مكتبـــــة الدروس

2024-03-20 13:01:43

التعليق على كتاب الجنائز

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أمَّا بعد، فأسأل الله -جل وعلا- أن يفيض علينا وعليكم من رحماته، وأن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يبلغنا الخير والهدى، والبر والتقوى، والعلم والعمل بسنة المصطفى، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأحبابنا والمسلمين.
أما بعد، فيا أيها الطلاب، في مجلس من المجالس العظيمة المباركة، وفي سنة النبي ، نلتقي ونتعلم، ونتدارس ونتباحث، وهو لقاء من ضمن لقاءات قد مضى جُلُّها ولم يبق إلا خاتمتها، وأسأل الله أن يجعلها خاتمة خيرٍ وبرٍ وهدى.
وإن أعظم ما مَنَّ الله به على الطالب أن يُعان على العلم، وأن يُسخِّر نفسه للبحث فيه والترقي في درجاته، والترفع في منازله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، فليست النعمة بالعلم نعمة يُؤتاها الإنسان من قبل نفسه، ولا يُفتح للطالب باب العلم من جهته لولا رحمة الله -جل وعلا- وفضله عليه، ولذلك كانت أعظم منة، أعظم مما يُفتح على الناس في دنياهم، وما يكون لهم من إتيان وانبساط شهواتهم ورغباتهم.
ولذلك قال النبي في الصحيح: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» ، فأرعِ نعمة الله عليك، وأَخلص لله في ذاك، وأقبل على العلم بكليتك، وتابع في مراتبه ومنازله، لعل الله -جل وعلا- أن يُبلغك فيه منزلة عَلية، ودرجة رفيعة، تنتفع بها في دنياك، وينتفع بها الناس منك، وتبلغ بها الدرجة العُليا في أخراك، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وهذا الكتاب الذي أنتم بصدده، هو من أعظم الكتب نفعا في أحكام الفقه، وفيما جمعه العلماء في أحاديث الأحكام، والاشتغال به هو سنن أهل العلم وطريقتهم، ولذلك حُفِظَ من قولهم: "متن زاد وبلوغ كافيان للنبوغ".
فاحفظ هذه الكلمة، واحفظ هذا المنهاج، فإنَّ أقواما في العلم لا يزالون يذهبون يمنة ويسرة حتى تذهب عليهم الأعمار، ويأخذ قسطًا من العلم ليس مُرتبا على أصوله، ولا مُتدرجا فيه على منهاجه، ولذلك لَمَّا وُجِدَتْ همةٌ عند بعض الطلاب في هذه الأزمان المتأخرة، وربما حملهم ذلك على حفظ بعض دواوين السُّنة، إن كان ذلك في أصلها أو في مختصراتها، فأشكل ذلك على بعض الطلاب.
وكان فيمن سئل عن ذلك شيخنا الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- فأرشد إلى أنَّ الطالب ينبغي له أن يُعنى بأحاديث الأحكام، وأعظمها كتاب (بلوغ المرام)، وهذا ظاهر بَيِّن لمن عرف طريقة أهل العلم؛ لأن هذه هي الأحاديث التي جمعها العلماء وعليها مدار الأحكام، وهي المحررة من الألفاظ، وهي التي يُستنبط فيها ويدور عليها الخلاف والنزاع، فكان ذلك أَقوم للطالب وأحسن.
والخروج إلى تلك الدواوين وإن كانت أصلا لهذه الأحاديث، إلا أن ذلك فيه تشغيب للطالب، ففيها أحاديث وروايات يُعنى بها أهل الحديث، ولكنها قد لا تكون نافعة في دراسة الأحكام، والوصول إلى المسائل، وما يتعلق بالحلال والحرام.
ثم فيها أحاديث كثيرة تُعنى بالمغازي، وأشياء لا يكون فيها حاجة للطالب في أولى ما ينبغي أن يُعنى به؛ لأنَّ العلم مراتب، فلا ينبغي للإنسان أن يشتغل بدقائق وتفاصيل ليست مما يحتاج إليها في المهمات، وما يُعنى بها الطالب في أول وهلة.
ولأجل ذلك كانت العناية بهذا الكتاب مهمة للغاية، وأظن أنكم أخذتم في ذلك قسطًا لا بأس به في بداية هذه الدورة المباركة.
وثاني هذه المسائل بين يدي البداية فما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- من أحاديث كتاب الجنائز، أن تحمد الله -جل وعلا- أن فتح قلبك، وانبسطت نفسك، فتلقت ما تلقاه العلماء الأولون من أُصول في الاستنباط، والأحاديث التي جاءت بها الشريعة، ودلت عليها الملة، فإن السنة مع الكتاب هما الأصلان اللذان تؤخذ منهما الأحكام.
وإنَّ أقواما انطوت قلوبهم على القرآن، فأعرضوا عن السنة، فنالهم البلاء والحسرة، ودخلوا في وعيد النبي ، وما ينتظرهم من الهلكة، ولم يزالوا يتكلفون في هذا الزمان، ويدخلون من هنا وهناك، ثم يصطدمون، ويتناقضون ويضلون، ويعظم بلاؤهم في أنفسهم في الدنيا، وإضلالهم للناس كافة حتى يصدوهم عن منهاج أهل السنة، وحتى يسلكوا بهم مسالك أهل الأهواء والبدعة، وربما انتهى بهم البلاء إلى ما لا تُحمد عقباه، من الإعراض عن الملة، والإقبال على الأهواء، أو التعلق بالشبهات، أو الدخول في مسالك أهل الكفر بالله -جل وعلا-.
وهذه أيضًا نعمة عُظمى، أن يُوفق العبد لسلوك سبيل صحيحة، ومنهاج قويمة، سلكها الأولون، وطلبها الصحابة -رضوان الله عليهم- أجمعين، وسلكها مِنْ بعدهم صالح سلف المؤمنين، ولم يزل ذلك طريق مسلوكة لمن أرادها، مُبَلِّغَةٌ النجاة لمن طلبها، بالغةٌ بالعبد مبلغ الخير والهدى في الدنيا، ومبلغ الأجر والمثوبة والفوز بالأخرى.
والآن لئلا يطول الحديث، ويتفرق الكلام، أن نبدأ فيما نحن بصدده -بإذن الله جل وعلا.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال المصنف -رحمنا الله وإياه: (كتاب الجنائز. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ: الْمَوْتِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي ما كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: (كتاب الجنائز)، والجنائز جمع جِنازة -بكسر الجيم وفتحها- وهي اسم للسرير الذي يُوضع عليه الميت وهو عليه، والكسر أشهر عند أهل العلم، ويجوز الفتح كذلك.
والنعش: اسم لهذا السرير إذا لم تكن عليه جنازة، وهذا الباب الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- جُمِعَتْ فيه أحكام الميت، من حيث الموت ومُقدماته، وما يُشرع فيه، ومن حيث ما يكون من التغسيل وأحكامه، والتكفين وما يُطلب له، والصلاة على الميت، وما يتبع ذلك من زيارة القبور، وحقوق التعزية، ومسائل معروفة -بإذن الله جل وعلا- سيأتي الحديث عليها.
وقد ابتدأها المؤلف -رحمه الله تعالى- بأول حديث، وهو حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أنَّ النبي قال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، الْمَوْتِ»، وهذا الحديث حديث عظيم، وهو دال على أهمية تذكر الموت، والاتعاظ فيه، وذلك يكون بتذكر العبد له في نفسه، وعدم الانشغال عنه، فيَطلب ذلك في فكرته، ويطلب ما يكون سببا لذلك، من قراءة أحاديثه، والتفكر في الآيات التي تتلى في كتاب الله -جل وعلا- في أحوال الاحتضار والخاتمة، وما يتبع ذلك.
كما أن ذلك يدخل فيه أيضا وعظ الناس وتذكيرهم بالموت، وترقيق قلوبهم به، ويجب أن يعلم أن ذلك سنة محفوظة، وأن الوعظ والتذكير ليس مَسلكًا لأهل الجهالات، ولا لعوام الناس، بل هو أصل شرعي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وجرى عليه العلماء والفقهاء، وإنما يُعاب ذلك يعني: الإفراط في التذكير بالموت، إذا كان يتبع ذلك عمل الجهالات، أو الدخول في البدع والمحدثات، بدون علم ولا هدى.
وأما التذكرة بالموت، فإنه لا ينفك أحد عن الحاجة إليها، ولذلك لم يزل النبي يُذَكِّرُ أصحابه ويعظهم كلما عَنَّتْ لذلك سبب، واستدعته حاجة من الحاجات.
وهنا قال: «أَكْثِرُوا من ذِكْرَ هَاذِمِ»، أو «هازم» وهو قاطع اللَّذَّاتِ، وهذا وصف بليغ في الموت، وما يقطعه من اللذة، وما تذهب معه من أحوال النفس في الشهوة، ورغبة الإنسان في الدنيا وما يتبعها من الفتنة، فإن الموت عجيبٌ أمره، عظيمٌ نزوله، يأتي على كل حال، ولا ينفك منه أحد، فينزلُ على أهل اللهو في لهوهم، فيقطع عليهم لَذتهم، ويأتي على العابد في صلاته، وربما أُخِذَ في سجوده، وذلك فضل الله -جل وعلا- ومنته على عبده.
ولا ينفك منه أحد حتى إنَّه ربما أُخِذَ الرضيع في حضن أمه، ولا يفوت منه أحد، فيدخل على الملوك في عز ملكهم وقوتهم وجاههم وانبساط سلطانهم، فلا يفوت أحد على الموت، وكم من مؤمل لدنياه حال بينه الموت وبينها! وكم من فرح بما أوتي من الشهوات، وانفتحت له من الأرزاق، أو استقر له من الأهل والمال والولد، فيأتي عليه الموت فيذهب عليه ذلك كله!
ولذلك صدق النبي : «أَكْثِرُوا من ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ»، وحق للإنسان أن يتعظ بالموت، وأن يتذكر به الآخرة.
وإنَّ ذكر الموت من أعظم ما ينتفع به العبد، فإنه يقصر به عن شهوته، ويمنعه من جنوح نفسه، ويحول بينه وبين ظلمه، ويُذكره بطاعة ربه، فيحمله على الجد، ويُسَهِّلُ له الطاعة التي ربما صعبت، فيوقظه من منامه لقيام ليله، ويُسَهِّلُ عليه خروجه لأداء الجماعة في شدة برد، أو شدة خوف، أو تغير حال، ويسهل عليه بذل ماله، وأداء زكاته، إلى غير ذلك، ولا يزال الموت في قلب العبد حتى يُزهده في الدنيا، ويباعد بينه وبين الشهوات، فترضى نفسه وتنعم بالخير والهدى والبر والطاعة، فكان ذلك من أعظم ما يُؤخذ من الحديث الذي ذكره النبي .
وإن الموت لنعمة حتى للعبد في حال الضيق والنقمة والمصيبة، فإنَّ المرء إذا تذكر الموت في تلك الحال، عَلِمَ أن المصيبة إلى انتهاء، وأنَّ النقمة إلى ذهاب، وأنَّ الدنيا إلى زوال، وأنه ملاق الله -جل وعلا-، فيصبر في ذلك ويحتسب، ولذلك صَدَقَ النبي كما في بعض الروايات: «فَإِنَّهُ مَا كَانَ فِي كَثِيرٍ إِلَّا قَلَّلَهُ، وَلَا قَلِيلٍ إِلَّا جَزَلَهُ» ، فيقلل على العبد كثير الشهوات والرغبات والآمال وغيرها، ويحمله على البر والطاعات، ولا ذُكِرَ في قليل إلا كثره، يعني: ما يكون فيه العبد من حالِ صلاة، أو بر، أو ذكر، أو صدقة، فإنه يحمله على الاستزادة، ويزيده من الخير، ويستعين على نفسه بمواصلة البر والطاعة، والتكثر من الخير والقربة والعبادة، ولذلك سئل ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: "من أكيسُ الناس؟ قال: أَكْثرُهُم للمَوتِ ذِكْرًا، وأحسنُهُم لِمَا بعدَهُ استِعدادًا" .
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- حديث أنس الذي في الصحيحين: («لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ»)، وفي بعض الروايات: «لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ في الدنيا» هذا الحديث الذي هو في الصحيح، من الأحاديث العظيمة، وهو دال على النهي عن تمني الموت، وذلك أولاً لأنَّ العبد لا بد أن يكون صابرا على قضاء الله -جل وعلا- وإن اشتد، راضيًا بما كتب الله عليه وإن عظم، فلا يزيده ما يرى من بليات هذه الدنيا، وما يحل به من شدائدها، إلا ثقة بالله وعليه توكلا. فلا يتسخط من قضائه، ولا يطلب الخلاص والفكاك مما كتب الله له.
فلأجل ذلك كان النهي عن تمني الموت، ثم إن َّهذا هو الأصل في الحياة، فلأجل ذلك ليست الدنيا تُطلب للسعة والانبساط، ولا للشهوة والرغبات، وكل ما فيها من ذاك إنما هو بُلغةٌ للآخرة، وطلب إلى التزود في الطاعة، فهي تُؤنس العبد ليزداد من العبادة، وليؤدي حق الله -جل وعلا-، كما قال الله سبحانه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَد﴾ [البلد:4]، فمن تمنى الموت فالغالب أن ذلك لِمَا انطوى عليه صدره من التسخط من قضاء الله -جل وعلا-، وعدم القيام بما أمر الله، من الصبر والتصبر، والتجلد من هذه المصابات، ومعالجة ما قضى الله عليه وقدر، ولذلك جاء الحديث بالنهي عن ذلك.
قال أهل العلم: ومحل هذا إنما هو إذا كان ذلك في أمور الدنيا وبلياتها ومُصابها، وأما إذا خاف الإنسان على دينه، والفتنة في عقيدته، فلا يُمنع من سؤال الله -جل وعلا- السلامة، وربما كانت بالموت والخلاص من الدنيا.
وهذا أُخِذَ مما جاء في بعض روايات الحديث: «لِضُرٍّ نَزَل بِهِ في الدنيا»، ولِمَا جاء أيضا في الحديث، «وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ» ، وما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيح أن النبي يقول: «يأتي على المسلم زمان يمر بالقبر يقول يا ليْتَنِي كُنتُ مكانَ صاحِبَ هذا القبْرِ، ليس بهِ الدينُ، إلَّا البلاءُ» ، يعني: الفتنة فيه، والخوف على انحرافه وانصرافه وإعراضه، نسأل الله السلامة والعافية.
وبعض أهل العلم حمل على ذلك قوله -جل وعلا-: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف:101]، و ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا﴾ [مريم:23]، ولكن هذه الآيات ليس فيها دلالة على طلب الموت، وإنما هي طلب مُوافاة الموت على حال طيبة بدون ما فتنة ولا بلية في الدنيا أو الدين.
وفي هذا إشارة أيضًا إلى أن الدعاء مقيد، يعني: من نزلت به حال وخاف على نفسه ألا يصبر، ورأى من نفسه عدم التجلد، أن يدعو بهذا الدعاء، فهو دعاء مخصوص لحال مختصة، وهو من نزل به ضُر خاف ألا يصبر وألا يتجلد في معالجته ومقاساته.
ولذلك ما يكون أحيانا من دعاء بعض الأئمة في القنوت بهذا الدعاء ونحوه، فإنه خطأ وخلل؛ لأنه ليس بدعاء عام، ولا بدعاء ابتدائي، وإنما هو لمن احتفت به هذه الحال، ونزلت به هذا العارض الذي يجيز له أن يدعو بهذا الدعاء، وإن كان في كل الحالين الصبر على ذلك أولى.
قال أهل العلم أيضا: وإن ما ينزل بالعبد من المصابات، فيرفع الشكوى إلى الله، ويُظهر الحاجة إليه، ليست من التشكي ولا من باب التسخط، ولا تنافي الصبر على قضاء الله -جلَّ وعلا- وقدره، ولذلك حكى الله -جلَّ وعلا- عن نبيه فقال: ﴿وأيّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمين﴾.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)}.
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ»، إيراد المؤلف له في مقدمة كتاب الجنائز، هو إشارة إلى أحد المعنيين المذكورين من شراح الحديث -رحمهم الله تعالى-، وهو أن المؤمن يُكابد الموت، وتشتد به سكراته، حتى ربما علا جبينه العرق، واشتد به ذلك الأمر، حتى ولو كان في برد، فإنه ينزل عرقه ويتصفد على جبينه، ولذلك ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنَّ المؤمن يموت بعرق الجبين.
وقد يكون أيضا لأجل المعنى الثاني وهو مناسب ذكره كذلك هنا في مقدم الباب، فإن بعض أهل العلم قالوا: إن المراد بهذا الحديث أنَّ المرء المسلم لا يزال في مكابدة للدنيا، ولا يزال في شدة من أحوالها، مهما استقر حاله أو صلحت أيامه، فبين مكابدة للرزق، أو إصلاح للأهل، أو معالجة لعلة ومرض، أو غير ذلك مما يحتف بالمرء، والذي لا يكاد ينفك عنه، فهو تسلية للمؤمن إذا نزل به ما ينزل أنَّ هذا حال أهل الإيمان حتى يلقوا الله -جل وعلا-، وهو أيضا موافق لقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَد﴾ [البلد:4]، وإن كان المعنى الأول هو أقرب في إيراد المؤلف -رحمه الله تعالى- هنا، وهو التذكير بسكرات الموت، وأنه لا ينفك منها أحد.
ولذلك جاء عن النبي أنه قال: «إنِّي لأُوعَكُ كما يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُم» ، وكان ينزل به الموت حتى يُغمى عليه، ويَطرح على وجهه خميصة، فإذا أفاق كشفها، في أحوال ذكرت في حال النبي صلوات ربي وسلامه عليه، لَمَّا حضرته الوفاة، وهي من أعظم ما يوعظ به المرء، ويُذكر به المسلم، ويُستصلح به القلب، ولَمَّا كان المرء المسلم لا ينفك عن سكرات الموت، فإنه يُؤمر بالاستعداد له قبل تلك الحال، ليكون أعون له في الصبر والتجلد، وتذكير للمسلم بأن ما ينزل به ينبغي ألا يكون سببا لتسخطه، أو ظهور ما قد يفسد عليه إيمانه، أو يشتد عليه بعد الموت حسابه، مثل: لِمَ فَعَلَ الله به كذا؟ هذا فلان مات على حال طيبة، أو فلان مات بدون معالجة للموت وسكرته!
فإذا علم المؤمن أنَّ هذا من أحوال أهل الإسلام، وأنه تكفير للسيئات، وأنَّ النبي أصيب بذلك؛ صبَّر نفسه، وطلب مرضاة ربه.
وربما بعض المتأخرين ذكر أن ما يعلو الجبين من عرق، وأن ما يعلوه من تصفده، فإن ذلك من علامات حُسنِ خاتمته.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْأَرْبَعَةُ)}.
هذا حديث مسلم في الصحيح أنَّ النبي قال: («لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»)، وهذا لا شك أنه مما يُطلبُ ويُحَثُّ عليه.
والمراد بقوله: («لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ») في أحد القولين وأشهرهما: من حضرته الوفاة، لا من حصلت عليه الوفاة حقيقة، وهذا كقول الله -جل وعلا-: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ﴾ [المائدة:6]، يعني: أردتم القيام إليها، فإذا حضرت العبد الوفاة أُمِرَ بتلقينه "لا إله إلا الله"، وهذا أيضا معلوم فائدته، فإنه قد جاء في الحديث أنَّ النبي قال: «من كانَ آخرُ كلامِهِ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخلَ الجنَّةَ» .
والتلقين حقيقته تذكير مخصوص، وهو أن يقول الإنسان الشيء ليتبعه غيره، ولذلك يُشتهر في تلقين الصغار، والتلقين عند المحدثين؛ لأنه يُلقي الكلمة فيتبعه غيره فيرددها.
هل المراد بقوله: («لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ») هو أن يقول الملقن: "لا إله إلا الله" فيتبعه المحتضر، أو أن يقول له: قل: "لا إله إلا الله"؟
الحديث يحصل بعموم التذكير، والتذكير في ذلك يكون -كما ذكر أهل العلم- بما يُناسب الحال، فمن حيث الأصل أن التذكير مطلوب، ولكنه يراعى فيه حال الميت، فإنَّ مَا يُعانيه ويعالجه من الشدة، وما ينزل به من خروج الروح، هو حال شديدة، ربما لا يعرفها أحوال كثير من الناس الذين لم يبلغوا تلك الحال.
ولأجل هذا قال أهل العلم: إنَّ التذكير يكون من حيث الأصل بالرفق واللين بما يُناسب الحال، فيقول: "لا إله إلا الله"، فإذا كان فيه شيء من السَّكرة أو الغفلة تنبه فقالها، وإذا كان في حالٍ من الوعي وتمام النظر تَذَكَّرَ أيضا فضلها، وأنه إذا ختم له بها فإنه يلقى ربه موعودا بالجنة، ونحو ذلك.
ولكن قال أهل العلم: إذا ظهر منه، إمَّا لشدة ما نزل به أو نحو ذلك، فإنه لا ينبغي له أن يُعيد عليه التذكير بها؛ لأنه ربما نفر من أجل ما أصابه، فيكون بذلك كأنه تسبب عليه في الإعراض عن "لا إله إلا الله"، وأشد من ذلك لو خرجت منه كلمة، مثل: "لا أريد أن أقول، دعني وشأني، لا تعاني ما أعاني، ونحو ذلك"، فـ "لئلا" يكون من المحتضر ما لا تحمد عقباه، أو ما لا يحسن أن يكون منه في تلك الحال، فإن الْمُلَقِّنَ ينبغي أن يكون على حال من ملاحظة ما يناسبه، وفعل ما يلائم الحال.
ولأجل ذلك قال بعض أهل العلم: إنه ربما لا يقول له "قل"؛ لأنَّ "قل" كأنه تَوَجَّه إليه، فإذا لم يقل فكأنه أعرض، فيكون في ذلك ما ذكرناه.
ولكن -كما قلنا- الحال في أحوال المحتضر، فَإِذَا عُلِمَ منه صلاحٌ وإقبالٌ ورغبةٌ في الخير، ولكنه شُغِلَ ببعض ما يُعانيه، فقيل له: "قل لا إله إلا الله" بشيء من الرفق، كان ذلك مناسبا، وإذا كان الأمر مترددا بين ذا وذاك، وذكر عنده "لا إله إلا الله" مرة وأخرى، فيكون ذلك حسن بدون ما زيادة، فيكون فيها إملال، أو شيء مما يشتد عليه.
قال أهل العلم: فإذا قالها فينبغي له أن يصمت، وألا يعيد عليه ذلك، رغبة في أن لا يمله، فإن تَكَلَّمَ بكلمة أخرى، أو طلب ماءً، أو نحو ذلك، فيحسن إعادتها عليه، ليحصل له المقصود وهو لعله أن يقولها فيكون آخر ما يخرج به من دنياه، ويلقى به ربه، فيتحقق له الموعود الذي جاء به الحديث.
قال أهل العلم: فإن كان المحتضر كافرا فلا بأس من أن يقال له: "قل"، وأن يعاد ذلك عليه؛ لأنَّ ما هو فيه من الكفر أشد مما قد يكون فيه من الإعراض، كما كان من النبي لَمَّا كان مع جده، فقال له: "قل لا إله إلا الله" كلمة أحاج لك بها عند الله.
بعض أهل العلم أخذ من هذا الحديث أيضا أنَّ («لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ») يراد به الموتى حقيقة، وهذا ستأتي أيضا إشارة إليه في معرض الأحاديث التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- تعالى، وهو أن يكون ذلك إذا أُدخل قبره وانتهي من ذلك، وهو ما يسمى بالتلقين بعد الدفن، فقالوا: هذا مأخوذٌ من الحديث، ولذلك ربما ذهب إليه جمع من الفقهاء -رحمهم الله تعالى-، ومعتضدا في ذلك بما جاء عن أبي أمامة، وسيأتي الأثر في ذلك، فلعله أن يذكر في ذلك المحل، ويكمل الحديث هناك.
هل يَحتاج إلى أن يقول: "محمد رسول الله"؟ يعني: هو إذا قال: "لا إله إلا الله" فهذا هو النص الذي جاء به حديث مسلم هنا، وهو الذي أيضا جاء في الحديث «مَنْ كَانَ آَخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»، قال أهل العلم: وقول محمد رسول الله هي تابعة ومشتملة عليها الأولى، فإذا اكتفى على ما اكتفت عليه الأحاديث المشتهرة، كان ذلك كافيًا.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)}.
حديث معقل بن يسار («اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس») تُكُلِّمَ فيه من جهة أسانيده، وأكبر علة ذكرت فيه الاضطراب، ومع أن عامة أو أكثر أهل العلم يقولون: إنَّ القراءة على المحتضر مُستحبة ومسنونة، وهذا هو الذي نُقِلَ عن ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وهو ظاهر هذا الحديث.
و («اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس») يقال فيه أيضا ما قيل في الحديث المتقدم، يعني: على من حضرته الوفاة، وقيل: إنَّ سورة ياسين بما اشتملت عليه من أحوال العبد، وتقلبه في أخراه، وما ينتظره، وما ذُكِرَ فيها من قوله: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ﴾ [يس:55-56]، آيات عظيمة يطلب فضلها ويرجى حصول بركتها له، فكأنها تذكير له بما يستقبله من الحال الطيبة، وربما قال: أهل العلم: إن ذلك مبناه على حديث فيه شيء من الضعف والوهن، والأمر في ذلك فيه سعة.
وحمل بعض أهل العلم قوله: («اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس») على أنَّ المراد بذلك على من مات، فيكون المراد بذلك ما يكون من إهداء الثواب، كثواب قراءة ونحوها.
والموتى بالنسبة لأعمال الحي على ثلاثة:
منها: أعمال تصل إلى الميت بإجماع، كالدعاء والصدقة، وقضاء حجه، وأيضا الصوم بشرطه، وما يتعلق بذلك.
ومنها: حال لا تصح بإجماع أهل العلم، وهي: النيابة عنه في الصلاة التي وجبت عليه، أو في الصيام الفرض في المشهور عند أكثر أهل العلم، ونحو ذلك.
ويتبقى ما سوى هذا، كإهداء الثواب، يعني: ليس النيابة عنه أن تعمل هذه الصلاة التي لم يصلها، وإنما أن تصلي صلاة أو تقرأ قراءة أو تتصدق بصدقة، ثم تقول: ثوابها لفلان، ثوابها لأبي، ثوابها لأمي!
وبعض أهل العلم قال أيضا: إنه لم يرد في ذلك شيء، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى﴾ [النجم:39]، وذهب بعضهم كما هو مذهب الحنابلة، وذكره ايضًا ابن تيمية، وأفاض فيه ابن القيم -رحمه الله تعالى، أن كل ما يعمل من أعمال صالحة فيهدى ثوابها إلى الميت تصله، وأن هذا مأخوذ من وصول الدعاء والصدقة ونحوها من الأعمال، وهو له معنى وجيه.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ -رضي الله عنه- وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ، تَبِعَهُ الْبَصَرُ» فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُولُونَ»، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
هذا الحديث من الأحاديث العظيمة، وفيه دلالة على ما أفاض الله على نبيه، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾ [النجم:4]، فإنَّ جملة مما ذُكِرَ في هذا الحديث، فإن الغالب أنه لا يوتاه الإنسان من علم ولا من نظر، وإنما هو من وحي وأثر، ولأجل ذلك قال: إن النبي قال: («إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ، تَبِعَهُ الْبَصَرُ») وذلك ليس من الأشياء التي تدرك وتحفظ وتعرف.
ثم في هذا الحديث أيضا التنبيه على أهمية أن يستحضر العبد ما يُطلب منه من الصبر والإيمان، فإن النبي قال: («لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ»)، وليس هذا حال مختصة بمن حضر ميتا، ولكنها حال عامة، وإنما لَمَّا كان المرء يذهب عن طوره، أو يخرج عن اعتداله، فربما قال دعاءً على نفسه، وربما حُفِظَ عنه ما لم يُرده، كأن يقول: لا فائدة في الحياة بعده، أو ليتني معه، أو نحو ذلك مما قد يلحق بالإنسان شيء من التسخط، أو عدم الرضا، أو سؤال الله تعالى ما لا يحسن سؤاله وهكذا.
وأيضا فيه خصوصية أنَّ الملائكة كما جاء في الحديث: يؤمنون، فذلك حال أيضا تدل على أنه أرجى في الدعاء وحصول الإجابة، فلأجل ذلك ينبغي ألا يكون من الإنسان دعاء إلا بخير، وأن الإيمان إنما يتحقق ويتمحص في حال الإصابة، وفي حال المصاب، وفي حال الابتلاء، فلأجل ذلك كان هذا من أعظم الأحوال التي يطلب فيها الصبر والتجلد عند فقد حبيب أو فقد قريب، أو موت أب، أو أم، أو زوج، أو ولد.
وفي هذا أيضا إشارة إلى عظم هذا الحديث الذي جاء عن النبي ، مما يُدعى به للميت، ويرجى حصول أثره، سواء كان ذلك على سبيل التعزية، فإن هذا يؤنسهم أن يسمعوا دعاء طيبا، أو كان أيضا على طلب حصوله له في الآخرة، فإن ذلك من أعظم ما فيه، فإنه مشتمل على مغفرة ذنوبه، ورفعة درجته، واتساع قبره، والتنوير عليه في ضريحه، ولذلك كما سيأتي في الحديث الذي بعده، أو في حديث لاحق، («إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ»)، فالأصل في القبور أنها ظلمة ووحشة، وترتفع هذه الظلمة بما يكون من دعاء الصالحين، وصلاة النبي ، وعائه لأهلها، وما يكون من عمل صالح، وما يكون من أسباب البر والطاعة، التي تُذهبُ وحشة القبر وظلمته.
أيضًا في هذا الحديث إشارة إلى حال الروح، وهي من أعظم ما ينبغي للعبد أن يتفكر فيه، والله -جل وعلا- قد ذَكَرَ آية في كتابه، أية معجزة، لو لم ينزل إلا هذه الآية لكانت سببا لاستقامة القلوب لله -جل وعلا- وتوحيدها له، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]، فأعيت العلماء، والأطباء، وأهل البحث والنظر في الأول وفي الآخر، والمتقدمين والمتأخرين والمسلمين والكفار أن يعلموا حقيقتها، أو أن يحيطوا بها، فما هو إلا قول الله -جل وعلا-: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]، ما يلحق المرء الآن مما يسمونه موتا دماغيا وما يتبع ذلك من خلاف عند المعاصرين في رفع هذه الأجهزة المبقية له على تلك الحال، هل هي مما يلزم ويجب؟ أو أن روحه قد رفعت وذهبت؟
الحديث قد جاء فيه أن الموت يحصل بذهاب الروح وانفصالها عن البدن، ولكن هل ما يسميه الأطباء بمن مات دماغيا، يلزم إبقاء هذه العلاجات أو الآلات له؟ طبعا تعرفون الكلام المعاصرين والباحثين في هذا، ولكنني أنا سأردها إلى مسألة من مسائل الفقه، ليس على سبيل التقرير، ولكن على سبيل التنبيه، فهذه المسألة راجعة إلى مسألة عند أهل العلم، ويبحثونها في كتاب الجنائز، هل التداوي واجب أو لا؟
إذا قلنا إن التداوي ليس بواجب، فمعنى ذلك أنه ليس بلازم بقاء هذه الأجهزة أو إبقاؤها؛ لأن عندنا مسألتان، مسألة إنقاذ من الهلكة، وهو الذي يُعلم أنك إذا تركته هلك، وإذا أخذته نجا، كمن يغرق تتله بيمينك، أو من كاد أن يسقط في نار فحجزته، هذه إنقاذ من هلكة، وتعاون على البر والتقوى، ويجب على المسلم فعلها.
ولكن مثل هذه الأجهزة ليس بالضرورة أن يبقى أو أن يموت، أو أن يتحصل له نجاة أو سواها، فلأجل ذلك كانت سائرة من سائر ما يُتداوى به، فلم يكن فعلها لازم ولا إبقاؤها واجب على سبيل النظر والرد لِمَا ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في كتاب الجنائز من أحكام التداوي.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْهَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي الله عنه- قَبَّلَ النَّبِيَّ بَعْدَ مَوْتِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)
}.
حديث عائشة المتفق عليه في تسجية النبي في بُردٍ، والبرد كساء له أعلام معلوم محفوظ، وأيضًا الحبرة ثوب من قطن، وفيه أيضا خطوط، فيه تسجية الميت، وهذا مأمور به ومستحب عند أهل العلم عامة، حُكي في ذلك الإجماع، وهذا أيضا معلوم من جهة المعنى، فإنه من حق الميت على الحي، فإن الميت لا تزال حرمته باقية، فإذا عجز عن حفظها وتعاهدها كما كان في حال حياته، في أنه لو فُكَّ زره هذا لَمَا أحبَّ أن يراه أحد على تلك الحالة، أليس كذلك؟ فكيف أن يرى وقد ظهر بعض أجزائه، أو ما خَفِيَ من بدنه، وإن لم تكن عورته؟!
فلا شك في أن تلك الحال لا تطلب رؤية الميت عليها، فلذلك كان هذا مأمورًا أن يقوم المؤمن به لأخيه، وهي من عموم ولاية أهل الإيمان بعضهم لبعض، وإذا عجز أن يقوم به، كان عليك أن تنوب عنه، وهذا من الإحسان إلى الميت، والحفاظ عليه، وعدم إظهار ما قد يُستحي من ظهوره، خاصة إذا كان في بعض جسده شامة، أو سوء خلقة، أو غير ذلك.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- حديث البخاري عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن أبا بكر قَبَّلَ النبي بعد موته، وهذا شروع من المؤلف في بعض ما يجوز فِعله مع الميت، وأنه لا غضاضة فيه ولا يمنع منه، فإنَّ النبي جاء عنه أنَّه أيضا قَبَّلَ عثمان بن مظعون وهو ميت، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا جائز ولا غضاضة فيه.
وهذا مُقيدٌ أيضًا بأن يكون ممن يحل له فعل ذلك في حال الحياة، كأن يكون رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة، أو زوجة مع زوجها، أو ابنة مع أبيها، أو رجل مع محارمه، ونحو ذلك، وأمَّا من لا يحل له فعل ذلك في الحياة، فلا يحل له ذلك أيضا بعد الممات.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ)}.
هذا أيضا فيه إشارة إلى مسألة مهمة، فيما ينبغي للعبد أن يستعد للموت، بأن يخلي ذمته، وأن يتخفف مما يلحق تبعته عند الله -جل وعلا-، فهو كالتنبيه إلى أنَّ المرء لا ينفك عن المطالبة بما أخذه من حقوق العباد، وما بقي في ذمته مشغولا به، سواء كان ذلك من قرض، أو ثمن مبيع، أو أرش جناية، أو سوى ذلك من سائر ما تثبت به الحقوق، وتنشغل به الذمم، بل ربما أيضا دخل في الحديث وإن لم يكن داخل فيه أصالة دين الله -جل وعلا-، الذي يطلب قضاؤه، كما جاء في الحديث، «فدَينُ اللَّهِ أحقُّ أن يُقضَى» ، تحفظون حديث أبي قتادة المشهور في ذلك، لَمَّا تَقَدَّمَ النبي ليصلي على رجل، فقيل: عليه ديناران، فتأخر النبي عن الصلاة عليه، حتى التزمها أبو قتادة، فقال: هما عليَّ يا رسول الله، فتقدم وصلى .
فَدَلَّ ذلك على عِظَمِ الدين، وطلب التخفف منه، ولذلك ينبغي للمرء أن يتقلل من الدين قدر استطاعته، وألا يُشغل ذمته، خلافا لِمَا صار عليه المتأخرون من التخفف في الديون والتكثر منها.
ثم إنَّ هذا الأمر كان في أول الأمر، ثم جاء عن النبي كما في الصحيح، في حديث أبي هريرة، «أنا أولى بكلِّ مسلمٍ من نفسِه، من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليّ وعليّ» ، فأخذ من هذا أهل العلم أنه بعد ذلك لا يُمتنع من الصلاة على صاحب الدين لأجل هذا الحديث، وقرر جمع من أهل العلم أن من ترك دينًا، فإنه يكون على بيت مال المسلمين.
والمقصود في ذلك على كل حال، ليس هو كل دين، كما هو حال الناس اليوم، من التكثر بالديون، أو التلاعب بها، أو أخذها في التجارات وتنمية الثروات التي لا يُحتاج إليها، وإنما قد يفهم من معنى الحديث أنه دين احتاج المرء إليه، لأنه لَمَّا قال: «عَلَيَّ» يعني: على بيت المال، أن بيت المال يقوم على المسلمين بما احتاجوا إليه من حوائجهم الأصلية، ومما تقوم به حياتهم، لا مما يتزودون فيه، ويستكثرون في تجاراتهم وثرواتهم.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
بين يدي هذا الحديث الحقيقة حادثة وقعت، دَرَّستُ هذه المسألة مرات كثيرة جدا، سواء كان ذلك في مثل هذا الحديث، أو كان في موضعها المشابه لها عند الفقهاء -رحمهم الله تعالى، وكان يمر عليَّ مرور الكرام، حتى إذا شاء الله -جل وعلا- وكنت بمكة، ورأيت من مات في حال إحرامه، وكفن في ثوبيه، وبدا رأسه، فوالله الذي لا إله إلا هو كأنني لم أعرف تلك المسألة قبل ذلك اليوم، وليس الخبر كالمعاينة، وهي حال عظيمة من أحوال العبد في موته ولقاء ربه، وأيضا حاله في حُسن خاتمته، وحاله أيضا فيما جاء عن النبي في خصوصيته، وإبقائه على تلك الحال التي مات عليها، فنسأل الله -جل وعلا- أن يُحسن لنا ولكم الختام، وأن يَجعلها في سجود وإحرام، شهادة في سبيل الله -جل وعلا-.
وهذا الحديث فيه دلالة على فضل الله -جل وعلا- على بعض عباده، فيما يحصل له من حُسن خاتمة، فإنه مات في يوم عرفة، ولم يزل الله -جل وعلا- يَصطفي في مثل تلك الأحوال أناسا من الخلق، كتب الله -جل وعلا- لهم من حسن الخاتمة، وطيب اللقاء، والخلاص من هذه الدنيا، على أكمل الأحوال وأتمها، ولذلك لو شيئا في الدنيا يُشترى لكانت ميتة طيبة، والله ليس في الدنيا شيء أعظم من أن يطلبه العبد من ميتة طيبة، يلقى بها الله -جل وعلا.
وهذا الحديث فيه جملة من الأحكام، أولها: الإشارة إلى تغسيل الميت، وأنه يشمل الموتى جميعا، حتى من تلبس بالإحرام، وهو كما تعرفون فرض كفاية عند أهل العلم، خلافًا للإمام مالك -رحمه الله تعالى- الذي يرى سنية تغسيله.
وفيه إشارة أيضا إلى ما يُطلب للميت من كمال النظافة، وحسن تنقيته، وتكميل نقاء جسمه، فإنه حتى مع كونه مُحرمًا طُلِبَ أن يغسل بماء وسدر، ومن المعلوم أنَّ السدر هو من أعظم ما يكون به التنظيف، ويحصل به التنقية، ولم يزل يُستعمل في تغسيل الموتى، ويشتهر في ذلك، وهو غير مجهول.
أيضًا فيه إشارة إلى أن المحرم يختص بأحوال في تغسيله وتكفينه، فإنه لا يُمَسُّ طيبًا، ولذلك قال: «ولَا تُحَنِّطُوهُ، ولَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» ، والتحنيط من الحنوط، وهي أخلاط من الطيب تجعل للميت لتزكوا رائحته، ولتطرد الهوام عنه، وأعظمها الكافور كما جاء أيضا في خصوصه في حديث أم عطية على ما سيأتي، فهذا أيضًا مما يُطلب للمحرم.
«ولَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» أي لا يغطى، والعلة في ذلك كما جاءت في الحديث، «فإنَّه يُبْعَثُ يَومَ القِيَامَةِ مُلَبيًا»، يعني: أنه باق على إحرامه، وهذا هو المشهور في المذهب عند الحنابلة، كما هو قول الشافعية، خلافا لمالك وأبي حنيفة الذين قالا: إنه انقطع عنه التكليف. نقول: حتى ولو انقطع عنه التكليف، إلا أنه لَمَّا جاء النص بذلك، بقينا على ما جاء عليه النص، ودلَّ عليه الحديث.
هذا الحديث من أشهر التي استدل بها من يقول: إن الماء إذا خالطه طاهر لا ينقله عن الطهورية؛ لأنه قال: («اغْسِلُوهُ بمَاءٍ وسِدْرٍ»)، والذي يغسل بالماء والسدر يعرف أنه يتغير لونه، ويذهب من لون الماء إلى الاخضرار أو نحوًا من ذلك، ولكن مع هذا قال بعض أهل العلم: سواء قالوا إن هذا بخصوصه، أو جاء النص بحده، إلا أن الحنابلة في المشهور عنهم قالوا: إن كل غسلةٍ مشتملة على غسلتين، غسلة بماء وسدر، وغسلة أخرى بماء قراح، لا يكون معه شيء، حتى يتأتى المقصود، وهو تغسيل الميت.
قال: («وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ»)، تكفينه في ثوبيه التي هي إحرامه، لِمَا جاء في الحديث، ولأنها أيضا من أثر عبادة، وأعظم ما يلقى به العبد الله -جل وعلا- في تلك الحال.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ النَّبِيِّ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي، نُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَمْ لَا؟ ... الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ)}.
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- عند أحمد وأبي داود لَمَّا أشكل على الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- حال النبي لَمَّا مات، هل يجردوه أو لا؟ وقبل الدخول في تفاصيل هذه المسألة، فيه إشارة إلى أهمية تغسيل الميت، ولذلك مع ما للنبي من الخصوصية، ومع ما جعل الله -جل وعلا- له من المنزلة، إلا أنَّ الصحابة غسلوه، وقاموا بما أمر الله -جل وعلا- به، للميت من حُسنِ التهيئة، وطيب لقائه لله -جل وعلا-.
وإنما الكلام في تفاصيل مسائل تختص بالنبي ، يعني: اتفقوا على أصل التغسيل، وإنما الخلاف في هل يُسَوَّى بغيره في طريقة تغسيله أو لا؟ فَلَمَّا حصل بينهم ما حصل -كما جاء في الروايات- أنهم سمعوا مناديًا ينادي من ناحية البيت، أنه لا يُجرد من ثيابه، وأنه يُغسل وهي عليه، "اغسِلوا النَّبيَّ وعلَيهِ ثيابُهُ" ، فهذا يعني كان حاملا لهم على أن يغسلوه على تلك الحال، وأن يُهيئوه بدون نزع ثيابه، وفي ذلك أيضا إبقاء على عظيم حرمته، وما خصه الله -جل وعلا- من رفيع منزلته.
وفيه إشارة إلى أن الرجل الضليع في العلم الرفيع فيه، تفوت عليه مسائل، وتخفى عليه دقائق، وليس أحد إلا ويحتاج إلى المراجعة والنظر والمدارسة، وربما فاتت عليه المسألة التي أحسنها غيره ولم يعرف فيها شيئا.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ»، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ: «أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا».
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَضَفَرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، فَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا»)
}.
هذا الحديث، وهو حديث أم عطية، من أهم الأحاديث التي فيها تفاصيل تغسيل الميت وعليه العمدة في ذلك، وتغسيل الميت كما قلنا: فرض كفاية لا يترك، ويقوم به من يكفيه، على ما ذكرنا تفصيله قبل قليل، ويتأتى ذلك القدر الواجب بِغَسْلَةٍ، ولكن جاء في حديث أم عطية هنا («اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا»)، فهذا هو الكمال والتمام، أن تكون ثلاث غسلات، فإن احتيج إلى ما هو أكثر من ذلك، كما هو نص الحديث، فإنه يذاد إلى خمس، فمعنى ذلك: أنه لو حصل النقاء لهذا الميت بأربع، أنها تُزاد الخامسة ليقطع على وتر؛ لأنَّ الوتر مأمور به ومندوب، وكذلك إذا انتهى الغسل إلى ست، فإنه يُزاد إلى سبع.
وهل يزاد على السبع أو لا؟ بعضهم قال: إن الحديث جاء فيه («أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ») فقيل: إن المراد بأكثر من ذلك هي "السبع لا غير"، فلا يُزاد عليها، لأنَّ الزيادة عليها فيها مشقة بالغة، فيكتفى بالسبع غسلات، ويعالج ما ينزل منه، أو ما بقي وسخ وغيره بطرائق لها تفصيلات ذكرها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في كتبهم.
وفيه أيضًا أنَّ الرجل لا يلي تغسيل النساء من حيث الأصل، وسيأتي ما يُستثنى من ذلك، ولذلك فالنبي مع قربه وكونه أبا لها إلا أنه قال: «فإذا فرغتن فآذنني»، وفيه أيضا إشارة إلى ما ينبغي لطالب العلم من تعليم المغسل، وتوضيح ما يلزم أن يوضح له حتى يأتي به على وجهه، ولذلك النبي ذكر ذلك على وجه التفصيل والتوضيح.
ثم قال أهل العلم -كما أشرنا قبل قليل-: إنَّ التخيير هنا تخيير مصلحة، فإنه ليس إلى هوى الإنسان، إن شاء غَسَّلَ ثلاثًا، أو غَسَّلَ سبعًا، أو غَسَّلَ خمسًا، بل كما قلنا: أدنى الكمال ثلاث، وإذا حصل بها النقاء اكتفى بذلك، وإن رأى المصلحة في الزيادة زاد، وينتهي إلى سبع إذا احتاج إلى ذلك.
أيضا فيه إشارة إلى ما ذكرنا أنه يوضع في الميت الكافور، والكافور له أثر من جهة تطييب رائحة الميت، وإزالة ما قد يكون له من رائحة تعفن جثته ونحوها، وفيه أيضا فائدة من جهة طرد الهوام، فإن قوة رائحته تمنع الهوام عن الميت، والعجيب أن الحشرات ونحوها أسرع ما تكون إلى الميت إذا مات، ولذلك ترون ذلك في أي شيء يموت بين يديك، ما أسرع الحشرات إليها، فلأجل ذلك -حتى بني آدم- فلا يحفظ من ذلك إلا بما يكون طاردًا لها، ولذلك كان الكفور من أحسن وأنفع ما يفعل في ذلك.
المتوفية في هذا الحديث في أشهر قول أهل العلم، هي زينب -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، والنبي أمر «بحِقْوَه» وهو بعض ثيابه تجعل لها، وهذا في الحقيقة فيه إشارة إلى التبرك بالنبي وبآثاره، وهذا مخصوص به لا يشاركه فيه غيره؛ لأنه محكوم بفضله، وجاءت السنة بالإذن بالتبرك بفضلته وشعره وريقه وأثره. وغيره لا يساويه في ذلك للخصوصية، وأيضًا لأنَّ غيره لا يعلم فضله، ولا تستقر منزلته، لأن هذه أشياء خفية لا تُعْلَمُ إلا من جهة الوحي، وقد اصطفى الله -جل وعلا- بالرسالة، وأنزله هذه المنزلة، فلم يكن أحد يساويه ولا يقاربه فيها.
وفيه تحسين الميت على أتم وجه يليق به، ولذلك ضُفِّرَ رأسها، وجعل على ضفائر كما كانوا يعهدون ذلك في حياتها، فيطلب للميت كل ما كان كذلك، ولذلك ذكر بعض أهل العلم أنه إذا كانت له أظافر طويلة، أو لا يزال شعر عانته كثيفة هل تزال أو لا تزال؟
على خلاف بينهم، منهم من قال: إنها تبقى؛ لأنها شيء منه، متصل به، فلا يتعرض له، لأنه قد يكون في ذلك انتهاك لحرمته.
وبعضهم كما هو مشهور عند الحنابلة، أنهم قالوا: إن ذلك فيه تمام تنقية، وأنَّ هذا مما يطلب تخليه عنها، وتخلصه منها، وأنها أكمل له، فلأجل ذلك لو قُلِّمَت أظفاره وأزيل شعره، ولكن كل ذلك لا يعني كشف عورته، فيتأتى بمن يجوز له كشف عورته، أو يكون ذلك أيضا من فوق الستر بدون نظر إذا أمكن ذلك.
فيه مسألة وهي في الحقيقة مهمة للغاية، أنه لا يحضر الميت إلا من يُغسله أو يُحتاج إليه في إعانة، لماذا؟
أول شيء النبي لم يحضر، ولم يحضر إلا الغاسلة ومن يعينها، أليس كذلك؟ ولأنَّ أيضا الميت له حرمة، فكما أنه لا يُرضى رؤيته على تلك الحال، هل أحد يدخل مع إنسان إذا أراد أن يستحم أو يغتسل؟ لا. ولا يمكن أن يأذن بذلك لأحد حتى أخص الناس إليه، كبعض ولده أو نحوه، أليس كذلك؟
كذلك أيضا في حال وفاته، وهذا أيضا قد يُفهم من الحديث، فإن النبي إنما أدخل عليها من يقوم بذلك، وهي أم عطية ومن معها، ولأجل هذا ما يكون عند الناس اليوم من تكاثر على الدخول على الميت بدون حاجة، لا للتغسيل ولا للإعانة، فإنه مخالف لِمَا جاءت به الأحاديث، وأيضا فيه انتهاك لحرمة الميت، وحَطٌّ من قدره الذي ينبغي على الحي أن يحفظه.
كما أنه يجب على من حضر في ذلك أن يُبقي على الأمانة، فلا يَكشف مُغطى، ولا يظهر سرًا، فلا يقول رأيته في يده كذا، أو ظاهر في جسده كذا وكذا، مما قد يكون من عيبه، أو مما جَدَّ له بعد موته، فإن ذلك مما يؤتمن عليه، ولأجل هذا ذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون المغسل أمينًا.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا الحديث الذي في الصحيح، أن النبي (كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ) وسحولية بالفتح وربما ضبطها بعضهم بالضم، أي: سُحولية، ولكن الأكثر على أنه بالفتح، وهذا فيه إشارة إلى تكفين الميت، وأنَّ الكفن تمامه بثلاثة أثواب للرجل، والنبي لم يكن الله ليختار له إلا الأكمل والأتم، وقد كُفِّنَ في ثلاثة أثواب، وينبغي أن تكون هذه الأثواب مما يليق به، وسيأتي ما يتعلق بذلك في حديث «فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» ، وما يطلب في هذا، ولعلنا أن نتركها إلى حينها.
فالأثواب الثلاثة هي المستحب، أن يكفن الرجل فيها، فتكون سابغة تغطيه، لأنَّ الكفن إذا لم يكن سابغا ينكشف منه بعض جسده، كما جاء في قصة مصعب، أنه غُطِّيَ ببعض نباتات كإذخر وغيره، أليس كذلك؟ فلأجل هذا قالوا: لا بد أن يكون سابغًا، ويتأتى الواجب بثوب واحد، والتمام والكمال بثلاثة.
وأمَّا المرأة فإنها تكون في خمسة أثواب، كما جاءت أيضا بذلك السنة، "إزار، ورداء، وخمار، ولفافتين"، والصغير بعضهم يقول: إنه لا يتكلف فيه، يعني فيكون في واحدة أو نحوها، ولكن على كل حال، لعل هذا راجع، وسيأتي أيضا إشارة إلى هذا، أنهم كانوا يحتاجون إلى مثل هذه الأثواب، ولأجل ذلك يعني يتخففون منها إذا ما احتاجوا، وتعرفون لَمَّا تكلم الفقهاء على تخريق الكفن، هل تعرفون تخريق الكفن؟
يعني قبل أن يكفنوه يُخرقوا الكفن، هذه يفعلونها لماذا؟ حتى لا ينبش القبر فيؤخذ الكفن فيسرق، يعني حتى يُفسد على الأحياء، لأنه إذا خُرِّقَ فلن يستطيع أحد أن يجعله ثوبًا له، فكانوا يلجئون إلى ذلك لحاجة الناس وضعفهم، حتى لا يأتي بعض ضعاف النفوس، فيحفر القبر من الليل، فيخرج هذا الكفن فيجعله ثوبًا له.
فعلى كل حال، مثل ما ذكرنا، أن الرجل ثلاثة، والمرأة خمسة، والصغير قد يخفف فيه، وإن كان الإبقاء على الثلاثة مناسب في هذا.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا الحديث في قصة النبي مع عبد الله بن أبي، طبعا لها روايات، وجاء في بعضها أنه طلب، وفي بعضها أن النبي نزع قميصه وأعطاه إياه، وجمع بعض أهل الحديث بهذا فقالوا: إن الأصل أن عبد الله ابنه سأل النبي ، وأجابه إلى ذلك، ثم لم جاء إليه، نزعه النبي وأعطاه، وقالوا: إن هذا من النبي مكافأة على معروف له، فإنَّ العباس في يوم بدر احتاج إلى كسافة أُخذ من عبد الله بن أبي، فأراد النبي أن يرد له جميله، وأن يحسن إليه صنعته، فلأجل ذلك نزع قميصه وأعطاه إياه.
وفيه أيضا إشارة إلى التبرك بالنبي ، وإن كان عند أهل العلم أن من شرط حصول البركة وبلوغ الأثر، أن يكون مستحقًا لها، فلأجل ذلك لا تنفع الشفاعة إلا لأهل الإيمان، ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر:48]، فلأجل هذا طُلِبَ هذا، وإن كان عبد الله بن أُبي هذا رأسا في المنافقين، إلا أنه -كما يقول أهل العلم- أنه لَمَّا أظهر الإسلام، فإنه يعامل في الظاهر بمعاملة أهل الإسلام، وهذا هو الذي جرى من تكفينه، وأيضا من فِعل النبي معه، وكما جاء في الحديث، «لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» .
{قال -رحمه الله-: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ)}.
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- حديث ابن عباس، («الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ»)، وهذا فيه إشارة إلى بعض صفات الكفن، وأنَّ من أعظم صفاته وأحسنها أن يكون أبيض، ولكن ليس ذلك بلازم ولا واجب، فلو كُفِّنَ في ثوب غير الأبيض، سواء كان ذلك مما بدا لونه مُشعًا، أو فيه شيء من النضارة، أو كان أسودًا أو كحليا أو غير ذلك، فإنَّ ذلك كله جائز، إلا أن البياض أولى وأقرب إلى السنة، وهو الذي جاء به الحديث عن النبي .
هل يطلب في الكفن أن يكون مثلا من ثياب إحرامه التي أحرم بها؟
هذا ربما فعله كثير من الناس، وجاء عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- أنه أمر أن يُكفَّنَ في جبة شهد بها بدرا، وهذا أيضا من جهة تحصين الكفن فإن ما كان من أثر عبادة، وجرى فيه الإنسان بالطاعة، فإنما هو أكمل وأتم، فلو قيل بذلك لم يكن بعيدا.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
هذا الحديث مكمل للأحاديث المتقدمة، وهي فيما يتعلق بالأكفان، وفيه إشارة إلى تحسين الكفن، وتحسين الكفن مطلوب ومأمور به، ولذلك هذا ظاهر حتى في حديث عائشة، أن النبي (كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ) والظاهر منها أنها أثواب ذات جمال، وحسن، وبهاء، ولذلك لم يختلف أهل العلم على استحباب تحسين الكفن وتجميله.
ويُنبه هنا إلى ما يجري من تخاذل الناس في هذا الأمر، فيكلون ذلك إلى من اعتاد الناس أنهم يكفنون الموتى في المغاسل المعدة لذلك وما يجري عليها من وقت، وربما كان الكفن في ذلك بخسًا زهيدًا، لو كان الإنسان حيًا لم يكن له لأن يلبس ذلك، ولا أن يرضى به له ثيابا، فكيف إذا كان ذلك عند لقائه لربه، وهو آخر عهده بدنياه؟ فإن تحسين الكفن من أهم ما يُطلب، وأوجب ما يلزم، وكذلك أيضا امتناع بعض هذه الأماكن من قبول كفنٍ من الخارج، غير مناسب، على أنه أيضا كما جاء في حديث جابر («وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ») أنَّ الكفن يكون من نفقة المتوفى نفسه، فإنه لا يُتصدق عليه، وأنه إذا كان يحفظ نفسه في حال حياته، فإنَّ حفظه في حال مماته واجب، كما ذكر أهل العلم أن ثياب كفنه مقدمة حتى على كل دين، وهي سابقة لكل شيء، فدلَّ ذلك إذًا على تحسين هذه الثياب، وطلب الأتم فيها والأكمل، وألا يستهان بها ولا يستخف، وألا توكل إلى الغير، وألا يُترك الإنسان إلى الصدقة بذلك، ويجب أن نتنبه لهذا، وسيأتي -بإذن الله جل وعلا- الكلام على المغالاة فيه، نتركه إلى ذلك الحين.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَيُقَدِّمُهُ فِي اللَّحْدِ»، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)}.
الحديث في هذا لا يزال فيما يتعلق بأحكام الكفن، فإن المؤلف -رحمه الله تعالى- يُشير إلى ما يتأتى به الكفن، ولذلك قال: (في ثَوْبٍ وَاحِدٍ)، فإذا كان ثوبًا واحدًا حصل بذلك المقصود، وسقط فرض الكفاية.
ثم فيه إشارة أيضا إلى أحوال الشهداء وتكفينهم، وهي حال خاصة يتعلق بها أنهم يكفنون في ثيابهم، ولذلك قال: (وَلَمْ يُغَسَّلُوا)، ولكن قوله: (في ثَوْبٍ وَاحِدٍ) هل المقصود بذلك أنهم جُمِعُوا جاء في كفن بحيث يكونان كالشخص الواحد؟ أم أن المقصود بذلك أنهم لَمَّا حصلت لهم الشهادة، وجعلت عليهم أكفانهم، احتيج إلى شيء يكملها، فقسم بينهم ثوب واحد؟
هذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم- والذي يدل لذلك أنه قال: ثم ينظر («أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَيُقَدِّمُهُ فِي اللَّحْدِ»)، إذ لو كانا في كفن واحد ملتصقين، لم يكن ثَمَّ تقديم وتأخير، ولا كان الإدخال على هيئة واحدة لا يمكن في ذلك المفارقة بينهما، ولكن يفهم منه ما ذكرنا أنه تكمل أكفانهم بالثوب الذي يحتاج إلى تكميله، ويكون مشقوقا بينهما.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وَلَمْ يُغَسَّلُوا)، وهذه من خصائص الشهيد، أنه لا يغسل، والمقصود بالشهيد هنا هو شهيد المعركة، التي هي قتال في سبيل الله -جل وعلا- للكفار، لإعلاء كلمة الله، فيخرج بذلك ما لو كان قتالا مشروعا في غير قتال الكفار، فلا يأخذ أحكام الشهادة المخصوصة.
وكذلك الشهيد إنما لو قتل مثلا في قتال ظلمة أو بغاة أو قطاع طريق نحوهم، فإنه وإن كانت هذه أعمال جليلة، وفيها فضائل كثيرة، إلا أن أحكام الشهادة مختصة بالجهاد في سبيل الله لقتال الكفار خاصة، لإعلاء كلمة الله.
الثاني: أنه إنما يتعلق به اسم الشهيد إذا مات في المعركة، فلم تستقر له حياة بعدها، وأما لو نقل من المعركة إلى المستشفى، ثم مات بعد ذلك، فإنه تنتقل أحكامه من أحكام الشهادة إلى كونه قد مات خارج المعركة، فيغسل ويكفن ويصلى عليه.
وهنا الإشارة أيضا إلى أن بعض الأحوال الخاصة للكفن، وأنه قد يُجمع الرجلان في القبر الواحد، وقد يُكتفى بالثوب الواحد في كفنهم، وجمع رجلين في كفن واحد هو عند الضرورة، ولكن لو فعل من غير اضطرار، فعند أهل العلم أنه حرام، وقال ابن تيمية -رحمه الله-: إنَّ ذلك مكروه وليس بحرام، ولكنه يُحتاج إليه إذا كانت في المصائب، كالأوبئة والقتلى الكثير في تلك الحروب ونحوها، فإنه قد يُخاف أن إذا حُفِرَ لكل شخص قبر أن ينتن، وأن تفسد رائحته، فكان من الإحسان إليهم أن لو جمعوا في قبر واحد، أخف ما يلحق الجثة من التعفن، وخروج نتنها ونحو ذلك.
وقد جاء في أوقات في أحوال سابقة، كما ذكر أهل التاريخ، أنه ربما صُلِّيَ في بغداد على ثلاثمئة جثة في صلاة واحدة، ما كان الناس فيما مضى مثل الآن كثير، ولا كان يمكن جمعهم في مكان واحد، كانت البلدان صغيرة، ومع ذلك هذه الدنيا مجبولة على بلياتها، ويحصل فيها من شرورها وشدائدها، والله المستعان.
أيضا في هذا الحديث الصلاة على الشهيد، والصلاة على الشهيد كما هو ظاهر الحديث قال: (وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ)، فالمشهور من المذهب عند الحنابلة، كما الشافعية أيضا، والجمهور، على أنه لا يُصَلَّى عليهم، ولكنه يُشكل على ذلك أنَّ النبي صَلَّى على قتلى أحد! فهل هذا كالنسخ لِمَا تقدم؟ أم أن تلك حال خاصة، وهي ليست صلاة جنازة التي يحصل بها فرض الكفاية، وإنما هي كالتوديع لهم، وكخصيصة لمنزلتهم؟
من أهل العلم من قال ذلك، ومنهم من جعل الأمر على سبيل التخيير، فيمكن أن يُصلى عليهم.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: «لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَرِيعًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).
هذا الحديث مكمل للأحاديث التي شرحناها قبل الصلاة في الأمر بإحسان الكفن، وما جاء أيضا أنَّ النبي كُفِّنَ في ثلاثة أثواب سَحولية، قال: («لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ») هل يعارض هذا الحديث ما تقدم من تلك الأحاديث؟
أولاً: الحديث ربما تُكُلِّمَ في متنه، وعلى صحته فإنه على قول بأنه رواه أبو داود، وهو مما يدل على أنه محل استشهاد واعتبار، فإنه لا يٌعارض ما تقدم من الأحاديث، فيحمل ذلك على مغالاة زائدة، فيكون ذلك خارجا عن المعتاد، أو أن يُلبس في أكفان ظاهرها لا تكون مما يليق بالميت في حال موته، فما فيها من كُلفة إلا أنها غير ملاءمة له، فيكون ذلك فيه مغالاة، أو عند الحاجة، فيحمل في ذلك إذًا على الحال التي يحتاج فيها إلى الأكفان، فبناء على ذلك يُتخفف في جانب الميت إبقاء لحظ الحي، وجاء هذا عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- أنه لَمَّا طُلِبَ أن يغسل بعض ثيابه فيها زعفران، وأن يُكفن بها، قيل له: إنه خلق، فقال: الحي أولى بالجديد!
فقال أهل العلم: في مثل هذه الحال، إذا كان يُحتاج إليه، فربما يكون الحي أولى بالجديد، لحصول بلاء الكفن سريعا وانتهائه، وبناء على ذلك قالوا: إنه ربما يكون في هذه الحال عدم المغالاة فيها، ولكن في الجملة أنه لا يُعارض ما تقدم من طلب الإحسان إلى الميت، وتجميل كفنه، والإحسان إليه في ذلك.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ لَهَا: «لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ -رضي الله عنه-. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ)
}.
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- فيه أيضًا من أحكام التغسيل، وقد تقدم بنا أن الرجل يغسله الرجال، وأن المرأة تغسلها النساء، إلا ما استثني، فقال أهل العلم في ذلك: للمرأة أن تغسل زوجها، وهذا ربما نقل فيه الاتفاق، كما نقل ذلك ابن المنذر -رحمه الله تعالى.
ولكن هل للرجل أن يغسل زوجته؟
بعضهم قال: ليس له ذلك، وهذا يخالف ظاهر الحديث، فإن النبي قال: («لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ»)، وأيضًا ما جاء في غير ما حديث، أو في بعض الآثار، ومن هذا أخذ أهل العلم أن للرجل أن يُغسل زوجته، ولأنه قول من قال بعدم التغسيل بانقطاع العلاقة بينهما أو البينونة بينهما ليس بصحيح من جهة بقاء العلقة، واستقرار الأحكام بعد الموت من التوارث وغيرها، فبناء على ذلك للرجل أن يغسل زوجه، كما أن للمرأة أن تغسل زوجها، ولأجل ذلك أورد أثر أسماء عند الدار قطني، أنَّ فاطمة -رضي الله تعالى عنها- أوصت أن يُغسلها علي -رضي الله عنه وأرضاه-، وإذا جاز للمرأة أن تغسِّل زوجها، فإن للرجل أن يُغَسِّلَ زوجته سواء بسواء.
وأما الصغير دون السبع، فإن المتقرر عند أهل العلم، أنه لا عورة له، وبناء على ذلك لو غسلت المرأة ولدا أو ذكرا دون سبع، وحتى لو مست عورته، فإنه لا حرمة له، وبناء على ذلك يجوز، وكذلك لو أنَّ رجلا غسل بنتا صغيرة على هذا النحو فلا غضاضة فيه.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ بِرَجْمِهَا فِي الزِّنَا، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
هذا الحديث أيضا في الصلاة على الميت، وكما قلنا: إن الصلاة على الميت فرض كفاية أيضًا، وتوالت بذلك الأحاديث، وتكاثرت في ذلك النصوص، وأنه حق لكل مسلم، وأن ذلك أيضًا يستوي فيه من ظهر صلاحه وعرف بطاعته وخيره ومن كان دون ذلك، ولذلك هذه المرأة كانت قد جرى منها ما جرى، وأقيم عليها الحد، ومع ذلك أُمِرَ بالصلاة عليها، وفي الحديث «فَصُلِّيَ عَلَيهَا» أو «فَصَلَّى عَلَيْهَا»، وهذا يُشار إلى مسألة، وهي الصلاة على من أقيمت عليهم الحدود، فالمشهور في المذهب عند الحنابلة أنه يُصلى عليهم كغيرهم، وأنَّ النبي لم يترك إلا على الغال وقاتل نفسه، وأما من عليه دين فقد تقدم أنه انتهى الأمر إلى الصلاة عليه، خلافا للمالكية الذين يقولون: إن من عليه حد فإنه لا يُصلى عليه.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
هذا الحديث الذي هو حديث جابر -رضي الله تعالى عنه- في الذي قتل نفسه، وقتل الإنسان نفسه من أعظم المحرمات، وهو من الكبائر الموبقات، ولذلك جاء الوعيد فيه بأنه يعذب بما قتل به نفسه يوم القيامة، وتَبَرَّأ منه النبي ، فدل ذلك على عظم هذه الفعلة، وأنها من الذنوب العظيمة، ولأجل ذلك جاء حديث مسلم هنا أنَّ النبي ترك الصلاة عليه، إذ أنه قتل نفسه بمشاقص، والمشاقص: جمع مشقص، وهو حديدة عريضة تجعل في السهم ونحوه، يكون فيها قوة، فَقَطَّعَ نفسه، نسأل الله السلامة والعافية، ولأنَّ هذا من جهة: أول شيء قتل نفس، ونفسه ليست ملكا له، فكما أنه يحرم عليه قتل غيره، فمن باب أولى أنه يحرم عليه قتل نفسه، والله -جل وعلا- يقول: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:93]، ولأنَّ قاتل نفسه في الغالب أنه إنما قتلها لِمَا دخل في نفسه من اليأس من الدنيا، أو التسخط من بلياتها أو نحو ذلك، وإلا فإن العادة جارية على أن أحدا لا يطلب الأذية لنفسه مهما صغرت، فكيف يقتلها ويزهق روحه ويذهبها؟
ولأجل ذلك جاء هذا الحديث في الدلالة على أنَّ النبي ترك الصلاة عليه، وذكر بعض أهل العلم، هل يجب على من قتل نفسه كفارة أو لا؟ باعتبار أنه قتل نفسا مؤمنة، وأمَّا ترك الإمام للصلاة عليه، فلا يعني ذلك أنه لا يُصلى عليه، بل ما دام أنه مسلم، وأن أحكام الإسلام باقية، فإنه يُصلى عليه، وإنما ترك الإمام الصلاة عليه على سبيل الزجر والتأديب والتعزير؛ لئلا يتجارى الناس في ذلك الأمر ويُتَساهل فيه، وليعلموا عظمه وشديد حرمته.
يمكن أن نقول: إنه أتى في الشرع أن من اعتدى على الغير فإنه يعاقب ويحال بينه وبين ذلك، ولكن ليس يمكن أن يُحال بين الإنسان ونفسه، ولأجل ذلك جاء في الشرع الزجر في هذه العقوبة، وتعظيمها حتى إن الإمام لا يُصلي عليه زجرًا ومنعا من أن يتجرأ أحد على هذا الفعل، ولذلك قالوا: هل يحرم على الإمام الصلاة، أو يكره له الصلاة على قاتل نفسه؟
قولان فيها.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ- قَالَ: فَسَأَلَ عَنْهَا النَّبِيُّ فَقَالُوا: مَاتَتْ، فَقَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي» فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا»، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ مُسْلِمٌ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ»)
}.
هذا الحديث، وهو حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- حديث عظيم فيه فوائد كثيرة، ولو بقينا فيها إلى صلاة عشاء لما انتهينا، ولكن حسبنا أن نشير إلى بعض الفوائد التي جرينا عليها فيما سبق من الأحاديث، فهنا فيه إشارة في الدفن في الليل، وأنه مأذون فيه، ولذلك لم ينههم النبي أو يعاتبهم على أن دفنوها ليلا، وإنما طلب أو عاتبهم على عدم إيذانه وإعلامه بها، وسيأتي الكلام على ما جاء في الآثار في النهي عن الدفن الليل.
فقال هنا: («أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي»؟ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا)، وفي هذا إشارة إلى أن انتظار البعض أو أن الانتظار في الجنازة لحاضر من بعيد، أو لقادم من شغل، إذا كان ذلك لا يُفضي إلى إيذاء للجنازة، أو نتن لها، أو تأخير طويل وحبس لها، فإن ذلك لا بأس به، ويحتاج إليه، وإلا لم يكن النبي ليطلب إيذانه وإعلامه بها.
ثم أيضا فيه إشارة إلى أن الأمر الصغير الذي ربما يستصغره الناس، قد يكون عند الله كبيرا، وإن المرء العمل في الخفية أو في الأمر اليسير الذي لا يعبأ الناس به، وإنه ليرتفع عند الله -جل وعلا-، ولولا أنَّ هذا الأمر كان رفيعًا عند الله، وأجره عنده عظيم، لَمَا كان للنبي أن يعاتب أصحابه أن لم يخبروه ولم يؤذنوه، ولم يكن النبي ليخرج من بيته فيصلي على قبرها، وفي هذا إشارة إلى أهمية أن يعتاد الإنسان الأعمال الصالحة، وأن يستكثر منها، وإن رأى بعض الناس أن تلك الأعمال تُزري به أو تنقص مقامه، فإن الأعمال الصالحة ليست إلا خيرًا يرتفع الرجل بها في الدنيا وفي الأخرى، وإن العبرة إنما هو في ميزان الآخرة، وما يكون له من المثوبة عند الله -جل وعلا-، وإنَّ الإنسان لا يدري ما يبلغ به عمله، فكم من الناس الذين عملوا أعمالا يسيرة، ولكنها بلغتهم الله -جل وعلا- منزلة عظيمة.
وفيها إشارة إلى عظم أثر الصلاة على الميت، وأنها سبب لمغفرة ذنوبه، وحصول الخيرية له، وحصول النور والضياء، فإن النبي قال: «وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لهمْ بصَلَاتي عليهم» ، وقوله: بصلاتي يعني: الدعاء، وصلاة الجنازة هي الدعاء، فحقيقتها دعاء للميت، وإحسان إليه، فَعُلِمَ أنَّ ذلك سبب لحصول الخير، وانتفاع المسلمين بعضهم بدعاء بعض، وأنَّ ذلك يصل إليهم.
وفيه أيضا إشارة إلى مسألة مهمة، وهي ما يتعلق بعمل المرأة، وأنه لا غضاضة على المرأة أن تكون في عمل، ربما كان هذا العمل في مسجد، أو في سواه، ولكن ذلك لا يعني أنَّ المرأة تتبدل في نفسها، أو أن تترك عفتها، أو أن تتعاطى ما يكون سببا لتسلط السفهاء عليها، فإنها تطلب ما يكون فيه مرضاة ربها من عمل، أو تطلب ما يكون فيه تحصيل رزق لها وكسب يخفف عنها عناء الحياة، أو تيسر لأولادها ما يصلح به أمرهم، ولكن كل ذلك فيما تحفظ به عفتها، وتمنع حصول الفتنة عليها أو بها، وتتقي الله -جل وعلا- في ذلك كله. وإذا حصل على هذا النحو، لم يكن ذلك شيئا يزري بالمرأة أو ينقصها.
وفيه إشارة إلى أنَّ النبي -كما قال أهل العلم- لا يعلم الغيب.
ولكن الصلاة على القبر هي من المسائل المهمة، وأنها مشروعة، فإذا مات للإنسان قريب، أو مات له عزيز، وفاتته الصلاة عليه، فأتى قبره فَصَلَّىَ عليه كان ذلك مشروعا مستحبا، أو من له قدر في الإسلام أو سابقة فضل، ولذلك صلى النبي على هذه المرأة.
كم المدة التي يُصلى فيها على القبر؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة إلى شهر، وهذا قيد قريب صحيح، وهذا قيد معتبر واضح، وذلك أنَّ الأصل هو الصلاة على الميت وليس على القبر. ولَمَّا جاء هذا الحديث بالصلاة على القبر، كان كالمستثنى من الأصل، أنه أُبيح الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت لسبب من الأسباب كعدم إيذان، أو سفر، أو نحوه.
فلمَّا كان هذا مأذونًا فيه على سبيل الاستثناء، فأكثر ما جاء فيه عن النبي شهر، فما كان لنا أن نزيد على ذلك. والعجيب أن بعض الشراح لَمَّا ذكروا المدة وقالوا: إنها لا تتحدد، وأن هذا القول ضعيف، إنما أوتوا من ضعف الفهم، وإلا لم يكن أو لا يُتصور أن يُقال هذا القول ضعيف، يعني: حتى ولو قال شخص بقول آخر، لكن أن يقول التحديد ضعيف فهذا لا يفهم الاستنباط والنظر عند أهل العلم. مسألة إنما جاء فيها حديث، وهذا أكثر ما جاء فيها، فأن تزيد فيها أنت متحكم، وحاكم على النصوص بغير ما لم يأت.
فبناء على ذلك كان الاقتصار على شهر قول وجيه وقوي، وأيًا كان حتى ولو قيل بأكثر من ذلك، ولكن أن يوصف أن التحديد ضعيف فهذا مسلك هزيل جدا، وضعف في الفهم ظاهر، وعدم معرفة بطرائق أهل العلم في الاستدلال والنظر.
وهنا إشارة إلى مسألة ينبغي أن تكون مهمة، وهي: أنه لا ينبغي للمسلم أن يزدري أحدًا، أو أن يعامله بشيء من ذلك، والصحابة ربما لا يحسن أن نقول: إنهم ازدروها، وإنما رأوا أن النبي لمنزلته ومكانته، وتعظيما لشأنه، ألا يشغلوه في ذلك الوقت، فيؤذنوه في أمر قد لا يكون ذا شأن كبير؛ لأنَّ الازدراء شيء، وأن يكون ملائمًا للنبي أو مما يطلب له شيء آخر، فهم إنما رأوا أنه ما يليق بحال النبي ، من عدم إيذائه أو تركه ليستريح في ليله، حال لا تناسب الإعلام فقط، ومع ذلك كان من النبي إظهار فضلها، وإن كان قد يُظن أن عملها قليل، فهذه إشارة مهمة.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَنْهَى عَنِ النَّعْيِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إلى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
}.
هذا حديث حذيفة وقصة النجاشي وهما في النعي، والنعي هو الإخبار بموت الميت، وأحد الحديثين في النهي عن ذلك، والثاني في أنَّ النبي قد نعى النجاشي، ولأجل هذا ذهب الشراح وأهل العلم إلى أنَّ النعي المنهي عنه في الحديث، هو ما كان يألفه أهل الجاهلية، من حال مخصوصة، وهو إظهار فضائله بمن يصرخ في الأسواق ويصيح في الطرقات، ويعلن به على سبيل من التكلف، وربما فيها شيء من الكذب، وكل ذلك أيضا فيه شيء من التسخط لقدر الله -جل وعلا- بموت هذا الشخص العظيم، أو الوجيه، أو الكبير عندهم، أو إلى غير ذلك مما يجعلهم يزيدوا في نعيه، ويظهروا موته.
فكانت هذه الحالة التي هي حال من أحوال أهل الجاهلية منهي عنها ولا شك، وجاء الشرع فكل ما كان يعتاده أهل الجاهلية من عادات سيئة، ومن عادات مخالفة، نَهَىَ عنها وبين المنع منها، ثم إنَّ النبي نعى النجاشي، فأخذ من هذا أهل العلم أنَّ ما كان فيه إخبار عن موت الميت، لا سبيل طريقة أهل الجاهلية بالندب والويل، أو بإظهار الفضائل، أو بالتسخط على قدر الله -جل وعلا- فإنَّ ذلك لا حرج فيه.
فإذا كان ذلك لطلب الصلاة عليه، ولحصول الخير بحضور هذه الجنائز والدعوة للمسلم ونحوه، فإنه يكون مشروعا، ويدل لذلك أن النبي نعى النجاشي.
وقوله في حديث المرأة: («أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي») الإيذان هو إخبار، والإخبار نعي، فإذًا دلَّ أو تَلَخَّصَ من ذلك أنه ما كان نعي على سبيل الإخبار، وإظهار الموت الذي هو مدعاة للترحم، وحضور الصلاة، وطلب الأجر والثواب، فلا إشكال فيه، وما كان سبيله سبيل أهل الجاهلية، من الصراخ والعويل في الأسواق، وإظهار المحاسن والتَّسخط، فإنه منهيٌ عنه، بل محرم على ما جاء في حديث حذيفة المتقدم.
وفي حديث أبي هريرة أيضا إشارة إلى مسألة من المسائل المهمة، وهي الصلاة على الغائب، والصلاة على الغائب من أهل العلم من قال: إنها خاصة بالنبي ، وهذا فيه ما فيه.
ومنهم أيضًا من قال: إن الصلاة على كل غائب، ولأجل ذلك كان بعضهم يصلي في كل يوم على موتى المسلمين، وهذا أيضا فيه ما فيه؛ لأنه يتعارض مع أحاديث أخر.
ولذلك كان القول الراجح هو أحد قولين: إمَّا أن ذلك خاص بمن لم يُصَلَّ عليه، إذ أنَّ النجاشي -رحمه الله تعالى- كان بأرض الحبشة ولا مسلم فيها، فصلَّى النبي عَلَيهِ، وهذا ظاهرٌ بَين.
وإذا قيل: إنَّ الصلاة تكون لمن هذه حاله، ولمن ظهر فضله لسابقة علم ونحوه، لم يكن ذلك أيضًا بعيدًا.
وفي هذا الحديث إشارة إلى مسألة عظيمة، وهي ليست بعيدة عن حديث المرأة، إذ أن المرء إذا عمل عملا مهما كان في مكان خفي، أو في أرض قصية، أو بغير مرأى أحد أو مسمعه، ولو أحاط به الكفر وأهله، فإنَّ هذا لا يذهب على الله -جل وعلا- ولا يفوت، وما كان يظن النجاشي أنَّ النبي الذي هو خير من وطئت قدمه الثرى سيصلي عليه، ويدعو لذلك أصحابه، الذين هم خيرة هذه الأمة بعد نبيها.
فهنيئًا لمن طاب عمله، وأخلص في قصده، ولم يطلب ظهوره، فإنك مهما تكلفت لأن تظهر عملك فإن ذلك لا يفدي عليك شيئا، بل هو مُعقب للإنسان الرياء والسمعة، والدخول في العمل، في أقل الأحوال من السر إلى العلن، فيذهب عليه فضل أعمال السر والخفاء، وفضل الإخلاص والتمام، وتدخل عليه الأهواء ورغبات النفس والشياطين، ثم قد يُفسد عليه عمله من أصله، وليعلم العبد أنه ما يُسرُّ من سريرة إن صالحة وإن طالحة، إلا ويظهرها الله -جل وعلا-، ويلقى العبد حسابها في الدنيا وأثرها قبل الآخرة.
وهذا هو النجاشي الذي بينه وبين النبي ما بينه من الصحاري والغابات والبحار والأحوال، ولم يكن عمله، الذي هو إسلامه، وثباته عليه، وإحسانه إلى أهل الإسلام، بمانع أن يظهر ذلك في المدينة، وأن يُظهره النبي أحوج ما يكون إلى ذلك في يوم موته، فيصلي عليه، ولم يزل ذكره في العالمين، ولم يزل ذكره في المسلمين، وها نحن نذكره بذكر النبي له وترحمه عليه، فهذا فضل الله على من أحسن العمل وأتقنه، وأخلص لله -جل وعلا- وطلب صوابه.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِم)}.
هذا الحديث أيضًا من الأحاديث العظيمة، وهو حديث ابن عباس -رضي الله عنه-، «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا» ففيه إشارة إلى تنادي أهل الإيمان بعضهم إلى بعض، وتكثير الجنازة والصلاة عليها، فإنهم إذا بلغوا هذا العدد، ووصلوا إلى هذا الحد، فإنه سبب لحصول المغفرة، وتمام إجابتهم فيه، وتشفيعهم في هذا الميت، ولَمَّا كان مقتضى الإيمان، وحصول الولاية بين أهل بعضهم لبعض، فإنَّ ذلك داعٍ إلى أن يُسرعوا إليها، وأن يجتمعوا للصلاة عليها، وأن يطلبوا من الله -جل وعلا- للميت المغفرة والرحمة والرضوان، وهذا هو حقيقة الشفاعة، فيشفعهم الله، ويجيب دعاءهم، ويعطيهم ما طلبوه لأخيهم.
وفيه إشارة إلى فضل التوحيد بالله -جل وعلا- فإنه أصل الأعمال، وهو سبب قبولها، فإنه عَلَّقَ قبول دعائهم وشفاعتهم بتحقيق إيمانهم وتوحيدهم، لا يُشركون بالله شيئا، وهي إشارة إلى أنه كلما كمل التوحيد كان أرجى للإجابة، وإذا نقص نقص، ولذلك لَمَّا قيل للنبي وهو على هذا المساق: من أسعد الناس بشفاعتك قال: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» ، وفيه إشارة أيضا إلى أنَّ الشرك وإن كان أصغر، وإن كان لا ينقل عن الملة، إلا أنه يفوت على العبد ما يفوت، من قبول الدعاء، وحصول شفاعته لأهل الإسلام، لأنه لَمَّا قال: («لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا»)، فإنه يفهم منه أنه يدخل في ذلك قليل الشرك وكثيره، لأنها نكرة في سياق النفي، وفي هذا أيضا تأكيد على تحقيق الإيمان وتكميله.
وقوله: («إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللَّهُ فِيهِ») الشفاعة التي تحصل من أهل الإيمان بعضهم لبعض ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة، لا في إذن الشافع للمشفوع، ولا في قبول الدعاء، ولا في الرضاء عن المشفوع، ولها مباحث قد بينها أهل العلم، ولكن من حيث الأصل أن أهل السنة والجماعة يثبتون الشفاعة، ويجري قبول دعاء العبد لأخيه بقيده وشرطه، وعلى ما قرروه بدليله ونصه الذي جاء عن الله -جل وعلا-، وعن رسوله ، ولذلك أيضا جاء في بعض الأحاديث: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَوْجَبَ» ، ولذلك اعتادوا أن يصفوا ثلاثة صفوف، وكله داخل في هذا المعنى، وهو تكثير الصلاة على الميت، وطلب المغفرة والدعاء له، وسيأتي ذلك أيضا في أحاديث أخرى.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسْطَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا الحديث فيه إشارة إلى مسألة من المسائل المتعلقة بالجنازة، وهي: مسألة وقوف الإمام من الميت حال الصلاة، والمشهور كما هو ظاهر هذا النص، أنها إذا كانت امرأة فإنه يقوم وسطها، وإذا كان رجلا، فإنه يقوم عند رأسه. ما سبب ذلك؟
منهم من يقول: إنه أستر للمرأة، ولكن هذا ليس بوجيه؛ لأنَّ من كان عن يمين وشمال الإمام وليس خلفه، فإنه يرى ما يُظن أو يُدَّعى أن الإمام يستره، ولكن لو قيل: إنه توضيح لحال الميت من ذكر أو أنثى لإرادة الدعاء، لكان هذا أوجه وأقرب، وإلا كانت الصلاة عليهم على أي موضع كان صحيحة، ولأجل ذلك يقول أهل العلم: إنه إذا وقف الإمام على الميت في أي موضع صحت الصلاة، وحصل بذلك المقصود، ولكن التمام أن يكون عند رأس الرجل، وعند وسط المرأة.
والوسط بتسكين السين وفتحها، ولأهل اللغة كلام طويل في الفرق بينهما، ما الفرق بينهما؟ بعضهم يقول: الوسط بالتسكين هو لشيء واحد طرفاه منه، فالإنسان واحد من رأسه إلى قدمه، وبطنه منه، فيقال له: "وَسْط"، ومثله وَسْط النهار؛ لأن النهار شيء واحد، له أول وآخر.
ولكن إذا كان شيء بين شيئين، شيء ليس طرفاه منه، أو ليس شيئًا واحدًا، فيقال: وَسَطُ القوم، مثل: "جلست وَسَطَ القوم"، أو "جلست وَسَطَهُم"، أو "وَسَطَ رجلين"، هذا شخص وهذا شخص وهو وَسَطٌ لهما.
وبعضهم يقلبها، فيقول بالتحريك تكون لشيء واحد، والتسكين للشيء المختلف، ولكن الظاهر أو الأكثر أنه بالتسكين لشيء يكون إشارة إلى وسط طرفاه منه.
ومن هذا أُخِذَ ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:143]، عدولاً خياراً، أليس كذلك؟ كيف كان؟ ما علاقة هذا المعنى بهذا المعنى؟ العادة أن وسط الشيء يكون أتمه وأكمله، فلأجل ذلك كان وصف هذه الأمة بالوسط؛ لأن أوسط شيء يكون أتمه، وأكمله، وأعدله، وأحسنه.
على كل حال هذا يعني يمكن أن يكون هو أهم ما يقال على هذا الحديث، أنه مقام الرجل من المرأة.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "وَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
الصلاة على الجنازة من حيث الأصل، كان لها مصلى خاص كمصلى العيد، وكانوا يخرجون إليه، وهذا هو الأصل، فهل يُصَلَّى عليها في المسجد أو لا؟ ففي هذا حديث مسلم هنا، وقسم عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنَّ النبي (صلى عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ) سهل، وصهيب (فِي الْمَسْجِدِ) فأخذ من هذا أهل العلم -كما هو مشهور المذهب عند الحنابلة- جواز الصلاة على الميت في المسجد، وإن كانت الصلاة عليه في المصلى هي الأتم والأكمل، خلافًا لمن كرهها من أهل العلم، وتكلم في ذلك، واستدلوا ببعض الأحاديث لا تخلو من ضعف، ولا تقاوم ما حُفِظَ في الحديث الذي في الصحيح.
ما علة ذلك أنه يصلى عليها في المصلى ولا يصلى عليها في المسجد؟
ربما قال بعض الفقهاء: مخافة التلويث، أن يخرج من الميت شيء أو نحوه، قد يكون هذا، وقد يكون -وهو الأغلب- أن الصلاة على الميت يُطلب فيها الاجتماع، فإذا رأى الناس من يقصدون المصلى، عرفوا وعلموا أن ثَمَّ ميت قد مات، فينضم إلى ذلك ويتداعون إليه، فيكون أكثر للجمع، وأتم للإحسان للميت والدعاء له.
وفي هذا مسألة مهمة وهي مشتهرة في هذا الوقت، وهو الصلاة على الميت في المقبرة. الآن عندنا الصلاة في القبر مشروعة، والصلاة في المصلى محفوظة، والصلاة في المسجد مأذونه، أما الصلاة على الميت في المقبرة، فقد كرهها جمع من أهل العلم، اعتبارًا بأن الصلاة من حيث الأصل في المقبرة ممنوعة. بينما الحنابلة ذهبوا إلى الإذن فيها؛ لأنه جاء عن اثنين من الصحابة، ولكن مع ذلك فأقل ما يقال فيها: الإذن، مع ذلك لا يُحتاج إلى الصلاة عليها في المقبرة خاصة إذا كان صُلِّيَ عليها في المسجد.
عندنا الصلاة انتهت، ويمكن أن يصلوا على القبر، فما الحاجة أن يصلوا عليها في المقبرة؟ والأمر دائر بين الكراهة والإذن على شيء منه، فإما أن يصلوا عليها قبل أن تُدخل المقبرة، وإلا ينتظر الناس حتى تُقبر، ثم يصلوا على القبر، وهذا أكمل وأتم بلا شك ولا ريب.
فإذا انضم إلى ذلك تأخير، وأحيانا يكون معه كما يعتاد الناس الآن أحيانا، يكون فيه صراخ وصياح ورفع صوت ومناداة للناس وما يتبع ذلك، فالحقيقة كل هذا مما لا يليق أن يكون في المقبرة، والناس إذا كانوا مع الجنازة فكأنما على رؤوسهم الطير، وما يطلب من تعظيمها، شيء من السكينة والطمأنينة، وكل ما يحصل مخالف، فينبغي أن يُتنبه له.
الصلاة في المقبرة خاصة إذا لم يُحتاج إليها ما فيها فائدة، ولكن لو احتيج إليها لأنه لم يصلى ولم يجد الناس مكانًا، أو كان قبل دخول المقبرة فيه .. أو فيه مكان فيه خطر، أو لا يجتمع فيه الناس، أو ليس فيه ظل، فقد نقول: إنهم لو دخلوا فصلوا فيه إذن لما جاء عن الصحابة -رضوان الله عليهم-، ولأنه صُلِّيَ على القبر فستكون قريبة.
ولكن نقول: الأمر في أحسن أحواله مأذون فيه إذا احتيج إليه، ولكنه ليس هو الأولى، وليس هو المطلوب، ومثل ذلك أيضا -وهذا يحصل كثيرا الآن، من أناس يريدون الخير ولا يصيبونه- وهو أنهم إذا جاءوا إلى المسجد الذي تُصلى فيه الجنائز وهو مسرع أو مستعجل، دخل إلى موضع تُجعل فيه الجنائز قبل الصلاة، فيصلي عليها ثم يخرج، وهذا تفويت لحق الجنازة، فإن حق الجنازة أن يَكثر الناس عليها، وأعظمها الصلاة التي يسقط بها فرض الكفاية، وهذا الذي سبق الناس إلى الصلاة عليها فَوَّتَ على الجنازة الفضل في كثرة الناس، فسقطت بصلاته عليها فرض الكفاية، وفيه افتيات أيضا على المصلي عليها، وافتيات على من يؤم في الصلاة عليها؛ لأنها ثَمَّ من هو أولى بالصلاة عليه، والتقدم للإمامة فيها على ما ذكر الفقهاء في موضعه فيتنبه لذلك، فإن هذا أيضا من المخالفات المشتهرة.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُكَبِّرُهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ
وَعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه-: أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ. رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ.
وَعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا وَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى». رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكِتَابِ، فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)
}.
إذا هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- هي منصبة في صفة صلاة الجنازة، فصلاة الجنازة لا يختلف أهل العلم على أنها أربع تكبيرات، وعلى هذا اشتهرت النقول وتوافرت النصوص، كما في حديث النجاشي المتقدم، وكما في حديث عبد الرحمن بن ليلى، وكما جمع عمر -رضي الله تعالى- الصحابة على ذلك.
إذًا هي أربع تكبيرات، فهذا قدرٌ قد حصل عليه الاتفاق، وجرى فيه الإجماع بين العلماء، وهي عندهم أنها صلاة، ابتداؤها بالتكبير واختتامها بالتسليم، فبناء على ذلك يُشترط لها ما يُشترط للصلاة، من: وضوء وطهارة واستقبال قبلة وأحكام إمامتها وسوى ذلك.
هذه الصلاة أيضا أولها افتتاح بالتكبير مع رفع لليدين، ولا يختلفون أيضا في ذلك، يُبدأ فيها بالاستعاذة ثم الفاتحة، وليس فيها استفتاح، وعدم الاستفتاح فيها أولا: لعدم ورود ذلك لا في الأثر ولا في النص، نقول في الأثر: لأن أصل ثبوت ما يقرأ في الجنائز أكثر الآثار، والثاني: أنها صلاة فيها قصر، والمقصود الأعظم فيها للميت، فليس فيها استفتاح، فيقرأ فيها الفاتحة، وهذا أيضا جاء في الحديث الذي تُلِيَ بعده، وأيضا جاء في أثر عبد الرزاق من حديث أبي إمامة بن سهل بن حنيف، وهو أكثر الأحاديث التي انتظم فيها ما يقول المصلي في الجنازة حال صلاته.
ثم يكبر الثانية، التكبيرة الثانية هل يكون معها رفع لليدين أو لا؟ هذه من المسائل التي جرى فيها خلاف كبير بين أهل العلم، والأمر فيها جدًا يسير، يعني: من رفع أو لم يرفع، ولكن ربما ذُكِرَ في ذلك أثر، واعتمد عليه شيخنا الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- في أنَّ الأيدي ترفع، وهو عن ابن عمر، ولكنه لا يثبت في ذلك شيء، ولذلك قال ابن المنذر -رحمه الله تعالى- لَمَّا ذكر الصلاة على الجنازة -وما قاله لا يقصد به فقط هذه المسألة- ولكن طريقة أهل العلم في العلم والتفقه، مع سابق فضلهم وعمق علمهم، لَمَّا ذكر هذه المسألة قال: قال برفع اليدين في التكبير فلان وفلان وفلان، وعدَّ جماعة كثيرة من أهل العلم.
ثم قال: وبقول الجماعة أفضل. -طبعًا ابن المنذر هو الذي فتق الفقه-، هل تعرفون هذا؟ هو أول من فتق الفقه، كيف؟ يعني: قبل ابن المنذر كانت المسائل نُتف، والمسائل التي فيها بَسط إنما هي المسائل التي جرى فيها الخلاف بين مالك وأبي حنيفة، أو بين الشافعي والحنفية، أو بين الشافعي ومالك. فكانت جملة يسيرة من المسائل، ولكن أول من ألف في العلم بسطا من أوله إلى خاتمته في كتبه كلها، هو ابن المنذر، وجاء على كل مسألة بما قال فيها من أهل العلم، وما جاء فيها من الأحاديث، وما روي فيها من الآثار، وأتبع الآثار بالنصوص، وذكر فيها ما لم يذكر، ومع ذلك لم يقل: أنا عالم وأنا أستطيع أن انظر وأنا وأنا.
لَمَّا نقل هذه المسألة، ولم يكن له شيء يعتمد عليه، لم يجد إلا قول الجماعة، فكيف ببعض الطلاب الصغار الذي يأتي إلى المسألة التي نُقل فيها الإجماع أو كاد، ثم يقول: والله أنا أختار القول الثاني، هذا كثير، وأسهل ما عليه أن يُضَعِّفَ هذا القول، أو أن يتركه، أو أن يُعرض عنه.
أحيانا بعض الطلاب يقول: أنا أعلم، وفي مثل هذا من رؤية النفس، وانتقاص العلم وأهله، ما يُخشى معه ألا يحصل الطالب في ذلك شيئا، وما ترونه من انكسار الطلاب أو عدم التوفيق لبعضهم، إنما يؤتى في أحوال كثيرة من ذاك.
فإنه لا يُعَظِّم العلم إلا من استقر في قلبه الخشية من الله والإخلاص، وعظم العلم وأهله، فيوشك أن يبلغ فيه مبلغًا، ومن كان دون ذلك، فإنه لا يُوفق شيئا، ولو أنَّ أهل العلم صانوه صانهم، ولو عظموه في النفوس لعُظِّمَ، ولكنهم أهانوه فهانوا ودنسوا، وحياه بالأطماع حتى تجهما، سواء كان في سيرته في العلم، أو كان في سيرته مع أهل العلم، الأمر في ذلك سواء.
ثم من جهة المعنى، أنَّ رفع اليدين في التكبيرات هي راجعة إلى النظر، -أنا لِمَ أطلت في هذه المسألة؟ لأنه أحيانا بعض المسائل بمثابة أنها تُبِين أن الطالب يجب ألا يستعجل في المسائل- بخصوص رفع اليدين في التكبيرات الثلاث، إما أن يقال: إن الأصل عدم الرفع، أو يقال: الأصل الرفع، فبعضهم نظر إلى الأصل العام، الذي هو أنه لم يرد إلا في الأولى أو في تكبيرة الإحرام وهذه مثلها فكان الرفع فيها.
ويمكن أن يقال: إن هذه تكبيرات في حال القيام إلحاقها بأصلها الذي هو أقرب إليها، وهي تكبيرة الإحرام أرجى وأقرب من ردها إلى استصحاب الأصل العام، فالأصل القريب أولى من الأصل البعيد، ومثل ذلك أيضا إذا كان في صلاة الكسوف، فقام من الركوع الثاني، فإنه سيقبض يديه لماذا؟ لأنه يقرأ فيه الفاتحة ونحوه، فعلم منه أن حال الإنسان بعد الرفع من الركوع كحاله قبل الركوع سواء بسواء، سواء كان لقراءة كما في صلاة الكسوف، أو كان لتسبيح كما هو في الصلاة المفروضة التي يعقبها سجود.
فعلى كل حال، إذًا يرفع يديه ويكبر، وإن لم يرفع فالأمر في ذلك يسير جدا.
ثم يصلي على النبي ، ثم يكبر فيدعو للميت، وستأتي هذه الصفات.
ثم يكبر ويسكت قليلا، وإن أكمل دعاءً، وإن دعا بشيء، ولذلك جاء عن بعض السلف فيه أشياء كثيرة، أنه كان ربما يقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، وأكثر ما جاء في تفصيل هذه الصفة، هو الأثر عند عبد الرزاق من حديث أبي إمامة من السنة إذا كبر للجنازة أن يقرأ الفاتحة، ثم يصلي على النبي ثم يدعو للميت ثم يصمت قليلا ثم يسلم
من هذا أخذ أهل العلم صفة الصلاة على الجنازة، وهذه كما قلنا: التكبيرات الأربع، هل يزاد فيها؟ ربما جاء ذلك في بعض الآثار، وروي في ذلك عن النبي ، وجاء عن الصحابة عن علي، صلوا فكبروا ستا أو خمسا، وربما جاء في بعض الأحاديث إلى سبع أو تسع، فمن أهل العلم من قال: إن تلك أحوال خاصة، وهي في وداع النبي لأهل أحد، أو لخصوصية كما فعل عليٍّ -رضي الله تعالى عنه- مع أهل بدر، كانوا يكبرون على البدري ستا وعلى الصحابة خمسا، وعلى سائر الناس أربعا.
فعلى كل حال، عمر جمع الناس على أربع، فمن أهل العلم من قال: إنه يبقى أنه إذا زيد في ذلك خاصة لمن له فضل، أو مزيد صلاح أو علم أو نحوه، كان في ذلك له مستمسك مما روي في الآثار، وجاءت به الأحاديث، والأمر في ذلك يسير، وهذا مثل: صلاة الكسوف، وأن يزاد فيها أكثر من ركوعين، ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، كذلك لو زيد أكثر من أربع تكبيرات كان فيه مثل ما قلنا فسحة.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ)
}.
هذان حديثان ذكرهما المؤلف -رحمه الله- مع الحديث الثالث، وهو لم يقرأه، وفيه: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ»، وهذه الأحاديث دالة على الدعاء للميت، وهذا هو المقصود الأعظم من الصلاة، فهو يكون في الثالثة، وكما جاء في الحديث «فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاء». إذًا أصل الصلاة على الميت دعاء له، هذا الأول.
الثاني: أنه بأي شيء دُعِيَ للميت حَصَلَ المقصود، فسواء حفظ الحافظ هذه الأدعية، أو دعا له من عند نفسه، بأن يغفر الله له، وأن يدخله الجنة، وأن يسلمه من الفتنة، كان ذلك قدرًا كافيًا، وتمام ذلك بأن يأتي بما ثبت عن النبي ، فإنه أكمل الدعاء وأتمه، وأعظم ما جاء في ذلك حديث عوف بن مالك، الذي قال فيه الراوي: "حتى تمنيت أن كنت مكان هذا الميت"، لِعِظَم ما دعا النبي لهذا الميت من دعاء، وحديث أبي هريرة: «اللهم اغفر لحينا وميتنا» وبأيها يبدأ؟
بعض أهل العلم -كما هو مشهور المذهب- أنه يبدأ بـ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا»، ثم يشرع في الدعاء الأخص للميت، ولكن يمكن أن يقال: إنه إذا ضاق الوقت، فإنَّ الدعاء الأخص بالميت أولى من الدعاء العام لعموم الناس، ثم بعد ذلك ما هو أخص به، كان ذلك مناسبًا، ويمكن أن يقال: إنه خاف انتهاء الصلاة، أو انتقال الإمام، فدعا بما هو أخص له كان ذلك مُناسبًا.
وهنا أيضا في الدعاء ذكر حديث أبي هريرة، «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ»، وجاء عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنه زاد «من أحييته منا فأحييه على الإسلام والسنة، ومن توفيته فتوفه الإيمان والسنة»، وهذا القدر من الزيادة من هذا الإمام، وهو أعلم بالسنة، وأعظم تحريًا لها مناسب؛ لأن المقصود بذلك حصول السلامة من الفتنة، ولَمَّا عظمت الفتن، وكثرت الأهواء، ولا يُؤمن على أحد أن تنزلق قدمه، ويُستذل قلبه، ويقع في البلاء، كان استشعار مثل هذا الدعاء، ومثل هذه الزيادة، خاصة أن الموضع موضع دعاء، والدعاء بحسب المناسبة والحال، فلو قيل بها كان ذلك وجيه جدا.
ويدعو أيضا بما جاء في الأحاديث الأخرى، أو في بعض الآثار، «اللهم إن هذا عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، اللهم فإن كان محسنًا فزده إحسانا، وإن كان مُسيئا فاعف عنه، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده»، وأحاديث كثيرة، مثل: «اللهم إنه عبدك، ابن عبدك، في حبل جوارك وفي ذمتك، وأنت أهل الوفاء وأهل الحق، اللهم فاعف عنه واغفر له، فأنت الغفور الرحيم»، وأدعية نحوها، فكل ما دعا به مما جاءت به الآثار فمناسب في ذلك.
قال أهل العلم: وإذا كان المتوفَّى صغيرًا، فإنه جاء في بعض الآثار ما هو مناسب له في تلك الحال، «اللهم اجعله فرطا لوالديه وذخرا، وشفيعا مجابا وسلفا، اللهم اغفر له، وارحمه، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم، وأدخله جنة النعيم» وبعضهم يزيدها، فعلى كل حال ذلك مناسب للحال، لأن مثل هذا الفرط، ومثل هذا الصغير الدعاء لوالديه أعظم، لكونه لم يُكتب عليه ذنب، ولم تجر عليه معصية.
وهل يقدم في ذلك بالدعاء الأول؟ أي بقوله: «اللهم اغفر لحينا وميتنا وذكرنا وأنثانا» هذا لا شك أنه مناسب، أولا: لأنها صلاة جنازة، ولأنه الأولى في الدعاء للميت، ولأنه يشمل الحي والميت على حد سواء.
ثم ما يُذكر في هذا مما جاء في الآثار من دعاء خاص يحصل به التمام والكمال.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)}.
كما ذكرنا أن الأصل هو الدعاء للميت، ثم يُخَصُّ بما ثبتت به النصوص، وأعظمها ما في حديث عوف، وحديث أبي هريرة، وإن انضم إلى ذلك ما في الآثار الأخرى كان مناسبا، والصغير له حظ من دعاء على ما نقله الفقهاء.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
هذا حديث أبي هريرة وفيه الأمر بالإسراع بالجنازة، ولا يختلف أهل العلم أنَّ الإسراع بالجنازة مستحب ومسنون لموافقة ظاهر هذا الحديث، ولِمَا فيه من العلة والمعنى، ولأنَّ عدم الإسراع يُفضي إلى نتن الميت، وهذا فيه إساءة في حقه، وعدم القيام بما يستحقه، فلأجل ذلك كان الإسراع بالجنازة هو المأمور به، والإسراع بالجنازة هو محتمل لمعنيين، وهو متعلق بالتجهيز والتهيئة، من تغسيل وتكفين وسواه. ومتعلق بالحمل والسير بها إلى محلها وإلى قبرها.
وقال أهل العلم: إن ذلك كله مقصود في الحديث، فيكون مُشتملا على الإسراع بها في التجهيز، والإسراع بها في الحمل، ولكن الإسراع بها في التجهيز لا يمنع ذلك ما يكون من انتظار لمصلحة، كما لو كان من تهيئة بعض ما تُغسل به، أو شراء كفن من نفقته، أو إحضار طيب من طيبه، أو انتظار بعض أهله إذا لم يكن في ذلك فساد، أو نتن لها، أو تأخير كثير، مثل ما قال: («أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي»)، فَعُلِمَ أنه إسراع بحقه أو قيده، بما لا يكون فيه استعجال يُفَوِّتُ بعض ما يؤمر به، أو يحصل به تفويت على بعض أهله، من مشاركة في الصلاة، وقيام بحق هذا الميت، بشرط أن لا يتعلق بالميت إيذاء، أو عليه فساد، أو نتن.
الثاني: أنَّ الإسراع ضده عدمه، بأن يكون فيه تأن كثير، وهذه لم تكن مَعهودة عند أهل الإسلام، ما يكون من خطى متقاربة، أو مشيٍ على طريقة محددة، فإنَّ ذلك مخالف للشرع، موافق لغير أهل هذه الملة، فيكون منهيًا عنه، ولكن لا يمكن أن يكون الإسراع أيضًا إسراعا يحصل به إيذاء للميت، إمَّا بخضخضة بطنه، وتحرك ما فيه وإمكان خروجه، فيفسد عليه كفنه ونحو ذلك، أو إمكان سقوطه، أو حصول الأذى على بعض حامليه.
إذًا هو يكون إسراع على وجهٍ لا يكون فيه أذى ولا إيذاء للميت ولا لحامله.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ». قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ: «حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ».
وَلِلْبُخَارِيِّ: «مَنْ تَبِعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ»)
}.
هذا الحديث دالٌ على فضل اتباع الجنازة، واتباعها جاءت به الأحاديث، وهو فرض كفاية، وحق المسلم على أخيه، ولكن ما زاد عن فرض الكفاية فهو مُستحب، ومأمور به، وفيه أجر كبير، ولذلك كما جاء في الحديث الذي في الصحيح، «أنَّ من شهدها حتى يُصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان»، ففيه إشارة إلى عظيم الفضل في اتباع الجنازة وتشييعها حتى توضع في لحدها.
وهنا أشار في الحديث إلى اتباع الجنازة، وأنه على حالين:
اتباع حتى الصلاة، وهل يقصد بذلك مجرد الصلاة، أو الخروج معها منذ حصل الموت أو منذ حملت من البيت؟ الذي يظهر أنه لا يتأتى أو لا يُتصور إمكان ذلك، وهو أن يكون مع الجنازة ابتداء؛ لأن تلك أحوال مختصة، لا يعلم الناس أو لا يدخلون في ذلك حتى تصل إلى مكان الصلاة عليها، فيكون متعلق الحكم حصول الصلاة من المصلي عليها.
والثاني: هو بالتشييع، وهذا ظاهر من جهة أدلة كثيرة، وهو اتباعها حتى تُوضع في لحدها، وفي الرواية الثانية: حتى يُفرغَ من دفنها، فتحمل الأولى على الثانية، فيكون حصول الأجر بتمامه وكماله، وهما القيراطان مقيدًا بمن وقف على الجنازة حتى تُدفن.
وفي الحديث أيضا إشارة إلى مسألة مُهمة، وهي: من تبع الجنازة («إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»)، فلا بد من الإيمان، وهو شرط في كل عمل، وطلب الاحتساب، لأنه قد يلحق الجنازة ويتبعها من يريد شيئًا من الدنيا، أو ردَّ معروف لآخر، أو لتحصيل شيء يرتجيه من سمعة أو سواها، وكثير من الناس في اتباع الجنائز خاصة، أو فيما يتعلق بصلة ذوي القربى، كمريض أو كبير أو في عيد، يغفل عن النية، واستصحاب حسن القصد، وأن ذلك على سبيل الاتباع، وعلى سبيل الصلة، وعلى سبيل فعل ما جاءت به السنة، والاقتداء بالنبي ، فيفوت عليه الأجر، فهذه أعمال إنما يؤتاها من قصدها، ومن طلب الأجر فيها، ومن اقتدى بالنبي ، في تحصيلها.
ولأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: («إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا») وفي هذا إشارة إلى التكثر من الأعمال الصالحة، خاصة اتباع الجنائز لِمَا فيها من الفضل، ولِمَا فيها من الإحسان إلى الميت بالدعاء له، وبعض الناس خاصة في الأزمنة المتأخرة، لَمَّا عُرِفَت بعض الأماكن بالصلاة على الجنائز وغيرها، وتقصد الصلاة في تلك المساجد، يقول: ليس هذا من السنة، أو ليس هذا بصحيح، هذا كله شيء من التكلف في الكلام، فهذه أمور مشروعة، وأعمال محفوظة، وسنن جاءت عن النبي ، فمن استطاع أن يتعرض لها، وأن يتزود منها، وأن يتكثر، فذلك فضل الله -جل وعلا- على من يشاء من عباده، ومن طلب الخير بَلَّغَه الله الفضل، ومن زاد فيه، زاد الله له في المضاعفة والحسنة، ولأجل ذلك لا يقعد الإنسان عن الاجتهاد في طلب الأجر، والاجتهاد في التعرض لأسبابه، والإحسان إلى عباده، ومن ذلك الدعاء للموتى، وتشييع الجنائز والصلاة عليها.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ بِالْإِرْسَالِ)}.
هذا الحديث، وهو حديث سالم عن أبيه، هو من الأحاديث الذي رويت مرفوعة إلى النبي وفيها انقطاع، وفيها صفة المشي مع الجنازة، أو تشييع الجنازة، فتشيع الجنازة يكون بالمشي معها، ولكن أين موضع الماشي معها؟ هل يكون أمامها؟ أو عن يمينها؟ أو عن شمالها؟ أو خلفها؟
يقول أهل العلم: إن كان راكبًا فإنه يكون خلفها، لماذا؟ أولا: لئلا يتأذى من خلفه بغبار، أو يعثرون في الدابة، أو تؤذيهم الدابة، إذا رَفَسَتْ، أو تحركت، أو نحو ذلك.
وأمَّا من كان ماشيًا، فالأكثر والأشهر -كما جاء في هذا الأثر- أنهم يمشون أمامها، وهذا هو المروي عن الصحابة، ولأنهم قالوا: إن هذا هو حقيقة المعنى، فإنَّ الشفيع يكون مُتقدما على المشفوع له، فلأجل ذلك هم يأتون شفعاء، ويأتون يدعون لها، ويطلبون الله -جل وعلا- المغفرة والرحمة.
ولأجل ذلك قالوا: هذا هو المستحب، ولكنهم قالوا: إن التشيع يدخل فيه، ما كان بين يديها، وعن يمينها، وعن شمالها، فحيثما كان حصل بذلك التشييع، وإن كان في الأمام فهو الأكمل والأتم.
{قال المصنف -رحمنا الله وإياه-: (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)}.
لَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- اتباع الجنازة، وما فيها من الأجر والمثوبة، وما علق عليها من الفضل، وأن من شهدها حتى تدفن فله قيراطان، ثم ذكر موضع المشيع منها، وقلنا: إنه أمامها على ما جاءت به الآثار، وروي في ذلك المرفوع، والمعنى دال على ذلك، ولو كان بين يديها فحسن.
ويمكن أن يقال قبل أن نأتي إلى المسألة التي ذكرها في هذه الحديث: المشاركة في حمل الجنازة، وأن ذلك يكون على صفة التربيع، والتربيع هو الذي جاء عن الصحابة، وهو أن يمسك بها من جهتها اليمنى ثم ينتقل يحملها من جهتها مؤخرتها من الجهة اليمنى، ثم يتقدم إلى جهتها اليسرى فيحملها منه، ثم يرجع إلى جهتها المؤخرة اليسرى فيحملها منه، فيكون حملها من جهتها الأربع، وهو الذي يُسمى بالتربيع عند الفقهاء، وقد جاء بذلك الأثر، وهذا كله إذا لم يكن فيه زحام أو إيذاء للمحمول، فلربما سقط، ولربما تعرض للانكشاف أو نحوه، فإذا تأتى الحمل على هذا النحو كان حسنًا.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- ما يتعلق باتباع النساء، فجاء في حديث أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: («نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»)، فهل للمرأة أن تتبع الجنازة، وما الحكم فيما لو تبعتها؟
ظاهر الحديث النهي عن اتباع النساء للجنائز، وهذا من جهة المعنى ظاهر أيضا؛ لأنَّ الموقف فيه رقة، ولَمَّا جُبرت المرأة على شيء من التفجع، وعدم التجلد والتصبر، خِيفَ أن يكون منها شيء يُفسد عليها دينها، أو يُذهب عليها صبرها وتجلدها، فنهيت عن ذلك رحمة بها.
قال أهل العلم في قوله: («وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا») هل هي لو اتبعت لكان لها فيه ذلك إذن ورخصة؟ أم أنها مُحرمة مأزورة؟ المشهور من المذهب عند الحنابلة، وهو قول الشافعية: إن ذلك مكروه لصراحة الحديث، («نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»)، خلافا للحنفية، الذين قالوا: إن ذلك محرم وممنوع؛ ولأنه جاء في الحديث، وإن كان فيه مقال، لَمَّا رأى النبي نساءً ينتظرن، فسألهن: ماذا تنتظرن؟ قالوا: ننتظر الجنازة، قال: «ارجعن مأزورات غير مأجورات»، فَمِنْ هذا أخذ بعض الفقهاء كالحنفية، وعلى ذلك الفتوى عند مشايخنا، بالمنع من اتباع الجنائز، ولعل وجه ما جرى عليه المتأخرون من علمائنا، كما جرى عليه أئمة الدعوة، النهي والتشديد في تحريم اتباع النساء للجنازة، لَمَّا كان كثير من أعمال الضلال والإشراك التقرب إلى الموتى وما يتبع ذلك من أعمال شركية، وتضليل الناس بفعل النساء، فلذلك كان الميل إلى تعظيم هذا الأمر، وذهبوا إلى ما ذهب إليه فقهاء الحنفية من تحريم ذلك والمنع منه.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ -رضي الله عنه- أَدْخَلَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ الْقَبْرَ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ)
}.
هذا الحديث، حديث أبي سعيد -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- أنَّ النبي قال: («إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا») والقيام للجنازة جاءت به السنة، ودلَّ عليه الحديث، والعلة في ذلك ظاهرة، والمعنى في ذلك معلوم، فإنَّ هذا مما نصَّ عليه قول النبي ، لَمَّا قيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: «إن للموت فزعا»، فلمَّا كان الموت من أعظم ما يُوعظ به الإنسان، فإنَّ النظر إلى الميت يستدعي أن يتحول الإنسان من حاله، وأن ينتقل من غفلته أو انشغاله، أو ما يأنس به من حديث صاحبه أو سواه، ولذلك أُمِرَ بالقيام، فإذا مَرَّت جنازة، أو رأى جنازة قام.
ما حكم هذا القيام؟
قال بعض أهل العلم: إنه قد جاء الإذن بتركه؛ لأنَّ النبي كما في جاء الحديث، «قام وقمنا ثم قعد فقعدنا»، فكأنهم جروا إلى أنه منسوخ، والظاهر كما جرى على ذلك ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنَّ القيام للجنازة مُستحب، وأنه يمكن الجمع بين الحديثين بذلك، فلا يقال بالنسخ، ولا يقال بترك القيام، ولأنَّ المعنى ظاهر في تعظيم الموت والموتى، وأن انتقال الإنسان إلى القيام هي حال تستدعي منه تعظيم الموت، والاتعاظ به، وتحريك القلب إلى ذلك، وعدم ترك النفس إلى غفلتها، وإهمالها، وإلى رغبتها فيما تنشغل به من أمور دنياها.
ولذلك كان من أعظم ما يُرى من غفلة الناس أثناء اتباع الجنائز ودفنها، ما يكون من الضحك والتضاحك، وما يكون من الحديث عن الدنيا، وكأنه محلٌ لتذكر سالف الأيام، خاصة إذا رأى الإنسان من بعد عنه عهده، ومن قطعت الأيام رؤيته، فتجد أنه يُهلل ويستبشر وينطلق في الأحاديث وكأنَّ شيئا لم يكن، وهذا خلاف ما دلت عليه الأحاديث، ولذلك جاء في هذا الحديث: «إنَّ للموت فزعا»، وجاء في الحديث الآخر، أنهم لما قاموا على الجنازة وانتهوا، قال: «كأنَّ على رؤوسهم الطير» ما معنى كان ذلك؟ من كان على رأسه الطير هل يتحرك أو لا يتحرك؟ لا يتحرك، فكان كذلك حالهم في السكون والطمأنينة تعظيمًا للحال التي هم فيها، من حصول الموت، ومن دفن هذا الميت، ومن أيضا تعظيم هذه الجنازة، فإن الانشغال عنها بالملهيات أو التضاحك أو نحوه، فإنه حال لا ينبغي، ولذلك جاء عن ابن مسعود أنه لَمَّا رأى شخصًا يضحك في اتباع الجنازة حصبه، وقال: "والله لا أكلمك أبدا"، فكان ذلك دالٌ على أنَّ ما ينبغي من تعظيم أمر الجنازة إذا تبعها الإنسان في سكون وطمأنينة، وإذا رآها في قيام واستحباب لذلك على ما ذكرنا من التفصيل والتوضيح.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- حديث أبي إسحاق، عن عبد الله بن يزيد، وهذه الأحاديث شروع في طريقة دفن الميت، فقال: (أَدْخَلَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ الْقَبْرَ، وَقَالَ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ)، نقول: الميت كيفما أُدخِلَ القبر جاز، فسواء جُعل إلى جهة القبلة ثم أُنزل كما هو كثير الآن، أو جعل من الجهة الأخرى -الشرقية- ثم أنزل إلى القبر، أو جيء به من جهة رأسه، لكنَّ السنة في ذلك أن يسلَّ سلا، وأسله يكون من جهة من جهة محل قدميه، يعني: في الوضع الحالي يكون من جهة الجنوب، فيؤتى بالميت، فإذا كان هذا هو القبر، وهذه هي القبلة، فيؤتى بالميت برأسه من هنا من جهة رجليه، يعني الذي هو موضع رجليه في القبر، فيسل سلا، فينزل من هذه الجهة، وهذا هو ظاهر هذا الحديث.
قال: (مِنَ السُّنَّة) وجاء عن الصحابة نحو ذلك، وكما قلنا: إن هذا فعل الأكمل والأتم، فإذا لم يُفعل، أو كان في بعض الأحوال يشق ذلك، كيف يشق ذلك؟ يعني: بعض الموتى يكون جثة كبيرة، وإذا نزل بالسل من جهة قدميه، فإنَّ ذلك يعني أن يتناوله الأول في القبر بمفرده، فربما سقط منه، فلأجل ذلك يكون الأحسن أو الأسهل عليهم أن يجعل في حافة القبر من جهة القبلة، ثم يمسك به من كان في القبر، اثنين أو ثلاثة، فيكون أهون عليهم.
فعلى كل حال، هذه هي السنة، وإذا احتيج إلى خلاف ذلك كان الأمر على ما احتيج إليه، وإذا لم تفعل هذه السنة، فكيفما أُدخل القبر فقد حصل المقصود، والأمر في ذلك فيه سعة، ولكن هذا هو الأولى والأكمل.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقُبُورِ، فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالْوَقْفِ)}.
هذا الحديث أُعِلَّ بالوقف، ولكن جرى أكثر أهل على اعتباره في جهة ما يقال عند وضع الميت في قبره، ولذلك قال: («إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ») وهنا أسند الميت إليهم، ليكون ذلك أدعى للاهتمام، وأقوم لتحصيل المراد، فإذا كان ميتك، فمعنى ذلك أنك تعنى به على وجه التمام والكمال، وأمَّا إذا وضعتم الميت فلا يلحق بكل أحد القيام على ذلك على وجه التمام إلا أن يقال ميتك، فإذا أُسند إليه كان ذلك للاهتمام والاعتناء.
قال: («فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ») يعني: مستعينًا بالله، الباء للاستعانة أو للمصاحبة، والمشهور عند أهل من يقول: إنها للاستعانة، ولو قيل: للمصاحبة فهو أكمل وأتم، لماذا؟ لأن المعنى واحد، سواء قيل: للمصاحبة، يعني: أبدأ مستصحبًا اسم الله -جل وعلا-، أو أبدأ مستعينًا بـ اسم الله -جل وعلا-، لكنهم يقولون: العادة في الباء التي للاستعانة تستعمل في الآلات، فتقول: أقطع بالسكين، وأحمل بالسيارة، وأفعل بكذا، فقالوا: لَمَّا كانت الباء في الاستعانة تكون للآلات، قيل هنا: إنَّ الباء للمصاحبة ليكون ذلك أنسب في تشريف لفظ الجلالة، واستصحابها في هذه الأحوال التي يرجى بركتها، وطلب الخيرية في كل ما يسمى عليه، سواء كان ذلك في وضع ميت، أو في ركوب دابة، أو في دخول منزل، أو في سواه.
ثم يقول: («بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ»)، وهذا من التأكيد على أهمية اتباع السنة، واقتفاء الملة، والحفاظ عليها، حتى في أقل الأمور كما في أكثرها، وفي وضع الجنازة في محلها، وأنَّ كل أحوال المكلف إنما هي أحوال اتباع واقتفاء، وتعبد لله- جل وعلا-، ليس بالتشهي ولا بالأهواء، ولا بآراء الرجال، ولا بما انقدح في الأذهان.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «فِي الْإِثْمِ».
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ: وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)
}.
لو كان حديث سعد بن أبي وقاص هذا قبل حديث عائشة لكان أنسب، من جهة أن المؤلف ذكر في الحديث المتقدم سلَّ الميت، وحديث سعد فيما يُفعل بالميت في حال الدفن، فيستحب في حال الدفن أن يُجعل الميت أولا، أن يستكمل في حفرته قدرا يكون حافظا له، وليس في ذلك حدٌّ محدود، ولكن الحدَّ في ذلك ما يحصل به الحفظ.
أولاً: حفظ من الدواب أن تحفره، وأن تنهشه، وأن تتسلط، وحفظ له من أن تخرج رائحته، وأن يظهر ما يكون من نتن الإنسان بعد طول مقامه، فلأجل ذلك ليس فيه حد، فإن نزلوا مترًا أو أقل من ذلك بقليل أو أكثر فبحسب، المهم أنه قَدْرٌ يحصل به حفظ هذا الميت، ومواراته بحيث يُصان ويحفظ، ويُعظم ويحترم، ولا يُهان ولا يُدنس، هذا هو الأول.
والثاني: أنَّ القبر إمَّا أن يكون على صفة اللحد، أو أن يكون على صفة الشق، ولذلك قال (أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا)، والمشهور عند أهل العلم أنَّ اللحد أفضل؛ لأنه جاء في الحديث «اللحد لنا والشق لغيرنا»، وحقيقة اللحد أن إذا حفر القبر، أن يُجعل جهة القبلة في جانبه، يحفر ثم يكون ذلك بمثابة الدخول الذي يُدخل في أسفل القبر من جانبه الأيمن، أو الجانب الذي إلى جهة القبلة، فهذا يسمى اللحد، فهذا من جهة الأصل هو الأفضل لِمَا جاء في الأثر المتقدم.
ولكن ليس في كل الأحوال يكون اللحد هو الأولى، قال أهل العلم: وقد يكون الشق أفضل أو هو المناسب بحسب حال الأرض، والشق حقيقة أنه إذا انتهى إلى حفر القبر، حفر في وسطه، حفرة ليست في جميع أنحاء القبر، بل في وسطه، ثم صفت عليها طوب في جانبها حتى لا يتداعى عليها الحفر، ثم يجعل الميت، ثم يجعل عليه اللبن.
إذًا الحال التي يكون فيها الشق أولى، إذا كانت الأرض غير متماسكة، فإنه لو جعل اللحد في الغالب أنه يسقط عليه لأول وهلة، وبناء على ذلك إن كان الأمر من حيث الأصل، فاللحد أفضل، وإذا كانت الأرض متماسكة، فهذا لا شك، فيجعل في هذا، ثم يجعل عليه اللبن، ويردم ويسد عليه بالطين، ثم بعد ذلك يحثى عليه التراب.
إذا كان في أرض ينهال ترابها ولا تتماسك فيوضع الشق، ويوضع على جانبيه الطوب، ثم تجعل اللبن عليه، ثم بعد ذلك تشد جيدا، ثم يهال عليه، ولو جعل شقا مع اللحد لكان ذلك مأذونا فيه، ولكان ذلك صحيحا؛ لأنه يتأتى به ما حصل من الحفر، والحفاظ والقبر للميت.
ولَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله- أنه إذا وضعت عليه اللبنات، فالسنة كما جاء عن مجاهد وغير واحدٍ، أنها تُسَدُّ جيدًا وتُسَمَّت بلبنٍ ونحوه حتى يُحفظ الميت من أن يهوي عليه التراب، أو أن يسقط عليه شيء مما يُهال بعد ذلك.
ولقائل أن يقول: طيب ثم ماذا؟
نقول: إن علينا إلا القيام بالأصل والحفظ، والباقي على الله -جل وعلا-، ولا يضر العبد بعد ذلك ما جرى له، فإنَّ هذه سنة الله في عباده، فيما يأكله الدود، أو ما يحصل عليه من العفن، أو ما يذهب إليه أجزاؤه من الفُتات، فهذا يدل على حال ابن آدم، وضعفه، وانتهاء أمره، لا محالة مهما كان فيه من عزٍ أو ما انتهى إليه من قوة، فإنَّ مآله إلى ذاك، وإنَّ انتهاءه إلى فُتات، والله المستعان، وعسى الله أن يتولانا برحماته.
إذًا ثُمَّ يُهال عليه التراب، وهذا كما قال: (أَلْحِدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ )، وهنا تلحظ أنَّ كل ما يوضع على الميت ويجعل من أحوال، فإنما هي حال اقتداء.
ثم يُحثى التراب، وحثو التراب سُنة، وجاء في ذلك الأثر وسيأتي، وفاطمة تقول: «أطَابَتْ أنْفُسُكُمْ أنْ تَحْثُوا علَى رَسولِ اللَّهِ التُّرَابَ» .
وفي هذا الحديث كما في حديث علي الذي يَستدل به الناس كثيرًا: «لو كانَ الدِّينُ بالرَّأيِ لَكانَ أسفَلُ الخفِّ أولى بالمسحِ مِن أعلاهُ» ، أيضًا نقول فيها: لو كانت الآراء والنظر لَما كان هذا هو الذي نفعله برسول الله ، ولكن إنما هو الاقتفاء والأثر، وإنما هو الاستنان بسنة المصطفى .
فيُحثى عليه التراب، ثم لا يُزاد على القبر شيئًا من غير ترابه، ثم يُسنن فإن قبر النبي كما في الصحيح كان مسنمًا، يعني: مثل سنام البعير، وهذا أحفظ له، ليزل عنه الماء فلا ينخفض بعد ذلك، وإن جُعِلَ عليه حصباء فحسن، لكي يتماسك ويُحفظ، ويجعل في طرفه صخرة أو لبنة، كما جاء بذلك الأثر، وجاء عن النبي أنه جعل ذلك على قبر عثمان بن مظعون، وهذا لأجل أن يُعرفَ القبر، فلا يُتعرض له ولا يُؤذى، وسيأتي الإشارة إلى ذلك، ولكن ما دام أنا ذكرنا الدفن فإننا نذكره على شيء من آلته وتمامه بتفاصيله.
هناك مسألة في الحقيقة نحن تركناها وهي مثل هذه المسألة، وهي: تغسيل الميت ونحن ما أشرنا في الحقيقة إلى الصفة على سبيل التفصيل، وكان الأولى بنا ذكر ذلك، ومهما ذُكِرَ من أحوال الميت وكيفية ذلك، فإنَّ الإنسان يُوشك ألا يُحسن ذلك حتى يراه ويطبقه، وهذه طريقة نبوية عن النبي ، فإنه في الأشياء العظيمة يُؤمر بالاقتداء، «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، ولذلك كان الصحابة يصلون بصلاة النبي حتى يتعلم الناس. وقوله: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ» ، وخاصة أنتم أيها الطلاب، خاصة الذين يأتون من الأنحاء، فيُحسنُ بهم الظن أهل بلادهم، ويعلقون عليهم الأمل في كل الأمور القليلة والكثيرة.
وما دام الأمر كذلك، فإنه ينبغي للإنسان أن يدخل إلى تغسيل الميت، وأن يُشارك في ذلك، حتى يعلمه بتفاصيله، ابتداءً بعصر بطنه، وتليين مفاصله، وإخراج ما فيه من قذر، وتنحيته وطريقتها، ومسح فمه ونحوه، ثم غسل وجهه، وتوضئته، ثم كيف يُجعل عليه الماء ورغوة السدر، حين تُجعل على وجهه، وعلى مواضع السجود، ويُبدأ بميامنه، ثم يُغسل الأولى، وكيفية تقليبه من اليمين إلى اليسار، والطمأنينة في ذلك، وكيف يتأتى ذلك حال ستر عورته، بدون انكشافها في كل الأحوال، حتى في غسل عورته، وحتى في تقليبه يمينًا وشمالا.
وكل ذلك يحتاج إلى شيء من التفصيل، إلى أن يجعل الكافور، وإلى أن يجعل الطيب في جميع جسده، ويُخص بذلك مواضع السجود منها ويُكثف فيها، ثم بعد ذلك كيف يُكفن وتجعل اليمين ثم اليسار ثم تطوى، ويجعل الزائد على جهة رأسه.
المهم هذه أحوال مرت، وكان بودنا أن ذكرناها، ولكن الاستعجال ربما فَوَّتَ علينا مسائل كثيرة مهمة.
أيًا كان أؤكد على أنَّ الإخوة لا بد أن يحضروا مرة ومرتين وثلاث في تغسيل الميت، حتى يتعلموا ذلك على وجه أكمل، خاصة لمن ظَنَّ أنه تُناط به إذا رجع إلى بلده، ويعلق فيه الأمل عند أهله، وما دام أنَّ المسجد فيه تغسيل الموتى، فلو أن الإخوة القائمين على المسجد سجلوا الأسماء ورتبوا لهم -طبعا هم كثير، ويمكن أن يأخذ وقتًا طويلا، ولكن لا ينتظر الإنسان ويمكنه أن يذهب إلى أماكن أخرى أيضًا- ولكن لو اعتنى المسجد بذلك، وشارك مع بعض الجهات الأخرى التي فيها تغسيل، لكي يتعلم الذين حضروا ما سمعوه، وأن يطبقوه، وأن يحسنوه على وجه فيه التمام والكمال، لكان ذلك مناسبًا.
وهذا هو المقصود من العلم، فليس المقصود من العلم أن نُنزل بعض المسائل ونتدارس فيها، ويكون الإنسان عنده حصيلة قد يتكثر بها عند فلان، وغدا إذا سكت فلان وفلان تكلمت، وإذا أخطأ وفوت يقول: لا. السنة كذا، والدليل كذا، هذا لا يفيد إذا لم يكن المقصود من ذلك العمل، وهذا هو المقصود الأعظم.
بعد ذلك نأتي إلى حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنًّ النبي قال: «كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» ، نظم هذا الحديث في هذا المكان من أعظم ما يكون، فإنَّ المؤلف لَمَّا ذكر الأحوال، سواء في ذلك التغسيل، أو التكفين، أو الحمل، أو وضعه في القبر، كل ذلك على وجه الصيانة والتعظيم، وألا يُطال الميت بشيء من الإهانة أو التقصير، فما كان من انكشاف عورة، وأعظم من ذلك لو كان فيه أذية له، كسر عظم، أو أثر في جلد، أو أي شيء كان، فإنَّ ذلك ممنوع ومحرم، لأن المؤلف -رحمه الله- قال: («كَكَسْرِهِ حَيًّا»)، وكما أنه لا يتجرأ أحد على حي فيؤذيه، فإنه لا يجوز له أن يتسلط على ميت فيفعل به ذاك. بل ما يكون من التسلط على الميت أعظم، لماذا؟
لأنَّ الميت لا يدفع عن نفسه، والحي قادر على أن يدفع، وأن يقتص، وأن يسمح، وغير ذلك، فلمَّا كان الميت غير قادر، فإنه في حال ضعف الإنسان كان التسلط عليه أعظم من حال القوة، فإذا كان في حال لا يستطيع لنفسه دفعًا، ولا منعًا، ولا نفعًا، ولا ضرًا، فإنَّ الإثم في ذلك لو حصل الاعتداء يكون أعظم، والتقصير لو وقع أشد، فعلى سبيل المثال: لو نقص الكفن فإنه لا يعني ذلك أن تلوى بعض أعضائه حتى يجعل عليه، وإذا كان القبر قاصرًا فانه لا تكسر عظمه حتى تدخل في القبر، بل يُوسع في القبر بما يوسع، كل ذلك دال عليه هذا الحديث.
ومن باب أولى الاعتداء على الميت كما لو كان مثلا لمن يُعنون بالموتى في أماكن حفظهم في ثلاجات الموتى، أو الأطباء بعد الموت إذا احتاجوا إلى شيء من تعاطي بعض الأمور اللازمة، كما يسمى بالبحث الجنائي أو غيره، فإنهم يفعلون ما يليق بهم من غير ما امتهان للميت أو إيذاء له في غير ما أُذِنَ لهم فيه.
وهذا الحديث أصل في الكلام على التبرع بأعضاء الميت من عدمها، وأكثر ما يستمسك من قال بالمنع من ذلك بهذا الحديث، وإن كان هذا ليس محل ذكر للمسألة، ولأهل العلم في ذلك تفاصيل ذكروها في مواضعها، وبحثوها في مجامع الفقه التي طُلِبَ لها.
وهنا يشار في الجملة بعد ما أخذنا حديث سعد بن أبي وقاص، وهو الذي أيضا سيأتي في حديث مسلم الآتي بعده، أنَّ حال الميت حال تمام وكمال، فليس فيها امتهان ولا عدوان، كما أنه ليس فيها تعظيم ولا غلو، وسيأتي الإشارة إلى ذلك في حديث مسلم الآتي بعده.
{قال -رحمه الله-: (وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ»)}.
ذكر المؤلف -رحمه الله- كل الأحاديث على سبيل الترتيب، وهي متسقة، ولذلك هذا أعون للحفظ وأسهل للفهم، لَمَّا ذكر ما يتعلق بتمام دفن الميت، وما يليق به، وما يحتاج إليه، من صف لبن ومن تسويتها، ومن حثي التراب، ومن لَحدٍ وسواه، بدأ فيما لا ينبغي فعله، ولذلك قال: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ)، والجص نوع من التراب الأبيض، وله خاصية في طريقة معالجته، يكون به تزويق وتجميل البيوتات، فلما كان القبر ليس محلا للتزويق، ولا محلا للتجميل، مُنع منه؛ لأن ذلك فيه إفسادٌ للمال، وفي ذلك أيضا فتح باب الغلو في القبور وتعظيمها.
وفي حديث سمرة أن النبي قال: «لَعَنَ اليَهُودِ والنَّصارَى»، وذلك قبل أن يموت بخمس، «اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحذِّرُ ما صنعوا، أي: من تعظيمها وزيادتها، وهنا جمع بين الأمرين، فما كان من تعظيم، أو شأنه التجصيص، أو جعل الرخام، أو بناء الأبنية على ذلك وهذا أعظم، ولهذا قال: (وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ) كل ذلك داخل في المحرم حفظًا لجناب التوحيد، ومنعًا من الغلو في الميت، وتركًا لِمَا كان عليه من كان من الأمم السالفة.
قال: (وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ)، فكما أنَّه منهيٌ عن المغالاة، لا يعني ذلك الإذن في الامتهان، أو التسهيل في انتقاص الحق، ولأجل هذا قال: (وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ)، فنهى النبي عن ذلك، ومثل هذا المشي على القبر، فإنَّ هذا مثل القعود ونوع منه، وفي الحديث أن النبي لَمَّا قال: «لأَنْ يَجْلِسَ أحَدُكُمْ علَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيابَهُ، فَتَخْلُصَ إلى جِلْدِهِ، خَيْرٌ له مِن أنْ يَجْلِسَ علَى قَبْرٍ».
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ -رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَأَتَى الْقَبْرَ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، وَهُوَ قَائِمٌ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ)}.
كما قلنا: هذا الحديث يُضم إلى الأحاديث المتقدمة، ولو قُدِّمَ لكان أنسب وأحسن، وهو أنه يُستحب حثي ثلاث حثيات من التراب، وهذا الحديث فيه ما فيه من المقال، ولكن أكثر أهل العلم على استحباب ذلك، لأنَّ هذا من التعاون على البر والتقوى، وفيه أيضا إحسان إلى الميت بدفنه، وحثو التراب عليه؛ لئلا يبقى قبره فيه فراغ فينخفت قبره، فربما ذهبت أعلامه، فتحصل عليه الأذية، أو ينكشف بعضه لظهور ماء، أو سكون بعض استقرار مطر في هذا المحل، فكلما أُحسِنَ على وجه يكون به تمام هذا القبر، كان ذلك أحسن إلى الميت، وأدعى للقيام بالمطلوب الذي جاءت به السنة، ودل عليه الحديث.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عُثْمَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ)}.
حديث عثمان هذا هو في آخر ما يكون من حال التابع للجنازة على القبر، فإنه إذا فُرِّغَ من قَبْرِه ودفنه وكل ما يتعلق بذلك، فإنه يستحب ألا ينصرف الإنسان حتى يدعو له، وهذا جاء في الحديث هذا «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»، فيكون مُتَعَلَقُ الدعاء بالتثبيت أصالة، لعظم ما يتعلق به في تلك الحال من سؤال الملكين، وما يعرض له حال انقضاء الدفن وانصراف الناس، كما جاء ذلك في الأحاديث، فيأتيه ملكان بعد ما يسمع من قرع النعال فيسألانه، على ما جاء في الأحاديث التي في الصحيح.
فلمَّا كان الأمر كذلك، وكان أهل الإيمان بعضهم وليا لبعض، يحب له الخير، ويدعو له به، ويسأل الله أن يُحصله، فجاء في هذا الحديث «وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»، وفي هذا إشارة إلى عظيم فضل الله -جل وعلا-، فإنَّ ما قد يَقصر عنه الإنسان في نفسه، فإنَّ الله يُبلغه إياه بدعاء إخوانه له، وما يكون من فضل مُتفضلٍ عليه، كأخٍ أو قريب، أو صديقٍ أو جار، أو محسنٍ من أهل الإسلام، يدعو له بدعوة فتبلغ مبلغها، فيحصل له من التثبيت، وينفتح له من الخير، ما لم يكن ليحصل له لولا دعاء الداعي وسؤال السائل، «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ».
والدعاء له بالمغفرة هو أعظم ما يناسب ذلك الحال الذي كلما تخفف من ذنبه، كان ذلك أرجى له منزلة عند ربه، وأعظم درجة له عند مولاه.
وأما عن سؤال الملكين والتثبيت فيهما، فقد يقول قائل: إنها معلومة. نقول: صحيح وهذا ينبغي أن يُعلم، ولذلك في سؤال المنافق قال: «ها هاه لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فقلته»، يعني: قال ما قالوا، ولكن ليس الكلام أنه لم يعلم ماذا يقال، ولكنه لم يوفق لأن يقول المقالة التي يحصل له بها النجاة. وهذا كثير في أحوال الناس، حتى في الاختبارات، فقد يكون الإنسان أعرف ما يكون بالمسألة، وأحفظ ما يكون لها، فإذا فات عليه التوفيق، فإن المسألة التي يحفظها كالفاتحة تذهب عليه كالسراب، فهذا موضع ليس موضع علم ولا معرفة، وإنما هو موضع توفيق وتسديد، ولذلك لَمَّا كان أهل الإسلام يدعو بعضهم لبعض، فإن ذلك أرجى لأن يجتمع ذلك مع خيره، وخيرية هذا الميت، فما كان له من عمل صالح، وما كان من دعاء إخوانه له، تَحَصَّلَ بذلك له توفيق من الله -جل وعلا-، فيجيب الإجابة، ويُوفق للإصابة، فيبلغ الفضل والمنزلة، ويذهب عليه ما يتوعد به المتأوه في ذلك بالعقاب والنكال، الذي يُضرب بالمرزبة من الحديد، على ما جاء في الأحاديث، وما يتبع ذلك أيضا من عذاب آخر.
ولَمَّا قال المؤلف -رحمه الله-: إنه يقف عليه، فهل المقصود بالوقوف بأن يكون واقفًا؟ أو المقصود بالوقوف مطلق المكوث؟
ظاهر الحديث أنه وقوف، ولكن لو مكث جالسًا لكان داخلا في المقصود، ويحصل بذلك المراد، خاصة إذا كان فيه طول مَقام، وإنَّ ابن عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- لَمَّا أوصى بأن يُقام عليه قدر ما تنحر الجزور ويفرق لحمها، يعني: مُقاما طويلا، فكلما أُطيل القيام كان ذلك أحسن، وإذا كان الإنسان أقرب للميت، فالواجب عليه أعظم، وإنما يحصل من انشغال بعض الناس بالتعزية ونحوها، هو خلاف السُّنَّة؛ لأن التعزية حقٌ لذوي الميت، وسؤال التثبيت حقٌ للميت، والانشغال بحق الميت بعد الدفن أولى من الانشغال بحق ذويه.
ولأجل ذلك ينبغي للناس ألا يشغلوا ذويه، الذين يُعنون به، من طول للمقام، وزيادة الاستغفار، وتكرار الدعاء بالتثبيت، بل وإذا كان منهم مزيد خيرٍ، فإنهم يُشاركوهم ويطيلوا القيام معهم حتى يستعين بهم ذويه في إطالة القيام، فيكثر الخير، ويعظم الدعاء، ويُحصل الميت الأجر، وهذا هو المقصود المطلوب.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ -أَحَدِ التَّابِعِينَ- قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ، أَنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: «يَا فُلَانُ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَا فُلَانُ! قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ ». رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفاً. وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا مُطَوَّلاً)}.
هذه مسألة التلقين، وقد ذكرنا الإشارة إليها في حديث: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، وأنَّ بعض أهل العلم استدلوا بذلك الحديث على هذا المعنى، وأنَّ التلقين للميت هو تلقينٌ بعد دفنه، واعتُدَّ بما جاء في هذا الأثر -في حديث أبي أُمامة- وله معنى، وإن كان هذا من جهة الأسانيد فيه مقال إلا أنه مأثور الصحابة معتمدٌ على استنباط له أصل في ظاهر دلالة الحديث، فلا تشغيب فيمن فَعَلَ ذلك، ولهذا جاء عن بعض أهل العلم، وهو قول عند الحنابلة -رحمهم الله تعالى-.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - : «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
زَادَ التِّرْمِذِيُّ: «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ».
زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا»)
}.
هذا من المؤلف -رحمه الله تعالى- انتقال إلى مسائل مكملة من مسائل الجنائز، وهي أحوال القبور وزيارتها وما يتعلق بها، فيقول المؤلف -رحمه الله-: حديث بريدة بن الحصيب «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» فاذًا كان أول الأمر على منع زيارة القبور لِمَا كان يألفه أهل الجاهلية من التسخط والتعلق بها، وجَعْلِ السُّتور عليها وما يتبع ذلك من أعمال شركية، فلمَّا استقر التوحيد في قلوبهم، والإيمان في نفوسهم، وظهرت أعلام السنة، وَعُلِّمَ الناس ما يليق بحق الله -جل وعلا- وما يستنون به بسنة المصطفى ، كانوا -بإذن الله جل وعلا- في مأمنٍ من الجنوح إلى ما كان عليه أهل الجاهلية، وسلوك مسالك أهل الضلالة، فأذن لهم النبي بالزيارة.
والإذن بالزيارة على وجهٍ مُحدد، ليحصل به المقصود المطلوب، ولذلك قال: «فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ»، فإذًا حقيقة الزيارة المطلوب فيها ما يكون من التذكير والموعظة، وترقيق القلوب، والرجوع إلى الله، وتذكر الآخرة، والتخلص من الدنيا والزهد فيها، وقمع جماح النفس، وما يكون من انطلاقها ورغباتها، فإن النفس أبيةٌ، داعيةٌ للشر والهوى، لا يكاد يمنعها إلا الموعظة التي تُذعنُ بها، وليس شيءٌ أعظم من زيارة القبور ورؤية اللحود، وكيف آلت هذه القبور على أهلها، وكيف طال بهم المقام، وما يُرى في ذلك من أعلام لا تتكلم، وأحوال إنما هي صامتة، ولكنها صامتة واعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وعجبًا لنا جميعًا حين ندخل المقابر فنرى هذه القبور، ونرى هذه الأعلام التي عليها والنصب التي جعلت في أطرافها، ونسينا من تحتها، ونسينا أنَّا يومًا سنكون مثلهم، وسنوضع حيث وُضِعُوا. تأمل في ذلك، فلو جُعل عليك منديل واحدة لشقَّ نفسك، فكيف إذا جُعِلَ عليك لبأس كثير، فكيف إذا رُدِمَتْ عليك الأرض، وكيف إذا خلا بك في اللحد، فلا أنيس، ولا نور، وما هو إلا التراب، وأقرب ما يكون شيء إلى الإنسان هذه الديدان، إن لم يتدارك الله -جل وعلا- العبد برحمته، فينور عليه ضريحه، ويُؤنسه في قبره، ويَصب عليه شآبيب رحمته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
فالأمر بزيارة القبور سنة مستحبة، وهذا -كما قلنا- يحصل به نفعٌ للزائر، وكما أنه أيضا فيه إحسان إلى المقبورين، وإلى المؤمنين، بما يكون من الدعاء لهم، «السَّلامُ علَيْكُم دارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللَّهُ بكُمْ لاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُم الْعَافية».
وفي ذلك أيضا زيارة من يعرفه، من قريب، ووالد، وأخ، وصاحب، فإذا زاره فإنَّ أهل القبور يشعرون بأهل الدور من أهل الدنيا، كما جاء ذلك في غير ما حديث، وتضافرت على ذلك النصوص، يسمع قرع نعالهم وجاء فيه لَمَّا قال النبي : «مَا أنتُمْ بأَسْمع منهمْ، ولَكِنْ لا يُجِيبُونَ»، وأحاديث كثيرة دالة على ذلك، ولكن حياتهم حياة برزخية، لا تتصل بحياة أهل الحياة الدنيوية.
فإذا كان الإنسان ينتاب قريبة ويزور صاحبه، فيدعو له، ويأنس به، كان ذلك مَطلوبًا، ولو خصص لذلك وقتًا كبعد الجمعة، أو في بعض المناسبات، لم يكن في ذلك بأس، ما دام أنه لم يُتَعبد بهذا الوقت بخصوصه، وإن أقوامًا يقولون: لا، إنه إذا كان يذهب كل جمعة، أو يذهب كل عيدٍ، أو كل وقتٍ، فهذا تخصيص، ونقول: ليس المقصود من هذا تخصيص يُراد لعين ذلك الوقت، ولكن ذلك أعون للعبد في تنظيم أموره، كما يجعل الإنسان له حزبًا من القرآن يقرأه بعد الظهر كل يوم، وآخر يقرأه بعد العصر، نقول هذا تخصيص؟ نقول: لا.
وكما يجعل الإنسان له وقت يصلي فيه من الليل، فهذا يصلي من وسط الليل، لماذا تخصص وسط الليل ولا تصلي في آخره؟
لأنَّ هذا هو الذي يناسبك، فكذلك إذا جعل الإنسان له وقتًا يزور فيه من يريد زيارته من المقبورين من أهل أو أقارب، كان ذلك صحيحا لا غضاضة، ما دام أنه لا يتعلق بهذا الوقت اعتقادٌ أو تخصيصٌ دون سواه.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ «لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)}.
هذا الحديث فيه وعيد شديد في زيارة النساء للقبور، وكما رأيتم في الحديث كنت «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا»، وظاهر النص الإطلاق، فيدخل في ذلك النساء كالرجال، ولكن لَمَّا جاء هذا الحديث «لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ»، وما جاء في الأحاديث مثل: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»، وما في معناه، وأيضا انضمَّ إلى ذلك ما جُبِلَتْ عليه المرأة من سرعة نفاد صبرها، وقُرب تسخطها، وما عُرِفَ عنهن من النياحة، وضرب الصدر، وشق الجيب وسواه، اختلف أهل العلم بما اجتمع في ذلك في حكم زيارتها، فمنهم من قال بالإباحة؛ لعموم الحديث الذي قبل، ولأنَّ النبي أَذِنَ لعائشة أن تزور قبر أخيها، ولم يُنكر على تلك المرأة التي كانت عند قبر ولدها، وكذلك سؤال عائشة ماذا تقول عند زيارة القبور، قال لها: قولي: «السَّلامُ على أهلِ الدِّيارِ من المؤمنينَ والمُسْلمينَ، ويَرْحَمُ اللهُ المُستَقدِمينَ مِنَّا والمُستَأخِرينَ، وإنَّا إن شاءَ الله بكم لَلاحِقونَ» .
وهذا كله دالٌ على الإذن، فمنهم من ذهب إلى الإباحة، وأُعِلَّتْ هذه الأحاديث التي فيها اللعن، وبعضهم قال: إنها للمكثرات من زيارة القبور، أو التي تزور على هيئة فيها ويل وتسخط، أو كان ذلك للزيارات الشركية ونحوها.
ومنهم من ذهب إلى كراهة ذلك، لأنه وسيلة إلى حصول المكروه والوقوع فيه، ولكنهم لم يمنعوا منه.
وعلى كل حال فالفتيا عند مشايخنا على سدِّ هذا الباب لِمَا ذكرنا، لَمَّا كانت في الأزمنة الأخيرة حصول كثير من البدع والضلالات عند القبور، بما تفعله النساء، بما يذهب عليهن من الصبر، وبما يأتي عليهن من الجهل، ويُفعل بعد ذلك من الضلالات والبدع؛ قيل بسدِّ هذا الباب، وأن ينحى فيه منحى التحريم، وقووا الأحاديث التي فيها: «لعَنَ اللهُ زوَّاراتِ القبور» أو «زائرات القبور» على الروايتين، وابن تيمية -رحمه الله تعالى- في اقتضاء الصراط المستقيم أفاض على الحديث وتقويته، للدلالة على المنع والنهي.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ النَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ أَنْ لَا نَنُوحَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
}.
هذه الأحاديث كلها دالة على أمر مَنهيٌ عنه من أمور أهل الجاهلية، وهي: النياحة، والنياحة هي: رفع الصوت بالبكاء على وجه التسخط وعدم التجلد، ولا يخلو معه في الغالب من لطم خدٍ، وشق جيبٍ، ويتبع ذلك أيضا تلفظ بألفاظ سيئة، ومن يعرف النساء في المصابات والبليات يعرف أنهن لسن عن ذلك ببعيدات.
ولَمَّا كان الأمر كذلك، جاءت الأحاديث بالتحذير والوعيد للنساء، من أن يَتعاطين هذا الأمر نياحه وندبا، وتسخطًا من أمرِ الله -جل وعلا- وتشكيًا، فلا يرضون بقدر الله، ولا يؤمنون بما أمر الله من الصبر والتجلد، ولذلك قال النبي لتلك المرأة: «إنَّما الصَّبرُ عندَ الصَّدمةِ الأولى» ، فكانت هذه منهي عنها، يُظن وقوعها من النساء، وكانت هذه معروفة عند أهل الجاهلية يتفاخرون بها، حتى إنهم ليستأجروا النساء ليبكين وينحن، ولذلك اشتهر المثل المعروف "ليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى"، يعني التي أصيبت بالمصيبة ليست هي التي استأجرت للبكاء فيها.
وكل ذلك يدل على أنَّ هذه الأعمال من أعمال أهل الجاهلية التي جاء الشرع بمنعها، ولأنها مُضادة لحقيقة الإيمان، والرضاء بقضاء الله -جل وعلا- وقدره.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَهُمَا: نَحْوُهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
وَعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: شَهِدْتُ بِنْتًا لِلنَّبِيِّ تُدْفَنُ، وَرَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)
}.
هذان حديثان فيما يلحق المسلم من الحزن لفوات حبيبه، فأمرٌ مأذون فيه مباح، وأمرٌ منهي عنه فيه وعيد شديد، فيذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- الحديث عن النبي أنه بكى على القبر، وأيضا على ابن ابنته، لَمَّا رأى نفسه تقعقع، فدمعت عينه، فقيل له: أتبكي يا رسول الله؟ قال: «هذِه رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وإنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» وفي قصة إبراهيم «إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يُرْضى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ».
فما كان من حزن قلب على فوات حبيب، وما كان من بكاء ليس معه عويل ولا ندب، ولا نياحه ولا لطم، فإنَّ ذلك مأذون فيه ولا غضاضة فيه، وإن هذا مما جُبِلَت عليه النفس، وأَذِنَ فيه الشرع، لمجيء ذلك عن النبي .
ثم أيضا فيه إشارة -قبل أن ننتقل إلى ما يقابل ذلك- إلى أن النبي بشر، يأتي عليه ما يأتي على سائر الناس، من الرحمة، ومن الحزن، ومن فَقدِ الحبيب، ومن التوجع لبلاءٍ أو مصيبةٍ أو شرٍ، ولكنه أكمل الناس إيمانًا، وأعظمهم لربهم توحيدًا، وأقومهم بحق الله -جل وعلا- بما جعل الله -جل وعلا- له توفيقًا وتسديدًا.
ويقابل ذلك، لَمَّا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- حديث عمر «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ»، وقد استقرَّ عندنا أنَّ النياحة ممنوعة وأنها محرمة، ولكن لقائلٍ أن يقول: هذا النائح قد فَعَلَ مَا فَعَلَ فلحق به من الوعيد والكبيرة ما لحق، فما ذنب ذلك الميت؟
استشكل أهل العلم هذا الحديث، والحديث الذي بمعناه: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، كيف يوفق مع قول الله -جل وعلا-: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الزمر:7]؟
لأهل العلم في ذلك أجوبة كثيرة، ولكن عند أهل العلم قاعدة: أنَّ ما أشكل علينا من الأحاديث، فإننا نرجع إلى الأصول التي لا اشتباه فيها، ومنها: أنَّ الله لا يظلم أحدًا، وأنَّ الله لا يُؤاخذ أحدًا بجريرة غيره، ولا يُلحقه معصية سواه، وأنَّ الله -سبحانه وتعالى- عدلٌ رحيمٌ بعباده، هذا هو الأصل.
ثم بعد ذلك اجتهد أهل العلم في المراد بهذا الحديث، فقال بعضهم: إنَّ المراد به واقعة عين، فتلك المرأة كانت يهودية، وأنها تعذب، يعني: قد أخبر النبي عن شيء خفي عليهم.
ومنهم من قال: إنَّ المراد في ذلك أنه إذا أوصى أهله، كما كان عليه أهل الجاهلية، أن يبكون عليه وينوحون، أو أنه عَلِمَ ذلك منهم ولم ينهَ.
وكل هذه الأجوبة فيها ما فيها، ولكن أتمُّ الأجوبة عند أهل العلم المحققين، أنَّ المقصود بقوله: "يُعَذَّبُ" ليس المقصود بالعذاب هنا ما يُقابل العقاب، والنكال، وحصول الجزاء، وأنَّ المقصود بذلك العذاب: الأذى الذي يَلحقه، فإنه يتأذى إذا رأى قريبه ينوح عليه، فيكون العذاب مثل: «السَّفرُ قِطعةٌ منَ العذابِ» ، فليس المقصود أنه يُعذب به، بل كلُّ الناس يعرف أنَّ السفر فيه ما فيه من نصب وتعب، ومع ذلك يحلو له السفر ويدخله، أليس كذلك؟
إذًا المقصود من ذلك: ما يلحق الميت من تأذٍ إذا رأى أهله، أو ذويه، يبكون عليه، وإذا ناحوا يلحقهم في ذلك الإثم، وتتعلق بهم المساءلة عند الله -جل وعلا-، وهذا هو أقرب المعاني التي ذكرها أهل العلم في هذا.
وفيه إشارة إلى ما ذكرنا، وهو أنَّ الميت يشعر بأحوال الأحياء، وهذا يُؤيده، وعلى ذلك قول كثير من أهل التحقيق، ولذلك حتى في أحوال الناس المعتادة، أي: في عادات كثير من الناس، أنهم إذا نزلت بهم بعض الأمور التي يفرحون بها، لا يخلو أحد من رُؤية بعض أهله ممن مات في المنام، وهو يُشاركهم، أو يحس بهم، أو كأنه معهم فيما أصابهم من خير، أو تجددت لهم من نعمة، أو ما استقبلوه من بلاءٍ ومصيبةٍ.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا» أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه. وَأَصْلُهُ فِي «مُسْلِمٍ»، لَكِنْ قَالَ: «زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ، حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ»)}.
هذا في حديث ابن ماجه بهذا اللفظ، وفيه ما فيه من ضعف، وأيضا فيه معارضة للأحاديث الصحيحة، ولذلك أحسن المؤلف -رحمه الله- في أنه جاء بحديث مُسلمٍ الذي هو أصله، فقال: «زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ، حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ»، فكأنه أراد أن يُبين أنَّ المتعلق الذي يتعلق به النهي في هذه الأحاديث، إنما هو الحال التي يكون فيها تفريط في الميت، فإذا كان في قبره ليلا تفريط من جهة عدم إحسان تكفينه، أو عدم القيام على حسن تغسيله، أو ما يتبع ذلك من الإسراع به مع ترك الصلاة عليه، فإنها حال مذمومة منهي عنها.
وأمَّا إذا كان فيما سوى ذلك، فإنه قد جاء في الأحاديث ما يدل على الإذن، وأشهرها حديث المرأة التي كانت تَقُمُّ المسجد، وأيضًا النبي جاء أنه قُبِرَ ليلا، وكذلك أبو بكر، وكثير من الصحابة، وأيضا جاء في حديث عقبة أنَّ الأوقات التي نُهي عن القبر بها ثلاثة، وهي: الأوقات المضيقة من أوقات النهي، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا هو المراد بالحديث.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ -حِينَ قُتِلَ- قَالَ النَّبِيُّ : «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، إِلَّا النَّسَائِيَّ)}.
هذا من السنن المحفوظة عن النبي ، وهي داخلة في قول الله -جل وعلا-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات:10]، فإذا نزل بأهل بيت ميت، فإنهم ينشغلون به حزنا على فراقه، ووجدًا عليه، وقيامًا بتجهيزه وتهيئته، مما قد يحول بينهم وبين بعض ما يحتاجون إليه من طعام وأكل، فكان ذلك على من حضره من المؤمنين، في الإحسان إلى أهل الإيمان، وإلى ذوي الميت، وهو من السنن المستحبة، ولذلك قال النبي : «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ»، وهذا عند أهل العلم على سبيل الاستحباب؛ لأنَّ بابها باب الآداب، وظاهر هذا أنه لا يختص بوقت، بل ما دام أنه يشغلهم، ولذلك اعتاد الناس في هذه الأوقات في الثلاثة الأيام التي يكون فيها العزاء، ولا شك في أنَّ الحكم يتعلق بالعلة، فكلما ظهرت العلة تأكد الحكم، وإذا انتفت انتفى، فإذا كانوا لا ينشغلون بوجود من يطبخ لهم، كان ذلك أسهل أو أيسر مع بقاء السنة، لأنَّ النبي قد أمر بذلك على سبيل الإحسان.
وإذا كان الناس في موضع لا يوجد فيه ما يمكن أن يشتروا منه طعاما تأكد، وهذا بخلاف ما إذا كانوا في مكان يصلح أن يشتروا ما هو مُصلحٌ مجهز، فيكون الأمر أيسر في ذلك.
وفي هذا أيضًا دلالة على أنَّ أهل الميت لا يصنعون للآتي طعاما.
وهنا في الحقيقة مسألة مهمة، وهي ما يحصل الآن من الاجتماع للميت، هل في ذلك إشكال، خاصة ما جاء في أثر جابر، "كنَّا نعُدُّ الاجتِماعَ إلى أهلِ الميِّتِ وصَنيعةَ الطَّعامِ بعدَ دَفنِه مِن النِّياحةِ" ؟
استشكل ذلك جمعٌ من أهل العلم من المعاصرين، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنَّ ما جاء عن جابر هنا هي صورة مخصوصة، وهي صورة كان يألفها أهل الجاهلية، لأنهم يجتمعون ويصنعون الطعام لقصد إظهار التفجع على الميت، ولكن ما يحصل الآن من الاستماع على ذوي الميت هو لتقويتهم، وهذا أمر مُستحب، ولا يصنعون طعامًا بل يُصنع لهم، فإذا وافقوه كان ذلك، ولهذا جاء عن ابن قدامة -لَمَّا ذَكَرَ أن أقوامًا يأتون من مكان بعيد، فيوضع لهم الطعام، قال: "حتى ولو أصلح لهم أهل الميت"، ما دام أنهم يحتاجون إلى ذلك.
إذًا هذه الصورة التي جاءت بأثر جابر هي صورة مخصوصة، تجمع بين صُنع الطعام وبين قصد الاجتماع، وهي صورة اعتاد عليها أهل الجاهلية، يكون فيها شيءٌ من إظهار أحوال الميت، أو التفجع عليه، أو ذكر مآثره بما يكون فيها بشيء من المخالفة.
فإذا حصل ما صورته قريبة من ذلك، ما دام أنها على وجه لم يُقصد، والطعام يصنع ولا يصنعونه ولا يتقصدونه، فإنه لا يدخل في ذلك، والله تعالى أعلم.
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى المقَابِرِ: «السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ)
}.
هذه أحاديث في فضل الزيارة وما ينبغي أن يقال فيها، فكما أنَّ النبي أمر بزيارة القبور لتذكرها، فإنه مأمور بزيارة القبور والدعاء لأهلها، والسنة في ذلك ما جاء عن النبي ، كان يقول: «السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ»، وهذا فيه مشروعية الزيارة، ومشروعية الدعاء لهم.
طبعا هنا فيه شيء من الخطاب: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ»، وهؤلاء موتى، فقال أهل العلم: هذا على سبيل الاستحضار، وله أمثلة كثيرة، كما في قول: «السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّها النبيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكَاتُهُ»، وفي التحيات وهكذا، وهذا أدعى وكأنَّ هذا الغائب حاضرٌ بين يدي هذا الداعي.
وقوله: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ»، المشيئة هنا بعضهم يقول -كما يقولون في أشياء كثير- هي: للتبرك، وبعضهم يقول: إنها تعليلية، لأنه من المُؤكد أن كل أحد لا بد أنه ميت، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن:26]، فقالوا: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ» يعني: لأجل مشيئة الله فنحن لاحقون بكم.
وربما قال بعضهم: إن المراد بذلك تعليق المشيئة على الحال التي يلحق بها الإنسان، فكأنهم يقولون: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ» أي: على الإسلام، وعلى الإيمان، فإنَّ الإنسان لا يأمن حصول الفتنة على نفسه، وتغير ما يكون في قلبه قبل أن يموت، والله يتولانا برحمته.
وفي حديث ابن عباس صفة أخرى، «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ».
{قال -رحمه الله-: (وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ المغِيرَةِ نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: «فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ»)
}.
هذا هو آخر هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- في كتاب الجنائز، وهو النهي عن سب الأموات، وهذا أحسن ما يُختم به، فإنَّه لَمَّا ذَكَرَ ما يكون للميت من حق، وما يجب له من صلاة، وكفن، وغسل، وما يُستحب له من زيارة، وما يدعى له فيه، ويَسأل له من التثبيت أراد أن يبين بعد ذلك أنه لا بد من أن يسلم المسلم من سب الأموات، فإذا مات الميت فإنه لا يسب، ولو كان منه ما كان، ولو سلف منه ما سلف، لأنهم أفضوا إلى ما قدموا، والله -جل وعلا- يتولاهم فيما عملوا، ويحاسبهم فيما اقترفوا، فلا حاجة للإنسان أن يسبهم.
ثم أيضا من جهة أخرى أنه لا يُؤمن أن يتطاول عليهم، أو أن يتسبب عليهم باعتداء على حقهم، فربما سمع ذلك سامع فزاد، ووصفهم بما لا يليق، أو عَلَّقَ عليهم ما لا يستحقونه.
ثم أيضا من جهة -كما جاء في الحديث- أنَّ في ذلك إيذاء للأحياء، حتى ولو كان الميت يستحقه، كما لو كان كافرًا، فإذا كان صاحبه مُسلمًا -والده أو زوجه أو نحوه- فإن ذلك يكون فيه أذية له، فلما كان ذلك كذلك، حُفِظَ حق الأحياء بعدم سب الأموات.
ولكن إذا احتيج إلى نحو تنبيه لخطر حُفِظَ عنهم، أو التحذير من مسلك نشروه، أو سبيل أذاعوه من الشر أو البدعة أو الضلالة، فذلك باب آخر، لا شك أنَّ بابه باب الأمر بالمعروف، والتناصح والتداعي إليه، فلا يكون.
وكذلك -كما ذكر أهل العلم هنا- باب الجرح والتعديل، ولكن في موضعه، فإذا كان الإنسان يَذكر أهل العلم جرحًا وتعديلاً على سبيل التشهي لا على سبيل التعلم لتصحيح الأحاديث، وبيان ما يستقيم من أسانيدها من عدمه، فإنه وإن كان أصل هذا العلم صحيحًا إلا أن إيراده له إيرادًا خاطئًا، فيلحقه إثمه، ويتبعه وزره، ويكون في ذلك داخلاً في هذا الحديث، سابًا للأموات، مُعتديًا على الأعراض، ليس لهُ مَا يُعذر به، ولا ما يُخفف عنه السؤال عند الله جلا وعلا.
بعد هذه العُجالة السريعة أريد أن أنبه إلى مسألة، وهي أنَّ مثل هذه المجالس هي مجالسٌ تنشيطية، ولا ينبغي للطالب أن يعتمد عليها في شرح هذا الكتاب من حيث الأصل، بل هي كالتذكير بالمسائل التي نسيها، أو بالمسائل التي فات عليها، أو بما يُحب أن يستنهض فكره فيما فات عليه من وقت بعيد، أو مَرَّ عليه من زمن مديد، ولكن من حيث العلم ينبغي للإنسان خاصة في مثل هذه الكتب التي هي بمثل هذه المنزلة، أن يُعنى بها دراسة تفصيلية، ووقوفًا عند أهم المسائل.
أولاً: في دراسة الحديث وبعض ألفاظه، وما يتعلق بالحكم عليه، ثم التفصيل في المسائل، وذكر الفوائد المتعلقة بذلك، وإن لم تكن في موردٍ الباب، أو فيما يتعلق بما أنشئ له هذا الفصل أو هذا الكتاب، فَثَمَّ فوائدٌ كثيرة، من فتح الله -جل وعلا- عليه النظر في هذه الأحاديث، وانتفع بها؛ أشرق قلبه، واستنارت أيامه، وصلح فِعله، واستقام على سنة نبيه، وجعل الله -جل وعلا- له من البركة ما لا يكاد يُساويه غيره، فإنَّ هذه أفعال المصطفى، وإن تلك الاستنان بسنة النبي المجتبى، فليس شيء أعظم ولا أتم منها، فهي نور للعبد، وصلاحٌ للإنسان، وتمام للمكلف فيما يأتي عليه من الأعمال، وما يستنُّ به من السنن، وما يستقيم عليه من الأوامر، وما ينتهي عنه ويباعد من المحرمات والنواهي والمكروهات.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وأن يُبارك لكم في الأوقات، وأن يزيدكم في العلم، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص فيه، وأن يُبقي لنا في العلم أثرًا، وأن يجعل لنا فيه منارًا، وأن يجعلنا فيه مخلصين، ولوجه الله قاصدين، وأن يُعقبنا العمل والهدى، وأن يجزيكم خير الجزاء، وأن يجزي كل من ساهم في هذه المجالس، ودعا إليها، وتسبب لها، وأن يوفقنا وإياكم، إنَّ ربنا ولي ذلك والقادر عليه، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

دروس ذات صلة