون خلا، وإمَّا أن
ينتقل فيكون خمرًا، والخلال -وهو الذي يُعنى بهذه الصنعة- هو الذي يستطيع ويعرف كيف
يحمل العصير إلى أن يتخلل بدون ما تخمر، ولكنه لا يُحسن ذلك في كل حال، فأراد
الشارع أن يُبين حتى يتنبه الفقيه، لو جاء خلال وقال: ما يمكن، بل لازم أن يصير
خمرا، نقول: إنما هذا سوء مُنك، وعدم معرفة بالتخليل، فيقول المؤلف: إنَّ الخل
المباح أن يَصب على العنب والعصير خلٌّ قبل غليانه، يعني: يتركه يومين، وقبل أن
يقذف بالزبد يصب عليه خلا، فهذا الخل يمنع قذف الزبد، ويحوله إلى أن ينتقل إلى كونه
خلا.
فكأنَّ المؤلف أراد أن يُبين أنَّ المسألة ليس لها معنى فقهيًا، ولكنه أراد أن يحل
إشكالا لدى الفقيه؛ لأنه ليس الطريق وحيدة إلى أنَّ الخل لا يكون خلا إلا عن طريق
الخمر، ولو جاءك الخلال ليقول ذلك، كأنَّ الفقيه يمكن أن يعترض عليه، ويقول: إنما
هذا من عدم فهمك، أو عدم معرفتك، وأنه يمكن، وأنَّ ذلك يكون بصبِّ الخلِّ قبل غليان
ما جمعته من عصير ونحوه.
(ويُمْنَعُ غَيْرُ خَلاَّلٍ مِن إِمْسَاكِ الخَمْرَةِ لتَتَخَلَّلَ) يعني: لو أنَّ
العصير الذي أراد الإنسان أنها تكون خلا تخمرت بغير قصد، فيقول المؤلف: هل يجب
إراقتها على الإطلاق كما يقوله بعض الفقهاء؟ أو يجوز تركها باعتبار أنها ما تخمرت
من جهة؟
فالحنابلة في الحقيقة لهم قول، مع ما فيه من الإشكال إلا أنه قول وسط، هم يقولون:
إن كان خلالاً فيتركها، وإن كان غير خلال، يعني: إن كان إنسانًا عاديًا يُريقها،
لماذا؟
أما الإراقة فهذا واضح؛ لأنها خمر، والخمر يجب إراقته ولا يجوز إمساكه.
طيب لماذا أذنتم للخلال بأن يمسكها؟
قالوا: لأنه في أحوال كثيرة أن خل الخلال يتخمر أحيانًا من غير إرادته، فلو أمرناه
بالإراقة لأفضى ذلك إلى ضياع ماله كثيرا، فأُذِنَ له أن يتركها، فإذا عادت خلا
حكمنا بالطهارة، بدون أن يتدخل فيها، وإن لم تعد إلى التخلل، فيجب عليه الإراقة بعد
ذلك، وإن كان بعض الفقهاء يقولون: تجب الإراقة بكل حال، ولكن الحنابلة توسطوا في
هذا من وجه الرأفة بالخلال لكثرة ما يمكن أن يُراق، وما يتخمر فلا يقدر على التصرف
فيه، أو إحسان صناعته ومنعه من دخول الخمر عليه.
{قال -رحمه الله-: (أو تَنَجَّسَ دُهْنٌ مَائِعٌ أو عَجِينٌ أو بَاطِنُ حَبٍّ أو
إِنَاءٍ تَشَرَّبَ النَّجَاسَةَ أو سِكِّينٌ سُقِيَتْهَا لم يَطْهُرْ؛ لأنَّهُ لا
يَتَحَقَّقُ وُصُولُ المَاءِ إلى جَمِيعِ أَجْزَائِه.
وإنْ كانَ الدُّهْنُ جَامِداً ووَقَعَت فيه نجَاسَةٌ؛ أُلْقِيَت وما حَوْلَهَا،
والباقِي طَاهِرٌ، فإِن اختَلَطَ ولم يَنْضَبِطْ حُرِّمَ)}.
يقول المؤلف: (أو تَنَجَّسَ دُهْنٌ مَائِعٌ)، كما ذكرنا لكم فيما مضي في أول
الكتاب، أنَّ نجاسة غير الماء بوقوع أي نجاسة قليلة فيه، ولو كان هذا الدهن ملْ كفٍ
أو ملء قربة، أو قلة، أو مائة قلة، أو مليون برميل، وكما قلنا في المثال السابق،
وأذكر أني قلتها لكم، قلت: لو جئنا مثلا إلى مستودعات الحليب في إحدى الشركات التي
تجمع الحليب وتعيد تصنيعه، فوقع فيها شعرة نجسة، أو نقطة بول، أو نقطة دم، فعندهم
أنَّ هذا الحليب كله ينجس، حتى ولو كان يكفي لبلد كامل. لماذا؟
لأنهم يقولون: إن النجاسة وقعت فيه كله، وغير الماء ليس له قوة على دفع النجاسة،
فلا يُفَرَّق فيه بين قليلٍ وكثيرٍ، وهذا بخلاف الماء، فالماء إذا كان كثيرًا فله
قوة على دفع النجاسة.
فيقول المؤلف -رحمه الله-: إذا (تَنَجَّسَ دُهْنٌ مَائِعٌ) فتجب إراقته، ولا يمكن
تطهيره بوجه من الوجوه.
(أو عَجِينٌ) ومثل ذلك العجين لأنه رطب وفيه ماء، ولا يمكن عزل بعضه عن بعضه،
وإمكان العلم بما وصلت إليه النجاسة، وما حجبت عنه.
(أو بَاطِنُ حَبٍّ)، الحب إذا تنجس، مهما غسلت الحبة، فالحبة لها داخل، لا يمكن أن
تقطع بوصول الماء إليها وإزالة النجاسة التي فيها، فبناء على ذلك حتى ولو كان هذا
الحب جامدًا، ولكن لَمَّا كان له زوايا أو نحوها يمكن دخول النجاسة إليها، ولا
نتيقن إمكان تطهير ذلك، فإنه لا يُحكم بطهارتها بوجه من الوجوه.
(أو إِنَاءٍ تَشَرَّبَ النَّجَاسَةَ أو سِكِّينٌ سُقِيَتْهَا لم يَطْهُرْ) ما معنى
ذلك؟
الإناء الذي تشرب النجاسة والسكين الذي سقيتها وجه واحد، والسكين: عبارة عن قطعة
ممعدنه صلبة، لا تدخل النجاسة في أجزائها، ولكن قال الفقهاء: إنها لو أُحميت، وجعل
فيها بعض الأدوية، أو بعض المعالجات، وأطفأت في بول أو نحوه، فيقولون: في بعض هذه
الأحوال بمثل هذه المعالاجات تنفذ النجاسة إلى بعض أجزائها، أو إلى داخلها، وعند
ذلك نقطع بعدم إمكان تطهيرها.
ومثل ذلك الإناء الذي يتشرب النجاسة على هذا الوجه، ولذلك قال: (لم يَطْهُرْ)؛ لأنه
لا يُتحقق وصول الماء إلى جميع أجزائه.
ثم استدرك الشارح المسألة المفهومة من كلام الماتن، فقال: (وإنْ كانَ الدُّهْنُ
جَامِداً) يعني: ليس مائعًا، كما في قول الماتن، (ووَقَعَت فيه نجَاسَةٌ) فإننا
نقطع بأن هذه النجاسة لا يمكن أن تنتشر إلى الجميع، باعتبار أنه جامد.
ولأجل ذلك (أُلْقِيَت وما حَوْلَهَا) أي: تُلقى وما حولها، يعني: لا يمكن تطهيرها،
ولكن ما وقع فيه النجاسة، والحدود التي أصابته النجاسة، يحاط ثم يفصل فيلقى، ويكون
ما سواه طاهر؛ لأننا تيقنا أنَّ النجاسة لم تسر فيه بخلاف المائع، فالمائع له قوة
في السريان، ولا ندري إلى أي شيء وصل، إلى حد لتر، أو لترين، أو مئة لتر، فلأجل ذلك
نحكم بالنجاسة على جميعها، ولو كانت شيئًا كثيرًا، ووقع فيه نجاسة وألقيت ما حولها
(والباقِي طَاهِرٌ).
(فإِن اختَلَطَ ولم يَنْضَبِطْ) أيضًا في مثل هذه الحال، (حُرِّمَ) أي: يُحكم
بالنجاسة، كما يقال في مسائل المائعات.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى
الله وسلم وبارك على نبينا محمد.