{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (ما الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه؟
الجواب: قوله تعالى: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: ٤]،
وقوله تعالى: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣]، وقوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ
الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: ٧٦]، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: ١٧]، وقوله تعالى: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِيمَانًا﴾ [المدثر: ٣١]، وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ
إِيمَانًا﴾ [التوبة: ١٢٤]، وقوله تعالى: ﴿فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾ [آل
عمران: ١٧٣]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾
[الأحزاب: ٢٢] وغير ذلك من الآيات.
وقال ﷺ: «لو أنكم تكونون في كل حالة كحالتكم عندي لصافحتكم الملائكة» ، أو كما
قال)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه
وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد، فلمَّا كان العمل والقول داخلا في حقيقة
الإيمان، فإن الناس يتفاضلون في أقوالهم وأعمالهم، فإذا تفاضلوا كان العامل أكثر
والمستكثر من الطاعات، والمتزود من القربات، أقرب عند الله -جلَّ وعلا- وأرجى،
لتمام إيمانه، وكمال تحقيقه لِمَا جاء في كتاب الله -جل وعلا- وسنة نبيه ﷺ.
ولذلك أفاض المؤلف -رحمه الله- في ذكر الآيات التي تدل على أنَّ أهل الإيمان
يزدادون إيمانًا ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣]، وقوله: ﴿لِيَزْدَادُوا
إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: ٤]، فكل من تقرب بقربى، وأدى طاعة، كان ذلك
زائدا في إيمانه، يفضل به غيره من أهل الاعتقاد والإيمان، ومن أهل الإسلام
والإيقان، فإن الأعمال تزيد في إيمان المرء، وتجعله أتم وأكمل، وأقرب إلى الله -جل
وعلا-، ولذلك قال: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: ٧٦]، وما
كان المؤلف -رحمه الله تعالى- ليزيد من هذه الآيات إلا للدلالة على قولِ من خالف،
ودحض شبهة من اشتبه عليه الأمر، فقال: إنما الإيمان تصديق، يأتي جملة ويذهب جملة،
كحال أهل الإرجاء، الذين جعلوا الإيمان مجرد تصديق.
ولذا أراد المؤلف -رحمه الله- أن يُبين فساد قولهم، وضلال اعتقادهم، ويرد شبهتهم،
لا بقول من عند أحد، ولا برأي من أهل العلم، ولكنه بقول الله -جل وعلا- في غير ما
آية من كتاب الله -سبحانه وتعالى-.
فهذه الآيات دالة على ذلك كله، كما أنها أيضًا دالة على بُطلان قول الذين الخوارج
الذين يكفرون بالكبيرة، ويُذهبون الإيمان بذلك جملة، فإنه قد جاء في الأدلة ما يدل
على أن مقترف الكبيرة يبقى إيمانه، ويتحصل له ما بقي من أصل اعتقاده، كما جاء ذلك
في أدلة السنة التي مرت معنا في المجلس الماضي.
﴿قال -رحمه الله-: (ما الدليل على تفاضل أهل الإيمان فيه؟
الجواب: قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة:10-11]، إلى قوله: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا
أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة:27]، وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾
[الواقعة:88-91]، وقال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر:32] الآيات.
وفي حديث الشفاعة: أن الله يخرج من النار من كان في قلبه وزن دينار من إيمان، ثم من
كان في قلبه نصف دينار من إيمان، وفي رواية: «يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ،
وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ
وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ» )﴾.
وهذا أيضا في معنى الآيات المتقدمة، ولكنه بيان لحال أهل الإيمان في درجاتهم
ومنازلهم، فجاء ذلك أيضا في غير ما دليل من كتاب الله -جل وعلا-، ففي أول سورة
الواقعة قال الله -جل وعلا-: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة:10-11]، ثم قال الله -جل وعلا-: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ
مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾
[الواقعة: 27-29]، فجاء في الآية الأولى مِنْ سَبْقِهم وتقدمهم، وما كَمَّلَ الله
-جل وعلا- لهم من الجزاء والأجر والمثوبة، ثم جاء بعدهم أهل اليمين، وهم كذلك
مشتركون في أصل دخول الجنة، وفي المجازاة والإثابة على الأعمال، ولكنهم دون المنزلة
الأولى.
ثم بين الله -جل وعلا- حال الكافرين بعد ذلك فقال: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا
أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ [الواقعة:41]، وابتدأ الله -جل وعلا- السورة بهذه الأحوال
واختتمها بذلك.
فلمَّا ذكر الخاتمة، أبان عن أحوال الناس فيها، فقال سبحانه: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾
[الواقعة:88-89]، فبين ما لهم من الفضل، ومن عظيم الدرجة، عند خروج الروح، ومفارقة
الدنيا، والانتقال إلى أول منازل الآخرة، وهو القبر.
ثم قال: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة:90-٩١]، فحاله حال أهل السلامة، وأهل النجاة، وأهل
الفلاح، وأهل الخير والهدى والتوفيق، لكنهم دون المنزلة الأولى.
ثم قال: ﴿وَأَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنَ اَلْمُكَذِّبِينَ اَلضّٰالِّينَ (92) فَنُزُلٌ
مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة: 92-94]، ففي هذا دلالة على ما
تقدم من أحوال أهل الإيمان في منازلهم، وأنهم لا يستوون، وأن الإيمان ليس مجرد
تصديق، بل هو تصديق وإقرار، ومن مقتضياته القول والعمل، فكلما زاد الإنسان قولا
وعملا؛ زاد في ذلك عند الله -جل وعلا- منزلة في كمال إيمانه، وزيادة عمله، والعمل
من الإيمان، فكان إيمانه أكمل وأتم.
وأيضًا ذكر آية سورة فاطر، وهي في معنى آية سورة الواقعة، قال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ [فاطر:32]، والظالم لنفسه بعمل السيئات، والوقوع
في المعاصي والموبقات، ومع ذلك لم يكن ليخرج من الإسلام، ولم يكن ليفارق الإيمان.
ثم قال الله -جل وعلا-: ﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ وهم الذين أدوا الفرائض، وقاموا
بالواجبات، لكنهم لم يزيدوا ولم يتزودوا، ولم يستكثروا ولم يجهدوا أنفسهم في
الخيرات.
ثم قال الله -جل وعلا- في بيان حال أتَمِّهم إيمانًا، وأكملهم أداء واكتفاء، قال:
﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾.
ثم ذكر الحديث أيضا في معنى ذلك، وهو أنه لَمَّا كان يدخل الجنة من كان في قلبه
مثقال شعيرة من الإيمان، أو مثقال بُره، أو مثقال ذره، وهي أخف ما تكون، ثم دليل
على أنَّ من كان إيمانه عظيمًا، وكانت منزلته عَلِيَّة، ولذلك جاء في الأثر، وإن
كان في سنده ما فيه، إلا أنه مستقر عند أهل العلم، لا يختلفون في معناه، «ما
سبَقَكم أبو بكرٍ بكَثرةِ صَومٍ ولا صلاةٍ، ولكنْ بشَيءٍ وقَرَ في صَدْرِه»، وليس
المقصود في هذا الأثر أنَّ أبا بكر لم يعمل ولم يتزود، ولكن هو بيان أنَّ أصل
الإيمان يتفاضل، وما يستقر في القلب من الاعتقاد، وحسن التصديق، والإقرار، هو أدعى
للعبد على التزود من الطاعات، وزيادة الانقياد لله -جل وعلا- والاستسلام، والإقبال
على الطاعات، والتكثر من القربات.
{قال -رحمه الله-: (ما الدليل على أن الإيمان يشمل الدين كله عند الإطلاق؟
الجواب: قال النبي ﷺ في حديث وفد عبد القيس: «آمرُكُم: بالإيمانِ باللَّهِ وحده»،
قال: «أتَدْرُونَ ما الإيمانُ باللَّهِ وحْدَهُ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:
«شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقامُ
الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وصِيامُ رَمَضانَ، وأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ
الخُمُسَ» )}.
هذه مسائل مهمة في الإيمان، وكل من أتى عليها على أصل متين، وعلى أخذٍ من كتاب الله
-جل وعلا- وسنة نبيه الأمين، فإنه يُفلح ويُهدى، ويكون عنده حسن النظر، والتوفيق
للحق، وسلوك سبيل أهل السنة والجماعة، الذين جمعوا هذه النصوص، وجعلوا كُلَّ نصٍ في
محله، وجمعوا بينها ولم تتضاد عليهم، ولم يختلف قولهم، ولم يحصل بذلك شيء من نزاعات
أهل الأهواء، إما نزعة إلى التكفير والتضليل لأول وهلة، والوقوع في الذنب والخطيئة،
أو إبقاء الإيمان تامًّا لمن خلط وأساء على نفسه، ولمن دَنَّسَ إيمانه، ولم يؤدِّ
حق ما استقر في قلبه.
فلما كان الأمر كذلك، أهل السنة والجماعة جمعوا هذه النصوص، تبيانا للحق، وبيانا
لمن أراد الطريق القويم، فكان هذا هو الأصل في معنى الإيمان، أنه دال على الأعمال
الباطنة، ولكنه ليس بمنفرد أو منبت عن الأعمال الظاهرة، بل جاء في الأحاديث ما يدل
على أن الإيمان مشتمل على ذلك.
فلما كان الأمر على هذا النحو، وعرفنا أن الإسلام لا يساوي الإيمان من كل وجه،
لِمَا جاء في الآية ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا
وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات:35]، فجمع أهل
السنة والجماعة بين هذه النصوص كلها، وقالوا: الإيمان أصله في الأعمال الباطنة، وله
دلال على الأعمال الظاهرة، والإسلام دال على الأعمال الظاهرة، وله امتداد إلى
الأعمال الباطنة؛ لأنه لا يتصور لإنسان أن يكون مسلمًا بأداء الأركان الخمسة بدون
أن يكون انعقد في قلبه أصل الإيمان.
كما أنه لا يتصور أيضا من جهة أخرى، أن يكون إنسان قد استقر الإيمان في قلبه، دون
أن يكون منه عمل وأعمال ظاهرة، فلمَّا كان الأمر كذلك، قال أهل السنة والجماعة
-لَمَّا استدللنا على أنه يشمل هذا وهذا-، وأن الإيمان أصل في الباطن دال على
الظاهر، وأن الإسلام أصل في الظاهر دال على الباطن، قالوا: إذا افترقا، يعني: إذا
وجد واحد منهما دلَّ على المعنيين، أي: اشتمل على معنى الإيمان، الذي هو الإيمان
الباطن بالأركان الستة، واشتمل أيضا على الإسلام والأعمال الظاهرة، التي هي الأركان
الخمسة.
وإذا وجد الإسلام أيضا بدون ذكر الإيمان؛ دلَّ على الأركان الخمسة، مع دلالته على
الإيمان، فإذا وجدا مجتمعين افترقا في الدلالة، أو اختص كل واحدٍ منهما بأصله، فكان
الإيمان -إذا اجتمع الإيمان والإسلام- دال على الأعمال الباطنة، أو الأركان التي
جاءت في حديث أبي هريرة، والإسلام مجتمعًا مع الإيمان يدل على الأركان الخمسة.
ولذلك استدل المؤلف -رحمه الله تعالى- على الأمر الخفي فقط، وهو كيف يمكن أن نستدل
على أنَّ الإيمان دالٌ على الأعمال الظاهرة، فجاء بحديث مسلم في الصحيح، في وفد عبد
قيس، لَمَّا عَرَّف الإيمان فقال: «شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ
مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وصِيامُ
رَمَضانَ، وأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ»، وهذا كما قلنا: دال على أنَّ
الإيمان مشتمل على الأعمال الظاهرة.
﴿قال المؤلف -رحمه الله-: (ما الدليل على تعريف الإيمان بالأركان الستة عند
التفصيل؟
الجواب: قول النبي ﷺ لَمَّا قال له جبريل عليه السلام: «أخبرني عن الإيمان قال:
«أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ،
وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ» )﴾.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: إنه من حيث الأصل والدلالة التفصيلية، فإن الإيمان
دال على الأركان الستة، بما جاء في هذا الحديث، ولأنَّ الله -جل وعلا- قال: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا آمنوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ
عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ
وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً
بَعِيدًا﴾ [النساء:136]، فدلَّ ذلك على أنَّ الإيمان دالٌ على هذه الأركان، بما جاء
في هذه الآية، وبما جاء في هذا الحديث.
{قال -رحمه الله-: (ما دليلها من الكتاب جملة؟
الجواب: قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177]، وقوله
تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
وسنذكر إن شاء الله دليلَ كلٍّ على انفرادِه)}.
إذا هذا إشارة إلى ما جاء في كتاب الله -جل وعلا- من الدلالة على أركان الإيمان،
وذلك في قول الله -جل وعلا-: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177]، وقوله
تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]، والاستدلال بأية
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ زيادة تأكيد، وإلا فإنه أيضا عند علماء
أهل السنة، قال بعضهم: إنَّ الإيمان بالقدر داخل في الإيمان بالله، لأنه من مقتضيات
توحيد الربوبية بالله -جل وعلا-، فحتى مع الاقتصار على آية سورة البقرة، فإنَّ
الدليل كاف على المراد، ولكن زيادة في التفصيل والتأكيد، وحتى يكون أقرب للطالب في
أول وهلة للفهم والتنبيه، فإنَّ المؤلف -رحمه الله- ذكر الدليلين ليكونا أَنَص،
وليكونا أوضح في الوصول إلى المراد.
﴿قال -رحمه الله-: (ما معنى الإيمان بالله عز وجل؟
الجواب: هو التصديق الجازم من صميم القلب بوجود ذاتِه تعالى الذي لم يسبق بضدٍّ ولم
يعقب به، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء،
والباطن فليس دونه شيء، حي قيوم، أحد صمد ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:3-4]، وتوحيده بإلهيته وربوبيته وأسمائه
وصفاته)﴾.
إذا حقيقة الإيمان هو التصديق الجازم، بمعنى أنَّ التصديق على أحوال، فليس كل من
صدق على حال واحدة، فإذا قلت لكم على سبيل المثال الآن: الدرس قائم في هذا المسجد،
فتصديقكم لذلك على أتم وجه، لأنكم ترونه أمام أعينكم عيانًا بيانًا.
وإذا قلت لكم: إن سيارة قديمة بجوار هذا المسجد، فيمكن أن تصدقوني لكوني صادقًا،
ولكن التصديق بها ليس كالتصديق بالدرس الذي ترونه، وإذا كان أيضا شخص قد دخل من
قريب ولم ير شيئا، فإنه قد يصدق لكون المخبر عنده صادق، لكن درجة الشكوك عنده أعلى،
ولذلك كان التقرير عند أهل السنة والجماعة، أنَّ التصديق الجازم هو حقيقة الإيمان،
وأن الناس يتفاضلون فيه، خلافًا لأهل الإرجاء، ولأهل الأهواء، الذين يقولون:
التصديق شيء واحد، إمَّا أن يوجد جملة، وإمَّا أن يُفقد جملة، ولذلك حصل بعد ذلك
عندهم من الضلال في تفسير الإيمان وحقيقته، ما أودى بهم إلى إخراج الأعمال، وإلى
جعل التصديق في القلب، ولم يقارنه فعل، أو غلاتهم الذين جعلوا التصديق مجرد قول،
حتى ولو خالفه القلب؛ فوقعوا في أنواع من الضلالات، وهذا شأن أهل الأهواء؛ لأنه ما
سوى الحق ليس له حد يقوم عليه، فلذلك من زاغ عن الحق الذي استقام بالأدلة، واستنار
بالبراهين، فإنه تتخطفه الأهواء، فيدخل في مسائل لا حَدَّ لها، وفي ضلالات يتدهده
فيها إلى يوم القيامة.
ولذلك ما من بدعة ولا ضلالة وقعت، إلا تبعها ضلالات كثيرة، وشبهات متعددة، ولم يدخل
أهل الأهواء بابا من الضلالات، إلا وانجَرَّ إليهم أبواب أُخر، وضلالات كثيرة،
جرتهم إلى تفويت الإيمان، ومفارقة ما جاء عن النبي ﷺ، وطريق أهل السنة والجماعة،
الذين عُنُوا بالكتاب والسنة.
ولعل للحديث بقية، ونكتفي بهذا القدر، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.