مكتبـــــة الدروس

2024-03-19 11:01:52

أعلام السنة المنشورة (10)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (ما هو توحيد الربوبية؟
والجواب: هو الإقرار الجازم بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره والمتصرف فيه، لم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا مضاد له ولا مماثل، ولا سمي له ولا منازع في شيء من معاني ربوبيته، ومقتضيات أسمائه وصفاته، قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام:١] الآيات، بل السورة كلها، وقال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢]، وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: ١٦] الآيات، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: ٤٠])
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل توحيده والإيمان به، الذين حققوا التوحيد وكملوه، واقتدوا بسنة نبيهم واتبعوه، وأن يجعلنا ممن يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عذاب، ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- شروعٌ في بيان توحيد الربوبية، ولو أنَّ المؤلف قَدَّمَ هذا السؤال قبل السؤال عن توحيد الإلهية؛ لكان ذلك أحسنُ في النظم، وأتمُّ في التأليف والرسم، وأكملُ في الفهم وترتيب الطالب للمقدمات وما يترتب عليها، فإنه من المعلوم قطعًا -كما سيأتي- أنَّ توحيد الربوبية تبع لتوحيد الإلهية، فإنَّ الاعتراف بتوحيد الربوبية يستلزم الإيمان بتوحيد الإلهية، وتوحيدُ الإلهية مُتضمن للربوبية، فكان توحيد الربوبية أسبق ولا شك.
وعلى كل حالٍ، فإنَّ المؤلف -رحمه الله- لعله لَمَّا كانت الأهمية لتوحيد الألوهية، إذ به المزلق، وتكون فيه الهفوة، ويحصل عند الناس فيه الخلل، قَدَّمَه إبَّان انتباه الطالب وحرصه، فإنَّ الطالب في أول تعلمه يكون أشد حرصًا، وأكثر اهتمامًا، ثم لا يزال يضعف، فلعله اعتبر ذلك، فقدَّم ما يحتاج إلى فهمه أولا، واعتباره ابتداء، حتى لا يذهل الطالب ويغفل.
وتوحيد الربوبية -هو كما قلنا، وبين ذلك المؤلف رحمه الله تعالى في جوابه- فقال: (هو الإقرار الجازم بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره والمتصرف فيه)، فابتداء توحيد الربوبية هو إمَّا أن يُقال: توحيد الله -جل وعلا- بأفعاله، من خلقٍ، وتدبيرٍ، وإماتةٍ، ورزقٍ، وإعطاءٍ، ومنعٍ، وما جاء في كتاب الله -جل وعلا- وسنة نبيه في وصف أفعال الله -جل وعلا-، وتدبيره، وخلقه، وقيامه على عباده، فهذا هو حقيقة معنى توحيد الربوبية.
وعلى ذلك جاءت الآيات ونطقت النصوص، وإن شئت فقلت: إنه كما قال المؤلف: (هو الإقرار الجازم بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره والمتصرف فيه)، فيكون أيضًا بنحو ما ذكرنا أولاً، وهو توحيد الله -جل وعلا- بأفعاله.
وإن شئت قلت: إنه الإقرار بأن الله الخالق المدبر، الذي له الخلق والأمر، فهو مُتضمنٌ لِمَا ذكره المؤلف هنا، أو أنه لا يَخلق ولا يرزق ولا يَعطي ولا يمنع إلا الله -سبحانه وتعالى- فكل ذلك تعريف ببعض ما يشتمل عليه هذا التوحيد.
وجماع ذلك أنَّ توحيد الربوبية مُشتقٌ من الربِّ، فهو الإيمان بأنَّ الله ربُّ كل شيء، والربُّ حقيقته في العربية يدور على معانٍ، هي: المالك، كما يقال: ربُّ الدابة، وربُّ الدار، وربُّ المال وهكذا، يعني: مالكه.
ويُطلق على الخالق، فأيضًا يُطلق عليه بأنه "رب" كما قال الله -جل وعلا-: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، فهو خالقها، ومكونها، ومكورها.
وأيضًا يُطلق الرب على السيد المطاع، كما في قوله: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً﴾ [يوسف:41]، يعني: سيده المطاع.
كما أنَّ ذلك يتضمنُ أيضًا المصلح للأمور القائم عليها، وهذا يدخل في معانٍ كثيرة مما يختص به معنى الرب، ولذلك ربنا الله الذي ربانا بنعمه، يعني: قام على خلقه، ولذلك يقول الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "فربنا جل ثناؤه هو السيد الذي لا شِبْهَ له، ولا مِثْلَ له في سُؤدده، وهو المصلح لأمر عباده بما أنعم عليهم، وهو الخالق له الملك والأمر".
فهذا هو جماع هذه المعاني، ونحوا من ذلك يقول ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: فإن الله رَبُّ عَبدِه في خلقه، وهو الذي هداه ويسر له ما يقوم فيه في شأنه"، فكل ذلك دال على هذا المعنى.
قال الإمام السعدي -رحمه الله تعالى- في تمام ذلك، وفي إشارة لطيفة فيما يشتمل عليه هذا المعنى، قال: "وأعظم ذلك في الرب -جل وعلا- ما يَصطفي به عباده، ويُربيهم عليه من الاصطفاء بالإيمان، والتوفيق للإيقان، والقيام عليهم بهداية قلوبهم وصلاح أرواحهم، أو كلامًا نحوه.
فهذا ما يدور عليه فَلَكُ الرب، وهو في معنى توحيد الربوبية، ولذلك كان أهل العلم في توحيد الربوبية على تسميته إمَّا بتوحيد الربوبية، كما هو مُشتهرٌ عند أئمة الدعوة، وأيضا فيما ذكره المؤلف هنا، وهو أيضا دالٌ على أصل ما قام عليه المعنى، وجاءت به النصوص.
وإمَّا أن يُقال: إنَّه توحيد المعرفة، كما نَطَقَ بذلك جمعٌ من المتقدمين، ومنهم ابن القيم وغيره -رحمهم الله-؛ لأنَّ فيه المعرفة والإثبات، المعرفة بأنَّ الله -جل وعلا- له الفعل، والخلق، والتدبير، والإماتة، والإحياء، والرزق، والإعطاء، والمنع، والنصر، والعز، والذل، والله -جل وعلا- هو الذي بيده كل ذلك، وهو الذي يُدبر عباده لِمَا يشاء، من عِزٍّ أو ذُلٍّ، من توفيقٍ أو خذلانٍ، من عناية أو تركٍ وإضلالٍ، إلى غير ذلك من معانٍ كثيرة.
ويقال أيضًا: هو التوحيد الخبري؛ لأنه الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه، ويدخل في ذلك توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الأسماء والصفات هو داخلٌ في توحيدِ الربوبية؛ لأنَّ الله -جل وعلا- إذا أَمَنَّا بأفعاله، فإن أفعاله مشتقة من صفاته، وصفاته مأخوذة من أسمائه، فهو توحيد للأسماء والصفات، ولذلك كما جاء في تقسيم بعض أهل العلم: أنَّ التوحيد قسمان، توحيدُ المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب. ونحوًا من ذلك بعض التسميات التي هي قريبة ودالة على هذا المعنى.
وتوحيد الربوبية -مثل ما ذكرنا قبل- أنه سابق على توحيد الإلهية، فإنَّ الله -جل وعلا- هو الذي خلق الخلق، وهو الذي رباهم بنعمه، وهو الذي خلق لهم السماوات والأرض، وهو الذي يَسَّرَ لهم الأرزاق، وهو الذي أقام لهم الأمور، وجعل لهم من أسباب العيش وتيسير الأمور، ما قامت بذلك حياتهم، وانفتحت بذلك قلوبهم، وهُدوا لِمَا يكون فيه صلاحهم، ثم إنَّ الله -جل وعلا- أمرهم بعبادته، فكان توحيد الإلهية كما قال الله -جل وعلا-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56].
كذلك فإنَّ توحيد الربوبية هو بعض التوحيد لا جميعه، فإنَّ التوحيد لا يتحقق إلا بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ولذلك ذكر الله -جل وعلا- وحكى في كتابه حال المشركين، وما يؤمنون به من أنَّ الله ربهم ولم ينفعهم ذلك، ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف:87]، فدلَّ ذلك على أنه بعض التوحيد وليس جميعه، وأن من استقر في قلبه توحيد الربوبية، فتح له بابَ توحيد الألوهية، ولذلك هو مُستلزمٌ لتوحيد الإلهية، فإنَّ ما أنعم الله به على العباد من خلقٍ، ورزقٍ، وهدايةٍ، وإنعامٍ، هو يقودهم إلى أن يوحدوا الله، ويؤمنوا به، ويتبعوا رسله، ويؤمنوا بكتبه، ويؤدوا حقه -سبحانه وتعالى- واضح؟
ولأجل ذلك كان توحيد الربوبية مُستلزمًا لتوحيد الإلهية كما قلنا. ما معنى أنه مستلزم؟
يعني: أن كل من يؤمن بالربوبية لا بد أن يؤمن بالألوهية، وإلا لم يكن ذلك إيمانًا صحيحًا، لأنك كيف تعلم أنَّ الله خالقك ورازقك، ثم تتوجه إلى أحد سواه، فإنَّ علم العبد بأن الله هو الخالق الرازق، يستلزم أن يُوَحِّدَ الله، وأن يُؤمن به، ويتبع ما أنزل من كتابٍ، وما بعث من رسول.
وتوحيد الإلهية مُتضمنٌ لتوحيد الربوبية، إذ أنَّ النفوس جُبِلَتْ على أن لا تذلَّ ولا تتوجه ولا تتعبد ولا تنساك إلا لمن قام عليها خَلقًا وإحياءً، ورزقًا وإعطاءً، وحسابًا وجزاءً، وهذا ظاهر في معنى توحيد الإلهية، إذ أنَّه لا يُتصور أن يَعبد الإنسانُ حجرًا لا ينفعه، أو أن يعبد صنمًا لا يعطيه ولا يعاقبه، فإن ذلك نوعٌ من اللهو والعبث، ولذلك أَبْطَلَ الله -جل وعلا- في غير ما آية من كتابه، عبادة المشركين لآلهتهم بأنهم لا يَخلقون، ولا يُحدثون نفعًا ولا ضرًّا، ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ﴾ [الرعد:16].
إذًا دلَّ هذا على أنَّ توحيد الربوبية تضمنه توحيد الإلهية، فمعرفة دِلالة التضمن، ومعرفة دِلالة الاستلزام والإلزام من أهم ما ينفعك في هذا الباب، أي: في تحقيق التوحيد، والإيمان بالله -جل وعلا-.
ولئن كان هذا التوحيد أقرَّ به المشركون في وقت سابق، فملئت به قلوبهم، مع ما هم فيه من الضلال والإشراك به، فإننا في هذا الزمان الذي انصرفت النفوس إلى الماديات، أحوج ما يكون الخلق إلى العلم بالله، وتدبيره للأكوان، وقيامه على العباد، وتخليصهم من البلايا، وإنقاذهم من المصابات، فإنَّ ذلك من أعظم ما يُعيدهم إلى توحيده، ويُقر في قلوبهم الإيقان به، والتوجه إليه، وتعظيمه سبحانه، ولذلك قال الله -جل وعلا- في كتابه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر:67].
فإذا اشتدت الأمور وعظمت المصابات، كان أعظم ما يكون لأهل الإيمان من اللجأ لله، والعلم بأنه يُخلصهم مما ابتُلُوا به، ولذلك قال الله -جل وعلا-: ﴿أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ۚ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾ [الملك:20-21]، فكانت من أعظم الآيات في كتاب الله -جل وعلا- التي تهدي العبد، وتزيده ذُلاً لله وإقبالاً عليه.
كما أنَّ ذلك أنفع ما يكون للعبد -يعني الإيمان بربوبية الله جل وعلا- إذا رأى الصُدود إلى الإلحاد، والوقوف عند الماديات، وما يتبع ذلك من أنواع البلاء والشر، الذي ابتُلِيَ به كثير من أهل هذه البسيطة، بل ربما دخل على بعض أهل الإسلام، فَشَوَّشَ على قلوبهم، وَشَبَّهَ على نفوسهم، بل لربما عادوا على أنفسهم بالكفران بالله -جل وعلا-، ومواقعة ما كان عليه الضُّلال وأهل الإلحاد على ملة فرعون، ومن سار على طريقه، ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:14]، ويأبى الله مهما وقع في نفوسهم من الجحود، إلا أنه مُسْتَقِرٌ في قلوبهم الإيمان، لولا الإعراض والمكابرة والإقبال على الشهوات والمصادرة، والله يتولانا بلطفه ورحمته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسَلَّمَ وبارك على النبي الأمين.

دروس ذات صلة