مكتبـــــة الدروس

2024-03-19 21:05:42

باب صفة الغسل الكامل والمجزئ (7)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (وصِفَةُ الغُسْلِ الكَامِلِ؛ أي: المُشْتَمِلِ على الواجباتِ والسُّنَنِ، أن يَنْوِيَ رَفْعَ الحَدَثِ، أو استِبَاحَةَ الصَّلاةِ أو نَحْوِها)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا منارات للعلم داعين إليه، مخلصين في ذلك، وأن يجعله ذخرا لنا عند ربنا، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
قد تقدم معنا في (باب الغسل) الموجبات، وما يترتب على من حدثه أكبر، مما يحرم عليه من الصلاة وقراءة القرآن، وما مَرَّ بيانه فيما مضى، إلى أن شرع المؤلف -رحمه الله تعالى- في هيئة الغسل وصفته، فقال: (وصِفَةُ الغُسْلِ الكَامِلِ) وهو إشارة إلى أن الغسل كامل ولا يقابله ناقص، ولكن يقابله مجزئ، يعني: الكمال من جهة اشتماله على ما يُستحب ويجب، ولذلك قال: (المُشْتَمِلِ على الواجباتِ والسُّنَنِ)، ويقابل ذلك "المجزئ"، وسيأتي بيانه -بإذن الله جل وعلا-، وهو الاقتصار على ما يجب في الغسل أو في الطهارة من الحدث الأكبر.
قوله: (أَنْ يَنْوِي) وكما قلنا: إنَّ النية أصل في كل عمل وعبادة، كما قال النبي : «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ» ، والذي يُعلم أن النية معتبرة، ولكن الذي يَفوت على كثير من الناس، أنه ربما ابتدأ العمل على عادته، يعني: يدخل مكان الاستحمام فيشرا في بعض أجزائه، وهو لم يشعر أن عليه حدثًا أكبر، ثم ينوي أثناء ذلك فلا يعود ابتداء، فهذا لم تصح عبادته، ولم تحصل له طهارته من حدثه الأكبر؛ لأن النية لا بد أن تكون سابقة لكل عمل، وهي في أول هذه الطهارة، وهذا يحصل كما قلنا كثيرا.
قال -رحمه الله تعالى-: (أًنْ يَنْوِي)، وحقيقة هذه النية، ذكر الشارح لها، إمَّا نية رفع الحدث، وسيأتي تفاصيل له ذكرها المؤلف بعد ذلك.
(أو استباحة الصلاة) الذي هو أثر ارتفاع الحدث الأكبر والأصغر، وإمكان حصول العبادات وما تشترط له الطهارة.
{قال -رحمه الله-: (ثُمَّ يُسَمِّيَ وهي هنا كوُضُوءٍ، تَجِبُ معَ الذِّكْرِ، وتَسْقُطُ معَ السَّهْوِ)}.
قال: (ثُمَّ يُسَمِّيَ) فيقول: بسم الله، ولا يقوم غيرها مقامها، ولا يحتاج إلى تكميلها؛ لأنَّ هذا هو ما جاءت به الآثار، وقرر ذلك الفقهاء -رحمهم الله تعالى-.
ووجه اعتبار التسمية في الطهارة الكبرى، كما قال الشارح: إنها (كوُضُوءٍ)، بل قال بعض الحنابلة -رحمهم الله تعالى-: إذا اعتبرت التسمية في الوضوء، فهي من الحدث الأكبر أولى؛ لأنه طهارة للوضوء وزيادة، وهذا محل تأمل، ولهم في ذلك كلام وتفقه، وفيه فائدة كثيرة، ولكن ليس هذا محل بحثه.
ولكن جريان الشارع قال: وهي (كوُضُوءٍ) من جهة اعتبارها في أصلها أنها على سبيل القياس، وأما كونها آكد أو نحوه، فهذه مسألة أخرى؛ لأنه يمكن أن يقال: إنها في الوضوء آكد، لماذا؟ لأنَّ النص جاء فيها أصالة، فهي أصل بينما اعتبارها في الغسل فرع، والأصل آكد من الفرع. وعلى كل حال، هذا كالإشارة إلى دقة كلام الفقهاء في مرادهم، وما يدخل في كلامهم.
قال: (تَجِبُ معَ الذِّكْرِ) أو الذُّكر بالضم، (وتَسْقُطُ معَ السَّهْوِ) والجهل لمن كان جهله معذورا فيه، على ما تقدم أيضا في الوضوء سواء بسواء.
{قال -رحمه الله-: (ويَغْسِلَ يَدَيْهِ ثَلاثاً كما في الوُضُوءِ، وهو هنا آكَدُ لرَفْعِ الحَدَثِ عَنْهُمَا بذلك)}.
قال: (ويَغْسِلَ) هنا منصوبة لأنها معطوفة على منصوب بـ "أن".
قال: (ويَغْسِلَ يَدَيْهِ ثَلاثاً)، وهذا جاء في حديث عائشة، وجاء في حديث ميمونة، وهما أصلان في اعتبار الطهارة الكبرى أو من الحدث الأكبر.
قال: (كما في الوُضُوءِ، وهو هنا آكَدُ)، ووجه الأكدية هنا ظاهرة؛ لأن مشروعيتها في الوضوء من جهة أنها آلة الطهارة التي تُغسل بها الأعضاء، فَطُلِبَ ذلك على سبيل الاستحباب، وأمَّا هنا فهي آكد من جهتين:
أولا: لكونها الآلة التي يحصل بها تطهير البدن.
والثاني: أنها في الحدث الأكبر قد حَلَّ بها الحدث، فهي محلٌ الطهارة، وأيضا داخلة في حدود ما يطلب منه الطهارة في الحدث الأكبر، فكانت آكد بلا شك.
{قال -رحمه الله-: (ويَغْسِلَ مَا لَوَّثَهُ مِن أَذًى)}.
قوله: (ويَغْسِلَ مَا لَوَّثَهُ مِن أَذًى)، فيبتدئ بالأذى، وعبَّر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- بالأذى هنا ليشمل: ما يكون نجسًا، وما يكون قذرًا من طهارة، فقد يكون ذلك دم حيض أو نفاس فيكون نجسًا، أو يكون غسل من جنابة، كمني وهو طاهر ولكنه قذر، أو يكون مذيًا فيكون نجسًا، وإذا كان في تغسيل ميت فهو تنجيته، وما يكون قد خرج من بعض نجاسته وهكذا.
إذًا التعبير بـ (مَا لَوَّثَهُ) مُرادٌ عند الفقهاء ليشمل جميع ما يطلب من الخلاص منه، وقطعه فيما يبتدئ به المغتسل، أو المتطهر من الحدث الأكبر، وهذا جاء أيضا في الحديث فإن النبي أول شيء بدأ به، غسل فرجه، وهذا سواء كان القذر على فرج أو على سواه، فَإِذَا غُسِلَ على الفرج فالذي في غير محله من باب أولى.
{قال -رحمه الله-: (ويَتَوَضَّأَ كَامِلاً)}.
قال: (ويتوضأَ) أو ويتوضأُ؛ لأنها مع كثرة العطف يمكن أن تَبدأ على سبيل القطع، ولذلك تُضبط في كثير من النسخ بالضم، يعني: كأنه قطعها عن العطف على الأول.
قال -رحمه الله-: (ويَتَوَضَّأَ كَامِلاً)، وهذا جاء في حديث عائشة، "وضوءًا كاملا"، يعني: أن يغسل جميع أعضائه بما فيها غسل قدميه، فيغسل قدميه، وهو كالإشارة إلى ماذا؟
إشارة إلى ما جاء في حديث ميمونة من أنه توضأ وضوءه غير أنه لم يغسل قدميه، وسيأتي بيان ذلك وتوضيحه في محله -بإذن الله جل وعلا-.

{قال -رحمه الله-: (ويَحْثِيَ المَاءَ على رَأْسِه ثَلاثاً يُرَوِّيه؛ أي: يَرْوِي في كُلِّ مَرَّةٍ أُصُولَ شَعْرِه لحديثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ إذا اغتسلَ مِن الجَنَابَةِ، غَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاثاً، وتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ للصَّلاةِ، ثُمَّ يُخَلِّلُ شَعْرَهُ بيَدَيْهِ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أنَّهُ قد رَوَى بَشَرَتَهُ، أَفَاضَ المَاءَ عليهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِه» مُتَّفَقٌ عليه)}.
قال -رحمه الله-: (ويَحْثِيَ المَاءَ على رَأْسِه ثَلاثاً يُرَوِّيه)، أي: بعد أن يتوضأ وضوءه الكامل، فإنه يَشْرَعُ في غسل رأسه، وقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (ويَحْثِيَ) أو "يحثو"، كلها واحدٌ، وهو صبَّ الماء على الرأس، وبينت السنة أنَّ النبي صبَّ الماء على رأسه ثلاث مرات.
وقول المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا في المتن: (يُرَوِّيه)، أي يُرَوِّي في كل مرة أصولَ شعره؛ لأنَّ الجنابة حالة في جميع البدن، ما ظهر منه وما خفي، ولَمَّا كان الشعر خاصة إذا كان طويلاً، فإنه ربما غطى بعض بدنه، وحال بينه والوصول إلى بَشَرَتِه؛ أَكَّدَ على ذلك الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فقالوا: (يُرَوِّيه) لأنه إذا أرواه وزاد الماء عليه، فإنه ولا شك ينزل إلى بَشَرَتِه، فيحصل بذلك المقصود ويتأتى المراد.
وأيضًا جاء هذا في بعض الأحاديث، مثل: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً»، وإن كانت فيها ما فيها من الكلام، لكنها دالة على المراد، وجاء الأمر بغسل كل شعرة، ومن ترك شعرة في غسل جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا، فكل ذلك يدل على ما ذكرنا، ولذلك أَكَّدَ الشارح على معنى (يُرَوِّيه) فقال: (أي: يَرْوِي في كُلِّ مَرَّةٍ أُصُولَ شَعْرِه) فالتروية تتأتى بالوصول إلى أصول شعره، واليقين أن بشرته التي تحت شعره قد وصلها الماء.
ثم ذكر حديث عائشة، وكما قلنا: هو أصل في الطهارة من الحدث الأكبر، وفي الغسل الكامل، وقد تكاثرت بذلك الروايات عند البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-.
ثم قال: (ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِه)، وسيأتي الكلام على ذلك، وقوله: (سَائِرَ) قالوا: مأخوذة من السور، أي: بالشيء الذي يحيط بالإنسان، ومنه: سورة القرآن؛ لأنها تُحيط بأول وآخر، وكذلك (سَائِرَ جَسَدِه) لأنه هو ما أحاط به، أو من السؤر وهو البقية، فكأنه قال: ثم غسل بقية جسده.
{قال -رحمه الله-: (ويَعُمَّ بَدَنَهُ غَسْلاً، فلا يُجْزِئُ المَسْحُ ثَلاثاً، حتَّى ما يَظْهَرُ مِن فَرْجِ امرَأَةٍ عِنْدَ قُعُودٍ لحَاجَةٍ، وبَاطِنُ شَعْرٍ وتَنْقُضُه لحَيْضٍ)}.
قال: (ويَعُمَّ بَدَنَهُ غَسْلاً) هذا أصل في الطهارة الكبرى، أو في الطهارة من الحدث الأكبر، ولا يتأتى الغسل، ولا يحصل ارتفاع الحدث الأكبر، إلا بالتعميم الكامل، والوصول التام، ولذلك قال: (ويَعُمَّ بَدَنَهُ غَسْلاً) فلا يُجزئ المسح، وقد بينا الفرق بين الغَسل والمسح. فالماء إذا مَرَّ على العضو فهذا غسل، وإذا مررت بيدك وفيها ماء على عضو ونحوه، فهذا مسح، فالمقصود أنه لا بد من إمرار الماء على أعضائه.
قال: (ثلاثا)، هذا هو المشهور من المذهب عند الحنابلة، وهو أنَّ غَسل سائر البدن ثلاثا، كغسل الرأس، ولكن لو نظرت إلى حديث عائشة فلن تجد ما يدل على التثليث فيه، والحنابلة -رحمهم الله تعالى- أخذوا ذلك من القياس على الوضوء، فإن الطهارة في الغسل مثل الطهارة في الوضوء وزيادة، فما شُرِعَ في المغسولات في الوضوء من التثليث، فهو مشروع في الطهارة الكبرى أو في الغسل كذلك سواء بسواء، ويمكن أيضًا أن يستدل بما جاء في تغسيل الميت، فإنه جاء فيه أنه يُغسل بدنه ثلاثًا.
ولكن على كل حال هذا محل نظر، وأخذ الحنابلة لها من جهة القياس على الوضوء وطلب الاحتياط والتمام بأي وجه أمكن ذلك فيما يجتهدون فيه وينظرون، وإن كان القول بأن سائر البدن يغسل مرة، ورواية ثانية عند الحنابلة اختارها جمع من المحققين، وذكرها ابن تيمية -رحمه الله تعالى- والأمر في ذلك فيه سعة.
قوله: (حتَّى ما يَظْهَرُ مِن فَرْجِ امرَأَةٍ عِنْدَ قُعُودٍ لحَاجَةٍ) هو إشارة إلى التعميم للبدن كله، إلى كل جزء من أجزائه، وإن دقت أو صغرت، ولم يحتج هنا إلى الكلام على غسل الفم والاستنشاق لماذا؟ لأنها حصلت في الوضوء، فلم يحتج إلى تكرارها، ولكنه هنا أراد أن ينبه إلى أن فرج المرأة الذي يبدو إذا جلست هو في حكم الظاهر، وكأنه يشير إلى أن باطن الفرج لا يجب إيصال الماء إليه، وليس داخل في موضع الغسل في الطهارة من الحدث الأكبر.
قوله: (وبَاطِنُ شَعْرٍ) وهذا قد تقدم معنا، ولكن يؤكد هنا أنه لا يختلف الحال بين أن يكون الشعر كثيفا أو خفيفًا، خلافا لما تقدم في الوضوء في غسل الوجه، فإنه إذا كان شعر اللحية كثيفًا فإنه يُحتاج إلى أن يغسل ظاهره، ويستحب تخليل باطنه، أليس كذلك؟ ولكن هنا يُغسل باطن الشعر قولا واحدا لرجل في لحية وفي رأس وللمرأة في رأسها.
قال -رحمه الله-: (وتَنْقُضُه لحَيْضٍ ونفاس) هذا فيه مسألتان:
الأولى ظاهرة في قوله في نقض شعر رأسها إذا أرادت الغسل للحيض وللنفاس، وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، أن المرأة وإن كانت عادتها أن تضفر شعرها، ليكون ذلك أجمع له، وأمنع لها من أن يتلطخ بقذر، وأيضًا أن يسهل عليها في حركة وسواها، وربما كان نوعا من التجمل في بعض الأحوال، واضح؟
فعلى كل حال، لَمَّا كانت المرأة من شأنها أن تضفر شعرها، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى: إذا أرادت الغسل لحيض نقضته.
المسألة التي تقابل ذلك، أنها إذا أرادت أن تغتسل لجنابة، فالمفهوم من ذلك أنها لا تنقضه، وهذا ظاهر في حديث مسلم لَمَّا سألت النبي في حديث أم سلمة، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ قَالَ: «لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» ، فدلَّ ذلك على عدم النقص.
هنا عندنا عدم النقض للجنابة والنقض للحيض والنفاس، وهذا هو مأخذ الحنابلة من جهة النص أنه جاء الإذن بعدم النقض لأجل الجنابة، ومن جهة المعنى أيدوا ذلك فقالوا: إن الجنابة تتكرر، ربما في كل يوم، وربما كل يومين وهكذا، وأمَّا الحيض فلا ينزل عادة إلا كل شهر، فيسهل على المرأة أن تنقض شعرها بخلاف غسل الجنابة.
على كل حال، يبقى أن تعلم أنه في كلا الحالين لا بد أن يصل الماء إلى أصول الشعر، فبناء على ذلك، إذا كان لا يصل الماء إلى أصول شعرها بسبب طريقة لفها لشعرها، أو لكثافة كثيرة في شعرها ونحوه، فبالإجماع أنه لا بد من النقض سواء لجنابة أو لحيض واضح؟
إذًا لا بد من وصول الماء إلى أصول الشعر، هذا من جهة، ومن جهة ثانية كما قلنا: الحنابلة على التفريق، وهذا هو مشهور المذهب على رواية مسلم، وإن كان القول الآخر، وهو قول الرواية عند أحمد، واختارها جمع كثير من المحققين، وقول أكثر أهل العلم، أنه لا يشترط النقض ما دام أنَّ الماء يصل إلى أصول الشعر؛ لأنه جاء في بعض الروايات فَأَنْقُضُهُ لغسل الجنابة والحيض؟ ولأنه من جهة المعنى: المقصود وصول الماء إلى أصول شعرها، فكيفما تأتى ذلك حصل به المقصود، فقالوا: إنه لا ينقض، ولكن على ما رأيت ما مشى عليه الشارع، وهو مشهور المذهب: التفريق بين غسل الجنابة وبين غسل الحيض والنفاس، فينقض في هذين ولا ينقض في الجنابة.
{قال -رحمه الله-: (ويَدْلُكَهُ؛ أي: يَدْلُكَ بَدَنَهُ بيَدَيْهِ ليَتَيَقَّنَ وُصُولَ الماءِ إلى مَغَابِنِه وجَمِيعِ بَدَنِه)}.
قوله: (ويَدْلُكَهُ؛ أي: يَدْلُكَ بَدَنَهُ بيَدَيْهِ) والدلك هو الدعك والفرك ونحوه، يعني: في شيء من الزيادة من اليقين فيه، ولَمَّا كان الكلام في الغسل الكامل، وهو يذكر ما يُستحب وما يجب، فالدلك هنا هو مما يُستحب، ومما تكمل به الطهارة، لأنه يحصل به مزيد يقين في حصول النقاء، وطهارة الأعضاء، ولكنه ليس بواجب ولا لازم. لماذا؟ لأنَّ عمومات الأدلة "فأفاض الماء"، والإفاضة هو أن يحثو على رأسه، يعني صَبُّ الماء بدون دلك، ولكنه لَمَّا كان ذلك أدعى في حصول النقاء، وأكمل في تحصيل الطهارة، فإنه من مكملات الغسل، فكان مستحبا عند أهل العلم، وأيضا جاء في بعض الألفاظ ما أَخَذَ منه بعض أهل العلم استحباب الدلك، والله -جل وعلا- قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ [المائدة:6]، وحقيقة الطهارة تحصل بالغسل والإفاضة، وأمَّا الدلك فليس داخلا في ذلك، فيكون على سبيل الاستحباب لا على سبيل اللزوم والوجوب.
والكلام هنا إذا لم يُحتج إليه، وأمَّا إذا احتيج إليه، لوجود عجين مثلا لاصق بالبدن يمنع وصول الماء إلى البشرة، أو نحو ذلك فهذا يلزم، لأنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولَمَّا كان مثل هذا العجين، أو مثل هذه المادة الكيميائية من صمغ أو سواها متلبدة على البدن، مانعة من الوصول إلى البشرة، وحقيقة الغسل هو التعميم للوصول إلى جميع البدن، فإنه لا يتأتى كمال غسله وحصول طهارته من الحدث الأكبر إلا بإزالة هذا التليد بدعكها ودلكها وتنظيفها، حتى يصل الماء إلى بشرته.
قال: (ليَتَيَقَّنَ وُصُولَ الماءِ إلى مَغَابِنِه وجَمِيعِ بَدَنِه) المغابن هي الأماكن التي ينبو عنها الماء، وهي من الغَبِنْ، وهو الشيء الذي خفي أو أخفي، فكل هذه يطلب فيها، وسيفصل المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يشتهر من هذه المغابن.
{قال -رحمه الله-: (ويَتَفَقَّدَ أُصُولَ شَعْرِه، وغَضَارِيفَ أُذُنَيْهِ وتَحْتَ حَلْقِه وإِبِطَيْهِ، وعُمْقَ سُرَّتِه، وبَيْنَ إِلْيَتَيْهِ، وطَيَّ رُكْبَتَيْهِ)}.
قال: (ويَتَفَقَّدَ أُصُولَ شَعْرِه) أصول الشعر كما قلنا خاصة لمن كان ذا شعر طويل، أو في بعض الأحوال يكون فيه تكسر أو تداخل، فإنَّ تداخل بعض الشعر في بعض قد يمنع وصول الماء إلى أصول شعره.
قال: (وغَضَارِيفَ أُذُنَيْهِ) والناس يتفاوتون في ذلك، فإنَّ من الناس من تكون غضاريف أذنيه متعرجة أكثر، فينبو عنها الماء.
وعلى كل حال يجب أن تنظر إلى مسألة وهي أن الغسل من حيث الأصل هو صَبُّ الماء باليد، وفي أكثر الأحوال إذا كان على هذا النحو لا يحصل وصول الماء إلى جميع البدن إلا بتحريك هذا الماء، أن يصرف الماء إلى هذه المواطن، فيكثر نبو الماء عن بعض ظواهر البدن فكيف بمغابنه؟
وإذا كان التبجيل بالطرق الحالة الآن، بهذه الصنابير التي تكون معلقة في الجدران ونحوها، ومع قوة دفع الماء أيضا لا يبعد من حصول شيء من نبو الماء عن بعض هذه المغابن، وكما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-، وذكر جملة مما يكثر نبو الماء عنها، مثل:
(أُصُولَ شَعْرِه، وغَضَارِيفَ أُذُنَيْهِ وتَحْتَ حَلْقِه) يعني: أحيانا الماء ينبو عن مثل هذه المنطقة، (وإِبِطَيْهِ)، فإن الماء حتى ولو صب من هذه الجهة، ربما لا يدخل إلى باطن إبطيه.
(وعُمْقَ سُرَّتِه) خاصة لمن كانت له سرة داخله، وحتى من كانت ظاهرة، فإن ما يكون من انطواء الجلد بعضه على بعض، يحتاج معه إلى تحريك الماء حتى يصل إلى باطنه.
(وبَيْنَ إِلْيَتَيْهِ) وهنا مسألة مهمة، وقد نبه عليها بعض أهل العلم، وهي أنَّ كثيرًا من الناس، إذا استنجى، والاستنجاء في الغالب يكون قبل الشروع في الغسل ونية الدخول فيه، فهذا الغسل لا عبرة به، فبناء على ذلك يجب عليه أن يغسل سبيليه بعد ذلك، فالقبل ربما كان من السهل وصول الماء إليه مع إفاضة الماء، ولكن ما (بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ) وعند فرجه، فإنه لا يكاد يصل الماء إلا بتحريك إليتيه، أو توجيه الماء إلى ذلك وتحريكه كذلك، ولأجل هذا كان من الأهمية بمكان.
(وطَيَّ رُكْبَتَيْهِ) فإنها كذلك، هذا في عموم الناس، ويختلف الناس في أشياء أخرى، فمن الناس من تنطوي بعض -لسمن مثلا- بعض عكل بطنه، بعضها على بعض، فيحتاج إلى أن يحركها ليدخل الماء بين عكله، ومن الناس من تكون فيه جلدة زائدة أو نحو ذلك، فيكون في كل أحد بحسبه، مما يتحقق معه وصول الماء إلى ما ينبو عنه.
{قال -رحمه الله-: (ويَتَيَامَنَ؛ لأنَّهُ كانَ يُعْجِبُه التَّيَامُنُ في طُهُورِه)}.
وهذا أيضا واضح، وفي غسل الميت كذلك، وحديث عائشة، «كانَ النبيُّ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ، في تَنَعُّلِهِ، وتَرَجُّلِهِ، وطُهُورِهِ، وفي شَأْنِهِ كُلِّهِ» ، والطهور يشمل الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر.
{قال -رحمه الله-: (ويَغْسِلَ قَدَمَيْهِ ثَانِياً مَكَاناً آخَرَ)}.
قال: (ويَغْسِلَ قَدَمَيْهِ ثَانِياً)، أي أنه في أول الأمر غسلهما في الوضوء، ثم أفاض الماء على بدنه، ثم يغسل قدميه بعد ذلك، ففيه تَكرار غسل القدمين مرتين. وهذا أصله أن صفة الطهارة من الحدث الأكبر جاءت في حديثين، حديث عائشة وحديث ميمونة، فحديث عائشة فيه الوضوء كاملا بغسل قدميه ثم إفاضة الماء على رأسه ثم سائر جسده، وحديث ميمونة فيه الوضوء دون غسل قدميه، ثم أفاض الماء على رأسه، ثم سائر جسده ثم غسل قدميه، فالحنابلة -رحمهم الله تعالى- جمعوا بين الروايتين في حال واحدة، خلافًا لبعض أهل العلم الذين جعلوها على حالين. فقالوا: إنه يغسل رجليه كما في حديث عائشة، ثم يعيد ذلك أيضا كما في حديث ميمونة. على سبيل أن هذه سنة جاءت فنأخذ بها، وهذه سنة نأخذ بها، وأيضا فيها كمال احتياط، وفيها كمال طهارة، وفيها جمع بين الحديثين، ولأجل ذلك قال المؤلف: (ويَغْسِلَ قَدَمَيْهِ ثَانِياً) وهذا يعني للتأكيد على ما ذكرنا.
قوله: (مَكَاناً آخَرَ) والمقصود بذلك الانتقال أو التحول لمكان آخر خاصة إذا كان مقيرًا، أو تطين أو تلطخ بقذر ونحوه، فيكون ذلك أتم في نقائه وكمال طهارته.
على كل حال هذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة، وإن كان عند جمع من أهل العلم أنهما حالان:
إمَّا أن يفعل ذلك على ما جاء في حديث عائشة، فيتم وضوءه في أوله، ثم يُفيض الماء على بدنه، ولا يُعيد غسل قدميه.
وإمَّا أن يفعل ذلك على نحو ما جاء في حديث ميمونة، بأن يتوضأ غير أنه لا يغسل قدميه، ثم يُفيض الماء على رأسه، ثم على سائر جسده على ممر، ثم يتحول فيغسل قدميه.
وقال بعض أهل العلم أيضا: عليه أن يعتبر في الحالين أو في الصفتين الأنسب له، مما يكون به أكمل طهارته، فيراعى في ذلك المحل الذي اغتسل فيه، إن كان مُقيرًا أو كان غير مقير، وعلي كل حال كما ذكرنا لكم وجه الحنابلة في الجمع، أو في إعادة غسل القدمين مرتين في الغسل الكامل في كل حال.
{قال -رحمه الله-: (ويَكْفِي الظَّنُّ في الإِسْبَاغِ، قالَ بَعْضُهُم: ويُحَرِّكُ خَاتَمَهُ ليَتَيَقَّنَ وُصُولَ الماءِ)}.
قال: (ويَكْفِي الظَّنُّ في الإِسْبَاغِ) وهذا ظاهر في الحديث، «حَتَّىَ إذَا ظَنَّ أنَّه قدْ أرْوَى بَشَرَتَهُ، أفَاضَ عليه المَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» ، كما جاء ذلك عن النبي ، والإسباغ من البلوغ والمبالغة، وهو الإكمال والتمام، وسيأتي ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- لمعناه، أي: سيأتي توضيحا أكثر فنرجئه إلى موضعه.
قوله: (قالَ بَعْضُهُم: ويُحَرِّكُ خَاتَمَهُ ليَتَيَقَّنَ وُصُولَ الماءِ)، هذا كما ذكرنا في المغابن، بل هي أولى من جهة أن الخاتم ليس من البدن أصالة، بل هو شيء طارئ عليه، فمن باب أولى أن يُحرك حتى يصل الماء إلى ما تحت الخاتم من بشرة، وما حجزه عنه من الماء.
{قال -رحمه الله-: (والغُسْلُ المُجْزِي؛ أي: الكَافِي أن يَنْوِيَ كما تَقَدَّمَ، ويُسَمِّيَ فيَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ، ويَعُمَّ بَدَنَهُ بالغَسْلِ مَرَّةً؛ أي: بغَسْلِ ظَاهِرِ جَمِيعِ بَدَنِه وما في حُكْمِه، مِن غَيْرِ ضَرَرٍ كالفَمِ والأنفِ والبَشَرَةِ التي تحتَ الشَّعْرِ ولو كَثِيفَةً، وبَاطِنِ الشَّعْرِ وظَاهِرِه معَ مُسْتَرْسِلِه، وما تَحْتَ حَشَفَةِ أَقْلَفَ إن أَمْكَنَ شَمْرُهَا)}.
هنا قال: (والغُسْلُ المُجْزِي) المقصود بذلك هو ما يحصل به الإجزاء، بارتفاع الحدث الأكبر، وحصول الطهارة لمن فعل ذلك، (والغُسْلُ المُجْزِي) يكون بإفاضة الماء على سائر البدن، وبهذا تحصل به الطهارة بإجماع أهل العلم، وقد حكى ذلك غير واحد، مثل: ابن بطال، وابن عبد البر، وغير واحد، رحم الله أهل العلم في نقلهم الإجماع على ذلك.
قال: (والغُسْلُ المُجْزِي؛ أي: الكَافِي) يعني: أنه تحصل به الكفاية، وتبرأ به الذمة، ويتأتى به فعل المكلف للواجب عليه.
وحقيقة المجزئ (أن يَنْوِيَ كما تَقَدَّمَ) يعني أن ينوي رفع الحدث، أو استباحة الصلاة ونحوها.
(ويُسَمِّيَ فيَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ)، فمعنى ذلك هما مُعتبران بكل حال، ثم (يَعُمَّ بَدَنَهُ بالغَسْلِ مَرَّةً)، فيدخل في ذلك كل ما يحصل به تعميم الماء للبدن، فيروي أصول شعره، ويصل إلى بشرة رأسه، ويغسل ما استرسل من شعره، ويتمضمض، ويستنشق، ويغسل ما بين إليتيه، وطي ركبتيه، وباطن إبطيه، وما يكون في جميع مغابنه، ونحو ذلك مما تقدم ذكره، ولذلك قال الشارح: أي: بغَسْلِ ظَاهِرِ جَمِيعِ) وكلمة جميع هنا كالتأكيد، لأنه لا يتأتى أو لا يحصل له الطهارة من الحدث الأكبر إلا بتمام ذلك وكماله.
قال: (أي: بغَسْلِ ظَاهِرِ جَمِيعِ بَدَنِه وما في حُكْمِه)، وهنا يشير إلى ما يدخل في حكم الظاهر وإن بَطُنَ أحيانًا، مثل: الفم، داخل الأنف، فرج المرأة على ما تقدم، فإنه يدخل في ذلك ظاهره إذا كان ينفرج عند جلوس ونحوه.
قال: (مِن غَيْرِ ضَرَرٍ) وهذا الاستثناء (مِن غَيْرِ ضَرَرٍ) يشير إلى العينين، لِمَا تقدم في الوضوء من أنها لا تغسل، وما جاء عن ابن عمر وعدم موافقة أهل العلم لما جاء عنه، وأن ذلك كان سبب حصول العمى عليه، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، في اجتهاده في أداء السنن، ومجاهدته لنفسه في ذلك، وإن كان على خلاف ما استقر عليه عمل أهل العلم وتتابعوا عليه.
قال: (مِن غَيْرِ ضَرَرٍ كالفَمِ والأنفِ)، فالفم والأنف هما في حكم الظاهر ولا ضرر به، وليسا مثل العين التي فيها ضرر في حكم الظاهر.
{قال -رحمه الله-: (كالفَمِ والأنفِ والبَشَرَةِ التي تحتَ الشَّعْرِ ولو كَثِيفَةً)}.
هذا كما قلنا قبل قليل.
{قال -رحمه الله-: (وبَاطِنِ الشَّعْرِ وظَاهِرِه معَ مُسْتَرْسِلِه)}.
ما معنى مع مسترسلة؟ يعني لو كان شعر الإنسان يصل إلى كتفيه أو تحت كتفيه، فقد تقدم معكم في الوضوء، أن الوضوء إنما هو مسح للرأس لا ما استرسل من الشعر تبعا، ومثل ذلك المرأة لو كان لها شعر طويل ولو وصل إلى ركبتيها، فإنها في الوضوء لا تحتاج إلى أن توصل المسح إلى ذاك، وإنما تمسح رأسها.
ولكن في الغسل حتى ولو كان الغسل المجزئ، الذي يُقتصر فيه على الواجب، فلا بد من استكمال الماء أو في الغسل لبلوغه ما استرسل من الشعر، مع تروية أصول الرأس، والوصول إلى البشرة.
قال: (وما تَحْتَ حَشَفَةِ أَقْلَفَ) الأقلف يعني: غير المختون، إما لعلة، أو كأن يكون قد أسلم حديثا ولا يستطيع الختان لعلة أو نحوها.
قال: (إن أَمْكَنَ شَمْرُهَا) الشمر من التشمير، وهو الرفع، والأقلف الذي لا يكون مختونا في بعض الأحوال يُستطاع تشمير جلدته، وبعضها ربما تصلب وتكثف حتى تيبس فلا يُستطاع شمرها، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: ما أمكن شمره دخل فيما يجب تعميم غسلة.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ويَرْتَفِعُ حَدَثٌ قَبْلَ زَوَالِ حُكْمِ خَبَثٍ)}.
أي لو أنه كان على بطنه شيء من النجاسة، كأن تكون نجاسة بول، أي: أثر بولٍ أصاب بدنه، يعني شيء ليس له جرم، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه إذا عمم بدنه بالماء فارتفع حدثه بذلك التعميم، وإن كان حكم النجاسة لا زال باقيًا، وهذا مبناه عندهم على أن تغير الماء في محل التطهير لا يسلبه الطُّهورية، وإن كانوا قد قالوا: إنه لا يحصل ارتفاع الحدث إلا مع آخر غسلة زالت بها النجاسة، ولذلك قال بعض الحنابلة: لا، وإنه ما دام فيه نجاسة، فإنه لا يتأتى له ارتفاع الحدث إلا بأن تزول هذه النجاسة التي على بدنه، والحقيقة أن هذا وإن كان خلاف تقرير أهل المذهب، إلا أنه وجيه جدا بناء على ما قرروه هناك.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (ويُسْتَحَبُّ سِدْرٌ في غُسْلِ كَافِرٍ أَسْلَمَ، وحَائِضٍ}.
لأنَّ النبي في غسل الكافر، أمر أن يغتسل بماء وسدر، وكذلك أيضا الحائض أمرها النبي في حديث أسماء بذلك.
{قال المؤلف -رحمه الله-: (وأَخْذُهَا مِسْكاً تَجْعَلُه في قُطْنَةٍ أو نَحْوِهَا وتَجْعَلُهَا في فَرْجِهَا، فإن لم تَجِدْ فَطِيباً، فإنْ لم تَجِدْ فطِيناً)}.
هذه أشياء ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى: ليست من الغسل، لا الكامل ولا المجزئ، ولكنها من توابعه المطلوبة، ومن مكملاته المسنونة، فقال: (وأَخْذُهَا مِسْكاً)، المسك نوع من الطيب، تجعله المرأة في قطنة ونحوها، وذلك لأنه من جهة أنَّ أثر الحيض ربما بقي معه رائحة؛ لأن هذا الدم إذا استمر خروجه من ذلك المكان لمدة تطول، تصل إلى ثلاثة أيام أو أربعة أو خمسة أو سبعة، ينبو عنه رائحة كريهة، فتقطع الرائحة بمثل هذه المسكة.
كثير من الناس -خاصة المتزوجين- ربما لا يجد أو لا يرى شيئًا من ذلك، ولكنهم ما عرفوا أحوال الحيض ومعاناة الحيض مع بساطة الدنيا وقتئذ، ومع عدم وجود ما يستعينون منه به في تقليص انتشار النجاسة وحفظها، وسرعة التخلص منها، وما يتهيأ لهم من أماكن للنظافة بين الفينة والأخرى، يحصل به تنظف منها.
فكانت النساء فيما مضى يخرج الدم في بين الفينة والفينة، فتتلطخ بذلك ثيابها، ولذلك اعتادت النساء في حال الحيض -فيما مضى- أن يكون لها ثوب للحيض، يعني: تعتاد أنه يتلطخ بالنجاسة، ويكون فيه الدم، فتعتاد ذلك لأنه لا يتأتى لها غير هذا. أو أسهل ما يمكن أن يكون عليها هو فعل ذاك، وإلا لأدى إلى حرج كثير.
فعلى كل حال، هي تأخذ مسكة تجعلها في قطنة؛ لأنه جاء بذلك الحديث عن النبي ، أنه أمر أن تأخذ فرصة من مسك تجعله في فرجها، فهذا مما يحصل به قطع هذه الرائحة.
(وأَخْذُهَا مِسْكاً)، لأنه يتأتى به المعنى، وهو نوع من المسك، لأن المسك نوع من الطيب، ولأن المقصود بذلك يتأتى به، ولأجل هذا ما يوجد من أشياء تُصنع لذلك خاصة في هذا الوقت، هي داخلة في المراد، ومقصودة فيما ذكره الفقهاء. وهل تكون أولى من المسكة أو لا؟ لا يجرؤ إنسان أن يخالف النبي ولو ظاهرا، ومهما عُلِمَ من نفعها أو من أثر هذه المكونات الكيميائية مثلا أو سواها أو من أعشاب أو غيرها، فإنه مهما عُرف فيها من أثر يتعدى المسك، فإنه أكثر ما يمكن أن يقال: أن تجعل مع المسك.
أما الذي جاء عن النبي فسنته ثابتة، والاقتداء به مطلوب، والتأسي بذلك هو التمام والكمال، ولا يُرَبِّ الإنسان نفسه على تجاوز السنن، أو التقول على قول رسول الله ، وما جاءت به شريعته، وكلما كان الإنسان أكثر مُراعاةً لذلك، فإن هذا من حقيقة الانقياد والاستسلام لـ "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" على ما تقدم معنا في شروط ذلك، وفيما يعتبر من تحقيق هاتين الشهادتين.
قال: (فإنْ لم تَجِدْ فطِيناً)؛ لأنَّ الطين أحد الطهورين، وتنقطع به هذه الرائحة ويحصل به ذلك.
{قال -رحمه الله-: (ويُتَوَضَّأُ بمُدٍّ استِحْبَاباً، والمُدُّ رَطْلٌ وثُلُثٌ عِرَاقِيٌّ، ورَطْلٌ وأُوقِيَّتَانِ وسُبْعَا أُوقِيَّةٍ مِصْرِيٌّ، وثَلاثُ أَوَاقٍ وثَلاثَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ دِمَشْقِيَّةٍ، وأُوقِيَّتَانِ وأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ أُوقِيَّةٍ قُدْسِيَّةٍ. ويَغْتَسِلُ بصَاعٍ وهو أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، وإن زادَ جازَ، لكنْ يُكْرَهُ الإسرافُ ولو على نَهَرٍ جَارٍ)}.
قال: (ويُتَوَضَّأُ بمُدٍّ استِحْبَاباً)، كأن الماتن -رحمه الله تعالى- أَخَّرَ هذه المسألة مع كونها متعلقة بالوضوء، ولكن هذا يأتي على طريقة الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في جمع المسألة مع ما يقارنها، وإن كان غالب ذلك أن يجعلها مع أول مناسبة، ويضم إليها ما يُشبهها، ولكن الأمر في ذلك يسير جدا.
وعلى كل حال لا يخلو الحال من أنَّ الغسل أحد الطهورين، وهما كالشيء الواحد، وبعض هذه المسائل مكمل لِمَا تقدم ومتصل بها.
يقول: (ويُتَوَضَّأُ بمُدٍّ) والمد ملء الكفين المتوسطتين، وكما قلنا: المد هو من قياس الشيء بالحجم، بالحجم، يعني: بملء الفراغ، فما يملأ الكفين من الماء قد يكون له وزن، ثم إذا ملأنا الكفين من الشعير قد يكون له وزن آخر، أقل أو أكثر، وإذا جعلنا في ملء الكفين حديدًا كان وزنها أثقل، فالأصل أنَّ الكيل كان عندهم أكثر، وهو اعتبار الأشياء بحجمها، وهذا تقدم معنا كثيرا مثل: المد، الصاع، الوسق، ومثل: اللتر الآن، والبرميل، والجالون، أي: من الأشياء التي هي تستعمل عندنا، وإن كانت هذه ألفاظ ليست عربية.
فالمؤلف لَمَّا كان الأصل هو اعتبار الأشياء بحجمها، وآلَ الأمر إلى استقرار الناس على الوزن كثيرًا، نَقَلَ هذا إلى ما يساويه موزونا، وهو كما قلنا على سبيل التقريب، لأنَّ الماء الذي هو الماء ربما اختلف ثقله وخفته بحسب ما يجتمع فيه من معادن أو سواها، ولذا فقد نقله إلى ذلك تقريبًا.
ثم قال: (ويَغْتَسِلُ بصَاعٍ) والصاع (هو أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ)، وهو الصاع النبوي، وأقرب ما يمكن أن يُمَثَّلَ أو يُقارب حقيقته هو الأمداد المتوسطة أربعة، وإلا يكاد يكون الآن انتشار هذه الأصوات أو بقاؤها على هيئة قليلة جدا؛ لأنه حتى وإن وجد الصاع -لأن الآصع- مختلفة، فما انتشر بعد ذلك في دمشق من صاع، أو في مصر، أو في غيرها، ربما كان أكبر أو أصغر من الصاع النبوي الذي عُرِفَ في المدينة، ولذلك طلب الإمام مالك من بعض أهل المدينة أن يحضروا أصواعهم، لينظر على ما حُفِظَ من الصاع النبوي عن النبي .
قال: (وإن زادَ جازَ)، يعني: هذا هو السنة، لأنَّ النبي كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وجاء في بعض الأحاديث إلى خمسة أمداد، ولذلك قال: (وَإِنْ زَادَ جَازَ)، ولأنَّ النبي اغتسل مع عائشة في فَرَقَ، والفرق قالوا: ثلاثة آصع، فكل هذا يدل على أن الزيادة بغير ما إسراف لا غضاضة فيها.
قال: (لكنْ يُكْرَهُ الإسرافُ ولو على نَهَرٍ جَارٍ)؛ لأنَّ النبي نهى عن ذلك، وجاء في حديث جابر أن الرجل قيل له: إن النبي يغتسل بالصاع، فقال: لا يكفيني، فأقبل عليه وسَبَّه وقال
«كانَ يَكْفِي مَن هو أوْفَى مِنْكَ شَعَرًا، وخَيْرٌ مِنْكَ» ، يعني الخيرية الدينية والحاجة إليها الفعلية، فهو أكثر منك شعرا، وكلما زاد الشعر احتاج إلى ماء أكثر.
إذًا يكره الإسراف، ولا شك أن ما تعاهده الناس الآن من هذه المياه التي تفتح من الجدران وموصلة فيه، تفتح باب الإسراف من كل وجه، وأذكر أنَّ شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- كان يحافظ كثيرًا على أن يغتسل من الإناء؛ لأنَّ ذلك أوفق في منع الإسراف ومقاربة السنة، فإن لم يكن الإنسان فاعلا لذلك، فلا أقل من إن يمنع تدفق الماء بغير وجه حق، ويكون فيه إسراف، فكيف إذا كان هذا الماء محتاجا إليه؟ وكيف إذا كان بمال؟ وكيف إذا كان بمال كثير؟ فلا شك أن هذا مما يَستدعي أو يتأكد معه عدم الإسراف، وربما انتقل إلى التحريم؛ لأن فيه إضاعة للمال، وفيه تفويت المال على مستحقه، وفيه أيضا تعريض الناس لو ذهبت مياههم إلى ما يكون من خطر، أو يمكن من حصوله.
{قال -رحمه الله-: (ويَحْرُمُ أن يَغْتَسِلَ عُرْيَاناً بينَ النَّاسِ، وكُرِهَ خَالِياً في الماءِ)}.
قال: (ويَحْرُمُ أن يَغْتَسِلَ عُرْيَاناً بينَ النَّاسِ)، هذا بلا شك، وذلك لِمَا فيه من إظهار العورة، وحفظ العورة واجب، «احفَظْ عورتَكَ إلَّا من زوجتِكَ أو ما ملكت يمينُكَ» كما جاء في الحديث، ولا يختلف أهل العلم في حرمة كشفها، ووجوب سترها، ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه، «لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ» ، ذهب بعض الشراح إلى أنَّ المقصود بذلك هو الاستتار، يعني: في العورة، وفي ذلك غير ما حديث، كحديث أبي سعيد، لَمَّا ذكر الرجلين يذهبان إلى الغائط كاشفين عن عورتهما ويتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك، وما يكون من سبب المقت في كشف العورة، هو أول سبب له وأعظم ما يكون فيه، إذًا لا يختلف في مثل هذا.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وكُرِهَ خَالِياً في الماءِ)، وهذا عند الحنابلة لأنهم يقولون: إن للماء سكانا، كما جاء هذا في بعض الأثر فاعتمدوا عليه، وهم يعتمدون على ما جاء من الأثر وإن كان فيه ضعف، خاصة إذا كان مبناه تحصيل الاحتياط، فيفهم منه إذا كان في غير الماء، يعني: لو أنَّ إنسانًا يصب على نفسه في مكان خالٍ، فإنه لا بأس بذلك أو لا غضاضة، وهذا هو الذي صرح به صاحب الإقناع، استدلالا بما جاء عن موسى -عليه السلام- في أنه اغتسل عريانا بعيدًا عن الناس، في القصة المشهورة في الحديث، والتي نزلت بها الآية، وإن كان قد قال بعض المحققين: إن الكراهة أيضا باقية، وأن الأولى الاستتار حتى مع الخلو، ونقل ابن تيمية أنَّ القول عن أحمد في ذلك كثير.
{قال -رحمه الله-: (فَإِنْ أَسْبَغَ بأَقَلَّ ممَّا ذُكِرَ في الوُضُوءِ أو الغُسْلِ أَجْزَأَهُ، والإسباغُ: تَعْمِيمُ العُضْوِ بالماءِ بحيثُ يَجْرِي عليه ولا يَكُونُ مَسْحاً)}.
قال: (فَإِنْ أَسْبَغَ بأَقَلَّ)، لأنَّه قد جاء عن النبي أنه توضأ بثلثي مد، وأيضا اغتسل بأقل من صاع، كما في حديث عائشة، بثلثي صاع، فدلَّ ذلك إذًا على أنه إذا حصل الإسباغ حصل المقصود، وصحت الطهارة سواء كانت الصغرى أو الكبرى.
ثم قال: (والإسباغُ: تَعْمِيمُ العُضْوِ بالماءِ)، يعني: هو التكميل والتتميم، ما الذي يُفهم من هذا؟ يفهم أنَّ الإسباغ شيء غير التثليث، يعني: ليس من اللازم الإسباغ أن يَغسل يديه ثلاثا أو وجهه ثلاثا أو رجليه ثلاثا، بل إذا حصل منه تتميم العضو بالماء، وإيصال الماء إليه بدون نقص أو غيره، كان ذلك إسباغًا؛ لأنه هو بمعنى الكمال والإتمام، ولذلك يقال: "ثوب سابغ" إذا كان تامًا على الإنسان وكاملا عليه.
{قال -رحمه الله-: (أو نَوَى بغُسْلِهِ الحَدَثَيْنِ، أو الحدثَ وأَطْلَقَ، أو الصَّلاةَ ونَحْوَهَا ممَّا يَحْتَاجُ لوُضُوءٍ وغُسْلٍ، أَجْزَأَهُ عَن الحَدَثَيْنِ، ولم يَلْزَمْهُ تَرْتِيبٌ ولا مُوَالاةٌ)}.
قال: (أو نَوَى بغُسْلِهِ الحَدَثَيْنِ)، فإذا نوى الحدثين هذا ظاهر، وهذا أقطع في كل حال، وتحصل له الطهارة الكبرى، كأن المؤلف يريد أن يشير إلى مسألة، وهي سواء كان قد اغتسل الغسل الكامل أو الغسل المجزئ، فكلاهما يتأتى بهما ارتفاع الحدثين ما دام قد نواه على هذا النحو، بأن ينوي رفع الحدثين، أو حتى لو نوى رفع الحدث وأطلق، فإنَّ الحدث اسم للأكبر والأصغر على حد سواء فدخل فيه.
(وأَطْلَقَ) يعني: لم يعين واحدا، (أو الصَّلاةَ ونَحْوَهَا)، فإنَّه إن نوى الصلاة، فالصلاة لا تتأتى للإنسان إلا بالطهارة من الحدثين، فكما لو نواهما، وبناء على ذلك يتأتى له الطهارة منهما. ويفهم منه أنه لو نوى ما تُعتبر له الطهارة الكبرى فقط، فإنه لا يرتفع إلا الحدث الأكبر، كما لو أنَّ امرأة اغتسلت من حيضها، وليس في نفسها أنها اغتسلت إلا لأجل أن يجامعها زوجها، فعندهم أنه لا يرتفع إلا الحدث الأكبر، أو أنَّ شخصا أراد أن يغتسل لقراءة القرآن، فإن قراءة القرآن إنما تمتنع على الجنب، أي: من به حدث أكبر -ليس مس المصحف- لأنَّ مس المصحف يُشترط فيه الطهارة الصغرى أيضا، على خلاف في مثل هذه المسائل، ولكن بلا شك أن الإنسان يتحرى في جانب النية، وفي قصده، حتى لا يدخل في حرج، ولأن بعض أهل العلم يُبطل بعض هذه المسائل أن يكون قد تأتى له الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر في بعض الصور، ولكن لن نتطرق أو ندخل في تفاصيل.
قال: أَجْزَأَهُ عَن الحَدَثَيْنِ، ولم يَلْزَمْهُ تَرْتِيبٌ ولا مُوَالاةٌ)، يعني: أنَّ الوضوء يلزم فيه الترتيب والموالاة، ومن حصل منه غسل مجزئ، فإنه لم يحصل منه ترتيب ولا موالاة، فيقول مع ذلك المؤلف -رحمه الله-: إن الطهارة الصغرى دخلت في الطهارة الكبرى، وفي حكمها على سبيل الإطلاق، فلم يُحتج إلى ترتيب ولا موالاة.
ولكن هنا ينبه إلى مسألة، وهي أن أي شخص نوى الطهارة من الحدث الأكبر فغسل بعض أعضائه، فانتهى الماء على سبيل المثال، أو خاف من تغسيل جميع بدنه، مثلا لو كان البرد شديدًا فغسل بدنه وترك رأسه، لأنه يبدو للهواء ونحوه، ثم أراد بعد ذلك -بعد وقت- أن يغسل بقية بدنه، أو ما تركه في غسله، فلا بد من نية جديدة، حتى يتأتى له المقصود ويكتمل له، وإلَّا فإن الموالاة في الغسل غير مُشترطة، بشرط أنه لو فرق بينهما، فإنه يُحدث النية عند كل عمل منها.
{قال -رحمه الله-: (ويُسَنُّ لجُنُبٍ ولو أُنْثَى وحَائِضٍ ونُفَسَاءَ انقَطَعَ دَمُهَا غَسْلُ فَرْجِه لإزَالَةِ مَا عَلَيْهِ مِن الأذَى.
والوُضُوءُ لأَكْلٍ وشُرْبٍ لقَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-:
«رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ للجُنُبِ إذا أَرَادَ أنْ يَأْكُلَ أو يَشْرَبَ أنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ للصَّلاةِ» رواهُ أَحْمَدُ بإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
ونَوْمٍ لقَوْلِ عَائِشَةَ، «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ للصَّلاةِ» مُتَّفَقٌ عليه. ويُكْرَهُ تَرْكُه لنَوْمٍ فَقَطْ)}.
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا مسألتين، ولعلنا نبدأ بالثانية؛ لأنَّ الأولى تحتاج إلى شيء من التفصيل.
قال -رحمه الله-: إذا أراد أن ينام فانه فإنه يتوضأ إذا لم يرد الغسل، لأنه قد جاء في بعض الأحاديث أن النبي نام من غير أن يمسَّ ماءً، قال أهل العلم: كناية على ترك الطهارة من الحدث الأكبر، يعني: الغسل، ولكن يُستحب له الوضوء بكل حال، ولأنه جاء في بعض الأحاديث كراهية ذلك فيمن نام ولم يتوضأ، وهذا بالنسبة للنوم.
ولكن ألحق بذلك الحنابلة الوضوء والأكل، وربما نُقِلَ فيه بعض الأثر، وقد ذَكَرَ المؤلف -رحمه الله- حديث عائشة، وإن كان فيه إشكال من جهة ثبوت ما يتعلق بالأكل والشرب في حديث عائشة، ولكن جاء معناه في حديث عمار -أظن- «رَخَّصَ للجُنب إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأكُلَ أَوْ يَشرَبَ أَوْ يَنَامَ أَنْ يَتَوَضَّأ وُضُوءه للصَّلَاة» ، فأخذ من هذا أهل العلم، أنَّ الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب فيستحب له أن يتوضأ، والمقصود هو تخفيف الحدث، ولذلك قالوا: لو انتقض وضوءُه بعد ذلك لا يحتاج إلى إعادة الوضوء، وإنما المقصود هو تخفيف الحدث الأكبر، وذلك يتأتى بمجرد الوضوء، حتى ولو انتفض بعد ذلك، ولأجل هذا فَرَقَ الفقهاء -رحمهم الله- في الكراهة، فقالوا: إذا نام بدون أن يتوضأ كُرِهَ له ذلك؛ لأنَّ الحديث في هذا صريح، وأمَّا الأكل والشرب فلا، ولكن من التمام أو الكمال أو المستحب أن يتوضأ أيضا إذا أراد أكلا أو شربًا.
وهنا قال المؤلف -رحمه الله-: (ويُسَنُّ لجُنُبٍ ولو أُنْثَى وحَائِضٍ ونُفَسَاءَ)، فألحق الحائض والنفساء التي انقطع دمها، ولم تُرد الغسل في آنها، يعني إمَّا كونها بعد منتصف الليل، يعني لم يلحق بها وجوب فعل صلاة، أو أداء شيء، فأرادت أن تنام مثلا، أو في الضحى، الساعة السابعة من الضحى، هنا لم يلزمها شيء، فأرادت أن تُؤخر غسلها، فكأنَّ الحنابلة ألحقوا حكمها بحكم الجنب في تخفيف ما عليهم من الحدث بالوضوء قبل نوم وأكل وشرب.
{قال -رحمه الله-: (ويُسَنُّ أَيْضاً غَسْلُ فَرْجِه ووُضُوءَهُ لمُعَاوَدَةِ وَطْءٍ، لحديثِ «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءاً» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وغَيْرُه، وزادَ الحَاكِمُ «فإِنَّهُ أَنْشَطُ لِلعَوْدِ، والغُسْلُ أَفْضَلُ»)}.
قوله: (ويُسَنُّ أَيْضاً غَسْلُ فَرْجِه ووُضُوءَهُ)، وإن اغتسل فهو أفضل لمن أراد أن يعاود الوطء، لحديث مسلم هذا، قال: («فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وُضُوءاً فإِنَّهُ أَنْشَطُ لِلعَوْدِ»)، وربما شَكَله بعضهم، وإن كان خلاف الأشهر.
قال: («فإِنَّهُ أَنْشَطُ لِلعَوْدِ»)، فعلى كل هذا مما يستحب لمن كان على جنابة وأراد أن يعاود، أي: عاد بعد أن بدأ، فرجع إلى الشيء ثانية، أو فَعَلَهُ مرة أخرى، ولكن لا يجب عليه الغسل، ولا يجب الوضوء، وإن كان ذلك مستحب، والنبي طاف على نسائه بغسل واحد، كما جاءت بذلك السنة.
{قال -رحمه الله-: (وكَرِهَ الإِمَامُ بِنَاءَ الحَمَّامِ وبَيْعَهُ وإِجَارَتَهُ، وقالَ في حق مَن بَنَى حَمَّاماً للنِّسَاءِ: لَيْسَ بعَدْلٍ. وللرَّجُلِ دُخُولُه بسُتْرَةٍ معَ أَمْنِ الوُقُوعِ في مُحَرَّمٍ، ويَحْرُمُ على المَرْأَةِ بِلا عُذْرٍ)}.
هذه المسألة ذكرها المؤلف على سبيل التبع؛ لأنها محل للغسل في أحوال كثيرة، وهي من المسائل النافعة، والتي تبنى عليها أحكام كثيرة جدا مما يحتاج الناس إليه في يومهم هذا، فما يختلط على الناس مما يتداخل فيه فعل المكروه.
هل يجوز للإنسان أن يبيع فيه ويشتري من حيث الأصل؟
نقل الشارح هنا قوله: (وكَرِهَ الإِمَامُ بِنَاءَ الحَمَّامِ وبَيْعَهُ وإِجَارَتَهُ)، وهذا لِمَا فيه من انكشاف العورات، ورؤية الناس بعضهم لبعض، ولذلك بعض الناس ربما دخل عاريا، وفيهم بجاحة، وتنقل الرواية عن أحمد -رحمه الله- أنه دخل الحمام فرأى عريانا فأغمض عينيه، فقال ذلك الرجل: متى أعمى الله بصرك يا أحمد؟! فقال -رحمه الله-: حين هتك سترك.
فعلى كل حال، بناء الحمام لَمَّا كان يترتب عليه الوقوع في هذه المكروهات، والتعرض للحرام لا على سبيل اليقين، فإن ذلك كان مكروها لا ممنوعا.
قال: وهو في حق النساء أشد؛ لأنه جاء أنها «سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إِلَّا بِالْأُزُرِ، وَلَا تَدْخُلُهُ الْمَرْأَةُ إِلَّا مِنْ سَقَمٍ»، فأخذ من هذا أهل العلم التشديد في حال النساء أكثر، وقالوا: إن احتاجت إلى ذلك جاز، ووسع فيها بعض أهل العلم فقالوا: ما دام أنها تحفظ نفسها، وتحتاج إلى ذلك، حتى ولو أمكنها فعل ذلك في بيتها.
بعضهم جعل الإذن للعذر، وزاد ابن تيمية فقال: إذا كانت تحتاج إليه واعتادت، يعني: كأنه أوسع، وأخذوا هذا من عذر، كحيض أو نفاس أو نحوه، وقالوا: فإن كان في بيتها ما يحصل لها بذلك لم يكن مانعا أيضا من جواز دخولها للحمام بشرطه، ولذلك قالوا: يكره الدخول لتوقع حصول المكروه، وإن تيقن انكشاف العورات حَرُمَ ذلك.
وأيضا قالوا: يجب على الداخل أن يحفظ نفسه، وأن ينأى في زاوية، وأن يتعجل الخروج، وأن يغض بصره، وأن يلازم جدارا ونحوه وهكذا، وكانوا لا ينفكون من الحاجة إليها.
{قال -رحه الله-: (ويَحْرُمُ على المَرْأَةِ بِلا عُذْرٍ)}.
هذا -كما قلنا- هو مشهور المذهب عند الحنابلة، ولكن يقولون: إذا احتاجت إليه جاز، ثم بعضهم وسع في ذلك أكثر، لِمَ قلنا بهذا التوسيع؟ لأنَّ الناس الآن توسعوا في شيء من مثل ذلك، ولو ضُيِّقَ عليهم ربما لحق بهم حرج كثير، فما دام أنَّ فيه فسحة، ولو من قول آخر، أو من رواية أخرى، فلا يبعد القول بذلك واعتباره.
وصلى الله وسلم وبارك على النبي وآله وصحبه وسلم.

دروس ذات صلة