{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (ما هو توحيد الإلهية؟
الجواب: هو إفراد الله -عز وجل- بجميع أنواع العبادة، الظاهرة والباطنة، قولا
وعملا، ونفي العبادة عن كل ما سوى الله تعالى كائنا من كان، كما قال تعالى:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء:٢٣]، وقال تعالى:
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء:٣٦]، وقال تعالى:
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
لِذِكْرِي﴾ [طه:١٤]، وغير ذلك من الآيات، وهذا قد وفت به شهادة أن لا إله إلا
الله)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه
وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يملأ قلوبنا
توحيدًا وإيمانا، وأن يرزقنا هُدى وعملاً واستنانًا، وأن يجعلنا على السُّنة أبدَ
الدهر قائمين، على ذلك نحيا وعليه نموت، وعليه نلقى الله -جل وعلا- رب العالمين.
هذا شروع من المؤلف -رحمه الله تعالى- في توحيد الإلهية، والكلام في هذه المسألة،
والحرص عليها، وبذل الجَهد فيها، من أعظم ما ينبغي على المكلف القيام به، إذ إنه ما
أُمِرَ بشيء أعظم من توحيد الله -جل وعلا-، وما خلقت الدنيا ولَا كُوِّنَت الأكوان
إلا لأجل ذلك، قال -جل وعلا-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56]، وما امتلأ قلبٌ بشيء أعزَّ على العبد، وأنفسَ وأسلمَ
لقلبه، وأصلح لدنياه، وأنجى لآخرته، وأكثر طمأنينة له، مما يقر فيها من توحيد الله
-جل وعلا-.
ومهما اجتمعت للنفوس من متع الدنيا ورفاهيتها، ووجد فيها من السعة والانبساط، وتنقل
العبد بين الشهوات والرغبات، فإنَّ العبد إذا فات عليه توحيد الله مع ذلك كله،
يُظِلمُ قلبُه، وتسودُّ حياته، وتفسد عليه دنياه وآخرته، ولذلك قال الله -جل وعلا-:
﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن
يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ
فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام:125]، ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ
قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [الزمر:45].
فبالتوحيد تطيب الحياة، ويستقر الإنسان، ويسعد في الحال والمآل، ﴿مَنْ عَمِلَ
صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً﴾ [النحل:97]، ويقول الله -جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
[الرعد:28]، فذكر الله إذا عُطِّرَ بِهِ اللسانُ، وامتلأ به الجنان، كان ذلك سببًا
للسعادة التي لا شقاء بعدها، وضد ذلك بضده، ولأجل ذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124].
ولَمَّا كان هذا الأمر هو الذي جاءت به الرسل، ودعت إليه خِيرة الخلق، وهم أنبياء
الله تعالى، وصفوة الخلق أجمعين، فإنَّ ذلك يستدعي أن يرعى العبد هذا التوحيد في
نفسه أولا، فيملأ بذلك قلبه، ويعاهد على ذلك نفسه، وينعقد على ذلك كل حاله، فلا
يحيد عن ذلك، ولا يضعف، ولا يميل ولا ينحرف، ولا يطلب الشهوات عوضا عن توحيد الله
-جل وعلا-، ولا تعرض عليه الأهواء، فتفسد عليه ما انعقد عليه من التوحيد والإيمان،
ثم ليكن بذلك فَرِحًا داعيًا إلى الله -جل وعلا- على علمٍ وهدى وبصيرةٍ، فيملأ بذلك
بيته، ويُسعد بذلك أهله؛ لأن بذلك النجاة، وبذلك الفلاح، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الطور:21].
فما جاد وما سَعِدَ، من أحسن إلى أولاده في دنياهم، ورفههم في أمورهم، ووسع عليهم
في مأكلهم ومشربهم، وقد خربت قلوبهم، أو ضاع توحيدهم، أو تلقفتهم الأهواء، أو
امتلأت قلوبهم بالشبهات، أو كانت قلوبًا خربة، لا تعرف التوحيد من أصله! ولا تُحسن
ما يقوم عليه! ولا تعرف شيئًا تلجأ إليه إذا احتاجت، ولا تفرح به إذا توجهت بصلاة
ولا بغيرها؛ ولأجل ذلك كان الحرص على التوحيد من أعظم ما ينبغي للمسلم.
ثم إذا علم المرء ما آلت إليه أحوال أهل الدنيا، وكيف زُيِّنَ الكفر بالله جل وعلا؟
وحتى عبادة الأوثان؟ وحتى التوجه وتعظيم الأبقار؟ وحتى الشخوص إلى الأصنام؟ كان ذلك
معظمًا عند أقوام، فما زالوا يذيعوه وينشروه حتى رقَّت لذلك قلوب لم تعرف الإيمان،
أو أرادت ما يسمى بعدم التفرقة، أو التقريب، أو سواه، فضاعت بذلك قلوب، وفسدت بذلك
عقائد كثيرة.
وإذا عَلِمَ المرء أنه ليس بمنأى من الوقوع في البلاء، والتلطخ بالشرك بالله -جل
وعلا- إذا لم يكن عليه حريصا، وعلى دينه قائمًا، ولطلب مرضاة ربه -جل وعلا-
مجتهدًا، متمثلا قول الله -جل وعلا-: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ
ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف:108]، فإنه لا تؤمن عليه
الزلة.
وإذا علمنا أنَّ النبي ﷺ قد ذكر في صحيح خبره، أنه «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى
تَضْطَرِبَ ألَياتُ نِساءِ دَوْسٍ علَى ذِي الخَلَصَةِ» ، يعني فيما استقر به
التوحيد، وظهر فيه الإيمان، وشاعت أعلام السنة والديانة والاعتقاد، ومع ذلك ينتكس
أمرهم، حتى يتوجهوا إلى الأصنام، ويعظموا هذه المعبودات، التي هي معبودات المشركين،
فإنه بعد ذلك لا يأمن أحد على نفسه، فإن الله -جل وعلا- بَيَّنَ حاله، ودعاءه،
وطلبه الاستمساك بتوحيد ربه، والتوجه إليه، وإذا كان البلاء لا يُؤمن على أحد، فإن
ذلك مدعاة إلى أن يحرص على هذا الأمر أيما حرص.
فإذا تقرر ذلك، ولَمَّا كان الحاضرون ممن يُرجى لهم -بإذن الله جل وعلا- أن يتصدوا
لهذا التوحيد، دعوة واهتداء، ونشرًا وإظهارًا، فإنه لا بد لطالب العلم، والداعي إلى
توحيد الله -جل وعلا- أن يستن بسنة النبي المصطفى ﷺ.
ومبدأ التوحيد في إشاعته وإظهاره، هو في تعليمه وإبانته، بمعنى أنَّ العبد إذا عاد
إلى أهله، وإذا رجع إلى مجتمعه، يريد بذلك هدايتهم، فإنه يسعهم ما يسع السابقون من
أهل العلم، الذين مضوا على ما مضى عليه الأولون، وعلى ما مضى عليه الصحابة، الذي
كان عليه النبي ﷺ، إذ عَلَّمَ الناسَ توحيدهم، وَبَيَّنَ لهم ما يلزمهم لربهم،
وأبان ذلك في توضيحات وتفصيلات وتنبيهات ملأ بها كل أيام دعوته، منذ أن بعثه الله
-جل وعلا- إلى أن قبضه.
فالتعليم هو الذي يحصل به الاهتداء، وهو الذي يحصل به التأسيس، وهو الذي يكمل به
البناء، وهو الذي تُطرد به الأهواء، وتمنع به البدع، ويحال بينه وبين ما يقدح فيه،
أو ينقضه، أو يعارضه، أو يكون سببا لنقصانه، فلا ينبغي كما يحصل عند بعض الطلاب، أن
ينعكف على نفسه، حتى إذا رأى ثغرة أو خطأ انقض عليهم إنكارًا.
وإنكار المنكر حال واقعة، يُراد بها دفع شر حاصل، ولكن لا يحصل بها ما يحصل ببناء
ذلك تعليما وهداية، وتأسيسا وتكميلا.
ويُلحظ أن بعض الطلاب يبقى على ما بقي عليه، حتى إذا رأى أناسًا مجتهدين أو محبين،
وفيهم بعض الجهل، أو تلقوا شيئًا على غير هدى، أو على غير علم، أو على غير بصيرة،
مع بعدهم عن محل العلم، وعن تلقي السنة الصحيحة، عاد عليهم لوما وتجريحًا، وإظهارًا
للخطأ، وتكبيرًا للخلل، فهذا من حيث هو إنكار لخطأهم واضح، ولكن ما الذي أحوجك إلى
أن تصل إلى هذا؟ كنت في سعة من الحال طيلة الأيام والشهور والأعوام، أن تعلمهم
وتحصنهم، وتملأ قلوبهم بما يمنعهم عن تلكم الممارسات، أو الوقوع في تلك الأخطاء، أو
التلطخ بما يكون به قادح من قوادح الإيمان، أو ناقض من نواقضه.
ومن المعلوم أن تقبل النفوس للتعليم في وقت هدوئها وطمأنينتها واستقرارها، أيسر
بكثير من المواجهة في إظهار الخطأ أو إبداء الخلل، ولأجل ذلك يجب أن يكون هذا هو
الأصل الأصيل، مع اعتبار أن إنكار المنكر أصل أصيل مستقر به الشرع، وجاءت به السنن،
ولكن إنما ذاك إذا كان الناس في حال عِلمٍ وهدى وبصيرة.
وأمَّا أن يترك ما أوجب الله عليه من الهُدى والتعليم، ثم يعود عليهم بالتجهيل
والإنكار، فهذا تفويت لِمَا يمكن أن يُحَصَّلَ به تمام الخير، وكمال الاهتداء،
والاستنان بسنة النبي المصطفى ﷺ.
فَلْيُحذر فإنَّ هذا من أكثر ما يحصل به ذهاب الخير، وامتناع قبوله، وحصول ضده،
والامتناع من الإفادة من طالب العلم، والاستفادة منه، إذا لم يكن معهم في كل
أحوالهم تعليمًا وتدرجًا، وتوضيحًا، وتبيينًا.
إنَّ هذا هو توحيد ربكم، وهو الذي جاء به نبيكم ﷺ، فمن أراد النجاة فليسلك هذه
السبيل، اهتداء ودعوة، وليكن هذا هو ملء قلبه، وملء نفسه، عليه يقوم، وعليه ينام،
وعليه يصبح، وعليه يمسي، فإذا رأينا تزيين هذه الأهواء زاد الأمر وجوبًا، واعتناءً،
وتحصينا للناس وهداية.
ولأجل ذلك لم يكن بُدٌ من مثل هذه المجالس، ومن مثل هذه المسائل، وإن كانت في ظاهر
الأمر، مسائل يسيرة، أو مسائل سهلة، أو يظن الطالب أنه قد حققها، أو استيقنها، أو
علمها، فإنَّ العلم إنما يَعقبه العمل، والعلم بعظمه، وأثره، وفائدته، ثم ما
يُكَمِّلُه من الدعوة إليه والعمل به.
فإنَّ التوحيد ليس هو كلمة تقال فحسب، بل هو شيء ينعقد عليه القلب، ويتبعه في ذلك
اللسان، وتستقيم عليه الجوارح، فإن قول: "لا إله إلا الله لا" يزال العبد يقولها،
فيأتي بأركانها، وشروطها، على ما مرَّ بيانه، ثم لا يزال يسعى في منع ما ينقضها أو
يُنقصها في كل أحواله، فإنَّ التوحيد ليست عباءة إذا لبستها لم تنتزع حتى تنزعها،
فإنَّ المرء ربما أحسن دنياه حتى يلفظ بكلمة تُفسدُ عليه أوله وآخره، ودنياه
وآخرته، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
أَنْكَاثًا﴾ [النحل:92]، ولهذا قصص كثيرة، وأحوال مشهورة، من أحوال النبي ﷺ، فيمن
يَتَأَلَّى على الله -جل وعلا- فقال: «واللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ» ، مع
ما كان عليه من الاستقامة، والديانة، والهدى، ومع ذلك قال الله -جل وعلا- «مَن ذا
الذي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ، فإنِّي قدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ،
وأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ».
فإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ الاعتناء على هذا الوجه، والقيام على هذا الأمر، ليس
بالأمر اليسير، وإنما هو بالأمر العظيم، وفي المقابل، فإنه لا يزال المرء يُعنى
بذلك حتى يوفق له، ويُعنى بذلك حتى تستنير به القلوب، وتستضيء به النفوس، وتصلح به
المجتمعات، فلقد عَرَفَ الناس في هذه البلاد قبل وقت ليس بالقريب ولكنه ليس
بالبعيد، وهم في جاهلية جهلاء، تقرب من جاهلية أهل الإشراك بالله -جل وعلا-، من
كثرة البدع والضلالات، واللجوء إلى القبور والأولياء والصالحين، والتوجه إليهم من
دون الله -جل وعلا-، مع ما هم فيه من فُرقة، وما اجتمع إليهم من فقر، وما ظهر فيهم
من جهل، ثم لَمَّا جعل الله -جل وعلا- وقيض لذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه
الله تعالى-، امتلأ قلبه توحيدًا وغيرة عليه، وعلما واهتداء به، فلم يزل مُعلمًا
للناس، منافحًا عن هذه الكلمة، طالبًا الاهتداء بها، فأيده في ذلك الإمام محمد بن
سعود رحمه الله تعالى رحمة واسعة، فكان الخير كله في هذه الدعوة، فَعَلِمَ الناس
التوحيد وعرفوه، واستقاموا عليه حتى وصل الأمر إلى أنّ عوام الناس في هذه البلاد،
يضحون عن هذين الإمامين، لسابق فضلهما، وعظيم أثرهما. فكان هذا الأمر من أعظم ما
يكون له الأثر في هذه البلاد، مع ما اجتمع من صلاح الديانة، واستقامة الناس في
دنياهم، واجتماعهم، وحصول الخيرات لهم، والله يتولانا وإياكم برحماته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.