مكتبـــــة الدروس

2024-03-19 10:52:18

أعلام السنة المنشورة (8)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (ما هو توحيد الإلهية؟
الجواب: هو إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولا وعملا، ونفي العبادة عن كل ما سوى الله تعالى كائنا من كان، كما قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣]، وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦]، وقال تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: ١٤]، وغير ذلك من الآيات، وهذا قد وفت به شهادة أن لا إله إلا الله)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعلنا وإياكم من أهل توحيده، والإيمان به، وتحقيق ذلك، عليه نحيا وعليه ونموت، وبه نلقى الله -جلَّ وعلا- رب العالمين، على التمام والكمال، وعلى الإحسان والقيام بما أمر الله -جلَّ وعلا- من توحيده والإيمان به.
كنا في المجلس الماضي قرأنا ما يتعلق بهذا السؤال، واستهللنا الحديث بأهمية توحيد الإلهية، وذلك لَمَّا شاعت في هذه الأوقات الشهوات، وَرَغِبَ الناس فيما أوتوا من الدنيا والرغبات، وأعرضوا عن حق الله -جلَّ وعلا- الذي لأجله خُلقت الأرض والسماوات.
وتفصيل الكلام على مسألة توحيد الإلهية من الأهمية بمكان، وكتاب الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- "كتاب التوحيد"، هو في تحقيق هذا النوع من أنواع التوحيد، فهو في تحقيق توحيد لا إله إلا الله، توحيد الإلهية، ونفي كل ما يُضاده أو يُنقصه، أو يكون مانعا من كماله وتمامه، فمن الأهمية تحقيق ذلك والتعمق فيه، وضبطه على الوجه الذي يتأتى للعبد به كمال التوحيد؛ لأن هذا -كما قلنا- هو الذي جاءت به الرسل، وأُنزلت به الكتب، وهو الذي لأجله خُلِقَ الخلق، وكما قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، هذا من جهة.
من جهة معنى توحيد الإلهية، فالإلهية: من الإله، والإله من آَلِهَ يَأله فهو إله بمعنى مألوه؛ لأنه على وزن "فِعَال" بمعنى: "مَفْعُول"، ككتاب بمعنى "مكتوب"، وإله هي أصل: "الله"، فإنَّ الله أصلها "إله"، ثم لَمَّا أُضيفت إليها "الألف واللام" التي هي لام التعريف، حُذفت الهمزة في "إله" تخفيفًا، و "إله" بمعنى: "المألوه" يعني: المعبود، وإلهتك: بمعنى: عبادتك.
ولذلك قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ [الأعراف:127]، يعني: وعبادتك، كما في قصة موسى مع فرعون، و "آله" حقيقتها من التأله، وهو التعبد والتنسك.
وتوحيد الإلهية -كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى- في معناه، هو: إفراد الله -جلَّ وعلا- بأنواع العبادة الظاهرة والباطنة، قولا وعملا واعتقادا، ونفي العبادة عمن سوى الله تعالى، كائنًا من كان، فحقيقه توحيد الإلهية هو: إفراد الله -جلَّ وعلا- بأنواع العبادات، سواء كانت مما يَقَرُّ في القلب من التعظيم، وأعمال القلوب، والمحبة، والخوف، والرجاء، أو كان ذلك من: الأقوال، كالنطق بـ "لا إله إلا الله"، وعدم صدور شيء من العبد، فيه تسوية غير الله بالله، كشرك الألفاظ ونحوها، أو كان ذلك بالأعمال، كالصلاة، والذبح، والطواف، والحج، والصيام، فكل ذلك من العبادات التي لا تُصرف إلا لله -جل وعلا-، فهذا هو تحقيق توحيد الإلهية، وقد جاءت بذلك الآيات والنصوص، ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [فصلت:6]، ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ [لقمان:30]، وفي ذلك آيات كثيرة.
وتوحيد الإلهية هو جماع التوحيد، ولذلك قال أهل العلم: هو مأخوذ من الربوبية؛ لأنَّ من علم أن الله ربه، فإنه يتوجه إليه، ومن علم أن الله خلقه، فإنه يعبده، ومن علم أن الله أعطاه، فإنه يُطيعه، أليس كذلك؟ ويحبه، ويرجوه، ويخافه، فلأجل ذلك كان توحيد الإلهية متضمنًا لتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية أيضا متضمن لتوحيد الأسماء والصفات، فإنه لولا عِلم العبد بأن الله هو الرحيم، وهو الرحمن، وهو العليم، وهو الخبير، فإنه لا يتذلل العبد إلا من علم أن الله يحيط به، وأن الله يعلم كل شيء، وأن الله يرحمه، وأن الله ينتقم من الظالمين، وهكذا في كل ما هو متعلق بمعنى الأسماء والصفات.
وهذا التوحيد هو الذي جاءت به الأنبياء والرسل؛ لأن توحيد الربوبية ما كان الناس يختلفون فيه، حتى عُبَّاد الأوثان والأصنام فإنهم يعلمون أن الله هو الخالق وهو الرازق، ما نعبدهم وهم يشركون بالله، قال الله -جلَّ وعلا- عنهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ﴾ أي: أصنامهم ﴿إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر:3]، فهم يعلمون أنَّ الله هو المعبود الحق، وأنَّ الله -جلَّ وعلا- هو الإله الخالق، وإنما أضلهم الشيطان بالتوجه إلى هذه الآلهة من دون الله -جل وعلا-.
فتوحيد الربوبية لا أحد ينكره قبل فرعون، وحتى فرعون إنما قال ذلك استكبارًا، واستقرَّ في قلبه إيقانًا ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل:14] كما قال الله -جلَّ وعلا- في كتابه.
وحقيقة توحيد الإلهية هو تحقيق شهادة "أن لا إله إلا الله" التي بها يدخل العبد الإسلام، وهي التي بها يحصل على الجنة، والنجاة من النار، فـ «مَن ماتَ لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، ومَن ماتَ يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا دَخَلَ النَّارَ» ، وهو حقيقته الذي بُعث لأجله الرسل، وخلق لأجله الخلق، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، تحقيق العبادة، أي: الإلهية لله -سبحانه وتعالى-، فكان هذا من أعظم ما يُعنى المكلف، ويتفقه فيه الموحد، وناهيك بطالب العلم الذي ينبغي أن يكون أكثر تحقيقا لهذه المسائل، وعلمًا بهذه الأبواب، وإتيانًا على تفاصيل ما يتعلق بهذا العلم، وهو العلم بالله -جلَّ وعلا-، وتوحيده، والإيمان به، وتكميل ذلك بما تحصل للعبد النجاة في الدنيا، والفوز في الآخرة.
{قال -رحمه الله-: (ما هو ضد توحيد الإلهية؟
الجواب: ضده الشرك، وهو نوعان: شرك أكبر ينافيه بالكلية، وشرك أصغر ينافي كماله)
}.
كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: ما ضد توحيد الإلهية؟ لماذا احتاج إلى ذلك؟
لأنه كما قلنا: "وبضدها تتميز الأشياء"، والضد بالضد يتضح ويتبين ويظهر.
قال: (ضده الشرك) وحقيقة الشرك من التشريك، وهو ضد الانفراد، وحقيقته المقارنة من شرك في الشيء إذا اشترك فيه، ومنه الشركة في الأمور الدنيوية.
وحقيقة الشرك هو جعل الشريك لله -جلَّ وعلا- كما عرَّفه بذلك ابن قتيبة وغيره، وقال ابن تيمية -رحمه الله-: هو أن يُصرف لغير الله من المخلوق ما يستحقه الله وحده، فمن صَرَفَ شيئًا لغير الله مما هو من خصائص الله -جلَّ وعلا- فقد أشرك.
وكما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "هو أن يشرك العبد مع الله غيره في القصد، أو في الاعتقاد، أو في العمل"، والعمل يشمل القول أيضًا.
ومن أحسن ما يقال في ذلك، ما ذكره الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- لَمَّا قال: وأن يُشرك العبدُ مع الله غيره في العبادة، أو يُعظم مع الله سواه، أو يصرف إليه شيء من خصائص الربوبية أو الإلهية، فذلك هو حقيقة الشرك من حيث هو معنى عام.
والشرك كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنه على نوعين، جاءت بذلك النصوص، ودلت عليه الآيات والأحاديث، فهو شرك أكبر وشرك أصغر؛ لأنَّ النبي لَمَّا قال: «إنَّ أخوَفَ ما أخافُ عليكُمُ الشِّركُ الأصغرُ» ، فدلَّ ذلك على أنَّ الذي يُقابله هو الشرك الأكبر.
والله -جلَّ وعلا- قال في كتابه: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة:44]، قال ابن عباس: ليس الكفر الذي تذهبون إليه، يعني: إشارة إلى أنَّ الكفر في كتاب الله -جلَّ وعلا- يحتمل أن يكون أصغر، ويمكن أن يكون أكبر، وهذا من جهة وجود نوعين من أنواع الإشراك بالله -جل وعلا-، وسيأتي بيان الفرق بينهما.
وقد أشار المؤلف إلى ذلك فقال: (شرك أكبر ينافيه بالكلية، وشرك أصغر ينافي كماله)، وسيتبين ذلك أيضا في السؤالين اللاحقين لهذا السؤال.
{قال -رحمه الله-: (ما هو الشرك الأكبر؟
الجواب: هو اتخاذ العبد من دون الله ندا يسويه برب العالمين يحبه كحب الله ويخشاه كخشية الله ويلتجئ إليه ويدعوه ويخافه ويرجوه ويرغب إليه ويتوكل عليه، أو يطيعه في معصية الله، أو يتبعه على غير مرضاة الله، وغير ذلك، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء:٤٨]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء ١١٦]، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [المائدة:٧٢] وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج:٣١]، وغير ذلك من الآيات.
وقال النبي :
«حَقُّ اللَّهِ علَى عِبَادِهِ أنْ يَعْبُدُوهُ ولَا يُشْرِكُوا به شيئًا، وحَقُّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا» ، وهو في الصحيحين.
ويستوي في الخروج بهذا الشرك عن الدين المجاهر به ككفار قريش وغيرهم، والمبطن له كالمنافقين المخادعين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء:١٤٥-١٤٦]، وغير ذلك من الآيات)}.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- بيان للشرك الأكبر، الذي ينافي الإيمان بالكلية، فقال: (هو اتخاذ العبد من دون الله -جلَّ وعلا- ندًا يُسَوِّيهِ بربِّ العالمين)، وسواء كان هذا في أعمال القلوب أو غيره، ولذلك قال: (يحبه كحب الله، يخشاه كخشية الله، ويلتجئ إليه، ويدعوه، ويخافه، ويرجوه، ويرغب إليه، ويتوكل عليه، أو يطيعه في معصية الله، أو يتبعه على غير مرضاة)، وكذلك أن يستغيث به من دون الله -جل وعلا- ويرغب إليه ويتوكل عليه، أو كان في شرك الطاعة، فيعلم أن له الطاعة المطلقة، حتى ولو كان في معصية الله -جلَّ وعلا-، أو يُقدم مرضاته على مرضاة الله -سبحانه وتعالى-، فكل ذلك داخل في حقيقة الإشراك بالله -جلَّ وعلا- أو الشرك الأكبر.
فلو تأملت أنَّ الشرك الأكبر حقيقته يتأتى بمنافاة توحيد الإلهية، أو التوحيد، سواء كان ذلك بالتوجه والقصد، أو الطاعة والانقياد، أو كان ذلك أيضا بمساواة غير الله بالله، كمن يسجد للأصنام كما يسجد لله، وكمن يتوجه إليها كما يتوجه إلى الله -جل وعلا-، فكل ذلك داخلٌ في حقيقة الشرك بالله -جل وعلا-، ويتأتى بالتنديد، الذي هو أن يُجعل غيرُ الله -جل وعلا- كـ "الله"، في التوجه والقصد، والرجاء والخوف، والطاعة والعبادة وسواه، فمن كان كذلك، فقد وقع في الشرك الأكبر، الذي جاءت الآيات ببيان خسارة أهله، وحصول الوبال عليهم في الدنيا والآخرة.
قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة:٧٢]، لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء:٤٨]، وهذا الافتراء ظاهر؛ لأنَّ أعظم ما فيه أنه تسوية من لا يستحق بالله -جلَّ وعلا-، الذي هو مستحق للعبادات، ولذلك جاء في وصف الشرك: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:13]، إذ هو صرف العبادة لمن لا يستحقها، وأيضًا ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:١١٦]، وحصول الضلال على المشرك بالله من جهة: أنه فَوَّت على نفسه ما خُلِقَ له، وهذا أعظم ما يكون من الضلال، ومن جهة ما يَفوت العبد مما يتأتى له من الإيمان، من الطمأنينة، والنور، وسكون النفس، واستقرار الحال، وما يتبع ذلك من البركات، وحصول الخيرات.
فإنَّ من آمن بالله -جلَّ وعلا- فتح الله له أبواب الرحمة، ويَسَّرَ له أبواب الخير، وسهل له أبواب الرزق، ولم يزل في خير ما دام على التوحيد والإيمان، ولا ينغلق عنه ذلك الباب إلا إذا أغلقه بما ينعقد عليه قلبه من الشرك بالله، أو التوجه إلى أحد سواه، وكما قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج:٣١]، وهذه الآية من أعظم الآيات في وصف حال أهل الإشراك بالله -جل وعلا-، يعني: أن ما بين الموحد والمشرك كما بين السماء والأرض، فهل من في السماء كمن في الأرض؟ فكيف إذا كان الذي انتقل من السماء تخطفته الطير، فما يلحق قلبه من التشتت، وما يكون فيه من الأهواء، وما يدخل عليه من التناقض، وما يفوته من الهُدى، مع ما يرتكسُه في دنياه، وينتكس في آخرته فيما يلحقه من العذاب والنكال، فلذلك قال: ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج:٣١]، فهو في سُحقٍ وبُعدٍ، وفي ضلال وظلمة، وفي شر وسوء، مع ما يكون له في الآخرة من العذاب والبعد عن رحمة الله -جل وعلا-.
والشرك بالله -سبحانه وتعالى- الأكبر، يكون في الاعتقاد، كمن اعتقد مثلا أنَّ لفلانٍ طاعة مُطلقة، أو أن يحبه كما يحب الله -جلَّ وعلا-، أو إذا نزلت به نازلة رجا غير الله كما يرجو الله -سبحانه وتعالى-، وكذلك يكون بالأقوال، كمن يستغيث بغير الله إذا نزلت به نازلة، أو نحو ذلك، فهذا شرك بالله -سبحانه وتعالى- يُخرجه من الملة، أو كان بالأعمال كما لو سجد لصنم، أو توجه إلى قبر عبادة وطوافًا وذبحًا ونذرًا، فكل ذلك مما يُنافي الإيمان والتوحيد، ويدخل به العبد في الشرك بالله -سبحانه وتعالى-، وهو يحصل في ظاهر الأمور، كما يحصل في باطنها.
فإذًا لا يَختص التوحيد بالأعمال الباطنة أو الظاهرة، كما أنَّ الإشراك بالله -جلَّ وعلا- يأتي على العبد مِن فِعلٍ وعملٍ ظاهر، وبما يستقر في قلبه من باطنٍ، ولذلك حتى المنافقين الذين يُصلون كما يُصلي أهل الإسلام، وربما يزكون، وربما خرجوا معهم في الجهاد، ولكنهم أبطنوا الشرك بالله والكفر، فوقع في قلوبهم ذلك، فخرجوا من الملة، ووافقوا أهل الكفر بالله -جل وعلا-، ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء:١٤٥]، فكان عقابهم أعظم لِمَا فيهم من التلاعب بالإسلام وإخفائه، ومع ما جاء إليهم من العلم به، ومع ذلك تنكبوا عنه، وأطاعوا أهواءهم، وأظهروا خلاف ما أبطنوه.
والله يتولانا وإياكم برحماته، وللحديث بقية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

دروس ذات صلة